تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 5 من 24 الأولىالأولى 123456789101112131415 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 81 إلى 100 من 461

الموضوع: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

  1. #81
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثالث
    صـ 411 الى صـ 415
    الحلقة (81)

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [182] فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم .

    فمن خاف أي: توقع وعلم، وهذا في كلامهم شائع، ويقولون: أخاف أن ترسل السماء، يريدون: التوقع والظن الغالب الجاري مجرى العلم: من موص جنفا ميلا عن الحق، بالخطأ في الوصية، والتصرف فيما ليس له: أو إثما أي: ميلا فيها عمدا: فأصلح بينهم أي: بينه وبين الموصى لهم - وهم الوالدان والأقربون - بإجرائهم على طريق الشرع.

    قال ابن جرير: بأن يأمره بالعدل في وصيته، وأن ينهاهم عن منعه فيما أذن له فيه وأبيح له: فلا إثم عليه أي: بهذا التبديل، لأن تبديله تبديل باطل إلى حق!: إن الله غفور رحيم قال ابن جرير: أي: غفور للموصي - فيما كان حدث به نفسه من الجنف والإثم إذا ترك أن يأثم ويجنف في وصيته - فتجاوز له عما كان حدث به نفسه من الجور إذ لم يمض ذلك، رحيم بالمصلح بين الوصي وبين من أراد أن يحيف عليه لغيره أو يأثم فيه له..!.

    تنبيه:

    ما أفادته الآية من فرضية الوصية للوالدين والأقربين.

    ذكر بعضهم: أنه كان واجبا قبل نزول آية المواريث. فلما نزلت آية الفرائض نسخت هذه، وصارت المواريث المقدرة فريضة من الله، يأخذه أهلوها حتما من غير وصية، ولا تحمل منة الموصي. ولهذا جاء في الحديث - الذي في السنن وغيرها - عن عمرو بن خارجة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب وهو يقول: « إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث » .

    [ ص: 412 ] ونص الإمام الشافعي على أن هذا المتن متواتر، فقال: وجدنا أهل الفتيا ومن حفظنا عنهم من أهل العلم بالمغازي من قريش وغيرهم لا يختلفون في أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عام الفتح: « لا وصية لوارث » . ويأثرونه عمن حفظوه عنه ممن لقوه من أهل العلم، فكان نقل كافة عن كافة. فهو أقوى من نقل واحد.

    قال الإمام مالك في " الموطأ ": السنة الثابتة عندنا التي لا اختلاف فيها: أنه لا تجوز وصية لوارث إلا أن يجيز له ذلك ورثة الميت.

    وذهبت طائفة إلى أن الآية محكمة لا تخالف آية المواريث. والمعنى: كتب عليكم ما أوصاكم به من توريث الوالدين والأقربين من قوله تعالى: يوصيكم الله في أولادكم أو كتب على المحتضر: أن يوصي للوالدين والأقربين بتوفير ما أوصى به الله لهم عليهم، وأن لا ينقص من أنصبائهم! فلا منافاة بين ثبوت الميراث للأقرباء، مع ثبوت الوصية بالميراث عطية من الله تعالى، والوصية عطية ممن حضره الموت. فالوارث جمع له بين الوصية والميراث بحكم الآيتين. ولو فرض المنافاة، لأمكن جعل آية الميراث مخصصة لهذه الآية. بإبقاء القريب الذي لا يكون وارثا لأجل صلة الرحم. فقد أكد تعالى الإحسان إلى الأرحام وذوي القربى في غير ما آية، فتكون الوصية للأقارب الذين لا يرثون عصبة، أو ذوي رحم مفروضة..! قالوا: ونسخ وجوبها للوالدين والأقربين الوارثين لا يستلزم نسخ وجوبها في غيرهم..!.

    ومما استدل به على وجوب الوصية من السنة: خبر الصحيحين عن ابن عمر قال: [ ص: 413 ] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده » . قال ابن عمر: ما مرت علي ليلة منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك إلا وعندي وصيتي..!. والآيات والأحاديث - بالأمر ببر الأقارب والإحسان إليهم - كثيرة جدا..

    ظهر لي في آية: كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقينإلخ - وكان درسنا صباحا من البخاري في كتاب " الوصايا " - أن هذه الآية ليست منسوخة - كما قيل - بل هي محكمة بطريقة لا أدري هل أحد سبقني بها أم لا؟ فإني في تفسيري المسمى بمحاسن التأويل نقلت هناك مذاهب العلماء، ولا يحضرني الآن أن ما سأذكره مأثور أم لا؟ وهو أن هذه الآية مع آية: يوصيكم الله في أولادكم متلاقيتان في المعنى، من حيث إن المراد بالوصية: وصية الله في إيتاء ذوي الحقوق حقوقهم، وعدم الغض منها، والحذر من تبديلها، لما يلحق المبدل من الوعيد الشديد..! وخلاصة المعنى على ما ظهر:

    كتب عليكم أي: فرض عليكم فرضا مؤكدا بمثابة المكتوب الذي لا يمحى ولا يعتوره تغيير: إذا حضر أحدكم الموت أي: قرب نزوله به، بأن قرب مفارقته الحياة: إن ترك خيرا أي: مالا يورث: الوصية أي: المعهودة، وهي وصية الله سبحانه وتعالى في إيتاء كل ذي حق حقه، على ما بينته تلك الآية: للوالدين والأقربين أي: في إبلاغهم فرضهم المبين في آية: يوصيكم الله في أولادكم فإنه أجمع آية: حقا على المتقين تأكيد للكتابة بأنها أمر ثابت لا يسوغ التسامح فيه بوجه ما: فمن بدله [ ص: 414 ] أي: هذا المكتوب الحق: بعدما سمعه أي: فعلم الحق المفروض فيه: فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم أي: فلا يخفى عليه شيء من حال الممتثل والمبدل. وقوله تعالى: فمن خاف من موص جنفا أي: ميلا عما فرضه تعالى: أو إثما أي: بقطع من يستحق عن حقه، لما لا تخلو عنه كثير من الأنفس التي لم يدركها نور التهذيب: فأصلح بينهم أي: بأمر رضي به الكل: فلا إثم عليه أي: لأن الصلح جائز، إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا، والله أعلم.اهـ المنقول من الدفتر.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [183] يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون

    يا أيها الذين آمنوا كتب أي - فرض -: عليكم الصيام وهو الإمساك عن الطعام والشراب والوقاع من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.

    واعلم أن مصالح الصوم لما كانت مشهودة بالعقول السليمة، والفطر المستقيمة شرعه الله لعباده رحمة لهم، وإحسانا إليهم، وحمية، وجنة..! فإن المقصود من الصيام: حبس النفس عن الشهوات، وفطمها عن المألوفات، وتعديل قوتها الشهوانية، لتسعد بطلب ما فيه غاية سعادتها ونعيمها، وقبول ما تزكوا به مما فيه حياتها الأبدية..!. ويكسر الجوع والظمأ من حدتها وسورتها، ويذكرها بحال الأكباد الجائعة من المساكين... وتضيق مجاري الشيطان من العبد بتضييق مجاري الطعام والشراب، وحبس قوى الأعضاء عن استرسالها لحكم الطبيعة فيما يضرها في معاشها ومعادها، ويسكن كل عضو منها وكل قوة عن جماحها، وتلجم بلجامه، فهو لجام المتقين، وجنة المجاهدين، ورياضة الأبرار والمقربين... وهو لرب العالمين من بين سائر الأعمال، فإن الصائم لا يفعل شيئا، إنما ترك شهوته وطعامه [ ص: 415 ] وشرابه من أجل معبوده، فهو ترك محبوبات النفس وتلذذاتها ; إيثارا لمحبة الله ومرضاته، وهو سر بين العبد وربه، ولا يطلع عليه سواه...



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #82
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثالث
    صـ 416 الى صـ 420
    الحلقة (82)

    والعباد قد يطلعون منه على ترك المفطرات الظاهرة. وأما كونه ترك طعامه وشرابه وشهوته من أجل معبوده، فهو أمر لا يطلع عليه بشر. وذلك حقيقة الصوم..! وللصوم تأثير عجيب في حفظ الجوارح الظاهرة، والقوى الباطنة. وحميتها عن التخليط الجالب لها المواد الفاسدة، التي إذا استولت عليها أفسدتها. واستفراغ المواد الردية المانعة له من صحتها، فالصوم يحفظ على القلب والجوارح صحتها. ويعيد إليها ما استلبته منها أيدي الشهوات. فهو من أكبر العون على التقوى، كما قال تعالى في تتمة الآية: لعلكم تتقون وقال النبي صلى الله عليه وسلم: « الصوم جنة » . وأمر من اشتدت عليه شهوة النكاح ولا قدرة له عليه بالصيام، وجعله وجاء هذه الشهوة. وكان هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه أكمل الهدي، وأعظم [ ص: 416 ] تحصيلا للمقصود، وأسهله على النفوس. ولما كان فطم النفس عن مألوفاتها وشهواتها من أشق الأمور وأصعبها، تأخر فرضه إلى وسط الإسلام بعد الهجرة ; لما توطنت النفوس على التوحيد والصلاة، وألفت أوامر القرآن، فنقلت إليه بالتدريج. وكان فرضه السنة الثانية من الهجرة. فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد صام تسعة رمضانات. وفرض أولا على وجه التخيير بينه وبين أن يطعم عن كل يوم مسكينا. ثم نقل من ذلك التخيير إلى تحتم الصوم، وجعل الإطعام للشيخ الكبير والمرأة - إذا لم يطيقا الصيام - فإنهما يفطران ويطعمان عن كل يوم مسكينا - كما سيأتي بيانه - وكان للصوم رتب ثلاث:

    أحدها: إيجابه بوصف التخيير.

    والثانية: تحتمه، لكن كان الصائم إذا نام قبل أن يطعم حرم عليه الطعام والشراب إلى الليلة القابلة، فنسخ ذلك بالرتبة الثالثة، وهي التي استقر عليها الشرع إلى يوم القيامة..! كما أفاده ابن القيم في زاد المعاد.

    وقوله تعالى: كما كتب على الذين من قبلكم تأكيد للحكم، وترغيب فيه، وتطييب لأنفس المخاطبين به، فإن الشاق إذا عم سهل عمله. والمماثلة إنما هي في أصل الوجوب لا في الوقت والمقدار، وفيه دليل على أن الصوم عبادة قديمة. وفي التوراة، سفر عزرا، الإصحاح الثاني، ص 750:

    (21) وناديت هناك بصوم على نهر أهوا، لكي نتذلل أمام إلهنا لنطلب منه طريقا مستقيمة لنا ولأطفالنا ولكل مالنا.

    وفي سفر إشعياء، الإصحاح الثامن والخمسون ص 1062:

    (3) يقولون: لماذا صمنا ولم ننظر. ذللنا أنفسنا ولم نلاحظ. ها إنكم في يوم صومكم توجدون مسرة وبكل أشغالكم تسخرون.

    (4) ها إنكم للخصومة والنزاع تصومون ولتضربوا بلكمة الشر. لستم تصومون، كما اليوم، لتسميع صوتكم في العلاء.

    (5) أمثل هذا يكون صوم أختاره، يوما يذلل الإنسان فيه نفسه، يحني كالأسلة رأسه، ويفرش تحته مسحا ورمادا. هل تسمي هذا صوما ويوما مقبولا للرب؟... إلخ.

    [ ص: 417 ] وفي سفر يوئيل، الإصحاح الأول، ص 1299:

    * 14 * قدسوا صوما.

    وفي الإصحاح الثاني، ص 1300:

    * 12 * ولكن الآن يقول الرب: ارجعوا إلي بكل قلوبكم وبالصوم والبكاء والنوح.

    * 13 * ومزقوا قلوبكم لا ثيابكم، وارجعوا إلى الرب إلهكم ; لأنه رؤوف رحيم بطيء الغضب وكثير الرأفة...

    * 15 *.. قدسوا صوما نادوا باعتكاف.

    * 16 * اجمعوا الشعب قدسوا الجماعة.

    وفي سفر زكرياء، الإصحاح الثامن ص 1347:

    * 19 * هكذا قال رب الجنود: إن صوم الشهر الرابع وصوم الخامس وصوم السابع وصوم العاشر يكون لبيت يهوذا ابتهاجا وفرحا وأعيادا طيبة. فأحبوا الحق والسلام.

    وفي إنجيل متى، الإصحاح السادس ص 11:

    * 17 * وأما أنت فمتى صمت فادهن رأسك واغسل وجهك.

    * 18 * لكي لا تظهر للناس صائما، بل لأبيك الذي في الخفاء. فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية.

    الإصحاح السابع عشر ص 32:

    لما رأى عيسى عليه الصلاة والسلام فتى وأخرج منه الشيطان قال لأصحابه:

    * 21 * وأما هذا الجنس فلا يخرج إلا بالصلاة والصوم.

    وفي الإصحاح الرابع ص 6:

    * 2 * فبعد ما صام أربعين نهارا وأربعين ليلة جاع أخيرا أي: المسيح عليه السلام.

    وفي رسالة بولس الثانية إلى أهل كورنثوس، الإصحاح السادس ص 295:

    * 4 * بل في كل شيء نظهر أنفسنا كخدام الله في صبر كثير، في شدائد، في ضرورات، في ضيقات.

    * 5 * في ضربات، في سجون، في اضطرابات، في أتعاب، في أسهار، في أصوام.

    [ ص: 418 ] وفي الإصحاح الحادي عشر ص 301:

    * 27 * في تعب وكد، في أسهار مرارا كثيرة، في جوع وعطش، في أصوام مرارا كثيرة، في برد وعري.

    هذا، ومتى أطلق الصوم في كل شريعة، فلا يقصد به إلا الامتناع عن الأكل كل النهار إلى المساء، لا مجرد إبدال طعام بطعام.

    وقوله تعالى: لعلكم تتقون أي: تجعلون بينكم وبين سخطه تعالى وقاية بالمسارعة إليه، والمواظبة عليه، رجاء لرضاه تعالى ; فإن الصوم يكسر الشهوة، فيقمع الهوى، فيردع عن مواقعة السوء.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [184] أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون .

    أياما معدودات نصب على الظرف، أي: كتب عليكم الصيام في أيام معدودات، وهي أيام شهر رمضان، كما بينها تعالى فيما بعد، بقوله: شهر رمضان الذي أنـزل فيه القرآن فمن كان منكم مريضا أي: مرضا يضره الصوم، أو يعسر معه.

    والمرض: السقم، وهو نقيض الصحة واضطراب الطبيعة بعد صفائها واعتدالها: أو على سفر أي: فافطر: فعدة أي: فعليه صوم عدة أيام المرض والسفر: من أيام أخر غير المعدودات المذكورة. وإنما رخص الفطر في حال المرض والسفر لما في ذلك من المشقة. وقد سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان في أعظم الغزوات وأجلها: في غزوة بدر، [ ص: 419 ] وغزوة الفتح. قال عمر بن الخطاب: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان غزوتين: يوم بدر والفتح، فأفطرنا فيهما.

    تنبيهات:

    الأول: ثبت أنه صلى الله عليه وسلم صام في السفر وأفطر، كما خير بعض الصحابة بين الصوم والفطر. ففي الصحيحين عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره في يوم حار، حتى يضع الرجل يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم إلا ما كان من النبي صلى الله عليه وسلم وابن رواحة. وقوله: في بعض أسفاره: وقع في إحدى روايتي مسلم، بدله في شهر رمضان. وعن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صائم. وفي رواية: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فلما غابت الشمس قال لرجل: « انزل فاجدح لنا..! » فقال: يا رسول الله! لو أمسيت. قال: « انزل فاجدح لنا » . قال: « إن عليك نهارا » . فنزل، فجدح له، فشرب، ثم قال: « إذا رأيتم الليل قد أقبل من ههنا - وأشار بيده نحو المشرق - فقد أفطر الصائم » رواه الشيخان. واللفظ لمسلم.

    [ ص: 420 ] وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة فصام حتى بلغ عسفان، ثم دعا بماء فرفعه إلى يديه ليريه الناس، فأفطر حتى قدم مكة، وذلك في رمضان.

    فكان ابن عباس يقول: قد صام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفطر، فمن شاء صام، ومن شاء أفطر.
    رواه الشيخان. واللفظ للبخاري.

    وعن قزعة قال: أتيت أبا سعيد الخدري فسألته عن الصوم في السفر، فقال: سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ونحن صيام، قال: فنزلنا منزلا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إنكم قد دنوتم من عدوكم، والفطر أقوى لكم » . فكانت رخصة، فمنا من صام ومنا من أفطر.

    ثم نزلنا منزلا آخر فقال: « إنكم مصبحو عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطروا » . وكانت عزمة فأفطرنا. ثم قال لقد رأيتنا نصوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في السفر،
    رواه مسلم. وعن عائشة: أن حمزة بن عمرو الأسلمي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أأصوم في السفر؟ - وكان كثير الصيام - فقال: « إن شئت فصم وإن شئت فأفطر » . رواه البخاري.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #83
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثالث
    صـ 421 الى صـ 425
    الحلقة (83)

    ورواه مسلم من طريق آخر، أنه قال: يا رسول الله أجد بي قوة على الصيام في السفر [ ص: 421 ] فهل علي جناح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « هي رخصة من الله، فمن أخذ بها فحسن، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه » .

    وعن أنس بن مالك قال: كنا نسافر مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم. رواه الشيخان.

    الثاني: لا يخفى أن جواز الصوم للمسافر إذا أطاقه بلا ضرر. وأما إذا شق عليه الصوم فلا ريب في كراهته، لما في الصحيحين: عن جابر رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فرأى زحاما، ورجل قد ظلل عليه، فقال: « ما هذا؟ » فقالوا: صائم، فقال: « ليس من البر الصوم في السفر » . فلا ينافي هذا ما تقدم، كما لا يرد أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، لأن السياق والقرائن تدل على تخصيصه بمن شق عليه الصوم. وما تقدم في غيره.

    قال ابن دقيق العيد: وينبغي أن يتنبه للفرق بين دلالة السبب والسياق والقرائن على تخصيص العام، وعلى مراد المتكلم ; وبين مجرد العام على سبب. فإن بين المقامين فرقا واضحا. ومن أجراهما مجرى واحدا لم يصب. فإن مجرد ورود العام على سبب لا يقتضي التخصيص به، كنزول آية السرقة في قصة رداء صفوان. وأما السياق والقرائن الدالة على مراد المتكلم فهي المرشدة إلى بيان المجملات، كما في هذا الحديث. انتهى. وهو استنباط جيد. وبالجملة: فالمريض والمسافر يباح لهما الفطر. فإن صاما صح، فإن تضررا، كره..!.

    [ ص: 422 ] الثالث: لم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم تقدير المسافة التي يفطر فيه الصائم بحد، ولا صح عنه في ذلك شيء. وقد أفطر دحية بن خليفة الكلبي في سفر ثلاثة أميال، وقال لمن صام: قد رغبوا عن هدي محمد صلى الله عليه وسلم..!. وكان الصحابة حين ينشئون السفر يفطرون من غير اعتبار مجاوزة البيوت، ويخبرون أن ذلك سنته وهديه صلى الله عليه وسلم. كما قال عبيد بن جبر: ركبت مع أبي بصرة الغفاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفينة من الفسطاط في رمضان، فلم نجاوز البيوت حتى دعا بالسفرة. قال: اقترب، قلت: ألست ترى البيوت؟ قال أبو بصرة: أترغب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ رواه أبو داود وأحمد. ولفظ أحمد: ركبت مع أبي بصرة من الفسطاط إلى الإسكندرية في سفينة، فلما دفعنا من مرسانا أمر بسفرته فقربت، ثم دعاني إلى الغداء. وذلك في رمضان، فقلت: يا أبا بصرة! والله ما تغيبت عنا منازلنا بعد؟! فقال: أترغب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقلت: لا! قال: فلم نزل مفطرين حتى بلغنا ماحوزنا، قيل: أي: موضعهم الذي أرادوه.

