اشتراط المروءة في عدالة رواة الحديث
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد : فمن موضوعات علم الجرح والتعديل التي تحتاج إلى شرح وتبيين تقعيدا وتأصيلا وتطبيقا وتمثيلا؛ موضوع جرح الرواة بمخالفة مقتضى المروءة، فقد جرى ذكر المروءة في كتب علوم الحديث على أنها من شروط العدالة وأن اختلالها يكون سببا في القدح في الراوي وترك روايته، وربما أيد ذلك بنصوص منقولة عن بعض الأئمة، وهذه القاعدة المذكورة نظرية لا تكاد تجد لها تطبيقا عمليا صحيحا عند الأئمة المتقدمين ، بل ولا عند الأئمة المتأخرين، ذلك أني رأيت جميع الأمثلة المذكورة-حسب اطلاعي القاصر- انفرد بها إمام من الأئمة مخالفا غيره في حق راو من الرواة دون غيره ، ولو طلبت مثالا لراوٍ الصوابُ تضعيف حديثه لأجل المروءة لما وجدت، فلما رأيت الأمر كذلك عزمت أن أكتب فيها بحثا أجمع فيه بين البحث النظري التأصيلي والجانب التطبيقي، وأبين فيه المذهب الراجح، وأشرح وجه وقوع هذه المسألة في كتب علوم الحديث، وأعرضه على أهل الاختصاص والله تعالى الموفق.
المطلب الأول : المروءة عند الفقهاء
الفرع الأول : حقيقة المروءة عند الفقهاء
المروءة في اللغة الإنسانية والرجولية لأنها مأخوذة من المرء وهو الإنسان(1)، وقد اختلفت عبارات الفقهاء في تحديد معناها في اصطلاحهم ، ومعانيها متقاربه ومن أحسنها لفظا قول الفيومي :" المروءة آداب نفسانية تحمل مراعاتها الإنسان على الوقوف على محاسن الأخلاق وجميل العادات"(2).
إلا أن منهم من يدخل في حدها الآداب الواجبة بالشرع فتصبح هي والعدالة سواء أو أعم منها، كمن يذكر ملازمة التقوى من خصالها، لكن غالب المقصود بها عند أكثرهم ما ليس من الآداب الواجبة بالشرع التي يكون مخالفها عاصيا والمصر على مخالفتها فاسقا، فهي أمر زائد وخارج عن التقوى، ولكنهم يستدلون بمخالفة هذه الآداب الظاهرة على عدم التقوى. ومنهم من يؤكد على أنها قضايا عرفية تختلف بالزمان والمكان، كالنووي الذي قال: "المروءة التخلق بأخلاق أمثاله في زمانه ومكانه"(3).
الفرع الثاني : اشتراط المروءة في عدالة الشهود
من أول من نص على اشتراط التزام خصال المروءة في العدالة الشافعي رحمه الله تعالى في كتابه الأم حيث قال : "وليس من الناس أحد نعلمه-إلا أن يكون قليلا- يمحض الطاعة والمروءة حتى لا يخلطهما بشيء من معصية، ولا ترك مروءة ولا يمحض المعصية ويترك المروءة حتى لا يخلطه بشيء من الطاعة والمروءة، فإذا كان الأغلب على الرجل الأظهر من أمره الطاعة والمروءة قبلت شهادته، وإذا كان الأغلب الأظهر من أمره المعصية وخلاف المروءة رددت شهادته"(4).
وقد اعتبر جمهور الفقهاء المروءة في عدالة الشهود ووافقوا مذهب الشافعي، هذا مع اختلافهم في الفروع كالأكل في السوق واحتراف الحجامة وكنس الزبالة والمشي حافيا أو مكشوف الرأس ….
قال المرغناني فيمن لا تقبل شهادته :« ولا من يفعل الأفعال المستحقرة كالبول على الطريق والأكل على الطريق» وقال في الشرح :" لأنه تارك للمروءة وإذا كان لا يستحي عن مثل ذلك لا يمتنع عن الكذب فيتهم" (5).
وقال ابن جزي فيما يسقط العدالة :" وتسقط أيضا بفعل ما يسقط المروءة وإن كان مباحا كالأكل في الطرقات والمشي حافيا أو عريانا" (6).
قال ابن قدامة :" فلا تقبل شهادة غير ذي المروءة كالمغني والرقاص والطفيلي والمتمسخر ومن يحدث بمباضعة أهله ومن يكشف عورته في الحمام أو غيره أو يكشف رأسه في موضع لا عادة بكشفه فيه ويمد رجليه في مجمع الناس وأشباه ذلك مما يجتنبه أهل المروآت لأنه لا يأنف من الكذب" (7).
