أ.د. الشريف حاتم العوني
الجمعة 28/02/2014
لا تستغربوا
عندما يكون التشديد والتزمت هو الفقه السائد، لا نستغرب أن يكون غالب خلاف المصلحين تيسيرا وتسهيلا، ليكون فقه المصلحين في نظرنا فقه الذين يتتبعون الرخص؛ لأننا قد أصبحنا نحن نتتبع التنطع والتزمت!
وعندما يكون التحريم مطلقًا هو دليل الورع ومتانة الديانة، لا تستغربوا أن تكون الإباحة مطلقا دليل التهافت على الدنيا وخفة الديانة.
وعندما يكون التكفير هو دليل صفاء العقيدة وصلابة التوحيد، لا تستغربوا أن يكون الكلام عن حرمة أهل الشهادتين فسادًا في العقيدة وإرجاءً من إرجاء غلاة الجهمية (ولغير المتخصصين: الإرجاء عند العقديين: هي سُبةٌ عقدية، والجهمية: هم – باختصار- قوم ما عندهم سالفة!).
وعندما يكون سد الذريعة بالتحريم والمنع هو خط الدفاع الأول لحماية الدين، فسددنا بسد الذرائع أنفاس الناس، لا تستغربوا إذا تجاهل فئام كبير من المجتمع الفتاوى؛ وقالوا: استفت قلبك! لأننا ضيقنا عليهم ما وسعه الله، فلا حمينا الشريعة، وهدمنا سدودها، وفتحنا ذرائع التفلت من الدين، ونحن نظن أننا نبني السدود!!
وعندما يكون كل تشبه بالكفار محرما، لا تستغربوا إذا وجدنا من يرفض التشبه بإنسانيتهم، مع أن الإنسانية صفة تجمعنا جميعا، وعندها ستجد من يتشبه بهم غير مبال بالفتاوى التي لا تعقل معنى المشترك الإنساني. وقريبا كانت إجازة الجمعة والسبت (بدلا من الخميس والجمعة) حراما لأنها تشبه بالكفار، ثم صدر القرار باعتمادها، فخرست الألسن المحرمة، وتشبهنا بالكفار على زعمهم، فوجدنا هذا التشبه حلوا طيبا!!
وعندما يكون كل جديد يخدم الدين بدعة ، فلا تستغربوا إذا ما حرموا المآذن والمحاريب ، وحرموا أن تزيد درجات المنبر على ثلاث (كما وقع فعلا)!!
وعندما تصبح المرأة مبغوضة بسبب سوء فهم تعظيم النصوص لفتنة الرجل بالمرأة، وبيانها لشدة انجذاب الرجال إلى النساء، لا تستغربوا أن تصبح الدعوة إلى إعطائها حقها الإنساني في وجداننا تعاطفا مع الشيطان! مع أن المال من أعظم الفتن أيضًا، وحذرت منه النصوص أعظم تحذير كذلك، وما زال القوم يحبونه حبا جما!!
وعندما لا نعترف بأخطائنا ، ونجعل كل شيء مؤامرة، لا تستغربوا إذا أصبح التحذير من المؤامرة هو نفسه مؤامرة ، ومؤامرة التحذير من المؤامرة هي نفسها مؤامرة، في سلسلة مضحكة من المؤامرات.
وعندما نعتقد أننا نحن (حصريًّا) امتداد السلف والصحابة رضوان الله عليهم، لا تستغربوا إذا قلنا إن أهل الجنة هم أهل منطقتنا ومن اتبعهم (كما قال أحدهم).
وعندما نعتقد أن شيخ الإسلام ابن تيمية هو شيخ الإسلام حصرًا، بمعنى الانفراد بهذه المنزلة، لا تستغربوا إذا أصبح علماء الإسلام كلهم صفرا على الشمال! وقد كان شيخ الإسلام يعيب على النحويين تسليمهم المطلق لسيبويه ، وكان يقول: ما كان سيبويه نبي النحو، فأظنه لو كان هو بيننا لقال لنا: ما كان ابن تيمية نبي السنة والسلفية!
وعندما نجعل الحفظ هو مقياس العلم ، حتى قالوا : احفظ فكل حافظ إمام، لا تستغربوا إذا أصبح أئمتنا مسجلات تكرر ما قيل بغير فقه ، فيكون واقع المستفتي في واد، والفتوى في واد آخر، وكأنك تسمع في الفتوى صرير أعواد الأقلام على الجلود واللخاف والعُسُب والأكتاف أو والكاغذ، لا صوت أزرار لوحة المفاتيح (الكيبورد) على الحاسوب (الكمبيوتر)!
وللحديث تتمة بإذن الله.