    وقال محمد بن كعب: أتيت أنس بن مالك في رمضان - وهو يريد السفر - وقد رحلت راحلته، وقد لبس ثياب السفر، فدعا بطعام فأكل. فقلت له: سنة؟ قال: سنة. ثم ركب. قال الترمذي: حديث حسن. وقال الدارقطني فيه: فأكل وقد تقارب غروب الشمس..!. وهذه الآثار صريحة أن من أنشأ السفر في أثناء يوم من رمضان فله الفطر فيه. قاله في " زاد المعاد ".

    وعلى الذين يطيقونه أي: الصوم، إن أفطروا: فدية أي: إعطاء فدية وهي: طعام مسكين و " الفدية ": ما يقي الإنسان به نفسه من مال يبذله في عبادة يقصر فيها، و " الطعام ": ما يؤكل وما به قوام البدن: فمن تطوع خيرا بأن أطعم أكثر [ ص: 423 ] من مسكين: فهو خير له لأنه فعل ما يدل على مزيد حبه لربه: وأن تصوموا أيها المطيقون: خير لكم من الفدية وإن زادت: إن كنتم تعلمون أي: فضيلة الصوم وفوائده، أو إن كنتم من أهل العلم.

    وقد ذهب الأكثرون إلى أن هذه الآية منسوخة بما بعدها. فإنه كان في بدء الإسلام فرض عليهم الصوم ولم يتعودوه، فاشتد عليهم، فرخص لهم في الإفطار والفدية، كما روى مسلم عن سلمة بن الأكوع قال: لما نزلت هذه الآية: وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين كان من أراد أن يفطر ويفتدي، حتى نزلت الآية بعدها فنسختها. وأسند من طريق آخر عن سلمة أيضا قال: كنا في رمضان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من شاء صام، ومن شاء أفطر فافتدى بطعام مسكين، حتى أنزلت هذه الآية: فمن شهد منكم الشهر فليصمه . وفي البخاري. قال ابن عمر وسلمة بن الأكوع: نسختها: شهر رمضان الآية. ثم روي عن ابن أبي ليلى: حدثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: نزل رمضان فشق عليهم، فكان من أطعم كل يوم مسكينا ترك الصوم ممن يطيقه، ورخص لهم في ذلك، فنسخت وأمروا بالصوم. ثم أسند أيضا عن ابن عمر أنه قال: هي منسوخة.

    هذا، وقد روى البخاري في " التفسير ": عن عطاء أنه سمع ابن عباس يقول في هذه الآية: ليست بمنسوخة، هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما، فليطعمان مكان كل يوم مسكينا.

    [ ص: 424 ] هذا، وقد ذكر البخاري في " التفسير ": أن أنس بن مالك أطعم - بعد ما كبر - عاما أو عامين، كل يوم مسكينا، خبزا ولحما، وأفطر. رواه تعليقا، ووصله أبو يعلى الموصلي في " مسنده " ورواه عبد بن حميد في " مسنده " من حديث ستة من أصحاب أنس عن أنس، بمعناه وروى محمد بن هشام في فوائده عن حميد قال: ضعف أنس عن الصوم عام توفي، فسألت ابنه عمر بن أنس: أطاق الصوم؟ قال: لا..! فلما عرف أنه لا يطيق القضاء أمر بجفان من خبز ولحم فأطعم العدة أو أكثر...!.

    ولما أبهم الأمر في الأيام عينت هنا بقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [185] شهر رمضان الذي أنـزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون .

    شهر رمضان لأن ذلك أفخم وآكد من تعيينه من أول الأمر.

    وقال الراغب: جعل معالم فرضه على الأهلة ليبادر الإنسان به في كل وقت من أوقات السنة، كما يدور الشهر فيه من الصيف والشتاء والربيعين.

    وفي رفع: شهر وجهان:

    أحدهما: أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: هي شهر، يعني الأيام المعدودات. فعلى هذا يكون قوله: الذي أنـزل نعتا للشهر أو لرمضان.

    والثاني: [ ص: 425 ] هو مبتدأ.

    ثم في الخبر وجهان:

    أحدهما: الذي أنـزل

    والثاني: إن: الذي أنـزل صفة، والخبر هو الجملة التي هي قوله: فمن شهد

    فإن قيل: لو كان خبرا لم يكن فيه الفاء لأن شهر رمضان لا يشبه الشرط؟!.

    قيل: الفاء - على قول الأخفش - زائدة. وعلى قول غيره: ليست زائدة، وإنما دخلت لأنك وصفت الشهر بـ: ( الذي ) ، فدخلت الفاء كما تدخل في خبر نفس الذي. ومثله: قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم فإن قيل: فأين الضمير العائد على المبتدأ من الجملة؟ قيل: وضع الظاهر موضعه تفخيما، أي: فمن شهده منكم. كذا في العكبري.

    الذي أنـزل فيه القرآن أي: ابتدأ فيه إنزاله، وكان ذلك في ليلة القدر.

    قال الرازي: لأن مبادي الملل والدول هي التي يؤرخ بها، لكونها أشرف الأوقات، ولأنها أيضا أوقات مضبوطة معلومة.

    وقال سفيان بن عيينة: معناه: أنزل في فضله القرآن. وهذا اختيار الحسين بن الفضل. قال: ومثله أن يقال: أنزل الله في الصديق كذا آية، يريدون: في فضله.

    وقال ابن الأنباري: أنزل - في إيجاب صومه على الخلق - القرآن، كما يقال: أنزل الله في الزكاة كذا وكذا، يريد في إيجابها، وأنزل في الخمر كذا يريد في تحريمها. والله أعلم.

    قال الحرالي: أشعرت الآية أن في الصوم حسن تلق لمعناه، ويسرا لتلاوته، ولذلك جمع فيه بين صوم النهار وتهجد الليل، وهو صيغة مبالغة من القرء وهو ما جمع الكتب والصحف والألواح. انتهى.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #84
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثالث
    صـ 426 الى صـ 430
    الحلقة (84)

    [ ص: 426 ] وفي مدحه - بإنزاله فيه - مدح للقرآن به، من حيث أشعر أن من أعظم المقاصد بمشروعيته تصفية الفكر لأجل فهم القرآن، ليوقف على حقيقة ما اتبع هذا به من أوصافه التي قررت ما افتتحت به السورة، من أنه لا ريب فيه، وأنه هدى على وجه أعم من ذلك الأول. فقال تعالى: هدى للناس نصب على الحال وبينات من الهدى والفرقان عطف على الحال قبله. فهي حال أيضا. والظرف صفة. أي: أنزل حال كونه هداية للناس، وآيات واضحة مرشدة إلى الحق، فارقة بينه وبين الباطل. ولدفع سؤال التكرار في قوله: وبينات إلخ بعد قوله: هدى للناس حمل بعض المفسرين: الهدى الأول بواسطة النكرة على الهدى الذي لا يقدر قدره المختص بالقرآن، أعني هدايته بإعجازه. والثاني على الهدى الحاصل باشتماله على الواضحات من أمر الدين، والفرقان بين الحلال والحرام والأحكام والحدود والخروج من الشبهات.

    وثمت وجه آخر نقله الرازي: وهو أن: الهدى الثاني المراد به التوراة والإنجيل، قال تعالى: نـزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنـزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس وأنـزل الفرقان فبين تعالى أن القرآن - مع كونه هدى في نفسه - ففيه أيضا هدى من الكتب المتقدمة التي هي هدى وفرقان، والله أعلم.

    فمن شهد منكم الشهر فليصمه هذا إيجاب حتم على من شهد استهلال الشهر - أي: حضر فيه بأن كان مقيما في البلد حين دخل شهر رمضان، وهو صحيح في بدنه - أن يصوم لا محالة. ووضع الظاهر موضع الضمير للتعظيم والمبالغة في البيان. ثم أعيد ذكر الرخصة بقوله تعالى: ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر لئلا يتوهم من تعظيم أمر الصوم في نفسه وأنه خير، أن الصوم حتم لا تتناوله الرخصة بوجه، أو [ ص: 427 ] تتناوله ولكنها مفضولة. وفيه عناية بأمر الرخصة، وأنها محبوبة له تعالى كما ورد. وفي إطلاقه، إشعار بصحة وقوع القضاء متتابعا وغير متتابع: يريد الله بكم اليسر أي: تشريع السهولة بالترخيص للمريض والمسافر، وبقصر الصوم على شهر: ولا يريد بكم العسر في جعله عزيمة على الكل وزيادته على شهر.

    قال الحرالي: اليسر: عمل لا يجهد النفس ولا يثقل الجسم. والعسر: ما يجهد النفس ويضر الجسم.

    قال الشعبي: إذا اختلف عليك أمران، فإن أيسرهما أقربهما إلى الحق، لهذه الآية.

    وروى الإمام أحمد مرفوعا: « إن خير دينكم أيسره، إن خير دينكم أيسره » .

    وروى أيضا: «إن دين الله في يسر. ثلاثا » .

    وفي الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه قال لمعاذ وأبي موسى، حين بعثهما إلى اليمن: « يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا » .

    وفي السنن والمسانيد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « بعثت بالحنيفية السمحة » .

    أي التي [ ص: 428 ] لا إصر فيها ولا حرج كما قال تعالى: وما جعل عليكم في الدين من حرج

    ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون علل لفعل محذوف مدلول عليه بما سبق تقديره. ولهذه الأمور شرع ذلك. يعني جملة ما ذكر من أمر الشاهد بصوم الشهر، وأمر المرخص له بمراعاة عدة ما أفطر فيه، ومن الترخيص في إباحة الفطر. فقوله: {لتكملوا } علة الأمر بمراعاة العدة: ولتكبروا علة ما علم من كيفية القضاء، والخروج عن عهدة الفطر: ولعلكم تشكرون علة الترخيص والتيسير. وهذا نوع من اللف لطيف المسلك، لا يكاد يهتدي إلى تبينه إلا النقاب المحدث من علماء البيان!. وإنما عدي فعل التكبير بحرف الاستعلاء لكونه مضمنا معنى الحمد. كأنه قيل: [ ص: 429 ] ولتكبروا الله حامدين على ما هداكم. ومعنى: ولعلكم تشكرون وإرادة أن تشكروا. ويجوز عطفها على اليسر، أي: يريد بكم لتكملوا... إلخ، كقوله تعالى: يريدون ليطفئوا إلخ. والمراد بالتكبير: تعظيمه تعالى والثناء عليه. كذا أفاده الزمخشري.

    قال الحرالي: وفي لفظ: ولتكبروا الله إشعار لما أظهرته السنة من صلاة العيد، وأعلن فيها بالتكبير. وكرر مع الجهر فيها لمقصد موافقة معنى التكبير الذي إنما يكون علنا. وجعلت في براح من متسع الأرض لمقصد التكبير، لأن تكبير الله إنما هو بما جل من مخلوقاته. انتهى ملخصا.

    وقال ابن كثير: وقوله تعالى: ولتكبروا الله أي: ولتذكروا الله عند انقضاء عبادتكم، كما قال: فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا وقال: فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون وقال: وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب ومن الليل فسبحه وأدبار السجود ولهذا جاءت السنة باستحباب التسبيح والتحميد والتكبير بعد الصلوات المكتوبات.

    [ ص: 430 ] وقال ابن عباس: ما كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالتكبير.

    ولهذا أخذ كثير من العلماء مشروعية التكبير في عيد الفطر من هذه الآية. حتى ذهب داود بن علي الأصبهاني الظاهري إلى وجوبه في عيد الفطر، لظاهر الأمر في قوله: ولتكبروا الله على ما هداكم وفي مقابلته مذهب أبي حنيفة رحمه الله: أنه لا يشرع التكبير في عيد الفطر. والباقون على استحبابه. انتهى.

    وفي " زوائد المشكاة " عن عبد الله بن عمر أنه كان إذا غدا يوم الأضحى ويوم الفطر يجهر بالتكبير حتى يأتي المصلى. ثم يكبر حتى يأتي الإمام. وفي رواية: رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، رواه الدارقطني. وعن نافع أن ابن عمر كان يغدو إلى المصلى يوم الفطر إذا طلعت الشمس، فيكبر حتى يأتي المصلى، ثم يكبر بالمصلى حتى إذا جلس الإمام ترك التكبير. رواه الشافعي.

    قال الحافظ ابن حجر في تخريج أحاديث الرافعي: حديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يخرج يوم الفطر والأضحى رافعا صوته بالتهليل والتكبير حتى يأتي المصلى، رواه الحاكم والبيهقي من حديث ابن عمر من طرق مرفوعا وموقوفا، وصحح وقفه. ورواه الشافعي موقوفا أيضا.

    وفي الأوسط عن أبي هريرة مرفوعا: زينوا أعيادكم بالتكبير. إسناده غريب. انتهى.

    وفائدة طلب الشكر في هذا الموضع، هو أنه تعالى، لما أمر بالتكبير، وهو لا يتم إلا بأن يعلم العبد جلال الله وكبرياءه وعزته وعظمته، وكونه أكبر من أن تصل إليه عقول العقلاء، وأوصاف الواصفين، وذكر الذاكرين. ثم يعلم أنه سبحانه - مع جلاله وعزته واستغنائه عن جميع المخلوقات، فضلا عن هذا المسكين - خصه الله بهذه الهداية العظيمة - لا بد وأن يصبر ذلك داعيا للعبد إلى الاشتغال بشكره، والمواظبة على الثناء عليه بمقدار قدرته وطاقته، فلهذا قال: ولعلكم تشكرون أفاده الرازي.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #85
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثالث
    صـ 431 الى صـ 435
    الحلقة (85)

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [186] وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون .

    وإذا سألك عبادي عني فإني قريب قال الراغب: هذه الآية من تمام الآية الأولى. لأنه لما حث على تكبيره وشكره على ما قيضه لهم من تمام الصوم، بين أن الذي يذكرونه ويشكرونه قريب منهم، ومجيب لهم إذا دعوه، ثم تمم ما بقي من أحكام الصوم.

    قال الرازي: إن السؤال متى كان مبهما، والجواب مفصلا، دل الجواب على أن المراد من ذلك المبهم هو ذلك المعين. فلما قال في الجواب: فإني قريب علمنا أن السؤال كان عن القرب والبعد بحسب الذات، أي: كما صرحت به الرواية السابقة. والقريب من أسمائه تعالى الحسنى. ومعناه القريب من عبده بسماعه دعاءه، ورؤيته تضرعه، وعلمه به، كما قال: ونحن أقرب إليه من حبل الوريد وقال: وهو معكم أين ما كنتم وقال: ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم

    [ ص: 432 ] قال الإمام تقي الدين ابن تيمية، عليه الرحمة، في عقيدته الواسطية:

    ودخل - فيما ذكرناه من الإيمان بالله - الإيمان بما أخبر الله به في كتابه، وتواتر عن رسوله صلى الله عليه وسلم، وأجمع عليه سلف الأمة. من أنه سبحانه فوق سماواته على عرشه، علي على خلقه. وهو معهم سبحانه أينما كانوا. يعلم ما هم عاملون. كما جمع بين ذلك في قوله: هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينـزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير وليس معنى قوله: وهو معكم أين ما كنتم أنه مختلط بالخلق، فإن هذا لا توجبه اللغة. وهو خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة، وخلاف ما فطر الله عليه الخلق. بل القمر - آية من آيات الله - من أصغر مخلوقاته، وهو موضوع في السماء، وهو مع المسافر أينما كان. وهو سبحانه فوق العرش رقيب على خلقه، مهيمن عليهم، مطلع إليهم، إلى غير ذلك من معاني ربوبيته، وكل هذا الكلام الذي ذكره الله من أنه فوق العرش، وأنه معنا - حق على حقيقته لا يحتاج إلى تحريف، ولكن يصان عن الظنون الكاذبة. ودخل في ذلك: الإيمان بأنه قريب من خلقه، كما قال تعالى: وإذا سألك عبادي عني فإني قريب الآية. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: « إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته » . وما ذكر في الكتاب والسنة - من قربه ومعيته - لا ينافي ما ذكر من علوه وفوقيته..! فإنه سبحانه ليس كمثله شيء [ ص: 433 ] في جميع نعوته. وهو علي في دنوه، قريب في علوه...!. انتهى كلامه رحمه الله تعالى.

    وقوله تعالى: أجيب دعوة الداع إذا دعان تقرير للقرب وتحقيق له، ووعد للداعي بالإجابة. وقد قرئ في السبع بإثبات الياء في الداع ودعان في الوصل دون الوقف، وبالحذف مطلقا.

    تنبيهات:

    الأول: في معنى الدعاء.

    قال في القاموس وشرحه: الدعاء: الرغبة إلى الله تعالى فيما عنده من الخير، والابتهال إليه بالسؤال، ويطلق على العبادة والاستغاثة.

    الثاني: فيما فسر به قوله تعالى: أجيب دعوة الداع

    قال ابن القيم في " زاد المعاد " في هديه صلى الله عليه وسلم في سجوده ما نصه: وأمر يعني النبي صلى الله عليه وسلم بالدعاء في السجود، وقال: إنه قمن أن يستجاب لكم. وهل هذا أمر بأن يكثر الدعاء في السجود؟ أو أمر بأن الداعي إذا دعا في محل فليكن في السجود؟ وفرق بين الأمرين.! وأحسن ما يحمل عليه الحديث، أن الدعاء نوعان: دعاء ثناء، ودعاء مسألة. والنبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر في سجوده من النوعين. والدعاء الذي أمر به في السجود يتناول النوعين. والاستجابة - أيضا - نوعان: استجابة دعاء الطالب بإعطائه سؤاله، [ ص: 434 ] واستجابة دعاء المثني بالثواب. وبكل واحد من النوعين فسر قوله تعالى: أجيب دعوة الداع إذا دعان والصحيح أنه يعم النوعين. انتهى.

    الثالث: فيمن هو الداعي المجاب:

    قال الراغب: بين تعالى - في هذه الآية - إفضاله على عباده، وضمن أنهم إذا دعوه أجابهم، وعليه نبه بقوله تعالى: ادعوني أستجب لكم إن قيل: قد ضمن في الآيتين أن من دعاه أجابه، وكم رأينا من داع له لم يجبه؟! قيل: إنه ضمن الإجابة لعباده، ولم يرد بالعباد من ذكرهم بقوله: إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا وإنما عنى به الموصوفين بقوله: إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين وقوله: وعباد الرحمن الآيات. وللدعاء المجاب شرائط وهي: أن يدعو بأحسن الأسماء، كما قال تعالى: ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها ويخلص النية، ويظهر الافتقار، ولا يدعو بإثم، ولا بما يستعين به على معاداته. وأن يعلم أن نعمته فيما يمنعه من دنياه كنعمته فيما خوله وأعطاه. ومعلوم أن من هذا حاله فمجاب الدعوة..!

    وقال ابن القيم، عليه الرحمة، أيضا في أول كتابه: " الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء [ ص: 435 ] الشافي " ما نصه، بعد جمل: وكذلك الدعاء، فإنه من أقوى الأسباب في دفع المكروه وحصول المطلوب. ولكن قد يتخلف عنه أثره، إما لضعفه في نفسه، بأن يكون دعاء لا يحبه الله لما فيه من العدوان. وإما لضعف القلب وعدم إقباله على الله وجمعيته عليه وقت الدعاء، فيكون بمنزلة القوس الرخو جدا. فإن السهم يخرج منه خروجا ضعيفا. وإما لحصول المانع من الإجابة من أكل الحرام والظلم ورين الذنوب عن القلوب واستيلاء الغفلة والسهو واللهو وغلبتها عليه، كما في صحيح الحاكم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: « ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يقبل دعاء من قلب غافل لاه! » . فهذا دواء نافع مزيل للداء. ولكن غفلة القلب عن الله، تبطل قوته. وكذلك أكل الحرام يبطل قوته ويضعفها، كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أيها الناس! إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم وقال: يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم ثم ذكر: الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يده إلى السماء: يا رب يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك..؟! » . وذكر عبد الله بن أحمد في كتاب " الزهد " لأبيه: أصاب بني إسرائيل بلاء، فخرجوا مخرجا، فأوحى الله عز وجل إلى نبيهم أن أخبرهم: أنكم تخرجون إلى الصعيد بأبدان نجسة، وترفعون إلي أكفا قد سفكتم بها الدماء، وملأتم بها بيوتكم من الحرام، الآن حين اشتد غضبي عليكم؟! ولن تزدادوا مني إلا بعدا..!.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #86
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثالث
    صـ 436 الى صـ 440
    الحلقة (86)


    ثم قال ابن القيم رحمه الله: والدعاء من أنفع الأدوية. وهو عدو البلاء، يدافعه، ويعالجه، ويمنع نزوله، ويرفعه، أو يخففه إذا نزل، وهو سلاح المؤمن. كما روى الحاكم في " [ ص: 436 ] صحيحه " من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم الله وجهه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « الدعاء سلاح المؤمن وعماد الدين، ونور السماوات والأرض» ، وله مع البلاء ثلاث مقامات: أحدها: أن يكون أقوى من البلاء فيدفعه. الثاني: أن يكون أضعف من البلاء فيقوى عليه البلاء فيصاب به العبد، ولكن قد يخففه وإن كان ضعيفا. الثالث: أن يتقاوما ويمنع كل واحد منهما صاحبه....

