للعلامة المتفنن أبي الخطاب ابن دحية (633هـ) كتبٌ كثيرة ، مشهورة عند المشتغلين بالحديث ، لكن له كتب في فنون أخرى غير الحديث ، وهي مليئة بالفوائد النفيسة ، فهو واسع الاطلاع ، له في لقط درر الكتب أوسع باع !
ومن كتبه الأدبية كتاب : ( المطرب من أشعار أهل المغرب) :
وقد قرأت هذا الكتاب قديما ، وعلمت على بعض درره . واليوم استخرجته من رفوف مكتبتي العليا ( ولا أرفع إلا ما يقل رجوعي إليه) ، وكنت نسيت أني قد قرأته وانتخبت منه فوائد ، فتفاجأت بتلك الفوائد ، وأحببت انتخاب بعضها لكم .
وقد تعجبون أني استخرجت من هذا الكتاب الأدبي جرحا وتعديلا في الرواة والمصنفين ؛ حيث الصنعة غالبة عليّ وعلى ابن دحية .
ومن فوائده :
1- ذكره لموشحة الطبيب الشهير أبي بكر بن زُهر ، والتي يقول فيها :
أيّها السّاقي إليك المُشتكَى ... قد دعونَاك وإن لم تَسْمَع
ونَديمٍ هِمتُ في غُرَّتِهِ
وسَقَاني الرّاح من راحتِه
كلما استيقَظَ من سَكْرته
جذب الزِّقّ إليه واتّكَا ... وسقَاني أربعاً في أربعِ
ليس لي صبرٌ ولا لي جَلَدُ
ما لِقومي عذَلُوا واجتهدوا
أنكُروا شَكْواي ممّا أجد
مثلُ حالي حقُّها أن تُشتكَي ... كَمَدُ اليأس وذلُّ الطَّمَع
غُصنُ بانٍ مال من حيثُ استوى
بات من يهواهُ من فرط الجوى
خافقَ الأحشاء موهُون القُوى
كلما فكَّر في البين بكَى ... ماله يبكي لما لم يَقع
ما لعيني شُغِفت بالنَّظر
أنكرتْ بعدك ضوءَ القَمر
فإذا ما شِئْتَ فاسْمع خَبَري
عَشِيتْ عَيناي من طُول البُكَا ... وبكَى بَعْضي على بَعضِي مَعِي
2- ذكر أن (صقلية ) بفتح الصاد والقاف وكسر اللام المشددة ، وأن هذا هو ضبط تعريبها ، خلافا لضبطها المشهور , وهو أنها بكسرات ثلاث . وأن أصلها الرومي هو : سِيكة كِيلية ، وتفسيرها : تين وزيتون . وضبط سيكة : بكسر السين وفتح الكاف وسكون الهاء , وكياية : بكسر الكاف واللام وتشديد الياء وسكون الهاء .
ومع أن ضبطها بفتح الصاد والقاف هو المشهور في كتب الضبط الحديثية : كـ( الأنساب ) للسمعاني , وتوابعه لابن الأثير والسيوطي ؛ إلا أن بيان أن هذا تعربب ، وليس هو ضبط الاسم في اللغة الأم = هذه إضافة مهمة , مع ذكر الأصل ، تفسيرا وضبطا .
والغريب : أن المحدثين أخذوا بالتعريب , وعلماء العربية أخذوا بضبط أصلها العجمي ، فضبطها الصاغاني والفيروزآبادي في القاموس وغيرهما بكسرات ثلاث !
فعرّب المحدثون وأعجم المعربون !!
3- وأن الـتُّجيبي : يصح فيها ضم التاء وفتحها .
4- ونقل عن ابن شرف القيرواني (ت460هـ) أنه ذكر قصة عجيبة له في توارد الخواطر , وهو أنه قال : ((أكثر ما يكون توارد الخواطر ووقوع الاتفاق وما يقاربه، إذا طلب الشاعران أو الناثران معنى واحدا ، في قافية واحدة أو سجع واحد )) , ثم ذكر قصته في ذلك ، وهو أن السلطان المعز بن باديس كان قد أمره وأمر الحسن بن رشيق في وقت واحد أن يعملا شعرا في الموز على قافية الغين ، فصنعاه في وقت واحد ، ولم يقف أحدهما على صنعة الآخر ، فخرجا وكأنهما متفقان :
قال ابن شرف :
يا حبَّذا الموزُ وإسعادُه ... من قبل أن يَمضُغَه الماضغُ
لاَنَ إلى أن لا مَجَسّ له ... فالفمُ ملآنٌ به فارغُ
سيّاِن قُلنا مأكلٌ طيّبٌ ... فيه وإلا مشربٌ سائغُ
وقال الحسن بن رشيق :
موزٌ سريع سوغُه ... من قبل مضغِ الماضغِ
مأكَلةٌ لآكل ... ومشربٌ لسائغِ
فالفُم من لينِ به ... ملآنُ مثلُ فارغ
وأورد قصة أخرى لهما مثل هذه .