وخالف في ذلك ابن حزم الظاهري لأن الأدلة إنما اشترطت العدالة وهي مبنية على الطاعة والمعصية لا بشيء زائد عليها ، قال رحمه الله :" وقال الشافعي إذا كان الأغلب والأظهر من أمره الطاعة والمروءة قبلت شهادته، وإذا كان الأغلب من أمره المعصية وخلاف المروءة ردت شهادته، قال أبو محمد: كان يجب أن يكتفي بذكر الطاعة والمعصية وأما ذكره المروءة هاهنا ففضول من القول وفساد في القضية، لأنها إن كانت من الطاعة فالطاعة تغني عنها وإن كانت ليست من الطاعة فلا يجوز اشتراطها في أمور الديانة إذ لم يأت بذلك نص قرآن ولا سنة" (8).
لكن الجمهور قد استدلوا على اشتراط المروءة في الشهود بأدلة من القرآن والسنة، أما القرآن فقوله تعالى: (وَاسْتَشْهِدُو شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ( (البقرة:282) فالشاهد العدل هو من ارتضيت شهادته حسب العرف السائد في الزمان والمكان الذي تؤدى فيه الشهادة (9).
ومن أدلتهم قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم:" إذا لم تستح فاصنع ما شئت"(10)، وقليل الحياء لا مروءة له، لأن من لا يستقبح القبيح في العادات لا يستقبح الكذب فلا تحصل الثقة بشهادته (11).
وقد لاحظ بعض الفقهاء أن معاني المروءة التي يذكرها الأدباء والزهاد والمنقولة عن السلف واسعة لا يمكن أن يقال باشتراط جميعها في عدالة الشهود ، لذلك فقد قسموا هذه الخصال إلى أقسام ، فقال الجصاص متعقبا كلام الشافعي :" فأما شرط المروءة فإن أراد به التصاون والسمت الحسن وحفظ الحرمة وتجنب السخف والمجون فهو مصيب وإن أراد به نظافة الثوب وفراهة المركوب وجودة الآلة والشارة الحسنة فقد أبعد"(12).
وقال الماوردي :" وهي على ثلاثة أضرب : ضرب يكون شرطا في العدالة ، وضرب لا يكون شرطا فيها ، وضرب مختلف فيه ، وأما ما يكون شرطا فيها فهو مجانبة ما سخف من الكلام المؤذي أو المضحك وترك ما قبح من الضحك الذي يلهو به أو يستقبح… فمجانبة ذلك من المروءة التي هي شرط في العدالة وارتكابها مفض إلى الفسق ، لذلك نتف اللحية من السفه الذي ترد به الشهادة وكذلك خضاب اللحية من السفه الذي ترد به الشهادة ، لما فيها من تغيير خلق الله تعالى .
فأما ما لا يكون شرطا فهو الإفضال بالمال والطعام والمساعدة بالنفس والجاه ، فهذا من المروءة وليس بشرط في العدالة . وأما المختلف فيه فضربان : عادات وصنائع …" (13).
الفرع الثالث : المرجع في الحكم بانخرامها إلى القضاة
ولما كانت هذه المروءة مختلفة باختلاف الزمان والمكان والأعراف، وكان عسرا ضبطها فقد أرجع الفقهاء الحكم بانخرامها إلى القضاة في كل عصر ومصر، بحسب ما يناسب عرفهم .
قال الغزالي :" والعدالة عبارة عن استقامة السيرة والدين ويرجع حاصلها إلى هيئة راسخة في النفس تحمل على ملازمة التقوى والمروءة جميعا" (14)، ثم قال :" وقد شرط في العدالة التوقي عن بعض المباحات القادحة في المروءة نحو الأكل في الطريق والبول في الشارع وصحبة الأراذل وإفراط المزح، والضابط في ذلك فيما جاوز محل الإجماع أن يرد إلى اجتهاد الحاكم فما دل عنده على جراءته على الكذب رد الشهادة به وما لا فلا وهذا يختلف بالإضافة إلى المجتهدين وتفصيل ذلك من الفقه لا من الأصول ورب شخص يعتاد الغيبة ويعلم الحاكم أن ذلك له طبع لا يصبر عنه ولو حمل على شهادة الزور لم يشهد أصلا فقبوله شهادته بحكم اجتهاده جائز في حقه ويختلف ذلك بعادات البلاد واختلاف أحوال الناس في استعظام بعض الصغائر دون بعض"(15).
وقد نص بعضهم أن الخارم الواحد في الزمان الواحد والمكان الواحد قد يعتبر في حق بعض الناس دون بعضهم ، قال الباقلاني :" فرب شخص في نهاية من التورع والتدين يبدر منه مثل ذلك فلا يتهم ويعلم أن قصده ترك الرياء وتجنب التكلف، ورب شخص يؤذن صدور ذلك منه بقلة مبالاته، وهذا مما لا سبيل إلى ضبطه وهو يختلف باختلاف الأوقات والأحوال والأشخاص فلا وجه للقطع فيه ولكن يفوض الأمر إلى الاجتهاد"(16).
قال القرطبي :" وأما المروءة فالناس مختلفون في ذلك والعادة متباينة فيه وأحوال العرب فيه خلاف أحوال العجم ومذهب أهل البدو غير مذهب الحضر" (17).
تنبيه
وعند المتأخرين وفي زماننا هذا لا يشترط في عدالة الشهود أكثر من السلامة من الكذب ضرورة (18).