    وقد روى الحاكم في " صحيحه " من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا يغني حذر من قدر، والدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، وإن البلاء لينزل فيلقاه الدعاء فيعتلجان إلى يوم القيامة» !. وفيه أيضا، من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل. فعليكم عباد الله، بالدعاء » !.

    وفيه أيضا: من حديث ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم: « لا يرد القدر إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر، وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه.. » !.

    ثم قال ابن القيم رضي الله عنه: ومن أنفع الأدوية الإلحاح في الدعاء. وقد روى ابن ماجه في " سننه " من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من لم يسأل الله يغضب عليه » ! وفي " صحيح الحاكم " من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: « لا تعجزوا في الدعاء فإنه لا يهلك مع الدعاء أحد » . وذكر الأوزاعي عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الله يحب الملحين في الدعاء » ؟ وفي كتاب " الزهد " للإمام أحمد عن قتادة قال: قال مورق: ما وجدت للمؤمن مثلا إلا رجل في البحر على خشبة، فهو يدعو: يا رب! لعل الله عز وجل أن ينجيه..!.

    [ ص: 437 ] ثم قال ابن القيم نور الله ضريحه: ومن الآفات التي تمنع ترتب أثر الدعاء عليه، أن يستعجل العبد ويستبطئ الإجابة، فيستحسر ويدع الدعاء. وهو بمنزلة من بذر بذرا أو غرس غرسا، فجعل يتعاهده ويسقيه، فلما استبطأ كماله وإدراكه تركه وأهمله..!. وفي البخاري من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي» !. وفي صحيح مسلم عنه: « لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل» ! قيل: يا رسول الله ما الاستعجال؟ قال: « يقول: قد دعوت وقد دعوت فلم أر الله يستجيب لي، فيستحسر عند ذاك ويدع الدعاء » . وفي مسند أحمد من حديث أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا يزال العبد بخير ما لم يستعجل» . قالوا: يا رسول الله! كيف يستعجل؟ قال: « يقول: قد دعوت لربي فلم يستجب لي » .

    ثم قال:

    فصل

    وإذا اجتمع مع الدعاء حضور القلب وجمعيته بكليته على المطلوب، وصادف وقتا من أوقات الإجابة الستة وهي: الثلث الأخير من الليل، وعند الأذان، وبين الأذان والإقامة، وأدبار الصلوات المكتوبات، وعند صعود الإمام يوم الجمعة على المنبر حتى تقضى الصلاة، وآخر ساعة بعد العصر من ذلك اليوم، وصادف خشوعا في القلب، وانكسارا بين يدي [ ص: 438 ] الرب، وذلا وتضرعا ورقة، واستقبل الداعي القبلة، وكان على طهارة، ورفع يديه إلى الله تعالى، وبدأ بحمد الله والثناء عليه، ثم ثنى بالصلاة على محمد عبده صلى الله عليه وسلم، ثم قدم بين يدي حاجته التوبة والاستغفار، ثم دخل على الله وألح عليه في المسالة وتملقه ودعاه رغبة ورهبة، وتوسل إليه بأسمائه وصفاته وتوحيده، وقدم بين يدي دعائه صدقة ; فإن هذا الدعاء لا يكاد يرد أبدا. ولا سيما إن صادف الأدعية التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها مظنة الإجابة، أو أنها متضمنة للاسم الأعظم. فمنها ما في السنن، وفي صحيح ابن حبان من حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول: اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد..!. فقال: « لقد سألت الله بالاسم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب » !. وفي لفظ: « لقد سألت الله باسمه الأعظم» . وفي السنن و " صحيح ابن حبان " أيضا من حديث أنس بن مالك أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا ورجل يصلي، ثم دعا: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت المنان بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « لقد دعا الله باسمه العظيم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى» . وأخرج الحديثين أحمد في " مسنده " وفي " جامع الترمذي " من حديث أسماء بنت يزيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « اسم [ ص: 439 ] الله الأعظم في هاتين الآيتين: وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم وفاتحة آل عمران: الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم » . قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وفي " مسند أحمد " و " صحيح الحاكم " من حديث أبي هريرة وأنس بن مالك وربيعة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام» . يعني: تعلقوا بها والزموها وداوموا عليها. وفي " جامع الترمذي " من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أهمه الأمر رفع رأسه إلى السماء فقال: « سبحان الله العظيم » وإذا اجتهد في الدعاء قال: « يا حي يا قيوم.. » ! وفيه أيضا من حديث أنس بن مالك قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كربه أمر قال: « يا حي يا قيوم! برحمتك أستغيث» .

    وفي صحيح الحاكم من حديث أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « اسم الله الأعظم في ثلاث سور من القرآن: البقرة وآل عمران وطه » .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #87
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثالث
    صـ 441 الى صـ 445
    الحلقة (87)

    قال القاسم: فالتمستها فإذا هي آية الحي القيوم. وفي " جامع الترمذي " و " صحيح الحاكم " من حديث سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « دعوة ذي النون إذ دعا وهو في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فإنه لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط، إلا استجاب الله له» . قال الترمذي: حديث صحيح. وفي " صحيح الحاكم " أيضا من حديث سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم: « ألا أخبركم بشيء إذا نزل برجل منكم أمر مهم فدعا به يفرج الله عنه؟! دعاء ذي النون» . وفي " صحيحه " أيضا عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 440 ] وهو يقول: « هل أدلكم على اسم الله الأعظم؟ دعاء يونس» . فقال رجل: يا رسول الله! هل كان ليونس خاصة؟ فقال: « ألا تسمع قوله: فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين فأيما مسلم دعا بها في مرضه أربعين مرة فمات في مرضه ذلك، أعطي أجر شهيد. وإن برأ، برأ مغفورا له! » . وفي الصحيحين من حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب: « لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض رب العرش الكريم » . وفي " مسند الإمام أحمد ": من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل بي كرب أن أقول: لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله وتبارك الله رب العرش العظيم، والحمد لله رب العالمين. وفي " مسنده " أيضا من حديث عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما أصاب أحدا قط هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك. أسألك اللهم بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو علمته أحدا من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك ; أن تجعل القرآن العظيم [ ص: 441 ] ربيع قلبي، ونور بصري، وجلاء حزني، وذهاب همي.... إلا أذهب الله همه وحزنه وأبدله مكانه فرحا» فقيل: يا رسول الله! ألا نتعلمها؟ قال: « بل ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها» .

    وقال ابن مسعود: ما كرب نبي من الأنبياء إلا استغاث بالتسبيح.

    ثم قال ابن القيم: وكثيرا ما نجد أدعية دعا بها قوم فاستجيب لهم، فيكون قد اقترن بالدعاء ضرورة صاحبه وإقباله على الله، أو حسنة تقدمت منه، جعل الله سبحانه إجابة دعوته شكرا لحسنته. أو صادف الدعاء وقت إجابة، ونحو ذلك، فأجيبت دعوته. فيظن الظان أن السر في لفظ ذلك الدعاء، فيأخذه مجردا عن تلك الأمور التي قارنته من ذلك الداعي. وهذا كما إذا استعمل رجل دواء نافعا في الوقت الذي ينبغي على الوجه الذي ينبغي، فانتفع به، فظن غيره أن استعمال هذا الدواء بمجرده كاف في حصول المطلوب كان غالطا. وهذا موضع يغلط فيه كثير من الناس. ومن هذا، قد يتفق دعاؤه باضطرار عند قبر فيجاب. فيظن الجاهل أن السر للقبر. ولم يعلم أن السر للاضطرار وصدق اللجأ إلى الله. فإذا حصل لك في بيت من بيوت الله كان أفضل وأحب إلى الله...

    ثم قال ابن القيم: والأدعية والتعوذات بمنزلة السلاح. والسلاح بضاربه لا بحده فقط! فمتى كان السلاح سلاحا تاما لا آفة به، والساعد ساعد قوي، والمانع مفقود، حصلت به النكاية في العدو..! ومتى تخلف واحد من هذه الثلاثة، تخلف التأثير..! فإن كان الدعاء في نفسه غير صالح، أو الداعي لم يجمع بين قلبه ولسانه في الدعاء، أو كان ثم مانع من الإجابة ; لم يحصل التأثير..!.

    ثم قال ابن القيم: وهنا سؤال مشهور، وهو: أن المدعو به إن كان قد قدر لم يكن بد من وقوعه، دعا به العبد أو لم يدع، وإن لم يكن قد قدر لم يقع، سواء سأله العبد أو لم يسأله. فظنت طائفة صحة هذا السؤال، فتركت الدعاء وقالت: لا فائدة فيه! وهؤلاء - مع فرط جهلهم وضلالهم - يتناقضون. فإن طرد مذهبهم يوجب تعطيل جميع الأسباب.

    [ ص: 442 ] فيقال لأحدهم: إن كان الشبع والري قد قدر لك فلا بد من وقوعهما. أكلت أو لم تأكل. وإن لم يقدرا لم يقعا. أكلت أو لم تأكل. وإن كان الولد قدر لك، فلا بد منه، وطأت الزوجة والأمة أو لم تطأهما، وإن لم يقدر لم يكن. فلا حاجة إلى التزويج والتسري. وهلم جرا... فهل يقال: هذا عاقل أو آدمي؟ بل الحيوان البهيم مفطور على مباشرة الأسباب التي بها قوامه وحياته. فالحيوانات أعقل وأفهم من هؤلاء الذين هم كالأنعام بل هم أضل سبيلا.

    وتكايس بعضهم، وقال: الاشتغال بالدعاء من باب التعبد المحض. يثيب الله عليه الداعي من غير أن يكون له تأثير في المطلوب بوجه ما..! ولا فرق - عند هذا الكيس - بين الدعاء والإمساك عنه بالقلب واللسان في التأثير في حصول المطلوب. وارتباط الدعاء عندهم به كارتباط السكوت، ولا فرق.... وقالت طائفة أخرى أكيس من هؤلاء: بل الدعاء علامة مجردة نصبها الله سبحانه أمارة على قضاء الحاجة، فمتى وفق العبد للدعاء كان ذلك علامة له، وأمارة على أن حاجته قد قضيت... وهذا كما إذا رأيت غيما أسود باردا في زمن الشتاء. فإن ذلك دليل وعلامة على أنه يمطر.... قالوا: وهكذا حكم الطاعات مع الثواب، والكفر والمعاصي مع العقاب، هي أمارات محضة لوقوع الثواب والعقاب، لا أنها أسباب له..! وهكذا - عندهم - الكسر مع الانكسار، والحرق مع الإحراق، والإزهاق مع القتل، ليس شيء من ذلك سببا البتة، ولا ارتباط بينه وبين ما يترتب عليه إلا بمجرد الاقتران العادي لا التأثير السببي. وخالفوا بذلك، الحس والعقل والشرع وسائر طوائف العقلاء. بل أضحكوا عليهم العقلاء.... والصواب أن ههنا قسما ثالثا غير ما ذكره السائل، وهو: إن هذا المقدور قدر بأسباب، ومن أسبابه الدعاء، فلم يقدر مجردا عن سببه ولكن قدر بسببه، فمتى أتى العبد بالسبب وقع المقدور، ومتى لم يأت بالسبب انتفى المقدور. وهذا كما قدر الشبع والري بالأكل والشرب، وقدر الولد بالوطء، وقدر حصول الزرع بالبذر، [ ص: 443 ] وقدر خروج نفس الحيوان بذبحه. وكذلك قدر دخول الجنة بالأعمال، ودخول النار بالأعمال. وهذا القسم هو الحق، وهذا الذي حرمه السائل ولم يوفق له. وحينئذ، فالدعاء، من أقوى الأسباب. فإذا قدر وقوع المدعو به بالدعاء، لم يصح أن يقال: لا فائدة في الدعاء، كما لا يقال: لا فائدة في الأكل والشرب، وجميع الحركات والأعمال ; وليس شيء من الأسباب أنفع من الدعاء ولا أبلغ في حصول المطلوب! ولما كان الصحابة رضي الله عنهم أعلم الأمة بالله ورسوله وأفقههم في دينه، كانوا أقوم بهذا السبب وشروطه وآدابه من غيرهم. وكان عمر رضي الله عنه يستنصر به على عدوه، وكان أعظم جنده، وكان يقول للصحابة: لستم تنصرون بكثرة وإنما تنصرون من السماء! وكان يقول: إني لا أحمل هم الإجابة ولكن هم الدعاء، فإذا ألهمت الدعاء فإن الإجابة معه....

    فمن ألهم الدعاء فقد أريد به الإجابة، فإن الله سبحانه يقول: ادعوني أستجب لكم وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان وفي " سنن ابن ماجه" من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من لم يسأل الله يغضب عليه » . وهذا يدل على أن رضاه في سؤاله وطاعته، وإذا رضي الرب تبارك وتعالى فكل خير في رضاه، كما أن كل بلاء ومصيبة في غضبه... وقد ذكر الإمام أحمد في كتاب " الزهد " أثرا: أنا الله لا إله إلا أنا، إذا رضيت باركت وليس لبركتي منتهى. وإذا غضبت لعنت ولعنتي تبلغ السابع من الولد، وقد دل العقل والنقل والفطرة وتجارب الأمم - على اختلاف أجناسها ومللها ونحلها - على أن التقرب إلى رب العالمين، وطلب مرضاته، والبر والإحسان إلى خلقه، من أعظم الأسباب الجالبة لكل خير ; وأضدادها من أكبر الأسباب الجالبة [ ص: 444 ] لكل شر... فما استجلبت نعم الله واستدفعت نقمة الله بمثل طاعته والتقرب إليه والإحسان إلى خلقه. وقد رتب الله سبحانه حصول الخيرات في الدنيا والآخرة، وحصول السرور في الدنيا والآخرة - في كتابه - على الأعمال، ترتب الجزاء على الشرط، والمعلول على العلة، والمسبب على السبب. وهذا في القرآن يزيد على ألف موضع، فتارة يرتب الحكم الخبري الكوني والأمر الشرعي على الوصف المناسب له، كقوله تعالى: فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين وقوله: فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين وقوله: والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا وقوله: إن المسلمين والمسلمات - إلى قوله -: والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما وهذا كثير جدا..!

    وتارة ترتبه عليه بصيغة الشرط والجزاء: كقوله تعالى: إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم وقوله: وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا [ ص: 445 ] وقوله: فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ونظائره...

    وتارة يأتي بلام التعليل: كقوله: ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب وقوله: لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا

    وتارة يأتي بأداة كي التي للتعليل، كقوله: كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #88
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثالث
    صـ 446 الى صـ 450
    الحلقة (88)

    وتارة يأتي بباء السببية كقوله تعالى: ذلك بما قدمت أيديكم وقوله: ( بما كنتم تعملون ) ، [ ص: 446 ] و: بما كنتم تكسبون وقوله: ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا

    وتارة يأتي بالمفعول لأجله ظاهرا أو محذوفا، كقوله: فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى وكقوله تعالى: أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين وقوله: أن تقولوا إنما أنـزل الكتاب على طائفتين من قبلنا أي: كراهة أن تقولوا.

    [ ص: 447 ] وتارة بفاء السببية كقوله: فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم وقوله: فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية وقوله: فكذبوهما فكانوا من المهلكين ونظائره.

    وتارة يأتي بأداة لما الدالة على الجزاء، كقوله: فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين ونظائره.

    وتارة يأتي بإن وما عملت فيه، كقوله: إنهم كانوا يسارعون في الخيرات وقوله في ضد هؤلاء: إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين

    وتارة يأتي بأداة لولا الدالة على ارتباط ما قبلها بما بعدها، كقوله: فلولا أنه كان من المسبحين في بطنه إلى يوم يبعثون

    وتارة يأتي بـ " لو " الدالة على الشرط، كقوله: ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم

    [ ص: 448 ] وبالجملة: فالقرآن - من أوله إلى آخره - صريح في ترتب الجزاء بالخير والشر والأحكام الكونية والأمرية على الأسباب، بل ترتب أحكام الدنيا والآخرة ومصالحهما ومفاسدهما على الأسباب والأعمال. ومن تفقه في هذه المسألة، وتأملها حق التأمل، انتفع بها غاية النفع، ولم يتكل على القدر جهلا منه وعجزا وتفريطا وإضاعة ; فيكون توكله عجزا، وعجزه توكلا..! بل الفقيه - كل الفقيه - الذي يرد القدر بالقدر، ويدفع القدر بالقدر، ويعارض القدر بالقدر. لا يمكن للإنسان أن يعيش إلا بذلك..! فإن الجوع والعطش والبرد وأنواع المخاوف والمحاذير هي من القدر. والخلق كلهم ساعون في دفع هذا القدر.... وهكذا من وفقه الله وألهمه رشده يدفع قدر العقوبة الأخروية بقدر التوبة والإيمان والأعمال الصالحة... فهذا وزن القدر المخوف في الدنيا وما يضاده، فرب الدارين واحد، وحكمته واحدة، لا يناقض بعضها بعضا، ولا يبطل بعضها بعضا. فهذه المسألة من أشرف المسائل لمن عرف قدرها، ورعاها حق رعايتها... والله المستعان.

    ولكن يبقى عليه أمران بهما تتم سعادته وفلاحه:

    أحدهما: أن يعرف تفاصيل أسباب الشر والخير ويكون له بصيرة في ذلك بما شهده في العالم، وما جربه في نفسه وغيره، وما سمعه من أخبار الأمم قديما وحديثا.

    ومن أنفع ما في ذلك: تدبر القرآن، فإنه كفيل بذلك على أكمل الوجوه، وفيه أسباب الخير والشر جميعا مفصلة مبينة ; ثم السنة، فإنها شقيقة القرآن وهي الوحي الثاني. ومن صرف إليهما عنايته اكتفى بهما من غيرهما، وهما يريانك الخير والشر وأسبابهما، حتى كأنك تعاين ذلك عيانا... وبعد ذلك، فإذا تأملت أخبار الأمم، وأيام الله في أهل طاعته وأهل [ ص: 449 ] معصيته، طابق ذلك ما علمته من القرآن والسنة، ورأيته بتفاصيل ما أخبر الله به ووعد به. وعلمت من آياته في الآفاق ما يدلك على أن القرآن حق، وأن الرسول حق، وأن الله ينجز وعده لا محالة..! فالتاريخ تفصيل لجزئيات ما عرفنا الله ورسوله من الأسباب الكلية للخير والشر... انتهى.

    وقوله تعالى: فليستجيبوا لي أي: إذا دعوتهم للإيمان والطاعة، كما أجيبهم إذا دعوني لمهماتهم: وليؤمنوا بي أمر بالثبات على ما هم عليه: لعلهم يرشدون أي: راجين إصابة الرشد وهو الحق.

    تنبيهان:

    الأول: قال الراغب: أوثر فليستجيبوا على فليجيبوا للطيفة، وهي: أن حقيقة الاستجابة طلب الإجابة، وإن كان قد يستعمل في معنى الإجابة. فبين أن العباد متى تحروا إجابته بقدر وسعهم فإنه يرضى عنهم. إن قيل: كيف جمع بين الاستجابة والإيمان، وأحدهما يغني عن الآخر، فإنه لا يكون مستجيبا لله من لا يكون مؤمنا؟ قلنا: استجابته ارتسام أوامره ونواهيه التي تتولاه الجوارح، والإيمان هو الذي تقتضيه القلوب. وأيضا فإن الإيمان المعني ههنا هو الإيمان المذكور في قوله: إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله الآية.