ثم قال : ((فهذه المقطعات التي أوردت حديثها، واستطردت باتفاقها، لو رآها من عسى أن يراها ، وهو لا يعلم ما جرى، لم يشك أن أحد قائليها سرق من الآخر ! وكم من مظلوم برئ، نسب باتفاق خاطره وخاطر غيره إلى التلصص والإغارة ، نحو ما ألفه ابن وكيع عن المتنبي في كتابه الذي سما المنصف، وهو فيه جور من قاضيي سدوم)) .
قلت : وقد صدق ابن شرف ، فكتاب (المنصف في الدلالات على سرقات المتنب) لابن وكيع من أكثر الكتب بُعدا ما بيت عنوانها ومضمونها ، وشتان ما بينه وبين كتاب القاضي الجرجاني (الوساطة بين المتنبي وخصومه) .
5- ذكر أن عادة أهل الأندلس في لباس الحزن على موتاهم أنهم يلبسون الأبيض ، لكنه علل ذلك بقوله : (( استنوا ذلك من عهد بني أمية ، قصداً لمخالفة بني العباس في لباسهم السواد، ولذلك قال الأستاذ النحوي أبو الحسن الحصري:
إذا كانَ البياضُ لباسَ حزن ... بأندلسٍ فذاك من الصَّواب
ألم تَرنِي لبستُ بياضَ شَيبي ... لأني قد حَزِنت عل الشَّبَابِ)) .
ولكني استغربت هذا التعليل ، فاتخاذ شعار الأمويين لباسا للحزن ليس استنانا بسنة الأمويين ، بل فيه إساءة لسنتهم !
6- ومما شاع في عصور الإسلام قصائد تُسمى بـ(الحجازيات) ؛ لأنها تذكر مواضع الحجاز في سياق تشوق للبقاع الطاهرة فيها ، أو حتى في سياق غزل بغزال حجازي .
ومن تلك الحجازيات التي ذكرها ابن دحية قول أحدهم :
متَى أقولُ وقد كَلَّت ركائُبنا ... من السُّرىَ وارتكابِ البِيدِ في البُكَر
يا نائمين على الأكوارِ ويحُكُم ... شُدُّوا المَطيَّ بذِكْر اللهِ في السَّحَر
أمَا سمعتُم بحَادِينا وقد سَجَعتْ ... وُرقُ الحمائم فَوق الأيكِ والسَّمُر
هذي البِشارةُ يا حُجَّاج قد وجبتْ ... غداً تَحُطّون بين الرُّكْن والحَجر
7- ومن الشعر اللطيف في طلب العلم :
عشْ طالباً أو عَليماً ... فالجهلُ عينُ المَحَّطهْ
ولا يَصُدُّك يأسٌ ... عن نَيْلِ أشرِف خُطَّه
فمبدأُ النار سِقْطٌ ... وأولُ الخطِّ نُقطة
8- ذكر قصيدة أبي القاسم السهيلي الشهيرة في الابتهال ،
يا من يَرى ما في الضمير ويسمَعُ ... أنت المُعّدُّ لكل ما يتُوقَّعُ
يا من يُرجَّى للشدائِد كلَّها ... يا مَن إليه المُشتكَى والمَفزَعُ
يا من خزائنُ رِزْقه في قولِ كُن ... امنُنْ فإن الخيرَ عندك أجمعُ
ما لي سِوَى فقرِي إليك وسيلةٌ ... فبالافتقارِ إليك فَقْرِي أدفع
ما لي سوى قَرْعِي لبابِك حِيلةٌ ... فلئنْ رَدَدْتَ فأيَّ بابٍ أقرع
ومَن الذي أدعُو وأهْتِف باسمه ... إن كان فَضْلُكَ عن فقيرٍ يُمنع
حاشا لمجِدك أن تُقنَّط عاصياً ... الفَضْلُ أجزلُ والمَواهبُ أوسع
ثم توسع في الكلام عن إعراب كلمة (أجمع) في البيت الرابع ؛ إذ قد يُتوهم أن حقها النصب ؛ لأنها توكيد تابع لاسم (إن) (فإن الخير) ، فبين صحة الرفع في اللغة أيضا , وأطال في بيان اختلاف النحويين في نحو هذا الباب .
وهي قصيدة شهيرة في المجسّات الحجازية (المواويل) ، وهو نوع من النشيد الذي لا يستعمل شيئا من آلات الموسيقى , وما زالت شائعة جدا في حفلات الزواج وغيرها .
وهذا رابط لمجس قديم جدا بهذه القصيدة :
https://www.youtube.com/watch?v=WFlSm7a78xc

د. حاتم العوني.