    الثاني: قدمنا عن الراغب سر وصل هذه الآية بما قبلها، ووجه التناسب. وثمت سر آخر قاله الحافظ ابن كثير، وعبارته:

    وفي ذكره تعالى هذه الآية الباعثة على الدعاء، متخللة بين أحكام الصيام، إرشاد إلى الاجتهاد [ ص: 450 ] في الدعاء عند إكمال العدة، بل وعند كل فطر. كما روى أبو داود الطيالسي في " مسنده " عن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « للصائم عند إفطاره دعوة مستجابة » . فكان عبد الله بن عمرو إذا أفطر دعا أهله وولده ودعا. وروى ابن ماجه عن عبد الله بن عمرو قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: « إن للصائم عند فطره دعوة ما ترد... » وكان عبد الله يقول إذا أفطر: اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن تغفر لي... وروى الإمام أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ثلاثة لا ترد دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم يرفعها الله دون الغمام يوم القيامة، وتفتح لها أبواب السماء، ويقول: بعزتي لأنصرنك ولو بعد حين » .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #89
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثالث
    صـ 451 الى صـ 455
    الحلقة (89)

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [187] أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون

    .

    [ ص: 451 ] وقوله تعالى: أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم إرشاد إلى ما شرعه في الصوم - بعد بيان إيجابه على من وجب عليه، وحاله معه حضرا أو سفرا، وعدته من إحلال غشيان الزوج ليلا. وكأن الصحابة تحرجوا عن ذلك ظنا أنه من تتمة الصوم، ورأوا أن لا صبر لأنفسهم عنه، فبين لهم أن ذلك حلال لا حرج فيه.

    وقد روى البخاري عن البراء رضي الله عنه قال: لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله، وكان رجال يخونون أنفسهم، فأنزل الله: علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم

    إيذانا بأنه أحله ولم يحرمه ; إذ لم يشرع من فضله ما فيه إعنات وحرج.

    و " الرفث ": أصله قول الفحش. وكنى به هنا عن الجماع وما يتبعه، كما كنى عنه في قوله: فلما تغشاها وقوله: فأتوا حرثكم فالله تعالى كريم يكني. وإيثار الكناية عنه - هنا - بلفظ الرفث الدال على معنى القبح - عدا بقية الآيات - استهجانا لما [ ص: 452 ] وجد منهم قبل الإباحة، كما سماه اختيانا لأنفسهم. والكناية عما يستقبح ذكره بما يستحسن لفظه من سنن العرب. وللثعالبي في آخر كتابه " فقه اللغة " فصل في ذلك بديع.

    ثم إن المستعمل الشائع: رفث بالمرأة - بالباء - وإنما عدي هنا بإلى لتضمنه معنى الإفضاء، كما في قوله: وقد أفضى بعضكم إلى بعض

    هن لباس لكم وأنتم لباس لهن قال الراغب: جعل اللباس كناية عن الزوج لكونه سترا لنفسه ولزوجه أن يظهر منهما سوء، كما أن اللباس ستر يمنع أن يبدو منه السوأة. وعلى ذلك كنى عن المرأة بالإزار، وسمي النكاح حصنا لكونه حصنا لذويه عن تعاطي القبيح.

    وهذا ألطف من قول بعضهم: شبه كل واحد من الزوجين - لاشتماله على صاحبه في العناق والضم - باللباس المشتمل على لابسه، وفيه قال الجعدي:


    إذا ما الضجيع ثنى عطفها تثنت فكانت عليه لباسا


    وقال الزمخشري: فإن قلت: ما موقع قوله: هن لباس لكم ؟ قلت: هو استئناف كالبيان لسبب الإحلال، وهو أنه إذا كانت بينكم وبينهن مثل هذه المخالطة والملابسة، قل صبركم عنهن، وصعب عليكم اجتنابهن ; فلذلك رخص لكم في مباشرتهن.

    علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم استئناف آخر مبين لما ذكر من السبب، وهو اختيان النفس، أي: قلة تصبيرها من نزوعها إلى رغيبتها. ومنه: خانته رجلاه، إذا لم يقدر على المشي. أي: علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم، لو لم يحل لكم ذلك [ ص: 453 ] فأحله رحمة بكم ولطفا، وفي الاختيان وجه آخر وهو: أنه عنى به مخالفة الحق بنقض العهد، أي: كنتم تظلمونها بذلك - بتعريضها للعقاب - لو لم يحل ذلك لكم. قالوا: والاختيان أبلغ من الخيانة - كالاكتساب من الكسب - ففيه زيادة وشدة.

    ثم أشار تعالى إلى لطفه بالمؤمنين بتخفيفه ما كان يغلهم ويثقلهم ويخونهم لولا رحمته، بقوله: فتاب عليكم أي: عاد بفضله وتيسيره عليكم برفع الحرج في الرفث ليلا: وعفا عنكم أي: جاوز عنكم تحريمه، فالعفو بمعنى التوسعة والتخفيف: فالآن باشروهن قال أبو البقاء: حقيقة الآن: الوقت الذي أنت فيه ; وقد يقع على الماضي القريب منك، وعلى المستقبل القريب وقوعه، تنزيلا للقريب منزلة الحاضر وهو المراد - هنا - لأن قوله: فالآن باشروهن أي: فالوقت الذي كان يحرم عليكم الجماع فيه من الليل قد أبحناه لكم فيه ; فعلى هذا " الآن " ظرف ل " فباشروهن ". وقيل: الكلام محمول على المعنى، والتقدير: فالآن قد أبحنا لكم أن تباشروهن. ودل على المحذوف لفظ الأمر الذي يراد به الإباحة. فعلى هذا الآن على حقيقته.

    وأصل " المباشرة " إلصاق البشرة بالبشرة. كني بها عن الجماع الذي يستلزمها: وابتغوا ما كتب الله لكم تأكيد لما قبله، أي: ابتغوا هذه الرخصة التي أحلها لكم. و " كتب " هنا، إما بمعنى جعل كقوله: كتب في قلوبهم الإيمان [ ص: 454 ] أي: جعل، وقوله: فاكتبنا مع الشاهدين فسأكتبها للذين يتقون أي: أجعلها. أو بمعنى قضى، كقوله: قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا أي: قضاه، وقوله: كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز وقوله: لبرز الذين كتب عليهم القتل أي: قضي.

    قال الراغب: في الآية إشارة في تحري النكاح إلى لطيفة. وهي: أن الله تعالى جعل لنا شهوة النكاح لبقاء نوع الإنسان إلى غاية! كما جعل لنا شهوة الطعام لبقاء أشخاصنا إلى غاية! فحق الإنسان أن يتحرى بالنكاح ما جعل الله له على حسب ما يقتضيه العقل والديانة. فمتى تحرى به حفظ النفس وحصن النفس على الوجه المشروع، فقد ابتغى ما كتب الله له. وإلى هذا أشار من قال: عنى الولد.

    [ ص: 455 ] وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر أباح تعالى الأكل والشرب - مع ما تقدم من إباحة الجماع - في أي الليل شاء الصائم إلى أن يتبين ضياء الصباح من سواد الليل. وشبها بخيطين: أبيض وأسود، لأن أول ما يبدو من الفجر المعترض في الأفق وما يمتد معه من غبش الليل، كالخيط الممدود. قال أبو دؤاد الإيادي:


    فلما أضاءت لنا سدفة ولاح من الصبح خيط أنارا


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #90
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثالث
    صـ 456 الى صـ 460
    الحلقة (90)

    وقوله: من الفجر بيان للخيط الأبيض. واكتفى به عن بيان الخيط الأسود، لأن بيان أحدهما بيان للثاني. وقد رفع بهذا البيان الالتباس الذي وقع أول أمر الصيام. كما روى الشيخان وغيرهما عن سهل بن سعد قال: أنزلت: وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود ولم ينزل: من الفجر [ ص: 456 ] وكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود، ولا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله بعده: من الفجر فعلموا إنما يعني الليل والنهار، ورويا أيضا. واللفظ لمسلم - عن عدي بن حاتم قال: لما نزلت: حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر قال له عدي: يا رسول الله! إني أجعل تحت وسادتي عقالين: عقالا أبيض وعقالا أسود، أعرف الليل من النهار. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن وسادك لعريض، إنما هو سواد الليل وبياض النهار» .

    قال ابن كثير: ومعنى قوله: إن وسادك لعريض أي: إن كان يسع تحته الخيطين المرادين من هذه الآية ; فيقتضي أن يكون بعرض المشرق والمغرب..! وجاء في بعض هذه الألفاظ: « إنك لعريض القفا » ففسره بعضهم بالبلادة - وهو ضعيف بل يرجع إلى هذا ; لأنه إذا كان وساده عريضا فقفاه أيضا عريض، والله أعلم. انتهى.

    وفي الإتيان بلفظ التفعل في قوله تعالى: حتى يتبين إشعار بأنه لا يكفي إلا التبين الواضح لا تباشير الضوء. وقد روى مسلم عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا يغرنكم من سحوركم أذان بلال ولا بياض الأفق المستطيل هكذا حتى يستطير هكذا » . وحكاه حماد بيديه، قال: يعني معترضا. وفي لفظ آخر عنه: « لا يغرنكم نداء بلال ولا هذا البياض حتى يبدو الفجر - أو قال: - حتى ينفجر الفجر » . وروى الإمام أحمد عن قيس بن طلق عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « ليس الفجر المستطيل [ ص: 457 ] في الأفق، ولكنه المعترض الأحمر» . ورواه الترمذي بلفظ: « كلوا واشربوا ولا يهيدنكم الساطع المصعد، وكلوا واشربوا حتى يعترض لكم الأحمر» . قال: وفي الباب عن عدي بن حاتم وأبي ذر وسمرة.

    ثم قال: حديث طلق بن علي حديث حسن غريب من هذا الوجه. والعمل على هذا - عند أهل العلم - أنه لا يحرم على الصائم الأكل والشرب حتى يكون الفجر الأحمر المعترض، وبه يقول أهل العلم. انتهى.

    قال بعضهم: المراد بالأحمر: الأبيض، كما فسر به حديث: « بعثت إلى الأحمر والأسود» . وقال شمر: سموا الأبيض أحمر تطيرا بالأبرص. حكاه عن أبي عمرو بن العلاء. ويظهر أنه لا حاجة إلى هذا، فإن طلوع الفجر يصحبه حمرة. وفي " القاموس" الفجر: ضوء الصباح، وهو حمرة الشمس في سواد الليل. فافهم.

    وقال الحافظ عبد الرزاق في " مصنفه ": أخبرنا ابن جريج عن عطاء: سمعت ابن عباس يقول: هما فجران: فأما الذي يسطع في السماء فليس يحل ولا يحرم شيئا، لكن الفجر الذي يستنير على رؤوس الجبال هو الذي يحرم الشراب. وقال عطاء: فأما إذا سطع سطوعا في السماء - وسطوعه أن يذهب في السماء طولا - فإنه لا يحرم به شراب للصائم ولا صلاة، ولا يفوت به الحج. ولكن إذا انتشر على رؤوس الجبال حرم الشراب للصيام، وفات الحج.

    قال ابن كثير: وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس وعطاء. وهكذا روي عن غير واحد من السلف. رحمهم الله. انتهى.

    [ ص: 458 ] ثم أتموا الصيام أي: صوم كل يوم: إلى الليل أي: إلى ظهور الظلمة من قبل المشرق. وذلك بغروب الشمس. وكلمة إلى تفيد أن الإفطار عند غروب الشمس، كما جاء في " الصحيحين " عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا أقبل الليل من ههنا، وأدبر النهار من ههنا، وغربت الشمس فقد أفطر الصائم » .

    قال ابن القيم: أي: أفطر حكما وإن لم ينوه، أو دخل في وقت فطره، كما في: أصبح وأمسى.

    وقد كان صلى الله عليه وسلم يعجل الفطر ويحض عليه، كما في " الصحيحين ": « لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر» . وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: « يقول الله عز وجل: إن أحب عبادي إلي أعجلهم فطرا » . ورواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب. وعن أنس بن مالك قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر قبل أن يصلي على رطبات، فإن لم تكن رطبات فتميرات، فإن لم تكن تميرات حسا حسوات من ماء. رواه الترمذي، [ ص: 459 ] وقال: حسن غريب. وروى الإمام أحمد عن ليلى امرأة بشير بن الخصاصية قالت: أردت أن أصوم يومين مواصلة، فمنعني بشير وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه وقال: « يفعل ذلك النصارى، ولكن صوموا كما أمركم الله ثم أتموا الصيام إلى الليل، فإذا كان الليل فأفطروا» .

    ولهذا ورد في الأحاديث الصحيحة، النهي عن الوصال. وهو: أن يصل يوما بيوم ولا يأكل بينهما شيئا. ففي " الصحيحين " عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لا تواصلوا...! » قالوا: إنك تواصل، قال: « لست كأحد منكم، إني أطعم وأسقى - أو إني أبيت أطعم وأسقى » . قال الترمذي: وفي الباب عن علي، وأبي هريرة، وعائشة وابن عمر، وجابر، وأبي سعيد، وبشير بن الخصاصية. أي: فالنهي عنه قد ثبت من غير وجه. نعم من أحب أن يواصل إلى السحر فله ذلك، كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا تواصلوا، فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر» [ ص: 460 ] قالوا: فإنك تواصل يا رسول الله قال: « لست كهيئتكم، إني أبيت لي مطعم يطعمني وساق يسقيني » . أخرجاه في " الصحيحين ". والمراد بهذا الطعام والشراب: ما يغذيه الله به من المعارف، وما يفيض على قلبه من لذة مناجاته، وقرة عينه بقربه، وتنعمه بحبه، والشوق إليه، وتوابع ذلك من الأحوال التي هي غذاء القلب، ونعيم الأرواح، وقرة العين، وبهجة النفوس والروح والقلب ; بما هو أعظم غذاء، وأجوده، وأنفعه. وقد يقوي هذا الغذاء حتى يغني عن غذاء الأجسام مدة من الزمان.

    ومن له أدنى تجربة وشوق يعلم استغناء الجسم بغذاء القلب والروح عن كثير من الغذاء الحيواني، ولا سيما المسرور الفرحان الظافر بمطلوبه الذي قد قرت عينه بمحبوبه، وتنعم بقربه والرضاء عنه، وألطاف محبوبه وهداياه وتحفه تصل إليه كل وقت. ومحبوبه حفي به، معتز بأمره، مكرم له غاية الإكرام، مع المحبة التامة له. أفليس في هذا أعظم غذاء لهذا المحب؟! فكيف بالحبيب الذي لا شيء أجل منه، ولا أعظم، ولا أجمل، ولا أكمل، ولا أعظم إحسانا، إذا امتلأ قلب المحب بحبه، وملك حبه جميع أجزاء قلبه وجوارحه، وتمكن حبه منه أعظم تمكن؟ وهذا حاله مع حبيبه.

    أفليس هذا المحب عند حبيبه يطعمه ويسقيه ليلا ونهارا؟ ولهذا قال: « إني أظل عند ربي يطعمني ويسقيني » . ولو كان ذلك طعاما وشرابا للفم - كما قال - لما كان صائما، فضلا عن كونه مواصلا. كذا في " زاد المعاد ".

    وقد روى ابن جرير عن عبد الله بن الزبير وغيره من السلف، أنهم كانوا يواصلون الأيام المتعددة. وحمله منهم على أنهم كانوا يفعلون ذلك رياضة لأنفسهم لا أنهم كانوا يفعلونه عبادة. والله أعلم.

    قال ابن كثير: ويحتمل أنهم كانوا يفهمون من النهي أنه إرشادي من باب الشفقة. كما جاء في حديث عائشة: رحمة لهم. فكان ابن الزبير وابنه عامر ومن سلك سبيلهم يتجشمون ذلك ويفعلونه ; لأنهم كانوا يجدون قوة عليه.





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #91
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثالث
    صـ 461 الى صـ 465
    الحلقة (91)

    [ ص: 461 ] ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: هذا في الرجل يعتكف في المسجد في رمضان أو في غيره. فحرم الله عليه أن ينكح النساء ليلا أو نهارا حتى يقضي اعتكافه. وقال الضحاك: كان الرجل إذا اعتكف فخرج من المسجد جامع إن شاء. وكذا قال مجاهد وقتادة وغير واحد: إنهم كانوا يفعلون ذلك حتى نزلت هذه الآية. قال ابن أبي حاتم: روي عن ابن مسعود ومحمد بن كعب، ومجاهد، وعطاء، والحسن، وقتادة، والضحاك، والسدي، والربيع ابن أنس، ومقاتل قالوا: لا يقربها وهو معتكف.

    قال ابن كثير: وهذا الذي حكاه عن هؤلاء هو الأمر المتفق عليه عند العلماء: أن المعتكف يحرم عليه النساء ما دام معتكفا في مسجده ولو ذهب إلى منزله لحاجة لا بد له منها ; فلا يحل له أن يثبت فيه إلا بمقدار ما يفرغ من حاجته تلك - من قضاء الغائط أو الأكل - وليس له أن يقبل امرأته، ولا أن يضمها إليه، ولا أن يشتغل بشيء سوى اعتكافه.

    ثم قال ابن كثير: المراد بالمباشرة: الجماع ودواعيه: من تقبيل ومعانقة ونحو ذلك. فأما معاطاة الشيء ونحوه فلا بأس به. فقد ثبت في " الصحيحين " عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدني إلي رأسه فأرجله وأنا حائض. وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان. وفي " الصحيحين " أيضا: أن صفية أم المؤمنين كانت تزور [ ص: 462 ] النبي صلى الله عليه وسلم وهو معتكف في المسجد. فتتحدث عنده ساعة ثم ترجع إلى منزلها. فيقوم النبي صلى الله عليه وسلم ليمشي معها حتى يبلغها دارها، وذلك في الليل.

    تنبيهان:

    الأول: قال الراغب: ظاهر ذكر المساجد يقتضي جواز الاعتكاف في كل مسجد.

    الثاني: في ذكره تعالى الاعتكاف بعد الصيام إرشاد وتنبيه على الاعتكاف في الصيام أو في آخر شهر الصيام. كما ثبت في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يعتكف العشر الأواخر من شهر رمضان حتى توفاه الله عز وجل، ثم اعتكف أزواجه من بعده. ثم إن حقيقة الاعتكاف: هو المكث في بيت الله تقربا إليه. وهو من الشرائع القديمة.

    وقال الإمام ابن القيم في " زاد المعاد " في هديه صلى الله عليه وسلم في الاعتكاف: لما كان صلاح القلب واستقامته على طريق سيره إلى الله تعالى متوقفا وعلى جمعيته على الله. ولم شعثه بإقباله بالكلية على الله تعالى. فإن شعث القلب لا يلمه إلا الإقبال على الله تعالى. وكان فضول الطعام والشراب، وفضول مخالطة الأنام، وفضول الكلام، وفضول المنام ; مما يزيده شعثا، ويشتته في كل واد، ويقطعه عن سيره إلى الله تعالى، أو يضعفه، أو يعوقه ويوقفه - اقتضت رحمة العزيز الرحيم لعباده أن شرع لهم من الصوم ما يذهب فضول الطعام والشراب، ويستفرغ من القلب أخلاط الشهوات المعوقة له عن سيره إلى الله تعالى. وشرعه بقدر [ ص: 463 ] المصلحة بحيث ينتفع به العبد في دنياه وأخراه. ولا يضره ولا يقطعه من مصالحه العاجلة والآجلة. وشرع لهم الاعتكاف الذي مقصوده وروحه ; عكوف القلب على الله تعالى، وجمعيته عليه، والخلوة به، والانقطاع عن الاشتغال بالخلق، والاشتغال به وحده سبحانه بحيث يصير ذكره وحبه والإقبال عليه في محل هموم القلب وخطراته. فيستولي عليه بدلها، ويصير الهم به كله، والخطرات كلها بذكره. والفكرة في تحصيل مراضيه وما يقرب منه، فيكون أنسه بالله بدلا عن أنسه بالخلق، فيعده بذلك لأنسه به يوم الوحشة في القبور حين لا أنيس له ولا ما يفرح به سواه. فهذا مقصود الاعتكاف الأعظم. ولما كان المقصود إنما يتم مع الصوم شرع الاعتكاف في أفضل أيام الصوم وهو العشر الأخير من رمضان. ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اعتكف مفطرا قط. بل قد قالت عائشة: لا اعتكاف إلا بصوم. ولم يذكر الله سبحانه الاعتكاف إلا مع الصوم، ولا فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مع الصوم. فالقول الراجح في الدليل الذي عليه جمهور السلف، أن الصوم شرط في الاعتكاف. وهو الذي كان يرجحه شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية. وأما الكلام: فإنه شرع للأمة حبس اللسان عن كل ما لا ينفع في الآخرة. وأما فضول المنام: فإنه شرع لهم من قيام الليل ما هو أفضل من السهر وأحمد عاقبة: وهو السهر المتوسط الذي ينفع القلب والبدن، ولا يعوق عن مصلحة العبد. ومدار أرباب الرياضات والسلوك على هذه الأركان الأربعة. وأسعدهم بها من سلك فيها المنهاج النبوي المحمدي، ولم ينحرف انحراف الغالين ولا قصر تقصير المفرطين. ثم قال:

    كان صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل. وتركه مرة فقضاه في شوال. واعتكف مرة - في العشر الأول، ثم الأوسط، ثم العشر الأخير - يلتمس ليلة القدر، ثم تبين له أنها في العشر الأخير، فداوم على اعتكافه حتى [ ص: 464 ] لحق بربه عز وجل. وكان يأمر بخباء فيضرب له في المسجد يخلو فيه بربه عز وجل. وكان إذا أراد الاعتكاف صلى الفجر ثم دخله. فأمر به مرة فضرب. فأمر أزواجه بأخبيتهن فضربت. فلما صلى الفجر نظر فرأى تلك الأخبية. فأمر بخبائه فقوض وترك الاعتكاف في شهر رمضان حتى اعتكف في العشر الأول من شوال. وكان يعتكف كل سنة عشرة أيام. فلما كان في العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يوما. وكان يعارضه جبريل بالقرآن كل سنة مرة. فلما كان ذلك العام عارضه به مرتين، ولم يباشر امرأة من نسائه - وهو معتكف - لا بقبلة ولا بغيرها. وكان إذا اعتكف طرح له فراشه، ووضع له سريره في معتكفه. وكان إذا خرج لحاجته مر بالمريض، وهو على طريقه، فلا يعرج له إلا سأل عنه. واعتكف مرة في قبة تركية. وجعل على سدتها حصيرا. كل هذا تحصيلا لمقصود الاعتكاف وروحه.

    تلك حدود الله فلا تقربوها يعني: تلك الأحكام التي ذكرت في الصيام والاعتكاف: من تحريم الأكل والشرب والجماع. وشبه تلك الأحكام بالحدود الحاجزة بين الأشياء لكونها حاجزة بين الحق والباطل. فإن من عمل بها كان في حيز الحق، ومن خالفها وقع في الباطل. ونهى عن قربها كيلا يداني الباطل، فضلا من أن يتخطى إليه. فالنهي عن مكان القرب من الحدود التي هي الأحكام، كناية عن النهي عن قرب الباطل ; لكون الأول لازما للثاني. وبذلك يحصل الجمع بين هذه الآية وآية: تلك حدود الله فلا تعتدوها [ ص: 465 ] ويندفع التنافي. وقوله: فلا تقربوها أبلغ من: {لا تعتدوها } لأنه نهي عن قرب الباطل بطريق الكناية التي هي أبلغ من التصريح، وذلك نهي عن الوقوع في الباطل بطريق التصريح: كذلك يبين الله آياته للناس أي: كما بين ما أمركم به ونهاكم عنه - في هذا الموضع - يبين للناس ما شرعه لهم على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم: لعلهم يتقون المحارم فيعرفون كيف يطيعون ويهتدون. كما قال تعالى: هو الذي ينـزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور وإن الله بكم لرءوف رحيم

    قال الرازي: والغرض من قوله تعالى: كذلك إلخ تعظيم حال البيان، وتعظيم رحمته على الخلق في ذكره مثل هذا البيان.

    وفيه أيضا تقرير للأحكام السابقة، والترغيب إلى امتثالها بأنها شرعت لأجل التقوى.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #92
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثالث
    صـ 466 الى صـ 470
    الحلقة (92)

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [188] ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون

    ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل قال ابن جرير: يعني تعالى ذكره بذلك: ولا يأكل بعضكم مال بعض بالباطل، فجعل بذلك آكل مال أخيه بالباطل [ ص: 466 ] كالآكل مال نفسه بالباطل، ونظير ذلك قوله تعالى: ولا تلمزوا أنفسكم وقوله: ولا تقتلوا أنفسكم بمعنى: لا يلمز بعضكم بعضا ولا يقتل بعضكم بعضا ; لأنه تعالى جعل المؤمنين إخوة. وكذلك تفعل العرب. تكني عن أنفسها بأخواتها، وعن أخواتها بأنفسها ; لأن أخا الرجل عندها كنفسه. فتأويل الكلام: ولا يأكل بعضكم أموال بعض فيما بينكم بالباطل. وأكله بالباطل أكله من غير الوجه الذي أباحه الله لآكليه.اهـ.

    وبينكم: إما ظرف لـ " تأكلوا " بمعنى: لا تتناولوها فيما بينكم بالأكل، أو حال من الأموال أي: لا تأكلوها كائنة بينكم ودائرة بينكم. وبالباطل في موضع نصب بـ " تأكلوا " أي: لا تأخذوها بالسبب الباطل - أي: الوجه الذي لم يبحه الله تعالى - ويجوز أن يكون حالا من الأموال أي: لا تأكلوها متلبسة بالباطل. أو من الفاعل في تأكلوا أي: لا تأكلوها مبطلين، أي: متلبسين بالباطل: وتدلوا بها إلى الحكام أي: تخاصموا بها - أي: بأموالهم - إلى الحكام، مجزوم عطفا على النهي. ويؤيده قراءة أبي: {ولا وتدلوا } بإعادة لا الناهية والإدلاء: مأخوذ من إدلاء الدلو، وهو: إرسالها في البئر للاستقاء، ثم استعير لكل إلقاء قول أو فعل توصلا إلى شيء. ومنه يقال للمحتج: [ ص: 467 ] أدلى بحجته. كأنه يرسلها ليصير إلى مراده. كإدلاء المستقي للدلو ليصل إلى مطلوبه من الماء. وفلان يدلي إلى الميت بقرابة أو رحم: إذا كان منتسبا إليه، فيطلب الميراث بتلك النسبة. فالباء صفة الإدلاء تجوزا به عن الإلقاء كما ذكرنا. والمعنى: لا تلقوا أمرها - والحكومة فيها - إلى الحكام. أو لا تلقوا بعضها إلى حكام السوء على وجه الرشوة ليعينوكم على اقتطاع أموال الناس. وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي والرائش - وهو الواسطة الذي يمشي بينهما - رواه أهل السنن. وذلك لأن ولي الأمر إذا أكل هذا السحت - أعني الرشوة المسماة: بالبرطيل وتسمى أحيانا: بالهدية وغيرها - احتاج أن يسمع الكذب من الشهادة الزور وغيرها مما فيه إعانة على الإثم والعدوان. وولي الأمر إنما نصب ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، هذا مقصود الولاية. وإذا كان الوالي يمكن من المنكر بمال يأخذه كان قد أتى بضد المقصود، مثل من نصبته ليعينك على عدوك فأعان عدوك عليك. وبمنزلة من أخذ مالا ليجاهد به في سبيل الله فقاتل المسلمين. والحكام: جمع حاكم، وهو: منفذ الحكم بين الناس كالحكم، محركة لتأكلوا أي: بواسطة حكمهم الفاسد وبالتحاكم إليهم: فريقا - أي: طائفة وقطعة -: من أموال الناس بالإثم بما يوجب إثما - كشهادة الزور واليمين الفاجرة، وحكمهم الفاسد - فإنه لا يفيد الحل والظلم. فالباء للسببية. متعلقها لتأكلوا. وجوز كونها للمصاحبة. فالمجرور حال من فاعل لتأكلوا أي: متلبسين بالإثم: وأنتم تعلمون أي: أنكم على الباطل. وارتكاب المعصية - مع العلم بقبحها - أقبح، وصاحبه أحق بالتوبيخ، فالتقييد لكمال تقبيح حالهم.

    قال الراغب: أي: إن خفي ظلمكم على الناس فإنه لا يخفى عليكم، تنبيها على أن الاعتبار بما عليه الأمر في نفسه، وما علمتم منه لا بما يظهر.

    [ ص: 468 ] وقال ابن كثير في " تفسيره ": قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: هذه الآية في الرجل يكون عليه مال وليس عليه فيه بينة، فيجحد المال، ويخاصم إلى الحكام. وهو يعرف أن الحق عليه. وهو يعلم أنه آثم آكل الحرام. وكذا روي عن مجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، ومجاهد، والحسن، وقتادة، والسدي، ومقاتل بن حيان، وعبد الرحمن بن زيد أنهم قالوا: لا تخاصم وأنت تعلم أنك ظالم. وقد ورد في الصحيحين عن أم سلمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « ألا إنما أنا بشر، وإنما يأتيني الخصم، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له. فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من نار. فليحملها أو ليذرها» . فدلت هذه الآية الكريمة وهذا الحديث على أن حكم الحاكم لا يغير الشيء في نفس الأمر. فلا يحل في نفس الأمر حراما هو حلال، ولا يحرم باطلا هو حلال. وإنما هو ملزم في الظاهر. فإن طابق في نفس الأمر فذاك، وإلا فللحاكم أجره، وعلى المحتال وزره. ولهذا قال تعالى في آخر الآية: وأنتم تعلمون أي: تعلمون بطلان ما تدعونه وترجونه في كلامكم. قال قتادة: اعلم يا بني آدم...! أن قضاء القاضي لا يحل حراما، ولا يحق لك باطلا، وإنما يقضي القاضي بنحو ما يرى وتشهد به الشهود، والقاضي بشر يخطئ ويصيب. واعلموا أن من قضي له بباطل أن خصومته لم تنقض حتى يجمع الله بينهما يوم القيامة. فيقضي على المبطل للمحق بأجود مما قضى به للمبطل على المحق في الدنيا.
    [ ص: 469 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [189] يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله لعلكم تفلحون .

    يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج أخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية: بلغنا أنهم قالوا: يا رسول الله! لم خلقت الأهلة؟ فنزلت. وروى أبو نعيم وابن عساكر عن ابن عباس قال: نزلت في معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم. قالا: يا رسول الله! ما بال الهلال يبدو - أو يطلع - دقيقا مثل الخيط، ثم يزيد حتى يعظم ويستدير، ثم لا يزال ينقص ويدق حتى يعود كما كان، لا يكون على حال واحد؟ فنزلت.

    ومعنى كونها: مواقيت للناس معالم لهم في حل دينهم، ولصومهم، ولفطرهم، وأوقات حجهم، وأجائرهم، وأوقات الحيض، وعدد نسائهم، والشروط التي إلى أجل، فكل هذا مما لا يسهل ضبط أوقاتها إلا عند وقوع الاختلاف في شكل القمر زيادة ونقصا. ولهذا خالف بينه وبين الشمس التي هي دائمة على حالة واحدة.

    قال بعض المفسرين: ثمرة الآية: أن الأحكام الشرعية - كالزكاة والعدد للنساء والحمل تتعلق بشهور الأهلة لا بشهور الفرس. أما ما تعلق بالعقود والأفعال المتعلقة بفعل بني آدم فيتبع فيه العرف من حسابهم، بالأهلة أو بشهور الفرس. فهذا حكم، وذاك حكم آخر.

    وقد ذكر تعالى هذا المعنى في آيات، كقوله سبحانه: وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب وقوله: فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب [ ص: 470 ] أي: من غير افتقار إلى مراجعة المنجم وحساب الحاسب ; رحمة منه تعالى وفضلا. وإفراد الحج بالذكر هنا تنويها بشأنه.

    وقال القفال: نكتة إفراده: بيان أن الحج مقصور على الأشهر التي عينها الله تعالى لفرضه. وأنه لا يجوز نقل الحج من تلك الأشهر إلى أشهر، كما كانت العرب تفعل ذلك في النسيء. والله أعلم.

    والجمهور على فتح حاء الحج والحسن على كسرها في جميع القرآن. قال سيبويه: هما مصدران كالرد والذكر. وقيل: بالفتح المصدر، وبالكسر الاسم. والأهلة: جمع هلال. وجمعه باختلاف زمانه. وهو: غرة القمر إلى ثلاث ليال أو سبع، ثم يسمى قمرا، وليلة البدر لأربع عشرة.

    قال أبو العباس: سمي الهلال هلالا: لأن الناس يرفعون أصواتهم بالإخبار عنه، وسمي بدرا: لمبادرته الشمس بالطلوع كأنه يجعلها المغيب. ويقال: سمي بدرا: لتمامه وامتلائه، وكل شيء تم فهو بدر.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #93
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثالث
    صـ 471 الى صـ 475
    الحلقة (93)

    تنبيه:

    الجواب على الرواية الثانية في سبب نزول الآية من الأسلوب الحكيم. وهو تلقي السائل بغير ما يتطلب - بتنزيل سؤاله منزلة غيره ; تنبيها للسائل على أن ذلك الغير هو الأولى بحاله أو المهم له. فلما سألوا عن السبب الفاعلي للتشكلات النورية في الهلال، أجيبوا بما ترى من السبب الغائي ; تنبيها على أن السؤال عن الغاية والفائدة هو أليق بحالهم ; لأن درك الأسباب الفاعلية لتلك التشكلات مبني على أمور من علم الهيئة لا عناية للشرع بها. فلو [ ص: 471 ] أجيبوا: بأن اختلاف تشكلات الهلال، بقدر محاذاته للشمس، فإذا حاذاها طرف منه استنار ذلك الطرف. ثم تزداد المحاذاة والاستنارة، حتى إذا تمت بالمقابلة امتلأ. ثم تنقص المحاذاة والاستنارة حتى إذا حصل الاجتماع أظلم بالكلية ; لكان هذا الجواب اشتغالا بعلم الهيئة الذي لا ينتفع به في الدين، ولا يتعلق به صلاح معاشهم ومعادهم. والنبي صلى الله عليه وسلم إنما بعث لبيان ذلك وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « من اقتبس علما من النجوم اقتبس بابا من السحر، زاد ما زاد » . أخرجه الإمام أحمد. وأبو داود، وابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما. وقال علي رضي الله عنه: من طلب علم النجوم تكهن. وهو من العلم الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: « علم لا ينفع، وجهل لا يضر » . والمقصود أن الجواب، على الرواية الثانية من الأسلوب الحكيم ; إشعارا بأن الأولى السؤال عن الحكمة فيه.

    قال السكاكي في " المفتاح ": ولهذا النوع - أعني إخراج الكلام لا على مقتضى الظاهر - أساليب متفننة، إذ ما من مقتضى كلام ظاهري إلا ولهذا النوع مدخل فيه بجهة من جهات البلاغة. ترشد إليه تارة بالتصريح، وتارة بالفحوى. ولكل من تلك الأساليب عرق في البلاغة يتشرب من أفانين سحرها، ولا كأسلوب الحكيم فيها، وهو تلقي المخاطب بغير ما يترقب كما قال:

    [ ص: 472 ]
    أتت تشتكي عندي مزاولة القرى وقد رأت الضيفان ينحون منزلي

    فقلت كأني ما سمعت كلامها:
    هم الضيف جدي في قراهم وعجلي


    أو السائل بغير ما يتطلب كما قال تعالى: يسألونك عن الأهلة الآية، قالوا في السؤال: ما بال الهلال يبدو دقيقا...! إلخ؟ فأجيبوا بما ترى. وكما قال: يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل سألوا عن بيان ما ينفقون، فأجيبوا ببيان المصرف. ينزل سؤال السائل منزلة سؤال غير سؤاله، لتوخي التنبيه له بألطف وجه على تعديه عن موضع سؤال هو أليق بحاله أن يسأل عنه، أو أهم له إذا تأمل، وأن هذا الأسلوب الحكيم لربما صادف المقام فحرك من نشاط السامع ما سلبه حكم الوقور، وأبرزه في معرض المسحور ; وهل ألان شكيمة الحجاج لذلك الخارجي، وسل سخيمته، حتى آثر أن يحسن، على أن يسيء ; غير أن سحره بهذا الأسلوب؟ إذ توعده الحجاج بالقيد في قوله: " لأحملنك على الأدهم! " فقال متغابيا: مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب! مبرزا وعيده في معرض الوعد، متوصلا أن يريه بألطف وجه: أن امرأ مثله - في مسند الإمرة المطاعة - خليق بأن يصفد لا أن يصفد، وأن يعد لا أن يوعد.

    وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله لعلكم تفلحون

    قال الراغب في " تفسيره ": الباب معروف. وعنه استعير لمدخل الأمور المتوصل به إليها. وقيل في العلم: باب كذا. وقد سئل عليه السلام عن زيادة القمر ونقصانه، فأنزل الله هذه الآية تنبيها على أظهر فائدته للحس، وأبينها له. ثم قال: وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها [ ص: 473 ] أي: بأن تطلبوا الأمر من غير وجهه. وذلك أنه يقال: أتى فلان البيت من بابه - إذا طلب الشيء من وجهه. وقال الشاعر:


    أتيت المروءة من بابها


    وأتى البيت من ظهره: إذا طلب الأمر من غير وجهه. وجعل ذلك مثلا لسؤالهم النبي صلى الله عليه وسلم عما هو ليس من العلم المختص بالنبوة. وإن ذلك عدول عن المنهج، وذلك أن العلوم ضربان:

    دنيوي: يتعلق بأمر المعاش - كمعرفة الصنائع. ومعرفة حركات النجوم ومعرفة المعادن، والنبات، وطبائع الحيوانات، وقد جعل لنا سبيلا إلى معرفته على غير لسان نبيه عليه السلام.

    وشريعة: وهو البر: ولا سبيل إلى أخذه إلا من جهته وهو أحكام التقوى...

    فلما جاءوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم، عما أمكنهم معرفته من غير جهته، أجابهم، ثم بين لهم أنه ليس البر ترك المنهج في السؤال من النبي ما ليس مختصا بعلم نبوته. ولكن البر هو مجرد التقوى. وذلك يكون بالعلم والعمل المختص بالدين.

    وقال أبو مسلم الأصفهاني: المراد من هذه الآية، ما كانوا يعملونه من النسيء. فإنهم كانوا يخرجون الحج عن وقته الذي عينه الله له. فيحرمون الحلال ويحللون الحرام. فذكر إتيان البيوت من ظهورها مثل لمخالفة الواجب في الحج وشهوره.

    وأما ما رواه البخاري وغيره عن أبي إسحاق قال: سمعت البراء رضي الله عنه يقول: نزلت هذه الآية فينا. كانت الأنصار إذا حجوا فجاؤوا لم يدخلوا من قبل أبواب بيوتهم ولكن من ظهورها. فجاء رجل من الأنصار فدخل من قبل بابه، فكأنه عير بذلك، فنزلت: وليس البر الآية، فالمراد من نزولها في ذلك، صدقها عليه حسبما رآه لا أن ذلك كان سبب نزولها. كما بينا مرارا معنى قولهم: نزلت الآية في كذا.

    [ ص: 474 ] وقد أشار لهذا الراغب - بعد حكايته هذه الرواية، وما قاله أبو مسلم - بقوله: وكل ذلك لا يدفع أن تتناوله الآية، لكن الأليق أن تؤول الآية بما تقدم ذكره من أن معنى: وأتوا البيوت من أبوابها أي: تحروا في كل عمل إتيان الشيء من وجهه، تنبيها على أن ما يطلب من غير وجهه صعب تناوله. ثم قال: واتقوا الله حثا لنا أن نجعل تقوى الله شعارنا في كل ما نتحراه. وبين أن ذلك ذريعة إلى تحصيل الفلاح.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [190] وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين .

    وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم المقاتلة في سبيل الله هو الجهاد لإعلاء كلمة الله وإعزاز الدين. وفي قوله: الذين يقاتلونكم تهييج وإغراء بالأعداء الذين همتهم قتال الإسلام وأهله. أي: كما يقاتلونكم فاقتلوهم أنتم. كما قال: وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة ولا تعتدوا أي: بابتداء القتال. أو بقتال من نهيتم عن قتاله، من النساء، والشيوخ، والصبيان، وأصحاب الصوامع، والذين بينكم وبينهم عهد. أو بالمثلة، أو بالمفاجأة من غير دعوة إن الله لا يحب المعتدين أي: المتجاوزين حكمه في هذا وغيره.
    [ ص: 475 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [191] واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين .

    واقتلوهم أي: الذين يقاتلونكم: حيث ثقفتموهم أي: وجدتموهم: وأخرجوهم من حيث أخرجوكم أي: من مكة. فإن قريشا أخرجوا المسلمين منها. والمسلمون أخرجوا المشركين يوم الفتح والفتنة أشد من القتل أي: المحنة والبلاء الذي ينزل بالإنسان يتعذب به أشد عليه من القتل. أي: إن فتنتهم إياكم في الحرم عن دينكم - بالتعذيب، والإخراج من الوطن، والمصادرة في المال - أشد قبحا من القتل فيه. إذ لا بلاء على الإنسان أشد من إيذائه على اعتقاده الذي تمكن من عقله ونفسه. ورآه سعادة له في عاقبة أمره. فالجملة دفع لما قد يقع من استعظام قتلهم في مثل الحرم، وإعلام بأن القصاص منهم بالقتل دون جرمهم بفتنة المؤمنين، لأن الفتنة أشد من القتل: ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه لأن حرمته لذاته. وحرمة سائر الحرم من أجله. وهذا بمثابة الاستثناء من قوله تعالى: واقتلوهم حيث ثقفتموهم فإن قاتلوكم أي: فيه فلا تفتقرون إلى الفرار عن الحرم: فاقتلوهم فيه، إذ لا حرمة لهم لهتكهم حرمة المسجد الحرام: كذلك جزاء الكافرين لا يترك لهم حرمة كما لم يتركوا حرمة الله في آياته.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #94
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثالث
    صـ 476 الى صـ 480
    الحلقة (94)

    تنبيه:

    دلت الآية على الأمر بقتال المشركين في الحرم، إذا بدأوا بالقتال فيه، دفعا لصوتهم، [ ص: 476 ] كما بايع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يوم الحديبية تحت الشجرة على القتال، لما تألب عليه بطون قريش ومن والاهم من أحياء ثقيف والأحابيش عامئذ. ثم كف الله القتال بينهم فقال: وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم وقال صلى الله عليه وسلم لخالد ومن معه يوم الفتح: « إن عرض لكم أحد من قريش فاحصدوهم حصدا حتى توافوني على الصفا » ... فما عرض لهم أحد إلا أناموه، وأصيب من المشركين نحو اثني عشر رجلا. كما في السيرة.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [192] فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم .

    فإن انتهوا أي: عن القتال: فإن الله غفور رحيم أي: فكفوا عنهم ولا تتعرضوا لهم تخلقا بصفتي الحق تعالى المذكورتين وهما: المغفرة والرحمة، هذا ظاهر المساق.

    وقال بعضهم: فإن انتهوا أي: عن الشرك والقتال: فإن الله غفور لما سلف من طغيانهم: رحيم بقبول توبتهم وإيمانهم.
    [ ص: 477 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [193] وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين

    وقاتلوهم أي: هؤلاء الذين نسبناهم إلى قتالكم وإخراجكم وفتنكم: حتى لا تكون - أي: لا توجد في الحرم -: فتنة أي: تقو بسببه يفتنون الناس عن دينهم، ويمنعونهم من إظهاره والدعوة إليه: ويكون الدين لله خالصا أي: لا يعبد دونه شيء في الحرم، ولا يخشى فيه غيره، فلا يفتن أحد في دينه، ولا يؤذى لأجله.

    وفي " الصحيحين " عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة. فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله» .

    فإن انتهوا عن قتالكم في الحرم: فلا عدوان فلا سبيل لكم بالقتل: إلا على الظالمين المبتدئين بالقتل.

    وروى البخاري في صحيحه عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير فقالا: إن الناس قد ضيعوا، وأنت ابن عمر وصاحب النبي صلى الله عليه وسلم، فما يمنعك أن تخرج؟ فقال: يمنعني أن الله حرم دم أخي..! قالا: ألم يقل الله: [ ص: 478 ] وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ؟ فقال: قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين لله، وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله.

    ثم ساق البخاري رواية أخرى وفيها: قال ابن عمر: فعلنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الرجل يفتن في دينه، إما قتلوه وإما يعذبوه حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [194] الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين

    .

    وقوله تعالى: الشهر الحرام بالشهر الحرام إيذان بأن مراعاة حرمة الشهر واجبة لمن راعى حرمته، وإن من هتكها اقتص منه، فهتك حرمته بهتكهم حرمته. فكما يقاتلون عند المسجد الحرام - إذا قاتلوا فيه - يقاتلون في الشهر الحرام إذا قاتلوا فيه.

    وقد روى الإمام أحمد بإسناد صحيح عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو في الشهر الحرام إلا أن يغزى - أو يغزوا - فإذا حضر ذلك أقام حتى ينسلخ. ولهذا لما سار صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة، سنة ست معتمرا، وخيم بالحديبية، وبلغه أن عثمان قتل - وكان بعثه في رسالة إلى المشركين بايع أصحابه وكانوا ألفا وأربعمائة تحت الشجرة على قتال المشركين. فلما بلغه أن عثمان لم يقتل كف عن ذلك، وجنح إلى المسالمة والمصالحة، فكان ما كان. وكذلك لما فرغ من قتال هوازن يوم حنين وتحصن فلهم بالطائف عدل إليها فحاصرها، ودخل ذو القعدة وهو محاصر لها بالمنجنيق. واستمر عليها إلى كمال أربعين يوما. كما ثبت في " الصحيحين " عن أنس. فلما كثر القتل في أصحابه انصرف عنها، [ ص: 479 ] ولم تفتح. ثم كر راجعا إلى مكة، واعتمر من الجعرانة حيث قسم غنائم حنين، وكانت عمرته هذه في ذي القعدة أيضا عام ثمان.

    والحرمات قصاص أي: متساوية، فلا يفضل شهر حرام على آخر، بحيث يمتنع هتك حرمته لهتكهم حرمة ما دونه، على أنا لا نهتك حرمة الشهر والمسجد الحرام والحرم، بل نهتك حرمة من هتك حرمة أحدها - قاله المهايمي.

    والحرمات: جمع حرمة، وهي ما يحفظ ويرعى ولا ينتهك. والقصاص: المساواة. والكلام على حذف المضاف. أي: ذوات قصاص، أو المصدر بمعنى المفعول، أي: مقاصة، أو الحمل بطريق المبالغة فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم أمر بالعدل حتى في المشركين، كما قال: وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به وقال: وجزاء سيئة سيئة مثلها واتقوا الله في هتك حرمة الشهر والمسجد والحرم بدون هتكهم، وفي زيادة الاعتداء: واعلموا أن الله مع المتقين أي: بالمعونة والنصر والحفظ والتأييد.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [195] وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين

    وأنفقوا في سبيل الله أمر بالإنفاق في سائر وجوه القربات والطاعات. ومن أهمها: صرف الأموال في قتال الأعداء، وبذلها فيما يقوى به المسلمون على عدوهم.

    [ ص: 480 ] وقوله تعالى: ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة أي: ما يؤدي إلى الهلاك أي: لا تلقوا أنفسكم بأيديكم إلى الهلاك، وذلك بالتعرض لما تستوخم عاقبته، جهلا به.

    وقال الراغب: وللآية تأويلان بنظرين:

    أحدهما: إنه نهي عن الإسراف في الإنفاق، وعن التهور في الإقدام.

    والثاني: إنه نهي عن البخل بالمال، وعن القعود عن الجهاد. وكلا المعنيين يراد بها. فالإنسان، كما أنه منهي عن الإسراف في الإنفاق، والتهور في الإقدام، فهو منهي عن البخل والإحجام عن الجهاد، ولهذا قال تعالى: والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا الآية، وقال: ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك الآية.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #95
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثالث
    صـ 481 الى صـ 485
    الحلقة (95)


    ولما كان أمر الإنفاق أخص بالأنصار الذين كانوا أهل الأموال، لتجرد المهاجرين عنها، وقد اشتهر في هذه الآية حديث أبي أيوب الأنصاري، رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه وغيرهم... ولفظ الترمذي: عن أسلم أبي عمران قال: كنا بمدينة الروم فأخرجوا إلينا صفا عظيما من الروم، فخرج إليهم من المسلمين مثلهم أو أكثر. وعلى أهل مصر عقبة بن عامر، وعلى الجماعة فضالة بن عبيد. فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل عليهم، فصاح الناس وقالوا: سبحان الله يلقي بيديه إلى التهلكة. فقام أبو أيوب الأنصاري فقال: يا أيها الناس إنكم لتؤولون هذه الآية هذا التأويل، وإنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار. لما أعز الله [ ص: 481 ] الإسلام، وكثر ناصروه فقال بعضنا لبعض سرا - دون رسول الله صلى الله عليه وسلم -: إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله قد أعز الإسلام، وكثر ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها فأنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم يرد علينا ما قلنا: وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة فكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها، وتركنا الغزو. فما زال أبو أيوب شاخصا في سبيل الله حتى دفن بأرض الروم، هذا حديث حسن غريب صحيح.

    أقول: إنكار أبي أيوب رضي الله عنه إما لكونه لا يقول بعموم اللفظ بل بخصوص السبب، وإما لرد زعم أنها نزلت في القتال. أي: في حمل الواحد على جماعة العدو كما تأولوها. وهذا هو الظاهر. وإلا فاللفظ يقتضي العموم، ووروده على السبب لا يصلح قرينة لقصره على ذلك. ولا شبهة أن التعبد إنما هو باللفظ الوارد وهو عام.

    وقد استشهد بعموم الآية عمرو بن العاص فيما رواه ابن أبي حاتم بسنده: أن عبد الرحمن الأسود بن عبد يغوث أخبر أنهم حاصروا دمشق. فانطلق رجل من أزد شنوءة، فأسرع إلى العدو وحده ليستقبل، فعاب ذلك عليه المسلمون، ورفعوا حديثه إلى عمرو بن العاص، فأرسل إليه عمرو فرده. وقال عمرو: قال الله: ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة

    وقد روي في سبب نزولها آثار ضعيفة ساقها ابن كثير وهي - والله أعلم - من باب صدق عمومها على ما رووه.

    تنبيه:

    قال الحاكم: تدل الآية على جواز الهزيمة في الجهاد إذا خيف على النفس، وتدل على جواز ترك الأمر بالمعروف إذا خاف، لأن كل ذلك إلقاء النفس إلى التهلكة. وتدل على جواز مصالحة الكفار والبغاة إذا خاف الإمام على نفسه أو على المسلمين. كما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية. وكما فعله أمير المؤمنين علي عليه السلام بصفين. وكما فعله الحسن عليه السلام من مصالحة معاوية. وتدل أيضا على جواز مصالحة الإمام بشيء من أموال الناس إذا [ ص: 482 ] خشي التهلكة. ويؤيده أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يصالح يوم الأحزاب بثلث ثمار المدينة حتى شاور سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، فأشارا بترك ذلك. وهو لا يعزم إلا على ما يجوز.

    لطيفة:

    الإلقاء لغة: طرح الشيء، عدي بإلى لتضمن معنى الانتهاء، والباء مزيدة في المفعول لتأكيد معنى النهي. والمراد بالأيدي: الأنفس، فذكر الجزء وإرادة الكل لمزيد اختصاص لها باليد. بناء على أن أكثر ظهور أفعال النفس بها. والتهلكة والهلاك والهلك واحد. فهي مصدر. أي: لا توقعوا أنفسكم في الهلاك.

    والتهلكة بضم اللام. قال الخارزنجي: لا أعلم في كلام العرب مصدرا على تفعلة - بضم العين - إلا هذا.

    وقال اليزيدي: هو من نوادر المصادر. ولا يجري على القياس.

    قال الزمخشري: ويجوز أن يقال: أصلها التهلكة كالتجربة والتبصرة ونحوهما. على أنها مصدر من هلك. فأبدلت من الكسرة ضمة، كما جاء الجوار في الجوار هذا ما ذكروه.

    قال الفخر الرازي - ولله دره - بعد نقله نحو ما سبق: وإني لأتعجب كثيرا من تكلفات هؤلاء النحويين في أمثال هذه المواضع، وذلك أنهم لو وجدوا شعرا مجهولا يشهد لما أرادوه فرحوا به واتخذوه حجة قوية. فورود هذا اللفظ في كلام الله تعالى، المشهود له من الموافق والمخالف بالفصاحة - أولى أن يدل على صحة هذه اللفظة واستقامتها.

    وأحسنوا أي: تحروا فعل الإحسان، أي: الإتيان بكل ما هو حسن، ومن أجله الإنفاق. وقوله: إن الله يحب المحسنين قال الراغب: نبه بإظهار المحبة للمحسنين على شرف منزلتهم وفضيلة أفعالهم.
    [ ص: 483 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [196] وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب .

    وأتموا الحج والعمرة لله أي: أدوهما تامين بمناسكهما المشروعة لوجه الله تعالى.

    قال الراغب: قيل: أتموا خطاب لمن خرج حاجا أو معتمرا، فأمر أن لا يصرف وجهه حتى يتمهما. وإليه ذهب أبو حنيفة رحمه الله، واحتج به في وجوب إتمام كل عبادة دخل فيها الإنسان متنفلا، وأنه متى أفسدها وجب قضاؤها. وقيل: إنه خطاب لهم ولمن لم يتلبس بالعبادة. وذكر لفظ الإتمام تنبيه على توفية حقها وإكمال شرائطها، وعلى هذا قوله تعالى: ثم أتموا الصيام إلى الليل وإلى هذا ذهب الشافعي رحمه الله واحتج به في وجوب العمرة. وإنما قال في الحج والعمرة: لله ولم يقل ذلك في الصلاة والزكاة ; من أجل أنهم كانوا يتقربون ببعض أفعال الحج والعمرة إلى أصنامهم، فخصهما بالذكر لله تعالى حثا على الإخلاص فيهما، ومجانبة ذلك الاعتقاد المحظور.

    فإن أحصرتم أي: حبسكم عدو عن إتمام الحج أو العمرة وأردتم التحلل: فما استيسر من الهدي أي: فعليكم، أو فالواجب، أو فأهدوا ما استيسر ; يقال: يسر الأمر [ ص: 484 ] واستيسر، كما يقال: صعب واستصعب. والهدي بتخفيف الياء وتشديدها: جمع هدية وهدية، وهو: ما أهدي إلى مكة من النعم لينحر تقربا به إلى الله. قال ثعلب: الهدي بالتخفيف، لغة أهل الحجاز. والتثقيل على فعيل، لغة بني تميم، وسفلى قيس. وقد قرئ بالوجهين جميعا في الآية. وشاهد الهدي مثقلا من كلامهم قول الفرزدق:


    حلفت برب مكة والمصلى وأعناق الهدي مقلدات


    وشاهد الهدية كذلك، قول ساعدة بن جؤية:


    إني وأيديهم وكل هدية مما تثج له ترائب تثعب.


    وأعلى الهدي بدنة، وأدناه شاة. والمعنى: أن المحرم إذا أحصر وأراد أن يتحلل، تحلل بذبح هدي تيسر عليه: من بدنة أو بقرة أو شاة.

    تنبيه:

    قال الراغب: ظاهر قوله تعالى: أحصرتم أنه لا فرق فيه بين أن يحصر بمكة أو بغيرها، وبعد عرفة أو قبلها. وكذلك لا فرق في الظاهر بين أن يحصره عدو مسلم أو غيره. وظاهره يقتضي أنه لا فصل بين إحصار العدو وإحصار المرض. لولا أن الآية نزلت في سبب العدو فلا يجوز أن تتعدى إلا بدلالة. ولأن قوله: فإذا أمنتم يدل على أن المراد بالإحصار هو بالعدو.

    وقد يقال: العبرة في أمثاله بعمومه، كما ذهب إليه ثلة من السلف. فقد روى ابن أبي حاتم عن ابن مسعود، وابن الزبير، وعلقمة، وسعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، ومجاهد، والنخعي، وعطاء، ومقاتل أنهم قالوا: الإحصار من عدو أو مرض أو كسر. وقال الثوري: الإحصار من كل شيء أذاه.

    وثبت في الصحيحين عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على ضباعة بنت الزبير [ ص: 485 ] ابن عبد المطلب فقالت: يا رسول الله! إني أريد الحج وأنا شاكية. فقال: « حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني» . ورواه مسلم عن ابن عباس بمثله.

    ومن دلالة الآية ما قاله الراغب: إن ظاهرها يقتضي أن لا قضاء على المحصر ; لأنه قال: فما استيسر من الهدي واقتصر عليه.

    ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله أي: الموضع الذي يحل فيه نحره، وهو مكانه الذي يستقر فيه. يعني: موضع الإحصار. وبلوغه إياه كناية عن ذبحه فيه، واستعمال بلوغ الشيء محله في وصوله إلى ما يقصد منه - شائع. ولما اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عام الحديبية، وحصرهم كفار قريش عن الدخول إلى الحرم، حلقوا وذبحوا هديهم بها ولم يبعثوا به إلى الحرم.

    وقد ساق الإمام ابن القيم في " زاد المعاد " بعض ما في قصة الحديبية من القواعد الفقهية في فصل قال فيه: ومنها أن المحصر ينحر هديه حيث أحصر من الحل أو الحرم، وأنه لا يجب عليه أن يواعد من ينحره في الحرم إذا لم يصل إليه، وأنه لا يتحلل حتى يصل إلى محله، بدليل قوله تعالى: هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله ومنها: أن الموضع الذي نحر فيه الهدي كان من الحل لا من الحرم، لأن الحرم كله محل الهدي.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #96
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثالث
    صـ 486 الى صـ 490
    الحلقة (96)


    وقال الإمام مالك في " الموطأ ": من حبس بعدو فجال بينه وبين البيت، فإنه يحل [ ص: 486 ] من كل شيء وينحر هديه، ويحلق رأسه حيث حبس، وليس عليه قضاء.

    قال: فهذا الأمر عندنا فيمن أحصر بعدو، كما أحصر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.

    فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك أي: فمن كان منكم - معشر المحرمين - مريضا مرضا يتضرر معه بالشعر ويحوجه إلى الحلق، أو كان به أذى من رأسه - كجراحة وقمل - فعليه إن حلق، فدية من صيام أو صدقة أو نسك. وقد نزلت هذه الآية في كعب بن عجرة الأنصاري رضي الله عنه قال: حملت إلى النبي صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي، فقال: « ما كنت أرى أن الجهد قد بلغ بك هذا..! أما تجد شاة؟ » قلت: لا! قال: « صم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من طعام واحلق رأسك » . فنزلت في خاصة وهي لكم عامة، رواه الشيخان وغيرهما، واللفظ للبخاري. وروى الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية ونحن محرمون، وقد حصرنا المشركون، وكانت لي وفرة، فجعلت الهوام تساقط على وجهي. فمر علي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: « أيؤذيك هوام رأسك؟ » قلت: نعم. فأمره أن يحلق. قال: ونزلت هذه الآية. قال ابن عباس: إذا كان " أو أو " فأية أخذت أجزأ عنك. وعامة العلماء: أنه يخير في هذا المقام: إن شاء صام وإن شاء تصدق بفرق - وهو ثلاثة آصع، لكل مسكين نصف صاع وهو مدان - وإن شاء ذبح شاة وتصدق بها على الفقراء، أي: ذلك فعل أجزأه. ولما كان لفظ القرآن في بيان [ ص: 487 ] الرخصة، جاء بالأسهل فالأسهل. ولما أمر النبي صلى الله عليه وسلم كعب بن عجرة، بذلك أرشده أولا إلى الأفضل، فقال: « أما تجد شاة؟ » فكل حسن في مقامه، ولله الحمد والمنة. أفاده ابن كثير.

    تنبيه:

    استفيد من الآية أحكام:

    الأول: جواز الحلق من المحرم واللبس للمخيط للضرورة، ووجوب الفدية عليه، وذلك لبيان سبب النزول.

    الثاني: تحريم الحلق ولبس المخيط لغير عذر، وهذا مأخوذ من المفهوم ; لأنه مصرح به، وذلك إجماع.

    الثالث: أن الفدية الواجبة تكون من أجناس الثلاثة، وهي: الصيام أو الصدقة، أو النسك، وقد ورد بيانها في حديث كعب.

    الرابع: أن الفدية واجبة على التخيير كما بينا.

    قال الراغب: وظاهر الآية يقتضي أنه لا فرق بين قليل الشعر وكثيره، بخلاف ما قال أبو حنيفة رحمه الله، حيث لم يلزم إلا بحلق الثلث. وغيره لم يلزم إلا بحلق الربع.

    لطيفة:

    أصل النسك العبادة، وسميت ذبيحة الأنعام نسكا ; لأنها من أشرف العبادات التي يتقرب بها إلى الله تعالى.

    قال أبو البقاء: والنسك - في الأصل - مصدر بمعنى المفعول ; لأنه من نسك ينسك، والمراد به ههنا المنسوك، ويجوز أن يكون اسما لا مصدرا، ويجوز تسكين السين. انتهى.

    فإذا أمنتم أي: كنتم آمنين من أول الأمر، أو صرتم بعد الإحصار آمنين: فمن تمتع بالعمرة أي: بإحرامه بها في أشهر الحج ليستفيد الحل حين وصوله إلى البيت، ويستمر حلالا في سفره ذلك: إلى الحج أي: إلى وقت الإحرام بالحج: فما [ ص: 488 ] أي: فعليه ما: استيسر أي: تيسر: من الهدي من النعم، يكون هذا الهدي لأجل ما تمتع به بين النسكين من الحل.

    وفي " النهاية " صورة التمتع أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج، فإذا أحرم بالعمرة بعد إهلاله شوالا فقد صار متمتعا بالعمرة إلى الحج وسمي به ; لأنه إذا قدم مكة، وطاف بالبيت، وسعى بين الصفا والمروة. حل من عمرته وحلق رأسه، وذبح نسكه الواجب عليه لتمتعه، وحل له كل شيء كان حرم عليه في إحرامه من النساء والطيب، ثم ينشئ بعد ذلك إحراما جديدا للحج وقت نهوضه إلى منى، أو قبل ذلك، من غير أن يجب عليه الرجوع إلى الميقات الذي أنشأ منه عمرته، فذلك تمتعه بالعمرة إلى الحج، أي: انتفاعه وتبلغه بما انتفع به من حلق، وطيب، وتنظف، وقضاء تفث، وإلمام بأهله إن كانت معه.

    قال الإمام ابن القيم في " زاد المعاد ": وكان من هديه صلى الله عليه وسلم ذبح هدي العمرة عند المروة، وهدي القران بمنى. وكذلك كان ابن عمر يفعل. ولم ينحر صلى الله عليه وسلم قط إلا بعد أن حل، ولم ينحره قبل يوم النحر ولا أحد من الصحابة البتة.

    فمن لم يجد الهدي: فصيام ثلاثة أيام في الحج أي: بعد الإحرام وقبل الفراغ من أعماله، والأولى سادس ذي الحجة وسابعه وثامنه.

    قال الراغب: إن قيل: كيف قال: في الحج ومتى أحرم يوم عرفة لا يمكنه صيام ثلاثة أيام في الحج لأنه منهي عنه في يوم النحر وأيام التشريق؟! قيل: الواجب على المتمتع أن يحرم بالحج على وجه يمكنه الإتيان بالصيام لثلاثة أيام. وذلك بتقديم الإحرام قبل يوم عرفة. وقد قال ابن عمر وعائشة: يصوم أيام التشريق، ويحملان النهي على صوم أيام منى على غير المتمتع.

    وسبعة إذا رجعتم أي: إلى أهليكم، أو إذا أخذتم في الرجوع بعد الفراغ من أعمال الحج.

    قال الراغب: وإطلاق اللفظ يحتمل الأمرين جميعا، فيصح حمله عليهما.

    [ ص: 489 ] إلا أن الذي يرجح الوجه الأول ما روي في الصحيحين من حديث ابن عمر الطويل وفيه: « فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله » .

    تلك عشرة فذلك حساب، أي: إجمال بعد تفصيل، وفائدتها: أن لا يتوهم أن الواو بمعنى أو وأن الكلام على التخيير. بل المجموع بدل الهدي..! وأن يعلم العدد جملة كما علم تفصيلا، فيحاط به من وجهين فيتأكد العلم، وفي المثل: علمان خير من علم. فإن أكثر العرب لا يعرف الحساب. فاللائق الخطاب الذي يفهمه الخاص والعام. وهو ما يكون بتكرار الكلام وزيادة الإفهام...

    وفائدة ثالثة: وهو أن المراد بالسبعة: هو العدد دون الكثرة فإنه يطلق لهما...

    وفائدة رابعة: أشار لها الراغب وهو:

    إن قوله: تلك عشرة كاملة استطراد في الكلام، وتنبيه على فضيلة علم العدد، ولذا قيل: العدد أول العلوم وأشرفها. أما أنه أول، فلأن ما عداه معدول منه، وبه يفصل ويميز. وأما كونه أشرف، فلأنه لا اختلاف فيه ولا تغير، بل هو لازم طريقة واحدة، فذكر العشرة ووصفها بالكاملة ; إذ هي عدد كمل فيه خواص الأعداد، فإن الواحد مبدأ العدد، والاثنين أول العدد، والثلاثة أول عدد فرد، والأربعة أول عدد زوج محدود - أي: مجتمع من ضرب عدد في نفسه - والخمسة أول عدد دائر، والستة أول عدد تام - أي: إذا أخذ جميع أجزائه لم يزد عليه ولم ينقص منه - والسبعة أول عدد أول - أي: لا يتقدمه عدد بعده - والثمانية أول عدد زوج الزوج - والتسعة أول عدد مثلث، والعشرة أول عدد ينتهي إليه العدد ; لأن ما بعده يكون مكررا بما قبله، فإذن العشرة هي العدد الكامل...

    [ ص: 490 ] كاملة صفة مؤكدة لـ (عشرة) تفيد المبالغة في المحافظة على العدد، ففيه زيادة توصية لصيامها، وأن لا يتهاون بها، ولا ينقص من عددها، كأنه قيل: تلك عشرة كاملة، فراعوا كمالها ولا تنقصوها ذلك أي: وجوب دم التمتع أو بدله لمن لم يجد: لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام أي: بل كان أهله على مسافة الغيبة منه. وأما من كان أهله حاضريه - بأن يكون ساكنا في مكة - فهو في حكم القرب من الله، فالله تعالى يجبره بفضله.

    هذا، وقال بعض المجتهدين: إن ذلك إشارة إلى التمتع المفهوم من قوله: فمن تمتع وليست للهدي والصوم، فلا متعة ولا قران لحاضري المسجد الحرام عنده.

    وروى ابن جرير عن قتادة قال: ذكر لنا أن ابن عباس كان يقول: يا أهل مكة! لا متعة لكم أحلت لأهل الآفاق وحرمت عليكم، إنما يقطع أحدكم واديا أو قال: يجعل بينه وبين الحرم واديا - ثم يهل بعمرة..!

    وروى عبد الرزاق عن طاووس قال: المتعة للناس لا لأهل مكة. ثم قال وبلغني عن ابن عباس مثل قول طاووس، والله أعلم.

    والأهل: سكن المرء من زوج ومستوطن. والحضور: ملازمة الموطن.

    واتقوا الله - في الجناية على إحرامه -: واعلموا أن الله شديد العقاب لمن جنى على إحرامه أكثر من شدة الملوك على من أساء الأدب بحضرته. وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لتربية المهابة وإدخال الروعة.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #97
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثالث
    صـ 491 الى صـ 495
    الحلقة (97)

    تنبيهات:

    الأول: في قوله تعالى: فمن تمتع بالعمرة الآية، دليل على مشروعية التمتع، كما جاء في الصحيحين عن عمران بن حصين قال: أنزلت آية المتعة في كتاب الله ففعلناها مع [ ص: 491 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ينزل قرآن يحرمه، ولم ينه عنها حتى مات، قال رجل برأيه ما شاء.

    وروى مالك في " الموطأ " عن عبد الله عن عمر أنه قال: والله! لأن أعتمر قبل الحج وأهدي أحب إلي من أن أعتمر بعد الحج في ذي الحجة..!.

    وفي الصحيحين: « لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة » . يعني كما فعل أصحابه صلى الله عليه وسلم عن أمره.

    الثاني: قال ابن القيم في " زاد المعاد ": قد ثبت أن التمتع أفضل من الإفراد لوجوه كثيرة:

    منها: أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم بفسخ الحج إليه، ومحال أن ينقلهم من الفاضل إلى المفضول الذي هو دونه.

    ومنها: أنه تأسف على كونه لم يفعله بقوله: « لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها متعة» .

    ومنها: أنه أمر به كل من لم يسق الهدي.

    ومنها: أن الحج الذي استقر عليه فعله وفعل أصحابه، القران ممن ساق الهدي، والتمتع لمن لم يسق الهدي. ولوجوه كثيرة غير هذه..!.

    الثالث: قال الراغب لا يجب الدم أو بدله في التمتع إلا بأربع شرائط:

    إيقاع العمرة في أشهر الحج والتحلل منها فيه.

    والثاني: أن يثني الحج من سنته.

    والثالث: أن لا يرجع إلى الميقات لإنشاء الحج.

    الرابع: أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام.
    [ ص: 492 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [197] الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب .

    الحج أي: أوقات أعماله أشهر وهي: شوال وذو القعدة وذو الحجة. أي: عشره الأول. نزل منزلة الكل لغاية فضله.

    قال الثعالبي: وقد جاء في تفسير أشهر الحج وعشر ذي الحجة - وفي بعضها تسع - فمن عبر بالتسع أراد الأيام، ومن عبر بالعشر أراد الليالي، ولقوله صلى الله عليه وسلم: « الحج عرفة » . وقد تبينت أنه يفوت الوقوف بطلوع الفجر.

    وقوله: معلومات أي: قبل نزول الشرع عند الناس، لا يشكلن عليهم. وآذن هذا أن الأمر بعد الشرع على ما كان عليه: فمن فرض أي: أوجب على نفسه: فيهن الحج بإحرامه: فلا رفث أي: فمقتضى إحرامه أن لا يوجد جماع ولا مقدماته ولا فحش من القول: ولا فسوق أي: خروج عن حدود الشريعة بارتكاب محظورات الإحرام، وغيرها كالسباب والتنابز بالألقاب: ولا جدال أي: مماراة أحد من الرفقة والخدم والمكارين: في الحج أي: في أيامه، بل ينبغي أن يوجد فيها كل خير من خيرات الحج، والإظهار في مقام الإضمار لإظهار كمال الاعتناء بشأنه، والإشعار بعلة عدم الحكم ; فإن زيارة البيت المعظم، والتقرب بها إلى الله عز وجل، من موجبات ترك الأمور المذكورة، وإيثار النفي للمبالغة في النهي ; والدلالة على أن ذلك حقيق بأن لا يكون، فإن ما كان منكرا مستقبحا في نفسه، ففي تضاعيف الحج أقبح: كلبس الحرير في الصلاة.

    لطيفة:

    قال بعضهم: النكتة في منع هذه الأشياء على أنها آداب لسانية: تعظيم شأن الحرم، [ ص: 493 ] وتغليظ أمر الإثم فيه، إذ الأعمال تختلف باختلاف الزمان والمكان، فللملأ آداب غير آداب الخلوة مع الأهل. ويقال في مجلس الإخوان ما لا يقال في مجلس السلطان. ويجب أن يكون المرء في أوقات العبادة والحضور مع الله تعالى على أكمل الآداب، وأفضل الأحوال، وناهيك بالحضور في البيت الذي نسبه الله سبحانه إليه..! وأما السر فيها على أنها محرمات الإحرام، فهو أن يتمثل الحاج أنه بزيارته لبيت الله تعالى مقبل على الله تعالى، قاصد له، فيتجرد عن عاداته ونعيمه، وينسلخ من مفاخره ومميزاته على غيره، بحيث يساوي الغني الفقير، ويماثل الصعلوك الأمير، فيكون الناس من جميع الطبقات في زي كزي الأموات، وفي ذلك - من تصفية النفس، وتهذيبها، وإشعارها بحقيقة العبودية لله، والأخوة للناس - ما لا يقدر قدره، وإن كان لا يخفى أمره...

    وما تفعلوا من خير يعلمه الله حث على الخير عقيب النهي عن الشر، وأن يستعملوا مكان القبيح من الكلام الحسن، ومكان الفسوق البر والتقوى، ومكان الجدال الوفاق والأخلاق الجميلة..! وقد روي فيمن حج ولم يرفث ولم يفسق أنه يخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه! وذلك، لأن الإقبال على الله تعالى بتلك الهيئة، والتقلب في تلك المناسك على الوجه المشروع، يمحو من النفوس آثار الذنوب وظلمتها. ويدخلها في حياة جديدة: لها فيها ما كسبت، وعليها ما اكتسبت..!: وتزودوا فإن خير الزاد التقوى [ ص: 494 ] روى البخاري عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون: نحن المتوكلون! فإذا قدموا مكة سألوا الناس، فأنزل الله تعالى: وتزودوا فإن خير الزاد التقوى

    أي: وتزودوا ما تتبلغون به وتكفون به وجوهكم عن الناس، واتقوا الاستطعام وإبرام الناس والتثقيل عليهم: فإن خير الزاد التقوى أي: الاتقاء عن الإبرام والتثقيل عليهم..!.

    وقال ابن عمر: إن من كرم الرجل طيب زاده في السفر. وكان يشترط على من صحبه الجودة.. نقله ابن كثير.

    ويقال: في معنى الآية: وتزودوا من التقوى للمعاد. فإن الإنسان لا بد له من سفر في الدنيا، ولا بد فيه من زاد، ويحتاج فيه إلى الطعام والشراب والمركب ; وسفر من الدنيا إلى الآخرة، ولا بد فيه من زاد أيضا وهو تقوى الله، والعمل بطاعته، واتقاء المحظورات..! وهذا الزاد أفضل من الزاد الأول، فإن زاد الدنيا يوصل إلى مراد النفس وشهواتها، وزاد الآخرة يوصل إلى النعيم المقيم في الآخرة..! وفي هذا المعنى قال الأعشى:


    إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ولاقيت بعد الموت من قد تزودا

    ندمت على أن لا تكون كمثله
    وأنك لم ترصد لما كان أرصدا..!


    وثمة وجه آخر: وهو أن قوله تعالى: وتزودوا أمر باتخاذ الزاد، هو طعام السفر، وقوله: فإن خير الزاد التقوى إرشاد إلى زاد الآخرة، وهو استصحاب التقوى إليها بعد [ ص: 495 ] الأمر بالزاد للسفر في الدنيا، كما قال تعالى: وريشا ولباس التقوى ذلك خير لما ذكر اللباس الحسي نبه مرشدا إلى اللباس المعنوي وهو الخشوع والطاعة، وذكر أنه خير من هذا وأنفع.

    واتقون يا أولي الألباب أي: اتقوا عقابي وعذابي في مخالفتي وعصياني يا ذوي العقول والأفهام! فإن قضية اللب تقوى الله، ومن لم يتقه من الألباء فكأنه لا لب له..! كما قال تعالى: أولئك كالأنعام بل هم أضل

    وقد قرئ بإثبات الياء في: {اتقون } على الأصل، وبحذفها للتخفيف ودلالة الكسرة عليه.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #98
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثالث
    صـ 496 الى صـ 500
    الحلقة (98)


    القول في تأويل قوله تعالى:

    [198] ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين .

    ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم قال الراغب: كانت العرب تتحاشى من التجارة في الحج، حتى إنهم كانوا يتجنبون المبايعة إذا دخل العشر، وحتى سموا من تولى متجرا في الحج: الداج دون الحاج ; فأباح الله ذلك، وعلى إباحة ذلك، دل [ ص: 496 ] قوله: وأذن في الناس بالحج - إلى قوله -: ليشهدوا منافع لهم وقوله: وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله

    وقد روى البخاري عن ابن عباس قال: كان ذو المجاز وعكاظ متجر الناس في الجاهلية، فلما جاء الإسلام كأنهم كرهوا ذلك حتى نزلت: ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج.

    ففي الآية الترخيص لمن حج في التجارة ونحوها من الأعمال التي يحصل بها شيء من الرزق - وهو المراد بالفضل هنا - ومنه قوله تعالى: فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله أي: لا إثم عليكم في أن تبتغوا في مواسم الحج رزقا ونفعا وهو الربح في التجارة مع سفركم لتأدية ما افترضه عليكم من الحج..!: فإذا أفضتم من عرفات - أي: دفعتم منها -: فاذكروا الله عند المشعر الحرام أي: بالتلبية، والتهليل، والتكبير، والثناء والدعوات و " المشعر الحرام ": موضع بالمزدلفة. ميمه مفتوحة وقد تكسر، وقد وهم من ظنه جبيلا بها. سمي به لأنه معلم للعبادة وموضع لها - كذا في القاموس وشرحه.

    ونقل الفخر عن الواحدي في " البسيط ": إن المشعر الحرام هو المزدلفة. سماها الله تعالى بذلك، لأن الصلاة والمقام والمبيت به، والدعاء عنده. واستقر به الفخر قال: لأن الفاء في قوله: فاذكروا الله إلخ تدل على أن الذكر عند المشعر الحرام يحصل عقيب الإفاضة من عرفات، وما ذاك إلا بالبيتوتة بالمزدلفة. انتهى.

    [ ص: 497 ] قال البيضاوي: ويؤيد الأول ما روى جابر: أنه صلى الله عليه وسلم لما صلى الفجر - يعني بالمزدلفة بغلس - ركب ناقته حتى أتى المشعر الحرام. أي: فإنه يدل على تغاير المزدلفة، والمشعر الحرام لمكان مسيره صلى الله عليه وسلم منها إلى المشعر الحرام! وإنما قال: يؤيد لأنه يجوز أن يؤول المشعر الحرام في الحديث بالجبل، إما بحذف المضاف، أو بتسمية الجزء باسم الكل - أفاده السيلكوتي.

    قال ابن القيم في " زاد المعاد " في سياق حجته صلى الله عليه وسلم: فلما غربت الشمس واستحكم غروبها أفاض من عرفة بالسكينة من طريق المأزمين، ثم جعل يسير العنق - وهو ضرب من السير ليس بالسريع ولا البطيء - فإذا وجد فجوة - وهو المتسع - نص سيره - أي: رفعه فوق ذلك - وكان يلبي في مسيره ذلك لا يقطع التلبية، حتى أتى المزدلفة فتوضأ، ثم أمر المؤذن بالأذان فأذن، ثم أقام فصلى المغرب قبل حط الرحال وتبريك الجمال ; فلما حطوا رحالهم أمر فأقيمت الصلاة، ثم صلى العشاء الآخرة بإقامة بلا أذان، ولم يصل بينهما شيئا، فلما طلع الفجر صلاها في أول الوقت، ثم ركب حتى أتى موقفه عند المشعر الحرام، فاستقبل القبلة وأخذ في الدعاء والتضرع والتكبير والتهليل والذكر حتى أسفر جدا، وذلك قبل طلوع الشمس. انتهى المقصود منه.

    قال بعض الأئمة: ما أحق الذكر عند المشعر الحرام بأن يكون واجبا أو نسكا لأنه مع كونه مفعولا له صلى الله عليه وسلم، ومندرجا تحت قوله: « خذوا عني مناسككم » فيه أيضا النص القرآني بصيغة الأمر فاذكروا الله عند المشعر الحرام

    واذكروه كما هداكم بدلائل الكتاب، أي: اذكروه ذكرا حسنا كما هداكم هداية حسنة! فمفاد التشبيه: التسوية في الحسن والكمال، كما تقول: اخدمه كما أكرمك، [ ص: 498 ] يعني: لا تتقاصر خدمتك عن إكرامه. وفيه تنبيه لهم على ما أنعم الله به عليهم من الهداية والبيان والإرشاد إلى مشاعر الحج!: وإن كنتم من قبله أي: من قبل الهدي: لمن الضالين الجاهلين بالإيمان والطاعة. و " إن " هي المخففة، و " اللام " هي الفارقة.

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [199] ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم .

    ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس أي: من عرفة لا من المزدلفة. وفي الخطاب وجهان:

    أحدهما: أنه لقريش وذلك لما كانوا عليه من الترفع على الناس والتعالي عليهم، وتعظمهم عن أن يساووهم في الموقف، وقولهم: نحن أهل الله، وقطان حرمه، فلا نخرج منه. فيقفون بجمع، وسائر الناس بعرفات.

    وقد روى البخاري عن عائشة رضي الله عنه قالت: كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة، وكانوا يسمون الحمس، وكان سائر العرب يقفون بعرفات ; فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأتي عرفات، ثم يقف بها، ثم يفيض منها فذلك قوله تعالى: ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس

    وثانيهما: أنه أمر لجميع الناس أن يفيضوا من حيث أفاض الناس يعني: إبراهيم عليه السلام.

    قال الراغب: وسماه الناس لأن " الناس " يستعمل على ضربين: أحدهما: للنوع من غير [ ص: 499 ] اعتبار مدح وذم، والثاني: المدح اعتبارا بوجود تمام الصورة المختصة بالإنسانية، وليس ذلك في هذه اللفظة، بل في اسم كل جنس ونوع - نحو: هذه فرس، وفلان رجل، وليس هذا بفرس ولا فلان برجل - أي: ليس فيه معناه المختص بنوعه، وبهذا النظر نفي السمع والبصر عن الكفار! فعلى هذا سمي إبراهيم " الناس " على سبيل المدح - وهو أن الواحد يسمى باسم الجماعة تنبيها على أنه يقوم مقامهم في الحكم - وعلى هذا قول الشاعر:


    وليس على الله بمستنكر أن يجمع العالم في واحد


    وعلى هذا قال: إن إبراهيم كان أمة اهـ.

    فإن قيل: ما معنى كلمة ثم فإنها تستلزم تراخي الشيء عن نفسه، سواء عطف على مجموع الشرط والجزاء أو الجزاء فقط..؟

    فالجواب: إن كلمة ثم ليست للتراخي، بل مستعارة للتفاوت بين الإفاضتين - أي: الإفاضة من عرفات والإفاضة من مزدلفة- والبعد بينهما بأن أحدهما صواب والآخر خطأ.

    قال التفتازاني: لما كان المقصود من قوله تعالى: ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس المعنى التعريضي، كان معناه: ثم لا تفيضوا من مزدلفة، والمقصود من إيراد كلمة ثم التفاوت بين الإفاضتين في الرتبة بأن أحدهما صواب والأخرى خطأ.

    وأجاب بعضهم بأن ثم بمعنى الواو.

    واستغفروا الله عما سلف من المعاصي: إن الله غفور رحيم

    قال ابن كثير عليه الرحمة: كثيرا ما يأمر الله بذكره بعد قضاء العبادات. ولهذا ثبت في " صحيح مسلم " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من الصلاة يستغفر الله ثلاثا [ ص: 500 ] وثلاثين، وفي الصحيحين: أنه ندب إلى التسبيح والتحميد والتكبير ثلاثا وثلاثين. وقد روى ابن جرير ههنا حديث عباس بن مرداس السلمي في استغفاره صلى الله عليه وسلم لأمته عشية عرفة.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #99
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثالث
    صـ 501 الى صـ 505
    الحلقة (99)

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [200] فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق .

    فإذا قضيتم مناسككم أي: فرغتم من أعمال الحج ونفرتم: فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا أي: فأكثروا ذكر الله، وابذلوا جهدكم في الثناء عليه، وشرح آلائه ونعمائه، كما تفعلون في ذكر آبائكم ومفاخرهم وأيامهم بعد قضاء مناسككم. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية يقفون في الموسم فيقول الرجل منهم: كان أبي يطعم ويحمل الحمالات ويحمل الديات..! ليس لهم ذكر غير فعال آبائهم، فأنزل الله هذه الآية. وفيها إشعار بتحويل القوم عما اعتادوه، وحث على إفراد ذكره جل شأنه.

    ثم أرشد تعالى إلى دعائه - بعد كثرة ذكره - فإنه مظنة الإجابة، وذم من لا يسأله إلا في أمر دنياه وهو معرض على أخراه، فقال: فمن الناس أي: الذين نسوا قدر الآخرة وكانت الدنيا أكبر همهم: من يقول أي: في ذكره: ربنا آتنا أي: مرغوباتنا: في الدنيا لا نطلب غيرها: وما له في الآخرة من خلاق أي: نصيب وحظ لأنه استوفى نصيبه في الدنيا بتخصيص دعائه به. فالجملة إخبار منه تعالى ببيان حاله في الآخرة ; أو المعنى: ما له في الآخرة من طلب خلاق. فهو بيان لحاله في الدنيا، وتصريح بما علم ضمنا من قوله: آتنا في الدنيا أو تأكيد لكون همه مقصورا على الدنيا. وقوله: في الآخرة حينئذ متعلق بـ: خلاق حال منه، وتضمن هذا الذم والتنفير عن التشبه بمن هو كذلك.

    قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: كان قوم من الأعراب يجيئون إلى الموقف فيقولون: اللهم! اجعله عام غيث وعام خصب وعام ولاد حسن..! لا يذكرون من أمر الآخرة شيئا. فنزل فيهم ذلك.

    [ ص: 502 ] وهؤلاء الذين حكى الله عنهم - أنهم يقتصرون في الدعاء على طلب الدنيا - قال قوم: هم مشركو العرب. وكونهم لا خلاق لهم في الآخرة ظاهر ; إذ لا نصيب لهم فيها من كرامة ونعيم وثواب. وقال قوم: هؤلاء قد يكونون مؤمنين ولكنهم يسألون الله لدنياهم لا لأخراهم، ويكون سؤالهم هذا من جملة الذنوب، حيث سألوا الله تعالى - في أعظم المواقف وأشرف المشاهد - حطام الدنيا وعرضها الفاني، معرضين عن سؤال النعيم الدائم في الآخرة..! ومعنى كونهم لا خلاق لهم في الآخرة، أي: إلا أن يتوبوا، أو إلا أن يعفو الله عنه، أو لا خلاق له في الآخرة، كخلاق من سأل المولى لآخرته، والله أعلم. كذا يستفاد من
    الرازي.

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [201] ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار .

    ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار جمعت هذه الدعوة كل خير في الدنيا والآخرة، وصرفت كل شر، فإن الحسنة في الدنيا تشمل كل مطلوب دنيوي - من عافية، ودار رحبة، وزوجة حسنة، ورزق واسع، وعلم نافع، وعمل صالح، ومركب هين، وثناء جميل... إلى غير ذلك مما اشتملت عليه عبارات المفسرين - ولا منافاة بينها - فإنها كلها مندرجة في الحسنة في الدنيا. وأما الحسنة في الآخرة: فأعلى ذلك رضوان الله تعالى ودخول الجنة، وتوابعه من الأمن من الفزع الأكبر في العرصات، وتيسير الحساب... وغير ذلك من أمور الآخرة الصالحة. وأما النجاة من النار: فهو يقتضي تيسير أسبابه في الدنيا من اجتناب المحارم والآثام، وترك الشبهات والحرام.

    وقد ورد في السنة الترغيب في هذا الدعاء، فقد كان يقول صلى الله عليه وسلم كما رواه البخاري عن أنس.

    [ ص: 503 ] وروى الإمام أحمد: يسأل قتادة أنسا: أي دعوة كان يدعو بها النبي صلى الله عليه وسلم أكثر؟ قال: كان أكثر دعوة يدعو بها يقول: « اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار » وكان أنس إذا أراد أن يدعو بدعوة دعا بها، وإذا أراد أن يدعو بدعاء دعا بها فيه! ورواه مسلم وهذا لفظه.

    وروى الإمام الشافعي عن عبد الله بن السائب: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيما بين ركن بني جمح والركن الأسود: «: ربنا آتنا في الدنيا حسنة » الآية.

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [202] أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب .

    أولئك إشارة إلى الفريق الثاني باعتبار اتصافهم بما ذكر من النعوت الجميلة، وما فيه من معنى البعد ; لما مر مرارا من الإشارة إلى علو درجتهم، وبعد منزلتهم في الفضل: لهم نصيب مما كسبوا أي: من جنس ما كسبوا من الأعمال الحسنة وهو الثواب الذي هو المنافع الحسنة. أو من أجل ما كسبوا كقوله: مما خطيئاتهم أغرقوا أو لهم نصيب مما دعوا به نعطيهم منه في الدنيا والآخرة. وسمي الدعاء كسبا ; لأنه من الأعمال وهي موصوفة بالكسب: والله سريع الحساب إما بمعنى سريع في الحساب كسريع في السير، فالجملة تذييل لقوله: أولئك إلخ يعني: أنه يجازيهم على قدر أعمالهم وكسبهم ولا يشغله شأن عن شأن لأنه سريع في المحاسبة ; أو بمعنى: سريع حسابه كحسن الوجه. فالجملة [ ص: 504 ] تذييل لقوله: فاذكروا الله كذكركم آباءكم إلخ يعني: يوشك أن يقيم القيامة ويحاسب العباد. فبادروا إكثار الذكر وطلب الآخرة باكتساب الطاعات والحسنات.

    وقال الراغب: لما كان الحساب يكشف عن جمل الشيء وتفصيله، نبه بذلك على إحاطته بأفعال عباده ووقوفه على حقائقها. وذكر السريع تنبيها أن ذلك منه لا في زمان ولا بفكرة، وذلك أبلغ ما يمكن أن يتصور به الكافة سرعة فعل الله.

    تنبيه:

    قال الرازي: اعلم أن الله تعالى بين أولا تفصيل مناسك الحج، ثم أمر بعدها بالذكر فقال: فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام إلخ، ثم بين أن الأولى أن يترك ذكر غيره وأن يقتصر على ذكره فقال: فاذكروا الله كذكركم آباءكم إلخ، ثم بين بعد ذلك الذكر كيفية الدعاء فقال: فمن الناس من يقول إلخ، وما أحسن هذا الترتيب! فإنه لا بد من تقديم العبادة لكسر النفس وإزالة ظلماتها، ثم بعد العبادة لا بد من الاشتغال بذكر الله تعالى لتنوير القلب وتجلي نور جلاله، ثم بعد ذلك الذكر، يشتغل الرجل بالدعاء، فإن الدعاء إنما يكمل إذا كان مسبوقا بالذكر....
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [203] واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون .

    واذكروا الله في أيام معدودات هي أيام التشريق، قاله ابن عباس رضي الله عنه. وروى الإمام مسلم عن نبيشة الهذلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أيام التشريق [ ص: 505 ] أيام أكل وشرب وذكر الله » . وقال عكرمة: معنى هذه الآية: التكبير في أيام التشريق بعد الصلوات المكتوبات: الله أكبر! الله أكبر!.

    وروى البخاري عن ابن عمر: أنه كان يكبر بمنى تلك الأيام، وخلف الصلوات، وعلى فراشه، وفي فسطاطه، وفي مجلسه، وفي ممشاه في تلك الأيام جميعا. وفي رواية: أنه كان يكبر في قبته، فيسمعه أهل المسجد فيكبرون ويكبر أهل الأسواق حتى ترتج منى. أخرجه البخاري تعليقا.

    ومن الذكر في هذه الأيام: التكبير مع كل حصاة من حصى الجمار كل يوم من أيام التشريق، فقد ورد في الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر مع كل حصاة.

    وقد جاء في الحديث الذي رواه أبو داود وغيره: « إنما جعل الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله عز وجل » .

    وروى مالك في موطئه عن يحيى بن سعيد أنه بلغه أن عمر بن الخطاب خرج الغد من يوم النحر حين ارتفاع النهار شيئا، فكبر، فكبر الناس بتكبيره. ثم خرج الثانية من يومه ذلك بعد ارتفاع النهار فكبر، فكبر الناس بتكبيره. ثم خرج الثالثة حين زاغت الشمس فكبر، فكبر الناس بتكبيره حتى يتصل التكبير ويبلغ البيت فيعلم أن عمر قد خرج يرمي.

    ثم قال مالك: والتكبير في أيام التشريق على الرجال والنساء - من كان في جماعة أو وحده بمنى أو بالآفاق كلها واجب.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #100
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثالث
    صـ 506 الى صـ 510
    الحلقة (100)


    ثم قال: الأيام المعدودات: أيام التشريق.

    وفي القاموس وشرحه: التشريق تقديد اللحم، ومنه سميت أيام التشريق وهي ثلاثة أيام بعد يوم النحر، لأن لحوم الأضاحي تشرق فيها، أي: تشرر في الشمس - حكاه يعقوب، وقيل: سميت بذلك لقولهم: أشرق ثبير كيما نغير ; أو لأن الهدي لا ينحر حتى تشرق الشمس - قاله ابن الأعرابي. قال أبو عبيد: وكان أبو حنيفة يذهب بالتشريق إلى التكبير، ولم يذهب إليه غيره.

    فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه أي: فمن تعجل النفر الأول من هذه الأيام الثلاثة، فلم يمكث حتى يرمي في اليوم الثالث. واكتفى برمي الجمار في يومين من هذه الأيام الثلاثة، فلا يأثم بهذا لتعجيل. وإيضاحه: أنه يجب على الحاج المبيت بمنى الليلة الأولى والثانية من ليالي أيام التشريق. ليرمي كل يوم بعد الزوال إحدى وعشرين حصاة. يرمي عند كل جمرة سبع حصيات. ثم من رمى في اليوم الثاني وأراد أن ينفر ويدع البيتوتة الليلة الثالثة ورمى يومها، فذلك واسع له: ومن تأخر أي: حتى رمى في اليوم الثالث، وهو النفر الثاني: فلا إثم عليه في تأخره. واعلم: السنة هو التأخر فإنه صلى الله عليه وسلم لم يتعجل في يومين، بل تأخر حتى أكمل رمي أيام التشريق الثلاثة. ولا يقال هذا اللفظ - أعني: فلا إثم عليه إنما يقال في حق المقصر لا في حق من أتى بتمام العمل، لأنا نقول: أتى به لمشاكلة اللفظ الأول كقوله: وجزاء سيئة سيئة مثلها وقوله: فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ونحن نعلم أن جزاء السيئة والعدوان ليس بسيئة [ ص: 507 ] ولا عدوان. فإذا حمل على موافقة اللفظ ما لا يصح في المعنى ; فلأن يحمل على موافقة اللفظ ما يصح في المعنى أولى ; لأن المبرور المأجور يصح في المعنى نفي الإثم عنه - قاله الواحدي.

    وقال الراغب: رفع الإثم عن المتعجل والمتأخر على وجه الإباحة - أي: كناية عنها - وقيل: رفع الإثم: أنه حط ذنوبهما بإقامتهما الحج - تعجل أو تأخر - بشرط أن يكون مقياسهما الاعتبار بالتقوى، وعلى ذلك دل حديث: « من حج ولم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه » .

    وقوله تعالى: لمن اتقى خبر لمبتدأ محذوف، أي: الذي ذكر - من التخيير ونفي الإثم عن المتعجل والمتأخر، أو من الأحكام - لمن اتقى، لأنه الحاج على الحقيقة والمنتفع به، على حد: ذلك خير للذين يريدون وجه الله وقوله: هدى للمتقين واتقوا الله في مجامع أموركم: واعلموا أنكم إليه تحشرون أي: للجزاء على أعمالكم، وهو تأكيد للأمر بالتقوى وبعث على التشدد فيه، لأن من تصور أنه لا بد من حشر ومحاسبة ومساءلة، وأن بعد الموت لا دار إلا الجنة أو النار ; صار ذلك من أقوى الدواعي له إلى التقوى. والحشر: اسم يقع على ابتداء خروجهم من الأجداث إلى انتهاء الموقف.
    [ ص: 508 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [204] ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام .

    ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا أي: يعظم في نفسك حلاوة حديثه وفصاحته في أمر الحياة الدنيا التي هي مبلغ علمه: ويشهد الله على ما في قلبه أي: يحلف بالله على الإيمان بك والمحبة لك، وأن الذي في قلبه موافق للسانه لئلا يتفرس فيه الكفر والعداوة، أو معناه: يظهر لك الإسلام ويبارز الله بما في قلبه من الكفر والنفاق - على نحو ما وصف به أهل النفاق حيث قالوا: نشهد إنك لرسول الله وكقوله تعالى: يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله الآية: وهو ألد الخصام شديد الخصومة جدل بالباطل.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [205] وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد

    وإذا تولى انصرف عمن خدعه بكلامه: سعى - مشى -: في الأرض ليفسد فيها بإدخال الشبه في قلوب المسلمين، وباستخراج الحيل في تقوية الكفر، وهذا [ ص: 509 ] المعنى يسمى فسادا، كقوله تعالى حكاية عن قوم فرعون: أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض أي: يردوا قومك عن دينهم ويفسدوا عليهم شرعتهم. وسمي هذا المعنى فسادا لأنه يوقع الاختلاف بين الناس، ويفرق كلمتهم، ويؤدي إلى أن يتبرأ بعضهم من بعض، فتنقطع الأرحام، وتنسفك الدماء. وهذا كثير في القرآن المجيد ويهلك الحرث أي: الزرع: والنسل أي: المواشي الناتجة.

    قال بعض المحققين: وإن إهلاك الحرث والنسل كناية عن الإيذاء الشديد، وإن التعبير به عن ذلك صار من قبيل المثل ; فالمعنى: يؤذي مسترسلا في إفساده ولو أدى إلى إهلاك الحرث والنسل.

    والله لا يحب الفساد أي: لا يرضى فعله.

    قال الراغب: إن قيل: كيف حكم تعالى بأنه لا يحب الفساد وهو مفسد للأشياء؟ قيل: الإفساد في الحقيقة: إخراج الشيء عن حالة محمودة لا لغرض صحيح، وذلك غير موجود في فعل الله تعالى، ولا هو آمر به، ولا محب له، وما يرى من فعله، ويظهر بظاهره فسادا، فهو بالإضافة إلينا واعتبارنا له كذلك. فأما بالنظر الإلهي فكله صلاح، ولهذا قال بعض الحكماء: يا من إفساده إصلاح! أي: ما نظنه إفسادا ; لقصور نظرنا ومعرفتنا - فهو في الحقيقة إصلاح. وجملة الأمر: إن الإنسان هو زبدة هذا العالم وما سواه مخلوق لأجله، ولهذا قال تعالى: هو الذي خلق لكم ما في الأرض والمقصد من الإنسان سوقه إلى كماله [ ص: 510 ] الذي رسخ له. فإذن: إهلاك ما أمر بإهلاكه، لإصلاح الإنسان وما منه أسباب حياته الأبدية. ولشرح هذه الجملة موضع آخر....
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [206] وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد .

    وإذا قيل له على نهج العظة: اتق الله في النفاق، واحذر سوء عاقبته. أو في الإفساد والإهلاك وفي اللجاج بالباطل: أخذته العزة بالإثم أي: حملته الأنفة وحمية الجاهلية على الفعل بالإثم وهو التكبر ; أو المعنى: أخذته الحمية للإثم الذي في قلبه فمنعته عن قبول قول الناصح: فحسبه أي: كافيه: جهنم إذا صار إليها واستقر فيها جزاء وعذابا: ولبئس المهاد أي: الفراش الذي يستقر عليه بدل فرش عزته.

    قال الراغب: المهد معروف، وتصور منه التوطئة، فقيل لكل وطيء مهد. والمهاد يجعل تارة جمعا للمهد، وتارة للآلة نحو فراش. وجعل جهنم مهادا لهم كما جعل العذاب مبشرا به في قوله: فبشرهم بعذاب أليم




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •