تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 17 من 23 الأولىالأولى ... 7891011121314151617181920212223 الأخيرةالأخيرة
النتائج 321 إلى 340 من 441

الموضوع: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

  1. #321
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,172

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

    تفسير "محاسن التأويل"
    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْأَنْعَامِ
    المجلد السادس
    صـ 2254 الى صـ 2266
    الحلقة (321)



    القول في تأويل قوله تعالى:

    [12] قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون

    قل لمن ما في السماوات والأرض أي: خلقا وملكا، وهو سؤال تبكيت وتقريع قل لله تقرير للجواب، نيابة عنهم. أي: هو الله، لا خلاف بيني وبينكم، ولا تقدرون أن تضيفوا شيئا منه إلى غيره. ففيه تنبيه على تعينه للجواب اتفاقا، كما في قوله تعالى: ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله ومن المقرر أن أمر السائل بالجواب إنما يحسن في موضع يكون فيه الجواب قد بلغ من الظهور إلى حيث لا يقدر [ ص: 2254 ] على إنكاره منكر، ولا على دفعه دافع، كما هنا. قيل: وفيه إشارة إلى أنهم تثاقلوا في الجواب، مع تعينه، لكونهم محجوجين.

    وقوله تعالى: كتب على نفسه الرحمة جملة مستقلة داخلة تحت الأمر، ناطقة بشمول رحمته الواسعة لجميع الخلق، شمول ملكه وقدرته للكل، مسوقة لبيان أنه تعالى رؤوف بعباده، لا يعجل عليهم بالعقوبة، ويقبل منهم التوبة والإنابة، وأن ما سبق ذكره، وما لحق من أحكام الغضب، ليس من مقتضيات ذاته تعالى، بل من جهة الخلق. كيف لا؟ ومن رحمته أن خلقه على الفطرة السليمة، وهداهم إلى معرفته وتوحيده، بنصب الآيات الأنفسية والآفاقية، وإرسال الرسل، وإنزال الكتب المشحونة بالدعوة إلى موجبات رضوانه، والتحذير عن مقتضيات سخطه. وقد بدلوا فطرة الله تبديلا، وأعرضوا عن الآيات بالمرة، وكذبوا بالكتب، واستهزؤوا بالرسل وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين . ولولا شمول رحمته لسلك بهؤلاء أيضا مسلك الغابرين. ومعنى: [ كتب الرحمة على نفسه ] أنه تعالى أوجبها وقضاها بطريق التفضل والإحسان على ذاته المقدسة، بالذات، لا بتوسط شيء أصلا. وفي التعبير عن الذات ب [ النفس ] حجة على من ادعى أن لفظ (النفس) لا يطلق على الله تعالى. وإن أريد به الذات، إلا مشاكلة لما ترى من انتفاء المشاكلة هاهنا. أفاده أبو السعود.

    وقوله تعالى: ليجمعنكم إلى يوم القيامة جواب قسم محذوف. والجملة استئناف مسوق للوعيد، على إشراكهم وإغفالهم النظر؛ لأنه لما بين كمال إلهيته، بقوله: قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله ثم أخبر بأنه يرحمهم في الدنيا بالإمهال، ودفع عذاب الاستئصال، أعلم أنه يجمعهم لذلك اليوم، ويحاسبهم على كل ما فعلوا؛ لأن الملك الحكيم [ ص: 2255 ] لا يهمل أمر رعيته، ولا يسوغ في حكمته أن يسوي بين المطيع والعاصي قيل: ليجمعنكم جواب لقوله: كتب ؛ لأنه يجري مجرى القسم.

    وقيل: ليجمعنكم بدل من الرحمة، بدل البعض. قال المهايمي: كمال الرحمة في الجزاء؛ إذ بدونه تضيع مشاق المعارف الإلهية، والأعمال الصالحة، وتضيع المظالم، ولا جزاء في دار الدنيا؛ لأنه فرع التكليف، ودار التكليف لا تكون دار الجزاء؛ لأن مشاهدته مانعة من التكليف. انتهى.

    و (إلى) بمعنى اللام، كقوله: إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه أي: في اليوم، أو في الجمع.

    الذين خسروا أنفسهم أي: بتضييع رأس مالهم، وهو الفطرة الأصلية، والعقل السليم، والاستعداد القريب الحاصل من مشاهدة الرسول عليه الصلاة والسلام، واستماع الوحي، وغير ذلك من آثار الرحمة.

    فهم لا يؤمنون أي: لا يصدقون بالمعاد، ولا يخافون شر ذلك اليوم.

    قال أبو السعود: والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط، والإشعار بأن عدم إيمانهم بسبب خسرانهم، فإن إبطال العقل باتباع الحواس، والانهماك في التقليد، وإغفال النظر، أدى بهم إلى الإصرار على الكفر، والامتناع من الإيمان. والجملة تذييل مسوق من جهته تعالى، لتقبيح حالهم، غير داخل تحت الأمر.

    تنبيه:

    روي في معنى هذه الآية عن أبي هريرة: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما خلق الله [ ص: 2256 ] الخلق كتب في كتاب، فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي تغلب غضبي» . رواه الشيخان.

    وفي البخاري: إن الله كتب كتابا قبل أن يخلق الخلق: إن رحمتي سبقت غضبي، فهو مكتوب عنده، فهو العرش.

    وفي رواية لهما: أن الله لما خلق الخلق.

    [ ص: 2257 ] وعند مسلم: لما قضى الله الخلق، كتب في كتاب كتبه على نفسه، فهو موضوع عنده. زاد البخاري: على العرش. ثم اتفقا: إن رحمتي تغلب غضبي.

    وسنذكر، إن شاء الله، شذرة من أحاديث الرحمة عند آية: كتب ربكم على نفسه الرحمة قريبا.

    قال أبو السعود: ومعنى سبق الرحمة وغلبتها أنها أقدم تعلقا بالخلق، وأكثر وصولا إليهم مع أنها من مقتضيات الذات المفيضة للخير.
    [ ص: 2258 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [13] وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم

    وله أي: ولله عز وجل: ما سكن في الليل والنهار أي: ما استقر وحل، من السكنى بمعنى الحلول. كقوله تعالى: وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم والمعنى: له تعالى كل ما حصل في الليل والنهار، مما طلعت عليه الشمس أو غربت. شبه الاستقرار بالزمان، بالاستقرار في المكان، فاستعمل استعماله فيه. أو سكن من السكون، مقابل الحركة. أي: ما سكن فيهما وما تحرك، فاكتفى بأحد الضدين عن الآخر، كما في قوله: سرابيل تقيكم الحر ؛ لأن ذلك يعرف بالقرينة. وعليه، فإنما اكتفى بالسكون عن ضده دون العكس؛ لأن السكون أكثر وجودا، والنعمة فيه أكثر.

    قال بعضهم: لا حاجة لدعوى الاكتفاء، فإن ما سكن يعم جميع المخلوقات، إذ ليس شيء منها غير متصف بالسكون، حتى المتحرك، حال حركته، على ما حقق في الكلام: من أن تفاوت الحركات بالسرعة والبطء لقلة السكنات المتخللة وكثرتها.

    لطيفة:

    قال أبو مسلم الأصفهاني: ذكر تعالى في الآية الأولى السماوات والأرض؛ إذ لا مكان سواهما. وفي هذه الآية ذكر الليل والنهار؛ إذ لا زمان سواهما، فالزمان والمكان ظرفان [ ص: 2259 ] للمحدثات، فأخبر سبحانه أنه مالك للمكان والمكانيات، ومالك للزمان والزمانيات. وهذا بيان في غاية الجلالة.

    وقال الرازي: هاهنا دقيقة أخرى؛ وهو أن الابتداء وقع بذكر المكان والمكانيات، ثم ذكر عقيبه الزمان والزمانيات؛ وذلك لأن المكان والمكانيات أقرب إلى العقول والأفكار من الزمان والزمانيات، لدقائق مذكورة في العقليات الصرفة. والتعليم الكامل هو الذي يبدأ فيه بالأظهر فالأظهر مترقيا إلى الأخفى فالأخفى، وهذا من سر نظم الآية مع ما قبلها.

    وهو السميع العليم يسمع كل مسموع، ويعلم كل معلوم، فلا يخفى عليه شيء مما يشتمل عليه الملوان.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [14] قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين

    قل أي: لكفار مكة المبكتين بما تقدم: أغير الله أتخذ وليا أي: معبودا. كقوله تعالى: قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون والمعنى: لا أتخذ وليا إلا الله وحده فاطر السماوات والأرض أي: خالقهما ومبدعهما على غير مثال سبق. بالجر، صفة للجلالة، موكدة للإنكار.

    وهو يطعم ولا يطعم أي: يرزق ولا يرزق، أي: المنافع كلها من عنده، ولا يجوز عليه الانتفاع. أي: فيجب اتخاذه وليا ليعبد شكرا على إنعامه، وكفايته الحوائج بلا طلب عوض. قيل: المراد بالطعم الرزق، بمعناه اللغوي. وهو كل ما ينتفع به، بدليل وقوعه مقابلا له في قوله تعالى: ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون فعبر بالخاص عن العام مجازا؛ لأنه أعظمه وأكثره، لشدة الحاجة إليه. واكتفى به عن العام؛ لأنه يعلم، من نفي ذلك، نفي ما سواه.

    [ ص: 2260 ] قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم أي: وجهه لله مخلصا له، لأصير متبوعا للباقين. كقوله: وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين وكقول موسى: سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين

    ولا تكونن من المشركين أي: وقيل لي: ولا تكونن . فهو معطوف على: (أمرت) بمعنى: أمرت بالإسلام، ونهيت عن الشرك صريحا مؤكدا، بعد النهي في ضمن الأمر. ونهي المتبوع نهي التابعين. ويجوز عطفه على: قل . وفي الآية إرشاد إلى أن كل آمر ينبغي أن يكون عاملا بما أمر به؛ لأنه مقتداهم. قيل: هذه الآية للتحريض، كما يأمر الملك رعيته بأمر ثم يقول: وأنا أول من يفعل ذلك، ليحملهم على الامتثال.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [15] قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم

    قل إني أخاف إن عصيت ربي أي: بمخالفة أمره ونهيه أي عصيان. فيدخل فيه ما ذكر دخولا أوليا عذاب يوم عظيم يعني: عذاب يوم القيامة، الذي تظهر فيه عظمة القهر الإلهي. وفي الآية مبالغة أخرى في قطع أطماعهم، وتعرض لهم بأنهم عصاة مستوجبون للعذاب العظيم. ووجه التعريض إسناد ما هو معلوم الانتفاء، ب (إن) التي تفيد الشك تعريضا. وجيء بالماضي إبرازا له في صورة الحاصل على سبيل الفرض، تعريضا [ ص: 2261 ] بمن صدر عنهم ذلك. وحيث كان تعريضا لهم، والمراد تخويفهم إذا صدر منهم ذلك - لم يكن فيه دلالة على أنه يخاف هو صلى الله عليه وسلم على نفسه المعصية، مع أنه معصوم. كما لا يتوهم مثله في قوله: لئن أشركت ليحبطن عملك وحينئذ فلا حاجة إلى ما أجيب عن ظاهر دلالته على ما ذكر، بأن الخوف تعلق بالعصيان الممتنع الوقوع امتناعا عاديا، فلا يدل إلا على أنه يخاف لو صدر عنه العصيان. وهذا لا يدل على حصول الخوف.

    قال بعضهم: لا يقال على تقدير العصيان، يكون الجواب هو استحقاق العذاب، لا الخوف. لأنا نقول: لا منافاة بينهما. فالخوف إما على حقيقته، أو كناية عن الاستحقاق. انتهى.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [16] من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه وذلك الفوز المبين

    من يصرف بالبناء للمفعول، أي: العذاب عنه يومئذ فقد رحمه أي: نجاه وأنعم عليه، أو أدخله الجنة، لقوله: فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة وقوله تعالى: يدخل من يشاء في رحمته والجملة مستأنفة، مؤكدة لتهويل العذاب.

    وذلك أي: الصرف أو الرحمة الفوز المبين أي: الظاهر.

    ثم ذكر تعالى دليلا آخر، في أنه لا يجوز للعاقل أن يتخذ وليا غير الله تعالى، بقوله:
    [ ص: 2262 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [17] وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير

    وإن يمسسك الله بضر أي: ببلية، كفقر ومرض ونحوهما. و (الضر): اسم جامع لما ينال الإنسان من مكروه فلا كاشف له إلا هو أي: فلا يقدر على دفعه إلا هو وحده وإن يمسسك بخير من عافية ورخاء ونحوهما: و (الخير): اسم جامع لما ينال الإنسان من محبوب له فهو على كل شيء قدير أي: ومن جملته ذلك، فيقدر عليه، فيمسك به، ويحفظه عليك من غير أن يقدر على دفعه أو رفعه أحد. كقوله تعالى: فلا راد لفضله وكقوله سبحانه: ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده

    وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد» .

    [ ص: 2263 ] وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يا غلام! إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله. واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله تعالى لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله تعالى عليك. رفعت الأقلام وجفت الصحف» - رواه الترمذي - وقال: حسن صحيح.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [18] وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير

    وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير أي: هو الغالب بقدرته، المستعلي فوق عباده، يدبر أمرهم بما يريد، فيقع في ذلك ما يشق عليهم ويثقل ويغم ويحزن، فلا يستطيع أحد منهم رد تدبيره، والخروج من تحت قهره وتقديره.

    قال أبو البقاء: في (فوق) وجهان:

    أحدهما: في موضع نصب على الحال من الضمير في القاهر؛ أي: مستعليا وغالبا.

    والثاني: في موضع رفع على أنه بدل من القاهر أو خبر ثان.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [19] قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ أإنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون

    قل أي شيء أكبر شهادة أي: بحيث لا يمكن معارضته بما يساويه: قل الله [ ص: 2264 ] أي: أكبر شهادة؛ إذ لا احتمال لطرو الكذب في خبره أصلا، جل شأنه. وأمره صلى الله عليه وسلم بأن يتولى الجواب بنفسه، إما للإيذان بتعينه، وعدم قدرتهم على أن يجيبوا بغيره، أو لأنهم ربما يتلعثمون فيه، لا لترددهم في أنه تعالى أكبر من كل شيء، بل في كونه شهيدا في هذا الشأن.

    وقوله تعالى: شهيد بيني وبينكم خبر لمحذوف، أو خبر عن لفظ الجلالة. ودل على جواب (أي) من طريق المعنى؛ لأنه إذا كان تعالى هو الشهيد بينه وبينهم، كان أكبر شيء شهادة، شهيدا له. فيكون من الأسلوب الحكيم؛ لأنه عدل عن الجواب المتبادر - إليه، ليدل على أن أكبر شهادة شهيد للرسول، فإن الله أكبر شيء شهادة، والله شهيد له، فينتج الأكبر شهادة له. والقياس المذكور من الشكل الثالث؛ لأن الحد الأوسط موضوع في المقدمتين، لا من الثاني، كما وقع للشهاب في "العناية" وهو من بديهيات الميزان.

    قال بعضهم: الغرض من السؤال ب: أي شيء أكبر شهادة أن شاهدي أكبر شهادة. فقوله: شهيد إلخ تنصيص له، والسؤال المذكور لا يحتاج إلى جواب؛ لكونه معلوما بينا عند الخصم، فحاصله أن الله الذي هو أكبر شهادة، شهر بذلك. انتهى.

    ومعنى (شهيد) مبالغ في الشهادة على نبوتي، بحيث يقطع النزاع بيني وبينكم، إذ شهد سبحانه بالقول في الكتب التي أنزلها على الأولين، وبالفعل فيما ظهر على يدي من المعجزات، لا سيما معجزة القرآن، كما قال تعالى:

    وأوحي إلي هذا القرآن أي: الجامع للعلوم التي يحتاج إليها في المعارف والشرائع، في ألفاظ يسيرة، في أقصى مراتب الحسن والبلاغة، معجزة شاهدة بصحة رسالتي؛ لأنكم أنتم الفصحاء والبلغاء، وقد عجزتم عن معارضته: لأنذركم به أي: بما فيه من الوعيد ومن بلغ عطف على ضمير المخاطبين، أي: لأنذركم به، يا أهل مكة! وسائر من بلغه [ ص: 2265 ] من الناس كافة، فهو نذير لكل من بلغه، كقوله تعالى: ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده

    أإنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى تقرير لهم مع إنكار واستبعاد.

    قل لا أشهد بما تشهدون قل إنما هو إله واحد أي: بل أشهد أن لا إله إلا هو، لا يشارك في إلهيته، ولا في صفات كماله: وإنني بريء مما تشركون يعني: الأصنام.

    وفي هذه الآية مسائل:

    الأولى: استدل الجمهور بقوله تعالى: قل الله في جواب: أي شيء أكبر شهادة على جواز إطلاق الشيء عليه تعالى. وكذا بقوله سبحانه وتعالى: كل شيء هالك إلا وجهه فإن المستثنى يجب أن يدخل تحت المستثنى منه، وذلك لأن الشيء أعم العام - كما قال سيبويه - لوقوعه على كل ما يصح أن يعلم ويخبر عنه، واختار الزمخشري شموله حتى للمستحيل. وصرح كثير من المحققين بأنه يختص بالموجود، وضعفوا من أطلقه على المعدوم، بأنه محجوج بعدم استعمال العرب ذلك، كما علم باستقراء كلامهم، وبنحو: كل شيء هالك إلا وجهه [ ص: 2266 ] إذ المعدوم لا يتصف بالهلاك، وبنحو: وإن من شيء إلا يسبح بحمده إذ المعدوم لا يتصور منه التسبيح.

    قال الناصر في "الانتصاف": هذه المسألة معدودة من علم الكلام باعتبار ما، وأما هذا البحث فلغوي، والتحاكم فيه لأهل اللغة. وظاهر قولهم: غضبت من لا شيء.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #322
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,172

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْأَنْعَامِ
    المجلد السادس
    صـ 2277 الى صـ 2279
    الحلقة (322)




    إذا رأى غير شيء ظنه رجلا


    أن الشيء لا ينطلق إلا على الموجود، إذ لو كان الشيء كل ما يصح أن يعلم عدما كان أو وجودا، أو ممكنا أو مستحيلا، لما صدق على أمر ما أنه ليس بشيء، والأمر في ذلك قريب. انتهى.

    [ ص: 2267 ] هذا، وتمسك من منع إطلاقه عليه تعالى بقوله تعالى: ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها والاسم إنما يحسن لحسن مسماه، وهو أن يدل على صفة من صفات الكمال، ونعت من نعوت الجلال. ولفظ الشيء أعم الأشياء، فيكون مسماه حاصلا في أحسن الأشياء وفي أرذلها. ومتى كان كذلك، لم يكن المسمى بهذا اللفظ صفة من صفات الكمال، فوجب أن لا نجوز دعوة الله بهذا الاسم؛ لأنه ليس من الأسماء الحسنى، وقد أمر تعالى بأن يدعى بها. وأجيب: بأن كونه ليس من الأسماء الحسنى، لكونها توقيفية، وكونه لا يدعى به لعدم وروده - لا ينافي شموله للذات العلية، شمول العام. والمراد بإطلاقه عليه تعالى فيما تقدم شموله، لا تسميته به. وبالجملة: فلا يلزم أن كونه ليس من الأسماء الحسنى، أن لا يشمل الذات المقدسة شمولا كليا، كيف؟ وهو الموضوعات العامة. والتحاكم للغويين في ذلك. كما قدمنا.

    الثانية: ما أسلفناه من أن المعني بالشهادة هو شهادته تعالى في ثبوت النبوة له صلى الله عليه وسلم، هو الذي جنح إليه الأكثر. وكأن مشركي مكة طلبوا منه صلى الله عليه وسلم شاهدا على نبوته. فقيل لهم: أكبر شيء شهادة هو الله تعالى، وقد شهد لي بالنبوة؛ لأنه أوحى إلي هذا القرآن، وتحداكم بمعارضته، فعجزتم، وأنتم أنتم في مقام البلاغة. وإذ كان معجزا، كان إظهاره تعالى إياه على وفق دعواي، شهادة منه على صدقي في النبوة.

    ولبعضهم وجه آخر، وهو أن المعني، شهادته تعالى في ثبوت وحدانيته، وتنزهه عن الأنداد والأشباه. ويرشحه تتمة الآية، وهو قوله: أإنكم لتشهدون إلخ، وقوله: شهد الله أنه لا إله إلا هو وقوله تعالى: فإن شهدوا فلا تشهد معهم

    [ ص: 2268 ] مما يدل على أن الشهادة إنما عني بها -في موارد التنزيل- ثبوت الوحدانية، والقرآن يفسر بعضه بعضا. والله أعلم.

    الثالثة: إنما اقتصر على الإنذار في قوله: لأنذركم به لكون الخطاب مع كفار مكة، وليس فيهم من يبشر. أو اكتفى به عن ذكر البشارة على حد: سرابيل تقيكم الحر

    الرابعة: استدل بقوله تعالى: لأنذركم به ومن بلغ على أنه صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى الناس كافة، وإلى الجن.

    الخامسة: استدل به أيضا على أن أحكام القرآن تعم الموجودين يوم نزوله ومن سيوجد بعد إلى يوم القيامة، خلا أن ذلك بطريق العبارة في الكل - عند الحنابلة - وبالإجماع عندنا في غير الموجودين، وفي غير المكلفين يومئذ. أفاده أبو السعود.

    السادسة: روى ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب في قوله: ومن بلغ من بلغه القرآن، فكأنما رأى النبي صلى الله عليه وسلم وكلمه. ورواه ابن جرير عنه بلفظ: من بلغه القرآن فقد أبلغه محمد صلى الله عليه وسلم.

    [ ص: 2269 ] وروى عبد الرزاق عن قتادة في هذه الآية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بلغوا عن الله، فمن بلغته آية من كتاب الله، فقد بلغه أمر الله» .

    وقال الربيع بن أنس: حق على من اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يدعو كالذي دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن ينذر بالذي أنذر.

    السابعة: دل قوله تعالى: قل إنما هو إله واحد وقوله: وإنني بريء مما تشركون على إثبات التوحيد بأعظم طرق البيان، وأبلغ وجوه التأكيد؛ لأن (إنما) تفيد الحصر، و (الواحد) صريح في نفي الشركاء. ثم صرح بالبراءة عن إثبات الشركاء. وقد استحب الشافعي لمن أسلم بعد إتيانه بالشهادتين، أن يتبرأ من كل دين سوى دين الإسلام، لقوله: وإنني بريء مما تشركون عقب التصريح بالتوحيد.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [20] الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون

    وقوله تعالى: الذين آتيناهم الكتاب يعني: اليهود والنصارى: يعرفونه أي: يعرفون رسول الله صلى الله عليه وسلم بحليته ونعته الثابت في الكتابين: كما يعرفون أبناءهم بحلاهم ونعوتهم، لا يخفون عليهم، ولا يلتبسون بغيرهم.

    قال المهايمي: لأنه صلى الله عليه وسلم ذكر في الكتاب نعته. وهو، وإن لم يفد تعينه باللون والشكل والزمان والمكان، تعين بقرائن المعجزات. فبقاء الاحتمال البعيد فيه، كبقائه في الولد، بأنه يمكن أن يكون غير ما ولدته امرأته، أو يكون من الفجور، مع دلالة القرائن على براءتها من التزوير والفجور. فهو، كما يعرفون أبناءهم في ارتفاع الاحتمال البعيد بالقرائن على براءتها.

    [ ص: 2270 ] قال الزمخشري: وهذا استشهاد لأهل مكة بمعرفة أهل الكتاب، وبصحة نبوته.

    ثم بين تعالى أن إنكاره خسران لما عرفوه، ولما أمروا بالتدين به بقوله: الذين خسروا أنفسهم أي: من المشركين: فهم لا يؤمنون أي: بهذا الأمر الجلي الظاهر الذي بشرت به الأنبياء، ونوهت به؛ لأنه مطبوع على قلوبهم.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [21] ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح الظالمون

    ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا كقولهم: الملائكة بنات الله، وهؤلاء شفعاؤنا عند الله. قال الله تعالى: وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها

    [ ص: 2271 ] أو كذب بآياته أي: القرآن والمعجزات، حيث سموها سحرا. وإنما ذكر: أو مع أنهم جمعوا بين الأمرين، تنبيها على أن كلا منهما وحده بالغ غاية الإفراط في الظلم على النفس. فكيف وهم وقد جمعوا بينهما؟ فأثبتوا ما نفاه الله تعالى، ونفوا ما أثبته.

    إنه لا يفلح الظالمون أي: لا ينجون من مكروه، ولا يفوزون بمطلوب. وإذا كان حال الظالمين هذا، فكيف بمن لا أحد أظلم منه؟

    تنبيه:

    ما ذكرناه من كون الموصول كناية عن المشركين هو الظاهر؛ لأن السورة مكية، والخطاب مع مشركي أهلها. وجعله البيضاوي لهم، ولأهل الكتاب، وقوفا مع عموم اللفظ، والمهايمي; لأهل الكتاب خاصة، ربطا للآية بما قبلها. والظاهر الأول، لما قلنا. وعبارة المهايمي: الذين خسروا أنفسهم بتفويت ما أوتوا من الكتاب، وما أمروا به، فهم لا يؤمنون. وكيف لا يخسرون، وهم ظالمون، وكل ظالم خاسر؟ وإنما قلنا: إنهم ظالمون؛ لأنهم يحرفون كتاب الله لفظا أو معنى، فيفترون على الله الكذب، ويكذبون آيات الله من كتابهم، ومعجزات محمد صلى الله عليه وسلم وكتابه. وقد يسترون بعض ما في كتابهم، وهو أيضا تكذيب. فعلوا جميع ذلك؛ لأنه لا يتأتى لهم ترك الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم بدون أحد هذه الأمور.

    وقال في قوله تعالى: ومن أظلم الآية. لأنهم بالتحريف يدعون إلهية أنفسهم، وبالتكذيب يريدون تعجيز الله عن تصديقه الرسل، وينسبون إيجادها إلى غير الله، مع افتقارها إلى القدرة الكاملة. وإنما قلنا: كل ظالم خاسر؛ لأن كل ظالم لا يفلح. كما قال تعالى: إنه لا يفلح الظالمون أي: لا يفلحون في الدنيا بانقطاع الحجة عنهم، وظهور المسلمين عليهم، وفيه إشارة إلى أن مدعي الرسالة، لو كان كاذبا كان مفتريا على الله، فلا يكون مفلحا، فلا يكون سببا لصلاح العالم، ولا محلا لظهور المعجزات. انتهى.
    [ ص: 2272 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [22] ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون

    ويوم نحشرهم أي: الإنس والجن والشياطين. منصوب بمضمر تهويلا للأمر جميعا ليفتضح من لا يفلح من الظالمين مزيد افتضاح، ويظهر المفلحون بكمال الإعزاز.

    ثم نقول للذين أشركوا أي: مضوا على الشرك، بأن ماتوا عليه، وهم الشاهدون أن مع الله آلهة أخرى: أين شركاؤكم أي: الذين جعلتموهم شركاءنا، وهم شركاؤكم في العبودية - كذا قاله المهايمي - وعليه، فالإضافة على بابها.

    وفي "العناية": الإضافة فيه لأدنى ملابسة، كما أشار إليه القاضي بقوله: أي: آلهتكم التي جعلتموها شركاء لله؛ لأنه لا شركة بينهم، وإنما سموهم شركاء، فلهذه الملابسة أضيفوا إليهم.

    قيل: قوله تعالى: احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون يقتضي حضورهم معهم في المحشر، و (أين) يسأل بها عن غير الحاضر؟ أجيب بأنه بتقدير مضاف. أي: أين نفعهم وشفاعتهم، أو أنهم بمنزلة الغيب، لعدم ما رجوا منهم من الشفاعة. وعلى كل، فالقصد من السؤال توبيخهم وتقريعهم، وأن يقرر في نفوسهم أن ما كانوا يرجونه مأيوس منه. وذلك تنبيه لهم في دار الدنيا على فساد هذه الطريقة.

    وقوله تعالى: الذين كنتم تزعمون أي: تزعمونها شركاء من عند أنفسكم. أي: فقصدتم بذلك فعل الفاتنين في المملكة بجعلها لغير من هي له.
    [ ص: 2273 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [23] ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين

    ثم لم تكن فتنتهم أي: جواب ما اعترض به على فتنتهم التي هي شهادة أن مع الله آلهة أخرى. وعبر عن جوابهم بالفتنة؛ لأنه كذب. إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين اعتذروا عن أصنامهم بنفيها مؤكدا بالقسم بالاسم الجامع، مع نسبة الربوبية إليه تعالى، لا إلى ما سواه، مبالغة في التبرؤ من الإشراك. فكان هذا العذر ذنبا آخر مؤكدا لافترائهم بالإشراك الذي نفوه. كما قال تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [24] انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون

    انظر كيف كذبوا على أنفسهم أي: بنفي الإشراك عنها أمام علام الغيوب، بحضرة من لا ينحصر من الشهود: وضل أي: وكيف ضاع وغاب: عنهم ما كانوا يفترون أي: من الشركاء، فلم تغن عنهم شيئا، ففقدوا ما رجوا من شفاعتها ونصرتها لهم، كقوله تعالى: قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله قالوا ضلوا عنا ف (ما) موصولة، كناية عن الشركاء. وإيقاع الافتراء عليها، مع أنه في الحقيقة واقع على أحوالها من الإلهية، والشركة والشفاعة ونحوها - للمبالغة في أمرها، كأنها نفس المفترى.

    [ ص: 2274 ] تنبيهات:

    الأول: ما ذكرناه من أنه عبر عن جوابهم بالفتنة هو الأظهر. فالمراد: الجواب بما هو كذب؛ لأنه سبب الفتنة، فتجوز بها إطلاقا للمسبب على السبب، أو هو استعارة. وقيل: الفتنة بمعنى العذر، لأنها التخليص من الغش لغة، والعذر يخلص من الذنب، فاستعيرت له. وقيل: بمعنى الكفر؛ لأن الفتنة ما تفتتن به ويعجبك، وهم كانوا معجبين بكفرهم مفتخرين به، ويظنونه شيئا، فلم تكن عاقبته إلا الخسران، والتبرؤ منه، وليس هذا على تقدير مضاف، بل جعل عاقبة الشيء عينه، ادعاء.

    قال الزجاج: تأويل هذه الآية حسن في اللغة، لا يعرفه إلا من عرف معاني الكلام، وتصرف العرب في ذلك. وذلك أن الله تعالى بين كون المشركين مفتونين بشركهم، متهالكين على حبه، فأعلم في هذه الآية، أنه لم يكن افتتانهم بشركهم، وإقامتهم عليه، إلا أن تبرؤوا منه وتباعدوا عنه، فحلفوا أنهم ما كانوا مشركين. ومثاله: أن ترى إنسانا يحب غاويا مذموم الطريقة، فإذا وقع في محنة بسببه تبرأ منه، فيقال: له ما كانت محبتك لفلان إلا أن انتفيت منه.

    قال الخفاجي - بعد نقله ما ذكر -: وليس هذا من قبيل عتابك السيف، ولا من تقدير المضاف، وإن صح فاحفظه، فإنه من البدائع الروائع.

    الثاني: ما بيناه من أن (ما) في قوله تعالى: وضل عنهم ما كانوا يفترون موصولة، كناية عن الشركاء، بمعنى عدم إغنائها عنهم - هو الموافق للآية الثانية التي سقناها. وجوز كونها مصدرية. أي: انظر كيف ذهب وزال عنهم افتراؤهم من الإشراك، حتى نفوا صدوره عنهم بالكلية، وتبرؤوا منه بالمرة.

    هذا، وجعل الناصر في "الانتصاف": ضل بمعنى سلبوا علمه، فكأنهم نسوه وذهلوه دهشا. هو بعيد لعدم ملاقاته للآية الأخرى. والتنزيل يفسر بعضه بعضا. وعبارته: [ ص: 2275 ] في الآية دليل بين على أن الإخبار بالشيء على خلاف ما هو به، كذب، وإن لم يعلم المخبر مخالفة خبره بمخبره. ألا تراه جعل إخبارهم وتبريهم كذبا، مع أنه تعالى أخبر أنهم ضل عنهم ما كانوا يفترون. أي: سلبوا علمه حينئذ دهشا وحيرة. فلم يرفع ذلك إطلاق الكذب عليهم. انتهى.

    الثالث: قال الزمخشري: فإن قلت: كيف يصح أن يكذبوا حين يطلعون على حقائق الأمور، وعلى أن الكذب والجحود لا وجه لمنفعته؟

    قلت: الممتحن ينطق بما ينفعه وبما لا ينفعه، من غير تمييز بينهما، حيرة ودهشا، ألا تراهم يقولون: ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون ؟ وقد أيقنو بالخلود، ولم يشكوا فيه ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك وقد علموا أنه لا يقضى عليهم.

    وأما قول من يقول: معناه: ما كنا مشركين عند أنفسنا، وما علمنا أنا على خطأ في معتقدنا، وحمل قوله: انظر كيف كذبوا على أنفسهم يعني في الدنيا - فتمحل وتعسف وتحريف لأفصح الكلام، إلى ما هو عي وإفحام؛ لأن المعنى الذي ذهبوا إليه، ليس هذا الكلام بمترجم عنه، ولا منطبق عليه، وهو ناب عنه أشد النبو. وما أدري ما يصنع من ذلك تفسيره، بقوله تعالى: يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون بعد قوله تعالى: ويحلفون على الكذب وهم يعلمون فشبه كذبهم في الآخرة بكذبهم في الدنيا. انتهى.

    والقول المذكور، والحمل الذي ناقش فيه، أصله لأبي علي الجبائي والقاضي. فإنهما [ ص: 2276 ] ذهبا إلى أن أهل القيامة لا يجوز إقدامهم على الكذب، واعتلا بوجوه واهية ساقها الرازي. فلتنظر ثمت؛ فإنا لا نسود وجوه صحائفنا بما فيه تحكيم العقل على النقل.

    ثم بين تعالى بعض ما كان يصدر من مشركي مكة، مما طبع على قلوبهم بسببه فقال سبحانه:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [25] ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين

    ومنهم من يستمع إليك أي: يصغي حين تتلو القرآن، ولا يجزئ عنه شيئا؛ لأنه لا يتدبر فيه حتى يطلع على إعجازه، ويؤثر فيه الإرشاد: وجعلنا على قلوبهم أكنة أي: حجابا، جمع كنان، كغطاء وأغطية، لفظا ومعنى: أن يفقهوه أي: كراهة أن يفهموا، ببواطن قلوبهم، بواطنه التي بها إعجازه وإرشاده، بإقامة الدلائل ورفع الشبه. وفي آذانهم وقرا أي: وجعلنا في آذانهم، التي هي طريق الوصول إلى بواطن القلوب، صمما مانعا من وصول السماع النافع. وقد مر في أول البقرة تحقيق ذلك. فتذكر!

    وقوله تعالى: وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها إشارة إلى أنه لا يختص ما ذكر منهم بالقرآن، لرؤيتهم قصورا فيه، بل مهما يروا من الآيات والحجج مما يدل على صدق الرسول لا يؤمنوا بها، وحملوها على السحر. لفرط عنادهم، واستحكام التقليد فيهم، فلا فهم عندهم ولا إنصاف. كقوله تعالى: ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم

    حتى إذا جاءوك يجادلونك أي: بلغ تكذيبهم الآيات إلى أنهم إذا جاءوك يحاجونك ويناظرونك في الحق بالباطل. ثم فسر المجادلة بقوله: يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين [ ص: 2277 ] أي: أباطيلهم وأحاديثهم التي لا نظام لها. وعد أحسن الحديث وأصدقه، من قبيل الأباطيل: لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه - رتبة من الكفر لا غاية وراءها.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [26] وهم ينهون عنه وينأون عنه وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون

    وهم ينهون عنه أي: لا يقنعون بما ذكر من تكذيبه، بل ينهون الناس عن استماعه.

    قال المهايمي: وهم، لرؤيتهم حلاوة نظمه فوق نثرهم وشعرهم، مع متانة معانيه، يعرفون أن التدبر فيه يفيد التطلع على إعجازه. فيخافون تأثيره في قلوب الخلائق. لذلك ينهون عنه. أي: عن قراءته واستماعه؛ لئلا يدعوهم إلى التدبر فيه، فيفسد عليهم أغراضهم الفاسدة.

    وينأون عنه أي: يتباعدون عنه بأنفسهم، إظهارا لغاية نفورهم عنه، وتأكيدا لنهيهم عنه. فإن اجتناب الناهي عن المنهي عنه، من متممات النهي. ولعل ذلك هو السر في تأخير (النأي) عن (النهي) . أفاده أبو السعود.

    ولما أشعر ذلك بكونهم يبغون الغوائل لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، خوفا من قوة تأثير التنزيل في القلوب، أتبعه بأنه لا يحصل لهم هذا المطلوب؛ لأن الله متم نوره، ومظهر دينه، وإن الدائرة عليهم بقوله: وإن يهلكون إلا أنفسهم بتعريضها لأشد العذاب عاجلا وآجلا: وما يشعرون أي: بذلك.

    تنبيه:

    روى الحاكم وغيره، عن ثلة من التابعين، أن هذه الآية نزلت في أبي طالب، كان ينهى عن النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤذى، وينأى عنه فلا يؤمن به، وجمعيته حينئذ، باعتبار استتباعه لأتباعه.

    وروى ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أنها نزلت في عمومة النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا عشرة. [ ص: 2278 ] فكانوا أشد الناس معه في العلانية، وأشدهم عليه في السر، ولا يخفى أن لفظ التنزيل مما يصدق على ما ذكر ولا ينافيه، وهو المراد بالنزول - كما أسلفنا مرارا - وقد قال أبو طالب يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم:


    والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا

    فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة
    وابشر بذاك وقر منه عيونا

    ودعوتني وزعمت أنك ناصح
    ولقد صدقت وكنت ثم أمينا

    وعرضت دينا لا محالة أنه
    من خير أديان البرية دينا

    لولا الملامة أو حذاري سبة
    لوجدتني سمحا بذاك مبينا



    وفي (ينهون) و (ينأون) تجنيس بديع.

    ولما أخبر تعالى أنهم يهلكون أنفسهم، شرح كيفيته مع بيان ما سيصدر عنهم في الآخرة. من القول المناقض لعقدهم الدنيوي، بقوله سبحانه:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [27] ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين

    ولو ترى إذ وقفوا على النار أي: اطلعوا عليها فعاينوها. يقال: وقف فلانا على ذنبه: أطلعه عليه. أو أدخلوها فعرفوا ما فيها من العذاب. يقال: وقفت على ما عند فلان، تريد: فهمته وتبينته. والوقف عليه مجازي، أو هو حقيقي بمعنى القيام. و (على) إما على حقيقتها. أي: أقيموا واقفين فوق النار على الصراط، وهو جسر فوق جهنم. أو هي بمعنى (في)، أي: أقيموا في جوف النار وغاصوا فيها، وهي محيطة بهم. وصحح معنى الاستعلاء حينئذ كون النار دركات وطبقات، بعضها فوق بعض.

    [ ص: 2279 ] فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين تمنوا الرجوع إلى الدنيا، حين لا رجوع، واعدين أن لا يكذبوا بما جاءهم، وأن يكونوا من المؤمنين، أي: بآياته، العاملين بمقتضاها، حتى لا نرى هذا الموقف الهائل. أو من فريق المؤمنين الناجين من العذاب، الفائزين بحسن المآب.

    تنبيه:

    جواب (لو) محذوف، تفخيما للأمر، وتعظيما للشأن، وجاز حذفه لعلم المخاطب به. وأشباهه كثيرة في القرآن والشعر. ولو قدرت الجواب. كان التقدير: لرأيت سوء منقلبهم. وحذف الجواب في ذلك أبلغ في المعنى من إظهاره؛ ألا ترى أنك لو قلت لغلامك: والله لئن قمت إليك. وسكت عن الجواب، ذهب بفكره إلى أنواع المكروه من الضرب والقتل والكسر، وعظم الخوف، ولم يدر أي الأقسام تبغي. ولو قلت: لأضربنك، فأتيت بالجواب لأمن غير الضرب، ولم يخطر بباله نوع من المكروه سواه. فثبت أن حذف الجواب أقوى تأثيرا في حصول الخوف - أفاده الرازي - وملخصه: أن حذف الجواب ثقة بظهوره، وإيذانا بقصور العبارة عن تفصيله.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #323
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,172

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْأَنْعَامِ
    المجلد السادس
    صـ 2280 الى صـ 2294
    الحلقة (323)


    القول في تأويل قوله تعالى:

    [28] بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون

    بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل إضراب عما يدل عليه تمنيهم الباطل من الوعد، بالتصديق والإيمان، أي: ليس ذلك عن عزم صحيح، وخلوص اعتقاد، بل هو بسبب آخر، وهو أنه ظهر لهم ما كانوا يكتمون في أنفسهم من الكفر والشرك، بقولهم: والله ربنا ما كنا مشركين ، وعرفوا أنهم هالكون بشركهم، فتمنوا لذلك. [ ص: 2280 ] أو بشهادة جوارحهم عليهم، أو ما كانوا يكتمون في أنفسهم في الدنيا من صدق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن كانوا يظهرون لأتباعهم خلافه، كقوله تعالى مخبرا عن موسى أنه قال لفرعون: قال لقد علمت ما أنـزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر الآية. - وقوله تعالى مخبرا عن فرعون وقومه: وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا أو هذه الآية إخبار عن حال المنافقين، وأنه يظهر نفاقهم الذي كانوا يسرونه. ولا ينافي هذا كون السورة مكية، والنفاق إنما كان من بعض أهل المدينة، ومن حولها من الأعراب بعد الهجرة؛ لأن الله تعالى ذكر وقوع النفاق في سورة مكية وهي (العنكبوت) فقال: وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين هذا ما ذكروه مما يمكن تنزيل اللفظ الكريم عليه لعمومه. وقد ناقش في ذلك كله العلامة أبو السعود، واعتمد أن المراد ب (ما كانوا يخفونه في الدنيا) النار التي وقفوا عليها؛ إذ هي التي سيق الكلام لتهويل أمرها، والتعجيب من فظاعة حال الموقوفين عليها، و (بإخفائها) تكذيبهم بها، فإن التكذيب بالشيء كفر به، وإخفاء له لا محالة. وإيثار على صريح التكذيب الوارد في قوله عز وجل: هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون وقوله تعالى: هذه النار التي كنتم بها تكذبون مع كونه أنسب بما قبله من قولهم: [ ص: 2281 ] ولا نكذب بآيات ربنا لمراعاة ما في مقابلته من البدو. هذا هو الذي تستدعيه جزالة النظم الكريم.

    ثم قال في الوجوه المتقدمة: إنه بعد الإغضاء عما في كل منها من الاعتساف والاختلال، لا سبيل إلى شيء من ذلك أصلا. لما عرفت من أن سوق النظم الشريف لتهويل أمر النار، وتفظيع حال أهلها، وقد ذكر وقوفهم عليها، وأشير إلى أنه اعتراهم عند ذلك من الخوف والخشية والحيرة والدهشة ما لا يحيط به الوصف. ورتب عليه تمنيهم المذكور ب (الفاء) القاضية بسببية ما قبلها لما بعدها، فإسقاط النار بعد ذلك من تلك السببية، وهي نفسها أدهى الدواهي، وأزجر الزواجر، وإسنادها إلى شيء من الأمور المذكورة التي دونها في الهول والزجر، مع عدم جريان ذكرها، ثمة - أمر يجب تنزيه ساحة التنزيل عن أمثاله. وأما ما قيل من أن المراد جزاء ما كانوا يخفون، فمن قبيل دخول البيوت من ظهورها، وأبوابها مفتوحة. فتأمل.

    أقول: لا ريب في بلاغة ما قرره ونفاسته، لولا تكلفه حمل الإخفاء على ما ذكره، مما هو غير ظاهر فيه، وليس له نظائر في التنزيل الكريم. فمجازيته حينئذ من قبل المعمى. وفي الوجوه الأول إبقاؤه على حقيقته بلا تكلف، وشموله لها - غير بعيد؛ لأن في كل منها ما يؤيده، كما بيناه. غاية الأمر أن ما قرره وجه منها بديع. وأما كونه المراد لا غير، فدونه خرط القتاد - والله أعلم بأسرار كتابه -.

    ولو ردوا أي: عن موقفهم ذلك إلى الدنيا كما تمنوه، وغاب عنهم ما شاهدوه من الأهوال: لعادوا لما نهوا عنه من الكفر والشرك: وإنهم لكاذبون في وعدهم بالإيمان، أو ديدنهم الكذب في أحوالهم.
    [ ص: 2282 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [29] وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين

    وقالوا عطف على (لعادوا) أو استئناف إن هي أي: ما الحياة، فالضمير لما بعده إلا حياتنا الدنيا لأي: ليست الحياة التي يتوهم فيها البعث، والتي يتوهم فيه الرد إلا حياتنا الأولى: وما نحن بمبعوثين أي: بعد مفارقتنا هذه الحياة.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [30] ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون

    ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال الجلال: أي: عرضوا عليه. وقال ابن كثير: أي: وقفوا بين يديه قال أليس هذا أي: المعاد: بالحق تقريعا لهم، وردا لما يتوهمون عند الرد: قالوا بلى وربنا أي: إنه لحق، وليس بباطل، كما كنا نظن. أكدوا اعترافهم باليمين إظهارا لكمال يقينهم بحقيته، وإيذانا بصدور ذلك عنهم بالرغبة والنشاط، طمعا في نفعه قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [31] قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون

    قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله أي: ببلوغ الآخرة وما يتصل بها، أو هو مجرى على ظاهره؛ لأن منكر البعث منكر للرؤية - قاله النسفي - والثاني هو الصواب، وإن [ ص: 2283 ] اقتصر كثيرون على الأول، وجعلوه استعارة تمثيلية لحالهم بحال عبد قدم على سيده بعد مدة، وقد اطلع السيد على أحواله. فإما أن يلقاه ببشر لما يرضى من أفعاله، أو بسخط لما يسخط منها - فإنه نزعة اعتزالية، ولا عدول إلى المجاز ما أمكنت الحقيقة.

    وفي كلام النسفي إشعار بأن اللقاء معناه الرؤية، وهو ما في القاموس. قال شارحه الزبيدي: وهو مما نقدوه، وأطالوا فيه البحث، ومنعوه. وقالوا: لا يلزم من الرؤية اللقي، كالعكس.

    وقال الراغب: هو مقابلة الشيء ومصادفته معا، ويعبر به عن كل منهما. ويقال ذلك في الإدراك بالحس والبصر.

    لطيفة:

    قال الخفاجي في "العناية": قيل: روي عن علي رضي الله عنه أنه نظم أبياتا على وفق هذه الآية، وفي معناها وهي:


    زعم المنجم والطبيب، كلاهما لا تحشر الأجساد قلت إليكما

    إن صح قولكما فلست بخاسر
    أو صح قولي، فالخسار عليكما


    قال الخفاجي: لا أدري من أيهما أعجب؟ الرواية أم الدراية؟ فإن هذا الشعر لأبي العلاء المعري في ديوانه وهو:


    قال المنجم والطبيب، كلاهما: لا تحشر الأجساد. قلت: إليكما


    إن صح قولكما فلست بخاسر أو صح قولي، فالخسار عليكما


    أضحى التقى والشر يصطرعان في الد نيا. فأيهما أبر لديكما


    طهرت ثوبي للصلاة وقبله جسدي فأين الطهر من جسديكما


    وذكرت ربي في الضمائر مؤنسا خلدي بذاك، فأوحشا خلديكما


    [ ص: 2284 ] وبكرت في البردين أبغي رحمة منه، ولا ترعان في برديكما


    إن لم تعد بيدي منافع بالذي آتي، فهل من عائد بيديكما


    برد التقي، وإن تهلهل نسجه خير، بعلم الله، من برديكما


    قال ابن السيد في "شرحه". هذا منظوم مما روي عن علي رضي الله عنه، أنه قال لبعض من تشكك في البعث والآخرة: إن كان الأمر كما تقول من أنه لا قيامة، فقد تخلصنا جميعا، وإن لم يكن الأمر كما تقول، فقد تخلصنا وهلكت. فذكروا أنه ألزمه فرجع عن اعتقاده. وهذا الكلام، وإن خرج مخرج الشك. فإنما هو تقرير للمخاطب على خطابه، وقلة أخذه بالنظر والاحتياط لنفسه. مع أن المناظر على ثقة من أمره، وهو نوع من أنواع الجدل.

    وقوله: (إليكما) كلمة يراد بها الردع والزجر. ومعناها: كفا عما تقولان، وحقيقته: قولكما مصروف لكما، لا حاجة لي به. انتهى.

    ومن له معرفة بقرض الشعر، يعلم أنه شعر مولد.

    ثم نبه الخفاجي على أن هذا النوع يسمى استدراجا.

    قال في "المثل السائر": الاستدراج نوع من البلاغة استخرجته من كتاب الله تعالى، وهو مخادعات الأقوال التي تقوم مقام مخادعات الأفعال، يستدرج الخصم حتى ينقاد ويذعن، [ ص: 2285 ] وهو قريب من المغالطة، وليس منها. كقوله تعالى: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب ألا ترى لطف احتجاجه على طريقة التقسيم بقوله: [ إن يك كاذبا فكذبه عائد عليه، وإن يصدق يصبكم بعض ما وعدكم به ] ، ففيه من الإنصاف والأدب ما لا يخفى. فإنه نبي صادق، فلا بد أن يصيبهم كل ما وعد به، لا بعضه، لكنه أتى بما هو أذعن لتسليمهم وتصديقهم، لما فيه من الملاطفة في النصح، بكلام منصف غير مشتط مشدد. أراهم أنه لم يعطه حقه، ولم يتعصب له، ويحام عنه، حتى لا ينفروا عنه. ولذا قدم قوله: كاذبا ، ثم ختم بقوله: إن الله لا يهدي إلخ، يعني: أنه نبي على الهدى، ولو لم يكن كذلك ما آتاه الله النبوة وعضده. وفيه من خداع الخصم واستدراجه ما لا يخفى. انتهى.

    وقوله تعالى: حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة أي: جاءتهم القيامة فجأة. وسميت القيامة (ساعة)؛ لأنها تفجأ الناس بغتة في ساعة لا يعلمها أحد إلا هو تعالى. والمعنى: جاءتهم منيتهم. على أن المراد بالساعة، الصغرى. قال الراغب: الساعة الكبرى بعث الناس للمحاسبة، والصغرى موت الإنسان، فساعة كل إنسان موته، وهي المشار إليها بقوله تعالى: قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة ومعلوم أن الحشر ينال الإنسان عند موته. انتهى. (وبغتة) مصدر في موضع الحال، أي: مباغتة، أو مصدر لمحذوف، أي: تبغتهم. أو للمذكور. فإن (جاءتهم)، بمعنى (بغتتهم).

    [ ص: 2286 ] قالوا يعني: منكري البعث، وهم كفار قريش، ومن سلك سبيلهم في الكفر والاعتقاد: يا حسرتنا أي: يا ندامتنا! والحسرة: التلهف على الشيء الفائت. وذكرت على وجه النداء للمبالغة. والمراد: تنبيه المخاطبين على ما وقع بهم من الحسرة على ما فرطنا أي: قصرنا: فيها أي: في الحياة الدنيا. أضمرت وإن لم يجر ذكرها، للعلم بها، أي: على ما ضيعنا فيها؛ إذ لم نكتسب من الاعتقادات والأخلاق والأعمال ما ينجينا، أو الضمير للساعة، أي: على ما فرطنا في شأنها، ومراعاة حقها، والاستعداد لها، وبالإيمان بها، واكتساب الأعمال الصالحة.

    وقال ابن جرير: الضمير يعود إلى الصفقة التي دل عليها قوله: قد خسر إلخ. إذ الخسران لا يكون إلا في صفقة بيع قد جرت. قال: والمعنى قد وكس الذين كذبوا بلقاء الله، ببيعهم الإيمان الذي يستوجبون به من الله رضوانه وجنته، بالكفر الذي يستوجبون به منه سخطه وعقوبته. ولا يشعرون ما عليهم من الخسران في ذلك. حتى تقوم الساعة. فإذا جاءتهم الساعة بغتة، فرأوا ما لحقهم من الخسران في بيعهم، قالوا حينئذ تندما: يا حسرتنا على ما فرطنا .

    وقوله تعالى: وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم حال من فاعل: قالوا ، فائدته الإيذان بأن عذابهم ليس مقصورا على ما ذكر من الحسرة على ما فات وزال، بل يقاسون -مع ذلك- تحمل الأوزار الثقال. والإيماء إلى أن تلك الحسرة من الشدة، بحيث لا تزول ولا تنسى بما يكابدونه من فنون العقوبات. قاله أبو السعود.

    والأوزار: جمع وزر، وهو في الأصل: الحمل الثقيل، سمي به الذنب لثقله على صاحبه. قيل: جعلها محمولة على الظهور استعارة تمثيلية، مثل لزومها لهم، على وجه لا يفارقهم، بذلك. وخص الظهر؛ لأنه المعهود حمل الأثقال عليه. كما عهد الكسب بالأيدي.

    [ ص: 2287 ] وقيل: هو حقيقة، لما روي عن السدي أنه قال: ليس من رجل ظالم يموت فيدخل قبره، إلا جاءه رجل قبيح الوجه، أسود اللون، منتن الريح، عليه ثياب دنسة، حتى يدخل معه قبره. فإذا رآه قال له: ما أقبح وجهك! قال: كذلك كان عملك قبيحا. قال: ما أنتن ريحك! قال: كذلك كان عملك منتنا. قال: ما أدنس ثيابك! قال فيقول: إن عملك كان دنسا. قال من أنت؟ قال: أنا عملك. قال: فيكون معه في قبره. فإذا بعث يوم القيامة قال له: إني كنت أحملك في الدنيا باللذات والشهوات، وأنت اليوم تحملني. قال: فيركب على ظهره فيسوقه، حتى يدخله النار. فذلك قوله تعالى: وهم يحملون الآية..

    قال الخفاجي: ولعل هذا تمثيل أيضا. وقريب منه ما قيل: من قال بالميزان، واعتقد وزن الأعمال، لا يقول إنه تمثيل. انتهى.

    ألا ساء ما يزرون أي: بئس ما يحملونه.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [32] وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون

    وما الحياة الدنيا إلا لعب أي: هزل، وعمل لا يجدي نفعا: ولهو أي: اشتغال بهوى وطرب، وما لا تقتضيه الحكمة، وما يشغل الإنسان عما يهمه مما يلتذ به ثم ينقضي.

    وللدار الآخرة خير للذين يتقون لدوامها، وخلوص منافعها ولذاتها عن المضار والآلام.

    أفلا تعقلون ذلك حتى تتقوا ما أنتم عليه من الكفر والمعاصي، ولا تؤثرون الأدنى الفاني، على الأعلى الباقي.

    وههنا [ ص: 2288 ] لطائف:

    الأولى: قال الرازي: اعلم أن المنكرين للبعث والقيامة تعظم رغبتهم في الدنيا، وتحصيل لذاتها. فذكر الله هذه الآية تنبيها على خساستها وركاكتها. واعلم أن نفس هذه الحياة لا يمكن ذمها؛ لأن هذه الحياة العاجلة، لا يصح اكتساب السعادات الأخروية إلا فيها. فلهذا السبب حصل في تفسير هذه الآية قولان:

    الأول: أن المراد منه حياة الكافر. قال ابن عباس: يريد حياة أهل الشرك والنفاق. والسبب في وصف حياة هؤلاء بهذه الصفة، أن حياة المؤمن يحصل فيها أعمال صالحة، فلا تكون لعبا ولهوا.

    والقول الثاني: إن هذا عام في حياة المؤمن والكافر. والمراد منه: اللذات الحاصلة في هذه الحياة، والطيبات المطلوبة في هذه الحياة، وإنما سماها (اللعب واللهو) لأن الإنسان، حال اشتغاله باللعب واللهو، يلتذ به. ثم عند انقراضه وانقضائه لا يبقى منه إلا الندامة. فذلك هذه الحياة، لا يبقى عند انقراضها إلا الحسرة والندامة.

    الثانية: قال الخفاجي: جمع اللهو واللعب في آيات. فتارة يقدم اللعب، كما هنا. وتارة قدم اللهو كما في العنكبوت. ولهذا التفنن نكتة مذكورة في "درة التأويل" ملخصا: أن الفرق بين اللهو واللعب، مع اشتراكهما في أنهما الاشتغال بما لا يعني العاقل ويهمه من هوى أو طرب، سواء كان حراما أم لا، أن اللهو أعم من اللعب، فكل لعب لهو، ولا عكس. فاستماع الملاهي لهو، وليس بلعب. وقد فرقوا ببينهما أيضا بأن اللعب ما قصد به تعجيل المسرة، والاسترواح به، واللهو كل ما شغل من هوى وطرب، وإن لم يقصد به [ ص: 2289 ] ذلك، كما نقل عن أهل اللغة، قالوا: واللهو، إذا أطلق، فهو اجتلاب المسرة بالنساء، كما قال امرؤ القيس:


    ألا زعمت بسباسة اليوم أنني كبرت وأن لا يحسن اللهو أمثالي


    وقال قتادة: اللهو، في لغة اليمن (المرأة). وقيل: اللعب طلب: المسرة والفرح بما لا يحسن أن يطلب به. واللهو: صرف الهم بما لا يصلح أن يصرف به.

    ولما كانت الآية ردا على الكفرة في إنكار الآخرة، وحصر الحياة في الحياة الدنيا، وليس في اعتقادهم إلا ما عجل من المسرة بزخرف الدنيا الفانية - قدم اللعب الدال على ذلك، وتمم باللهو. وأما في العنكبوت فالمقام لذكر قصر مدة الحياة وتحقيرها، بالقياس إلى الآخرة. ولذا ذكر باسم الإشارة المشعر بالتحقير. والاشتغال باللهو، مما يقصر به الزمان، وهو أدخل من اللعب فيه. وأيام السرور قصار، كما قال:


    وليلة إحدى الليالي الزهر لم تك غير شفق وفجر


    [ ص: 2290 ] الثالثة: في قوله تعالى: للذين يتقون تنبيه على أن ما ليس من أعمال المتقين، لعب ولهو.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [33] قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون

    وقوله تعالى: قد نعلم إنه ليحزنك قرئ بفتح الياء وضمها الذي يقولون أي: يقولون فيك، من أنك كاذب أو ساحر أو شاعر أو مجنون.

    قال أبو السعود: استئناف مسوق لتسليته صلى الله عليه وسلم عن الحزن الذي يعتريه، مما حكي عن الكفرة من الإصرار على التكذيب، والمبالغة فيه، ببيان أنه عليه الصلاة والسلام بمكانة من الله عز وجل، وأن ما يفعلونه في حقه فهو راجع إليه تعالى في الحقيقة، وأنه ينتقم منهم أشد انتقام. وكلمة (قد) لتأكيد العلم بما ذكر، المفيد لتأكيد الوعيد.

    وقوله تعالى: فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون الفاء للتعليل؛ لأن قوله تعالى: قد نعلم بمعنى لا تحزن، كما يقال في مقام المنع والزجر: نعلم ما تفعل! ووجه التعليل في تسليته له صلى الله عليه وسلم بأن التكذيب في الحقيقة لي، وأنا الحليم الصبور، فتخلق بأخلاقي.

    قال أبو السعود: وهذا يفيد بلوغه عليه الصلاة والسلام في جلالة القدر، ورفعة المحل، والزلفى من الله عز وجل، إلى حيث لا غاية وراءه، حيث لم يقتصر على جعل تكذيبه عليه الصلاة والسلام تكذيبا لآياته سبحانه، على طريقة قوله تعالى: من يطع الرسول فقد أطاع الله بل نفى تكذيبهم عنه، وأثبت لآياته تعالى على طريقة قوله تعالى: إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله [ ص: 2291 ] إيذانا بكمال القرب، واضمحلال شؤونه عليه الصلاة والسلام في شأن الله عز وجل. وفيه استعظام لجنايتهم، منبئ عن عظم عقوبتهم. وقيل: المعنى: فإنهم لا يكذبونك بقلوبهم، ولكنهم يجحدون بألسنتهم، عنادا أو مكابرة. ويعضده ما روى سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن ناجية عن علي رضي الله عنه قال: قال أبو جهل للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا لا نكذبك، ولكن نكذب بما جئت به، فأنزل الله: فإنهم لا يكذبونك الآية. - رواه الحاكم وصححه.

    وروى ابن جرير عن السدي قال: لما كان يوم بدر، خلا الأخنس بأبي جهل فقال: يا أبا الحكم! أخبرني عن محمد، أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس ههنا من قريش غيري وغيرك يستمع كلامنا، فقال أبو جهل: ويحك! والله إن محمدا لصادق، وما كذب محمد قط، ولكن إذا ذهبت بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والنبوة، فماذا يكون لسائر قريش؟ فذلك قوله: فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون فآيات الله محمد صلى الله عليه وسلم.

    قال الرازي: وهذا القول غير مستبعد، ونظيره قوله تعالى في قصة موسى: وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا وقيل: المعنى فإنهم لا يكذبونك لأنك عندهم الصادق الموسوم بالصدق، ولكنهم يجحدون بآيات الله، كما يروى أن أبا جهل كان يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما نكذبك، وإنك عندنا لصادق، ولكننا نكذب ما جئتنا به.

    [ ص: 2292 ] قال أبو السعود: وكأن صدق المخبر عند الخبيث، بمطابقة خبره لاعتقاده. والأول هو الذي تستدعيه الجزالة التنزيلية. وقرئ: لا يكذبونك من (أكذبه). بمعنى وجده كاذبا، أو نسبه إلى الكذب، أو بين كذبه، وقال: أكذبه وكذبه بمعنى - كذا في القاموس وشرحه -.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [34] ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبإ المرسلين

    ولقد كذبت رسل من قبلك افتنان في تسليته عليه الصلاة والسلام، فإن عموم البلية ربما يهون أمرها بعض تهوين. وإرشاده صلى الله عليه وسلم إلى الاقتداء بمن قبله من الرسل الكرام، في الصبر على ما أصابهم من أممهم، من فنون الأذية. وعدة ضمينة له صلى الله عليه وسلم بمثل ما منحوه من النصر. وتصدير الكلام بالقسم، لتأكيد التسلية. وتنوين (رسل) للتفخيم والتكثير . أفاده أبو السعود.

    قال الزمخشري: في قوله تعالى: ولقد كذبت دليل على أن قوله: فإنهم لا يكذبونك ليس بنفي لتكذيبه، وإنما هو من قولك لغلامك: ما أهانوك، ولكنهم أهانوني! انتهى.

    وناقشه الناصر في "الانتصاف" بأنه لا دلالة فيه؛ لأنه مؤتلف مع نفي التكذيب أيضا، وموقعه حينئذ من الفضيلة أبين. أي: هؤلاء لم يكذبوك، فحقك أن تصبر عليهم، ولا يحزنك أمرهم. وإذا كان من قبلك من الأنبياء قد كذبهم قومهم، فصبروا عليهم، وأنت إذ لم يكذبوك أجدر بالصبر. فقد ائتلف، كما ترى، بالتفسيرين جميعا. ولكنه من غير الوجه الذي استدل به، فيه تقريب لما اختاره، وذلك أن مثل هذه التسلية قد وردت مصرحا بها [ ص: 2293 ] في نحو قوله تعالى: وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك فسلاه عن تكذيبهم له، بتكذيب غيرهم من الأمم لأنبيائهم. وما هو إلا تفسير حسن مطابق للواقع، مؤيد بالظاهر. والله أعلم.

    فصبروا على ما كذبوا وأوذوا أي: على تكذيبهم وإيذائهم، فتأس بهم: حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله أي: لمواعيده، من قوله: ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وقوله: كتب الله لأغلبن أنا ورسلي

    ولقد جاءك من نبإ المرسلين أي: من خبرهم في مصابرة الكافرين، وما منحوه من النصر، فلا بد أن نزيل حزنك بإهلاكهم، وليس إمهالهم لإهمالهم، بل لجريان سنته تعالى بتحقق صبر الرسل وشكرهم.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [35] وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين

    وإن كان كبر أي: شق وثقل عليك إعراضهم أي: عن الإيمان بما جئت به من القرآن، ونأيهم عنه، ونهيهم الناس عنه فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أي: سربا ومنفذا تنفذ فيه إلى ما تحت الأرض، حتى تطلع لهم آية يؤمنون [ ص: 2294 ] بها أو سلما في السماء أي: مصعدا تعرج به فيها فتأتيهم بآية أي: مما اقترحوه فافعل. وحسن حذف الجواب لعلم السامع به. أي: لكن لم يجعل الله لك هذه الاستطاعة، إذ يصير الإيمان ضروريا غير نافع.

    ولو شاء الله لجمعهم على الهدى أي: ولكنه شاء بمقتضى جلاله وجماله، إظهار غاية قهره، وغاية لطفه فلا تكونن أي: بالحرص على إيمانهم، أو الميل إلى نزول مقترحهم: من الجاهلين أي: بما تقتضيه شؤونه تعالى، التي من جملتها ما ذكر من عدم تعلق مشيئته تعالى بإيمانهم. إما اختيارا، فلعدم توجههم إليه. وإما اضطرارا، فلخروجه عن الحكمة التشريعية المؤسسة على الاختبار.

    تنبيهات:

    الأول: في هذه الآية ما لا يخفى من الدلالة على المبالغة في حرصه صلى الله عليه وسلم على إسلام قومه. وتراميه عليه، إلى حيث لو قدر أن يأتيهم بآية من تحت الأرض، أو من فوق السماء، لأتى بها. رجاء إيمانهم، وشفقة عليهم.

    الثاني: قال الناصر في "الانتصاف": هذه الآية كافلة بالرد على القدرية في زعمهم أن الله تعالى شاء جمع الناس كلهم على الهدى فلم يكن. ألا ترى أن الجملة مصدرة ب (لو)، ومقتضاها امتناع جوابها، لامتناع الواقع بعدها. فامتناع اجتماعهم على الهدى، إذ إنما كان لامتناع المشيئة. فمن ثم ترى الزمخشري يحمل المشيئة على قهرهم على الهدى بآية ملجئة، لا يكون الإيمان معها اختيارا، حتى يتم له أن هذا الوجه من المشيئة لم يقع، وأن مشيئته اجتماعهم على الهدى على اختيار منهم، ثابتة غير ممتنعة، ولكن لم يقع متعلقها. وهذه من خباياه ومكامنه فاحذرها. والله الموفق.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #324
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,172

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْأَنْعَامِ
    المجلد السادس
    صـ 2295 الى صـ 2311
    الحلقة (324)




    الثالث: لم يقل: (لا تكن جاهلا) بل من قوم ينسبون إلى الجهل، تعظيما لنبيه صلى الله عليه وسلم [ ص: 2295 ] بأن لم يسند الجهل إليه، للمبالغة في نفيه عنه. وما فيه من شدة الخطاب، سره تبعيد جنابه الكريم عن الحرص على ما لا يكون والجزع في مواطن الصبر، مما لا يليق إلا بالجاهلين.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [36] إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون

    وقوله تعالى: إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون تقرير لما مر من أن على قلوبهم أكنة، وتحقيق لكونهم بذلك من قبيل الموتى، لا يتصور منهم الإيمان البتة. أي: إنما يستجيب لك، بقبول دعوتك إلى الإيمان، الأحياء الذي يسمعون ما يلقى إليهم، سماع تفهم، دون الموتى الذين هؤلاء منهم. كقوله تعالى: إنك لا تسمع الموتى وإن كانوا أحياء بالحياة الحيوانية، أموات بالنسبة إلى الإنسانية، لموت قلوبهم بسموم الاعتقادات الفاسدة، والأخلاق الرديئة.

    و: الموتى مبتدأ. يعني: الكفار الذين لا يسمعون ولا يستجيبون، يبعثهم الله يوم القيامة، ثم إليه يرجعون، فيجزيهم بأعمالهم. فالموتى مجاز عن الكفرة كما قيل:


    لا يعجبن الجهول بزته فذاك ميت ثيابه كفن


    قيل: فيه رمز إلى أن هدايتهم كبعث الموتى، فلا يقدر عليه إلا الله، ففيه إقناط للرسول صلى الله عليه وسلم عن إيمانهم. وفي تسميتهم (موتى) من التهكم بهم، والإزراء عليهم، ما لا يخفى.
    [ ص: 2296 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [37] وقالوا لولا نـزل عليه آية من ربه قل إن الله قادر على أن ينـزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون

    وقالوا يعني: مشركي مكة، بيان لنوع آخر من تعنتهم؛ إذ لم يقتنعوا بما شاهدوا من البينات التي تخر لها صم الجبال لولا نـزل عليه آية من ربه أي: خارق، على مقتضى ما كانوا يريدون ومما يتعنتون. كقولهم: وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا الآيات.

    قل إن الله قادر على أن ينـزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون أي: إن اقتراحهم جهل؛ لما أن في تنزيلها قلعا لأساس التكليف، المبني على قاعدة الاختيار. أو استئصالا لهم بالكلية، فإن من لوازم جحد الآية الملجئة، الهلاك، جريا على سنته تعالى في الأمم السالفة. وتخصيص عدم العلم بأكثرهم، لما أن بعضهم واقفون على حقيقة الحال، وإنما يفعلون ما يفعلون مكابرة وعنادا.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [38] وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون

    وما من دابة في الأرض أي: مستقرة فيها، لا ترتفع عنها: ولا طائر يرتفع عنها إذ: يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم أي: أصناف مصنفة في ضبط أحوالها، وعدم إهمال شيء منها، وتدبير شؤونها، وتقدير أرزاقها.

    [ ص: 2297 ] ما فرطنا في الكتاب أي: ما تركنا، وما أغفلنا، في لوح القضاء المحفوظ من شيء أي: جليل أو دقيق، فإنه مشتمل على ما يجري في العالم، لم يهمل فيه أمر شيء: والمعنى: أن الجميع علمهم عند الله، لا ينسى واحدا منها من رزقه وتدبيره. كقوله: وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين أي: مفصح بأسمائها وأعدادها ومظانها، وحاصر لحركاتها وسكناتها ثم إلى ربهم يحشرون يعني: الأمم كلها، من الدواب والطير، فينصف بعضهم من بعض، حتى يبلغ من عدله أن يأخذ للجماء من القرناء. وإيراد ضميرها على صيغة جمع العقلاء. لإجرائها مجراهم.

    تنبيهات:

    الأول: قال الزمخشري: إن قلت: فما الغرض في ذكر ذلك؟ قلت: الدلالة على عظم قدرته، ولطف علمه، وسعة سلطانه، وتدبيره تلك الخلائق المتفاوتة الأجناس، المتكاثرة الأصناف، وهو حافظ لما لها وما عليها، مهيمن على أحوالها، لا يشغله شأن عن شأن، وأن المكلفين ليسوا بمخصوصين بذلك دون من عداهم من سائر الحيوان. وقال الرازي: المقصود أن عناية الله حاصلة لهذه الحيوانات، فلو كان إظهار آية ملجئة مصلحة، لأظهرها، فيكون كالدليل على أنه تعالى قادر على أن ينزل آية.

    وقال القاضي: إنه تعالى لما قدم ذكر الكفار، وبين أنهم يرجعون إلى الله ويحشرون، بين بعده بقوله: وما من دابة إلخ، أن البعث حاصل في حق البهائم أيضا.

    الثاني: زيادة (من) في قوله: وما من دابة في الأرض لتأكيد الاستغراق. و (في) متعلقة بمحذوف هو وصف ل: دابة مفيد لزيادة التعميم. كأنه قيل: وما فرد من [ ص: 2298 ] أفراد الدواب يستقر في قطر من أقطار الأرض. وكذا زيادة الوصف في قوله: يطير بجناحيه

    قال في "الانتصاف": في وجه زيادة التعميم، أن موقع قوله: في الأرض و: يطير بجناحيه موقع الوصف العام - وصفة العام عامة - ضرورة المطابقة، فكأنه مع زيادة الصفة، تضافرت صفتان عامتان.

    الثالث: قال الزمخشري: إن قلت: كيف قيل (الأمم) مع إفراد الدابة والطائر؟ قلت: لما كان قوله تعالى: وما من دابة في الأرض ولا طائر دالا على معنى الاستغراق، ومغنيا عن أن يقال: وما من دواب ولا طير، حمل قوله: إلا أمم على المعنى.

    الرابع: دلت الآية على أن كل صنف من البهائم أمة، وجاء في الحديث: «لولا أن الكلاب أمة من الأمم، لأمرت بقتلها» - رواه أبو داود والترمذي عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه.

    الخامس: ما ذكرناه في معنى مماثلة الأمم لنا، من تدبيره تعالى لأمورها، وتكفله برزقها، وعدم إغفال شيء منها مما يبين شمول القدرة، وسعة العلم - هو الأظهر. موافقة لقوله تعالى: وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم الآية. - والقرآن يفسر بعضه بعضا. ونقل الواحدي عن ابن عباس أن المماثلة هي في معرفته تعالى، وتوحيده وتسبيحه وتحميده. كقوله تعالى: وإن من شيء إلا يسبح بحمده وقوله: [ ص: 2299 ] كل قد علم صلاته وتسبيحه .

    وعن أبي الدرداء قال: أبهمت عقول البهائم عن كل شيء إلا عن أربعة أشياء: معرفة الإله، وطلب الرزق، ومعرفة الذكر والأنثى، وتهيؤ كل واحد منهم لصاحبه.

    وقيل: المماثلة في أنها تحشر يوم القيامة كالناس.

    أقول: لا شك في صحة الوجهين بذاتهما، وصدق المثلية فيهما، ولكن الحمل عليهما يبعده عدم ملاقاته للآية الأخرى. فالأمس، تأييدا للنظائر، ما ذكرناه أولا. والله أعلم.

    السادس: ما بيناه في معنى (الكتاب) من أنه اللوح المحفوظ في العرش، وعالم السماوات المشتمل على جميع أحوال المخلوقات على التفصيل التام - هو الأظهر، لملاقاته للآية التي ذكرناها تأييدا للنظائر القرآنية. ولم يذكر الإمام ابن كثير سواه، على توسعه.

    وقيل: المراد منه القرآن كقوله تعالى: ونـزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء قال الخفاجي: قيل: حمله على القرآن لا يلائم ما قبله وما بعده. ويدفع بأن المعنى: لم نترك شيئا من الحجج وغيرها إلا ذكرناه، فكيف يحتاج إلى آية أخرى مما اقترحوه، ويكذب بآياتنا؟ فالكلام بعضه آخذ بحجز بعض بلا شبهة.

    وقال أبو السعود: أي: ما تركنا في القرآن شيئا من الأشياء المهمة التي من جملتها بيان أنه تعالى مراع لمصالح جميع مخلوقاته.

    قال الشهاب في قول البيضاوي (فإنه قد دون فيه ما يحتاج إليه من أمر الدين مفصلا [ ص: 2300 ] أو مجملا): يشير إلى أن ما ثبت بالأدلة الثلاثة ثابت بالقرآن، لإشارته بنحو قوله: فاعتبروا يا أولي الأبصار إلى القياس. وقوله: وما آتاكم الرسول فخذوه إلى السنة. بل قيل: إنه بهذه الطريقة يمكن استنباط جميع الأشياء منه. كما سأل بعض الملحدين بعضهم عن طبخ الحلوى، أين ذكر في القرآن؟ فقال: في قوله تعالى: فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون انتهى.

    واستظهر الرازي أن المراد (بالكتاب) القرآن. واحتج بأن الألف واللام إذا دخلا على الاسم المفرد، انصرف إلى المعهود السابق، والمعهود السابق من الكتاب عند المسلمين هو القرآن. فوجب أن يكون المراد من (الكتاب) في هذه الآية القرآن. إذا ثبت هذا، فلقائل أن يقول: كيف قال تعالى: ما فرطنا في الكتاب من شيء مع أنه ليس فيه تفاصيل علم [ ص: 2301 ] الطب، وتفاصيل علم الحساب، ولا تفاصيل كثير من المباحث والعلوم. وليس فيه أيضا تفاصيل مذاهب الناس ودلائلهم في علم الأصول والفروع؟

    والجواب: أن قوله: ما فرطنا في الكتاب من شيء يجب أن يكون مخصوصا ببيان الأشياء التي يجب معرفتها، والإحاطة بها، وبيانه من وجهين:

    الأول: أن لفظ (التفريط) لا يستعمل نفيا ولا إثباتا، إلا فيما يجب أن يبين؛ لأن أحدا لا ينسب إلى التفريط والتقصير في أن لا يفعل ما لا حاجة إليه، وإنما يذكر هذا اللفظ فيما إذا قصر فيما يحتاج إليه.

    الثاني: أن جميع آيات القرآن، أو الكثير منها، دالة بالمطابقة أو التضمين أو الالتزام على أن المقصود من إنزال هذا الكتاب بيان الدين، ومعرفة الله، ومعرفة أحكام الله. وإذا كان هذا التقييد معلوما من كل القرآن، كان المطلق ههنا محمولا على ذلك المقيد. أما قوله: إن هذا الكتاب غير مشتمل على جميع علوم الأصول والفروع، فنقول: أما علم الأصول فإنه بتمامه حاصل فيه؛ لأن الدلائل الأصلية مذكورة فيه على أبلغ الوجوه. فأما روايات المذاهب، وتفاصيل الأقاويل، فلا حاجة إليها. وأما تفاصيل علم الفروع، فقال العلماء: إن القرآن دل على أن الإجماع، وخبر الواحد، والقياس، حجة في الشريعة. فكل ما دل عليه أحد هذه الأصول الثلاثة، كان ذلك في الحقيقة موجودا في القرآن.

    وذكر الواحدي رحمه الله لهذا المعنى أمثلة ثلاثة:

    المثال الأول: روي أن ابن مسعود كان يقول: ما لي لا ألعن من لعنه الله في كتابه؟ [ ص: 2302 ] يعني: الواشمة والمستوشمة; والواصلة والمستوصلة.

    وروي أن امرأة قرأت القرآن، ثم أتته، فقالت: يا ابن أم عبد! تلوت البارحة ما بين الدفتين، فلم أجد فيه لعن الواشمة والمستوشمة! فقال. لو تلوتيه لوجدتيه، قال الله تعالى: وما آتاكم الرسول فخذوه وإن مما آتانا به رسول الله أنه قال: لعن الله الواشمة والمستوشمة.

    قال الرازي: وأقول: يمكن وجدان هذا المعنى في كتاب الله بطريق أوضح من ذلك؛ لأنه تعالى قال في سورة النساء: وإن يدعون إلا شيطانا مريدا لعنه الله فحكم [ ص: 2303 ] عليه باللعن، ثم عدد بعده قبائح أفعاله، وذكر من جملتها قوله: ولآمرنهم فليغيرن خلق الله . وظاهر هذه الآية يقتضي أن تغيير الخلق يوجب اللعن. انتهى.

    قلت: وتتمة الحديث تؤيد ذلك أيضا. ولفظه: لعن الله الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله. رواه الإمام أحمد والشيخان وأصحاب السنن عن ابن مسعود.

    ثم قال الرازي:

    المثال الثاني: ذكر أن الشافعي رحمه الله كان جالسا في المسجد الحرام فقال: لا تسألوني عن شيء إلا أجبتكم فيه من كتاب الله تعالى. فقال رجل: ما تقول في المحرم إذا قتل الزنبور؟ فقال: لا شيء عليه، فقال: أين هذا في كتاب الله؟ فقال: قال الله تعالى: وما آتاكم الرسول فخذوه ثم ذكر إسنادا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي. ثم ذكر إسنادا إلى عمر رضي الله عنه أنه قال: للمحرم قتل الزنبور. قال الواحدي: فأجابه من كتاب الله مستنبطا بثلاث درجات.

    وأقول هاهنا طريق آخر أقرب منه، وهو أن الأصل في أموال المسلمين العصمة. قال تعالى: لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت وقال: ولا يسألكم أموالكم [ ص: 2304 ] وقال: لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم فنهى عن أكل أموال الناس. إلا بطريق التجارة، فعند عدم التجارة وجب أن يبقى على أصل الحرمة. وهذه العمومات تقتضي أن لا يجب على المحرم الذي قتل الزنبور شيء؛ وذلك لأن التمسك بهذه العمومات يوجب الحكم بمرتبة واحدة. المثال الثالث: قال الواحدي: روي في حديث العسيف الزاني أن أباه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: اقض بيننا بكتاب الله. فقال عليه السلام: والذي نفسي بيده! لأقضين بينكما بكتاب الله. [ ص: 2305 ] ثم قضى بالجلد والتغريب على العسيف، وبالرجم على المرأة إن اعترفت. قال الواحدي: وليس للجلد والتغريب ذكر في نص الكتاب. وهذا يدل على أن كل ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم فهو عين كتاب الله. قال الرازي: وهذا حق؛ لأنه تعالى قال: لتبين للناس ما نزل إليهم ، وكل ما بينه الرسول عليه الصلاة والسلام كان داخلا تحت هذه الآية. انتهى.

    وبالجملة، فالقرآن الكريم كلية الشريعة، والمجموع فيه أمور كليات؛ لأن الشريعة تمت بتمام نزوله، فإذا نظرنا إلى رجوع الشريعة إلى كلياتها، وجدناها قد تضمنها القرآن على الكمال. وقد جود البحث في هذه المسألة المهمة، العلامة الشاطبي في "الموافقات" في الطرف الثاني، في الأدلة على التفصيل. فارجع إليه.

    وقد نقلنا شذرة منه في مقدمة هذا التفسير. فتذكر!.

    السابع: قال أبو البقاء: من في قوله تعالى: من شيء زائدة. و (شيء) هنا واقع موقع المصدر. أي: تفريطا. وعلى هذا التأويل لا يبقى في الآية حجة لمن ظن أن الكتاب يحتوي على ذكر كل شيء صريحا. ونظير ذلك: لا يضركم كيدهم شيئا أي: [ ص: 2306 ] ضررا. وقد ذكرنا له نظائر. ولا يجوز أن يكون: شيئا مفعولا به؛ لأن: فرطنا تتعدى بنفسها، بل بحرف الجر، وقد عديت ب (في) إلى: الكتاب ، فلا تتعدى بحرف آخر، ولا يصح أن يكون المعنى: ما تركنا في الكتاب من شيء؛ لأن المعنى على خلافه، فبان أن التأويل ما ذكرنا. انتهى.

    وقال الخفاجي: التفريط التقصير. وأصله أن يتعدى ب (في) وقد ضمن هنا معنى (أغفلنا وتركنا). ف: من شيء في موضع المفعول به، و: من زائدة. والمعنى: ما تركنا في الكتاب شيئا يحتاج إليه من دلائل الألوهية والتكاليف.

    هذا ما ارتضاه أبو حيان والزمخشري، وعدل عنه البيضاوي؛ لأنه لا يتعدى. فجعل التقدير (تفريطا) فحذف المصدر، وأقيم: شيئا مقامه، وتبع فيه أبا البقاء، إذ اختار هذا، وأورد عليه في "الملتقط" أنه ليس كما ذكرنا؛ لأنه إذا تسلط النفي على المصدر، كان منفيا على جهة العموم، ويلزمه نفي أنواع المصدر، ونفي جميع أفراده، وليس بشيء؛ لأنه يريد أن المعنى حينئذ: أن جميع أنواع التفريط منفية عن القرآن، وهو مما لا شبهة فيه، ولا يلزمه أن يذكر فيه كل شيء كما لزم على الوجه الآخر، حتى يحتاج إلى التأويل. كما أن نفي تعديه لا يضر من قال إنه مفعول به على التضمين، كما مر، وأما ما قيل: إن (فرط) يتعدى بنفسه، لما وقع في القاموس (فرط الشيء، وفرط فيه تفريطا ضيعه وقدم العجز فيه وقصر) فلا نسلم أنه يتعدى بنفسه، وتفرد صاحب القاموس بأمر، لا يسمع في مقابلة الزمخشري وغيره. مع أنه يحتمل أن تعديته المذكورة فيه ليست وضعية، بل مجازية، أو بطريق التضمين. انتهى كلام الشهاب.

    أقول: ما للمجد في القاموس، ليس من تفرداته وعندياته، إذ اللغة مرجعها السماع، [ ص: 2307 ] لا الاجتهاد. وموازنته بين الزمخشري وغيره، من باب معرفة الحق بالرجال، الذي الصواب عكسه، على أنه ليس في "الكشاف"

    ما يقتضي ما زعمه. وقد استشهد شارح القاموس، الزبيدي شاهدا على تعديته بنفسه، تأييدا لكلام المجد، قول صخر الغي:


    ذلك بزي فلن أفرطه أخاف أن ينجزوا الذي وعدوا


    قال ابن سيده: يقول. لا أضيعه، وقوله: بزي، أراد سلاحي. ثم قال الزبيدي: وقال أبو عمرو: فرطتك في كذا وكذا، أي: تركتك. وبه فسر أيضا قول صخر. انتهى. وأنشد أبو السعود قول ساعدة بن جؤية:


    معه سقاء لا يفرط حمله


    أي: لا يتركه. وبه يعلم سقوط ما لأبي البقاء، وسقوط دعوى أن أصله أن يتعدى ب (في) ودعوى التضمين السابقة، وتكليف كون: شيء واقعا موقع المصدر.

    هذا وقرئ: "فرطنا" بالتخفيف، وهو بمعنى المشدد، وإنما توسعنا فيما روي على القول الثاني في معنى الكتاب، لشهرة الآية في هذا المعنى، وإن كان الأظهر الأول، لما ذكرناه، ولأن السورة مكية، والأحكام فيها لم تتم. والله أعلم.

    الثامن: دلت الآية على حشر الدواب والبهائم والطير كلها، أي: بعثها يوم القيامة. كقوله تعالى: وإذا الوحوش حشرت

    وروى الإمام أحمد عن أبي ذر رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى شاتين [ ص: 2308 ] تنتطحان، فقال: يا أبا ذر! هل تدري فيم تنتطحان؟ قال: لا. قال: لكن الله يدري، وسيقضي بينهما» . ورواه عبد الرزاق وابن جرير، وزاد: ولقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما يقلب طائر جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علما.

    وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في مسند أبيه عن عثمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الجماء لتقص من القرناء يوم القيامة» .

    وروى عبد الرزاق عن أبي هريرة في هذه الآية قال: «يحشر الخلق كلهم يوم القيامة: الدواب والبهائم والطير وكل شيء، فيبلغ من عدل الله يومئذ أن يأخذ للجماء من القرناء، ثم يقول: كوني ترابا! فلذلك يقول الكافر: يا ليتني كنت ترابا » . وقد روي هذا مرفوعا في حديث الصور. أفاده ابن كثير.

    قلت: روى الإمام أحمد، والبخاري في "الأدب المفرد" ومسلم والترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الجلحاء، من الشاة القرناء، تنطحها» .

    [ ص: 2309 ] وروى ابن أبي حاتم عن عكرمة عن ابن عباس في الآية قال: حشرها الموت. وروي عن مجاهد والضحاك مثله. والأول أظهر.

    التاسع: "في الإكليل": استدل بهذه الآية على مسألة أخرى، أخرجه أبو الشيخ عن أنس أنه سئل: من يقبض أرواح البهائم؟ قال: ملك الموت. فبلغ الحسن فقال: صدق! وإن ذلك في كتاب الله. ثم تلا هذه الآية.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [39] والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم

    والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات أي: مثلهم في جهلهم، وعدم فهمهم، وسوء حالهم الصم (جمع أصم وهو الذي لا يسمع) والبكم (جمع أبكم وهو الذي لا يتكلم). وهو مع ذلك في الظلمات لا يبصرون، فكيف يهتدي مثلهم إلى الطريق، أو يخرج مما هو فيه؟ وقد كثر تشبيههم بذلك في التنزيل، إعلاما ببيان كمال عراقتهم في الجهل، وانسداد باب الفهم والتفهيم بالكلية.

    ثم أشار إلى أنهم من أهل الطبع بقوله: من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم أي: فهو المتصرف في خلقه بما يشاء، فمن أحب هدايته، وفقه بفضله وإحسانه للإيمان. ومن شاء ضلالته تركه على كفره ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور .

    ثم أمر تعالى رسوله بأن يبكتهم بما لا سبيل لهم إلى إنكاره. ببيان أنهم إذا نزلت بهم شدة، فإنهم يفزعون إليه تعالى، لا إلى الأصنام، فقال تعالى:
    [ ص: 2310 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [40] قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين

    قل أرأيتكم أي: أخبروني: إن أتاكم عذاب الله أي: مثل ما نزل بالأمم الماضية الكافرة أو أتتكم الساعة يعني القيامة: أغير الله تدعون أي: في كشف العذاب عنكم، وهذا محط التبكيت. أي: أتخصون آلهتكم بالدعوة إلى رفع تلك الشدة، بل لا تدعونها مع الله أيضا: إن كنتم صادقين متعلق ب: أرأيتكم مؤكد للتبكيت، كاشف عن كذبهم.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [41] بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون

    بل إياه تدعون أي: تخصون بالدعوة: فيكشف ما تدعون إليه إن شاء أي: إن شاء كشفه. والتقييد بالمشيئة لبيان أن إجابتهم غير مطردة، بل هي تابعة لمشيئته تعالى، المبنية على حكم استأثر بعلمها: وتنسون ما تشركون أي: تتركون ما تشركون تركا كليا لعلمكم بأنها لا تضر ولا تنفع. عطف على: تدعون ، وتوسيط الكشف بينهما مع تقارنهما، وتأخر الكشف عنهما، لإظهار كمال العناية بشأن الكشف والإيذان بترتبه على الدعاء خاصة.

    ثم بين تعالى أن من كفار الأمم السالفة من بلغوا في القسوة إلى أن أخذوا بالشدائد ليخضعوا ويلتجئوا إلى الله تعالى، فلم يفعلوا. تسلية لنبيه صلى الله عليه وسلم فقال:
    [ ص: 2311 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [42] ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون

    ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك أي: رسلا، فكذبوهم ولم يبالوا، لكونهم في الرخاء فأخذناهم بالبأساء أي: الشدة والقحط والضراء أي: المرض ونقصان الأنفس والأموال: لعلهم يتضرعون أي: يتذللون ويتخشعون لربهم ويتوبون إليه من كفرهم ومعاصيهم، فالنفوس تتخشع عند نزول الشدائد.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [43] فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون

    فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا أي: بالتوبة والتمسكن. ومعناه. نفي التضرع.

    كأنه قيل: فلم يتضرعوا. وجيء ب (لولا) ليفيد أنه لم يكن لهم عذر في ترك التضرع إلا عنادهم، كما قال: ولكن قست قلوبهم فلم يكن فيها لين يوجب التضرع، ولم ينزجروا وإنما ابتلوا به وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون أي: من الشرك. فالاستدراك على المعنى لبيان الصارف لهم عن التضرع. وأنه لا مانع لهم إلا قساوة قلوبهم، وإعجابهم بأعمالهم المزينة لهم.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #325
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,172

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْأَنْعَامِ
    المجلد السادس
    صـ 2312 الى صـ 2327
    الحلقة (325)




    لطيفة:

    إن قلت: قد أسند تعالى هنا التزيين إلى الشيطان، وأسنده إلى نفسه في قوله: كذلك زينا لكل أمة عملهم . فهل هو حقيقة فيهما. أو في أحدهما؟ قلت: وقع التزيين [ ص: 2312 ] في مواقع كثيرة: فتارة أسنده إلى الشيطان، كالآية الأولى، وتارة إلى نفسه كالثانية، وتارة إلى البشر كقوله: وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم - في قراءة - وتارة مجهولا غير مذكور فاعله كقوله: زين للمسرفين ؛ لأن التزيين له معان يشهد بها الاستعمال واللغة: أحدها: إيجاد الشيء حسنا مزينا في نفس الأمر، كقوله تعالى: زينا السماء الدنيا والثاني: جعله مزينا من غير إيجاد، كتزيين الماشطة العروس، والثالث: جعله محبوبا للنفس، مشتهى للطبع، وإن لم يكن في نفسه كذلك. فهذا إن كان بمعنى خلق الميل في النفس والطبع لا يسند إلا إلى الله؛ لأنه الفاعل له حقيقة، لإيجاده له، ولغة ونحوا لاتصافه بخلقه. وإن كان بمجرد تزويره وترويجه بالقول وما يشبهه، كالوسوسة والإغواء، [ ص: 2313 ] فهذا لا يسند إليه تعالى حقيقة، وإنما يسند إلى البشر أو الشيطان، وإذا لم يذكر فاعله، يقدر في كل مكان ما يليق به. كذا في "العناية".
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [44] فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون

    فلما نسوا ما ذكروا به أي: من البأساء والضراء، أي: تركوا الاتعاظ به: فتحنا عليهم أبواب كل شيء أي: من النعم، كالصحة والسعة وراحة البال والأمن، وصنوف رغائبهم، استدراجا وإملاء ومكرا بهم، عياذا بالله من مكره حتى إذا فرحوا بما أوتوا من مطالبهم ورغائبهم، مع الشرك: أخذناهم أي: بالعذاب المستأصل بغتة أي: فجأة بلا تقديم مذكر، إذ لم يفدهم في المرة الأولى فإذا هم مبلسون متحسرون، يئسون من كل خير.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [45] فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين

    فقطع دابر القوم الذين ظلموا أي: آخرهم. كناية عن الاستئصال؛ لأن ذهاب آخر الشيء يستلزم ذهاب ما قبله. وهو من (دبره) إذا تبعه، فكان في دبره. أي: خلفه. فالدابر ما يكون بعد الآخر، ويطلق عليه تجوزا. وقال أبو عبيد: دابر القوم آخرهم. وقال الأصمعي: الدابر الأصل، ومنه: قطع الله دابره: أصله.

    والحمد لله رب العالمين أي: على ما جرى عليهم من الهلاك. فإن إهلاك الكفار والعصاة من حيث إنه تخليص لأهل الأرض، من شؤم عقائدهم وأعمالهم، نعمة جليلة يحق أن يحمد عليها، لا سيما مع ما فيه من إعلاء كلمة الحق التي نطقت بها رسلهم، عليهم السلام.

    [ ص: 2314 ] تنبيهات:

    الأول: روي في هذه الآية أخبار وآثار. منها ما أخرجه الإمام أحمد عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب، فإنما هو استدراج» . ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلما نسوا ما ذكروا به - إلى: هم مبلسون ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم عنه.

    وروى ابن أبي حاتم أيضا عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «إذا أراد الله بقوم اقتطاعا فتح لهم (أو فتح عليهم) باب خيانة حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة الآية.» . ورواه أحمد وغيره.

    وقال الحسن البصري: من وسع الله عليه، فلم ير أنه يمكر به، فلا رأي له. ومن قتر عليه، ولم ير أنه ينظر له، فلا رأي له. ثم قرأ: فلما نسوا الآية. - قال الحسن: مكر بالقوم ورب الكعبة! أعطوا حاجاتهم ثم أخذوا.

    وقال قتادة: بغت القوم أمر الله، وما أخذ الله قوما قط إلا عند سكرتهم وغرتهم ونعمتهم، فلا تغتروا بالله، فإنه لا يغتر بالله إلا القوم الفاسقون - روى ذلك ابن أبي حاتم -.

    الثاني: قال الرازي: قال أهل المعاني: وإنما أخذوا في حال الرخاء والراحة ليكون أشد، لتحسرهم على ما فاتهم من السلامة والعافية.

    الثالث: قال الزمخشري: في قوله تعالى: والحمد لله رب العالمين إيذان بوجوب الحمد عند هلاك الظلمة، وأنه من أجل النعم، وأجزل القسم. أي: فهو إخبار بمعنى الأمر، تعليما للعباد.

    [ ص: 2315 ] قال الناصر في "الانتصاف": ونظيرها قوله تعالى: وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى فيمن وقف ههنا، وجعل الحمد على إهلاك المتقدم ذكرهم من الطاغين، ومنهم من وقف على: المنذرين وجعل الحمد متصلا بما بعده من إقامة البراهين على وحدانية الله تعالى، وأنه جل جلاله خير مما يشركون. فعلى الأول يكون الحمد ختما، وعلى الثاني فاتحة، وهو مستعمل فيهما شرعا، ولكنه في آية النمل أظهر في كونه مفتتحا لما بعده، وفي آية الأنعام ختم لما تقدمه حتما؛ إذ لا يقتضي السياق غير ذلك. انتهى.

    فقلت: إذا جرينا على ما هو الأسد في الآي من توافق النظائر، اقتضى حمل آية النمل على ما هنا، وادعاء الأظهرية فيها ممنوع. فإن التنزيل يفسر بعضه بعضا. فتأمل. ثم أمر تعالى رسوله بتكرير التبكيت عليهم. وتثنية الإلزام.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [46] قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون

    يقول تعالى: قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم بأن أصمكم وأعماكم وختم على قلوبكم بأن غطى عليها ما يزول به عقلكم وفهمكم: من إله غير الله يأتيكم به أي: بذلك المأخوذ. وإنما خصت هذه الأعضاء الثلاثة بالذكر؛ لأنها أشرف أعضاء الإنسان، فإذا تعطلت اختل نظام الإنسان، وفسد أمره، وبطلت مصالحه في الدين والدنيا.

    انظر كيف نصرف الآيات أي: نوردها بطرق مختلفة، كتصريف الرياح. و (انظر) يفيد التعجيب من عدم تأثرهم بما عاينوا من الآيات الباهرة.

    [ ص: 2316 ] ثم هم يصدفون أي: بعد رؤيتهم تصريف الآيات يعرضون عنها، فلا يتأملون فيها، عنادا وحسدا وكبرا.

    تنبيهات:

    الأول: المراد بالآيات: إما مطلق الدلائل القرآنية مطلقا، أو ما ذكر من أول السورة إلى هنا، أو ما ذكر قبل هذا من المقدمات العقلية الدالة على وجود الصانع وتوحيده المشار إليها بقوله: ( إن أتاكم عذاب الله ) الآية.. ومن الترغيب بقوله: فيكشف ما تدعون إليه ، والترهيب بقوله: إن أخذ الله سمعكم الآية. ومن التنبيه والتذكير بأحوال المتقدمين. ذهب إلى كل بعض من المفسرين، وعموم اللفظ يصدق على ذلك كله بلا تدافع.

    الثاني: قال بعض المفسرين من الزيدية: دلت الآية على جواز الاحتجاج في أمر الدين. انتهى. وهو ظاهر.

    الثالث: المقصود من هذه الآية: بيان أن القادر على تحصيل هذه القوى الثلاث، وصونها عن الآفات، ليس إلا الله تعالى. وإذا كان الأمر كذلك، كان المنعم بهذه النعم العالية، والخيرات الرفيعة، هو الله تعالى. فوجب أن يقال: المستحق للتعظيم والثناء والعبودية ليس إلا الله تعالى. وذلك يدل على أن عبادة الأصنام طريقة باطلة فاسدة - قرره الرازي -.

    ثم أشار تعالى إلى تبكيت لهم آخر بإلجائهم إلى الاعتراف باختصاص العذاب بهم بقوله سبحانه:
    [ ص: 2317 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [47] قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون

    قل أرأيتكم إن أتاكم لإعراضكم عن الآيات بعد تصريفها: عذاب الله أي: المستأصل لكم بغتة أي: فجأة من غير تقديم ما يشعر به، إذ لم يفد ما تقدم أو جهرة بتقديمه مبالغة في إزاحة العذر. وقيل: ليلا أو نهارا، كما في قوله تعالى: بياتا أو نهارا لما أن الغالب فيما أتى ليلا البغتة، وفيما أتى نهارا الجهرة: هل يهلك إلا القوم الظالمون أي: هل يهلك بذلك العذاب إلا أنتم؟ ووضع الظاهر موضعه، تسجيلا عليهم بالظلم. وإيذانا بأن مناط إهلاكهم ظلمهم الذي هو وضعهم الإعراض عما صرف الله له من الآيات، موضع الإيمان.

    ثم أشار تعالى إلى وظيفة الرسل، وتحقيق ما في عهدتهم، لبيان أن ما يقترحه الكفار عليه، صلى الله عليه وسلم، ليس مما يتعلق بالرسالة أصلا، بقوله سبحانه:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [48] وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون

    وما نرسل المرسلين إلا مبشرين بالثواب لأهل الإيمان والأعمال الصالحة ومنذرين بالعقاب لأهل الكفر والمعاصي فمن آمن وأصلح للأعمال والأخلاق، فهم أهل البشارة فلا خوف عليهم أي: من العذاب الذي أنذروا به دنيويا وأخرويا ولا هم يحزنون أي: بفوات ما بشروا به من الثواب العاجل والآجل.
    [ ص: 2318 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [49] والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون

    والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب أي: الذي أنذروا به عاجلا أو آجلا: بما كانوا يفسقون أي: عن أمر الله في ترك الإيمان، ومباشرة الأعمال الطالحة واكتساب الأخلاق الرديئة.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [50] قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون

    قوله تعالى: قل لا أقول لكم عندي خزائن الله أي: قل لهؤلاء المشركين المقترحين عليك تارة تنزيل الآيات، وأخرى غير ذلك: لا أدعي أن خزائن رزق الله مفوضة إلي، فأعطيكم منها ما تريدون من قلب الجبال ذهبا، وغير ذلك.

    [ والخزائن: جمع خزانة، وهي اسم للمكان الذي يخزن فيه الشيء، وخزن الشيء إحرازه، بحيث لا تناله الأيدي ] .

    ولا أعلم الغيب أي: من أفعاله تعالى حتى تسألوني عن وقت الساعة، أو وقت نزول العذاب أو نحوهما.

    ولا أقول لكم إني ملك أي: حتى تكلفوني من الأفاعيل الخارقة للعادات ما لا يطيقه البشر، من الرقي في السماء ونحوه، أو تعدوا عدم اتصافي بصفاتهم قادحا في أمري، كما ينبئ عنه قولهم: مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق . والمعنى: إني لا أدعي شيئا من هذه الأشياء الثلاثة، حتى تقترحوا علي ما هو من آثارها وأحكامها، [ ص: 2319 ] وتجعلوا عدم إجابتي إلى ذلك، دليلا على عدم صحة ما أدعيه من الرسالة التي لا تعلق لها بشيء مما ذكر قطعا. بل إنما هي عبارة عن تلقي الوحي من جهة الله عز وجل، والعلم بمقتضاه فقط، كما ينبئ عنه قوله تعالى: إن أتبع إلا ما يوحى إلي أي: ما أتبع فيما أقول لكم إلا ما يوحى إلي من جهته تعالى، شرفني بذلك وأنعم به علي، إذ يكشف لي عن الملائكة فيخبرونني.

    ثم كرر الأمر تثنية للتبكيت بقوله:

    قل هل يستوي الأعمى والبصير مثل للضال والمهتدي على الإطلاق. والاستفهام إنكاري، والمراد إنكار استواء من لا يعلم ما ذكر من الحقائق، ومن يعلمها. وفيه الإشعار بكمال ظهورها، ومن التنفير عن الضلال، والترغيب في الاهتداء - ما لا يخفى. أفاده أبو السعود.

    وقوله تعالى: أفلا تتفكرون تقريع وتوبيخ داخل تحت الأمر. أي: أفلا تتفكرون فتهتدوا، ولا تكونوا ضالين أشباه العميان.

    تنبيهات:

    الأول: جعل بعض المفسرين قوله تعالى: قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب تبرؤا من دعوى الألوهية؛ لأن قسمة الأرزاق بين العباد، ومعرفة الغيب، مخصوصان به تعالى: قال: ولذا كرر في الملكية لفظ: ولا أقول . والمعنى: لا أدعي الألوهية ولا الملكية.

    وأورد على هذا أن المراد: لا أملك أن أفعل ما أريد مما تقترحونه، وليس المراد التبرؤ عن دعوى الإلهية، وإلا لقيل: لا أقول لكم إني إله. كما قيل: ولا أقول لكم إني ملك. وأيضا في الكناية عن الألوهية ب: عندي خزائن الله ما لا يخفى من البشاعة، بل هو جواب عن اقتراحهم عليه صلى الله عليه وسلم أن يوسع عليهم خيرات الدنيا. كذا في "العناية".

    قال أبو السعود: وجعل هذا تبرؤا عن دعوى الإلهية، مما لا وجه له قطعا.

    [ ص: 2320 ] الثاني: قال الجبائي: الآية دالة على أن الملك أفضل من الأنبياء؛ لأن المعنى: لا أدعي منزلة فوق منزلتي. ولولا أن الملك أفضل، وإلا لم يصح ذلك. قال القاضي: إن كان الغرض بما نفي طريقة التواضع، فالأقرب أن يدل ذلك على أن الملك أفضل، وإن كان المراد نفي قدرته على أفعال لا يقوى عليها إلا الملائكة لم يدل على كونهم أفضل.

    وقرر الزمخشري الأول تأييدا لمذهبه فقال في تفسير الآية: أي: لا أدعي ما يستبعد في العقول أن يكون لبشر من ملك خزائن الله، وهي قسمه بين الخلق وأرزاقه، وعلم الغيب، وإني من الملائكة الذين هم أشرف جنس خلق الله تعالى، وأفضله، وأقربه منزلة منه. أي: لم أدع إلهية ولا ملكية؛ لأنه ليس بعد الإلهية منزلة أرفع من منزلة الملائكة، حتى تستبعدوا دعواي وتستنكروها، وإنما أدعي ما كان مثله لكثير من البشر، وهو النبوة. انتهى.

    وتعقبه الناصر في "الانتصاف" بقوله: هو يبنى على القاعدة المتقدمة له، في تفضيل الملائكة على الأنبياء. ولعمري إن ظاهر هذه الآية يؤيده، فلذلك انتهز الفرصة في الاستدلال بها. ولمخالفه أن يقول: إنما أوردت الآية ردا على الكفار في قولهم: مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا أو يلقى إليه كنز .. الآية - فرد قولهم: مال هذا الرسول يأكل الطعام بأنه بشر، وذلك شأن البشر، ولم يدع أنه ملك حتى يتعجب من أكله للطعام، وحينئذ لا يلزم منها تفضيل الملائكة على الأنبياء؛ لأنه لا خلاف أن الأنبياء، يأكلون الطعام، وأن الملائكة ليسوا كذلك، فالتفرقة بهذا الوجه متفق عليها، ولا يوجب عليه ذلك اتفاقا على أن الملائكة أفضل من الأنبياء.

    وكذلك رد قولهم: أو يلقى إليه كنز بأنه لا يملك خزائن الله تعالى حتى يأتيهم بكنز منها على وفق مقترحهم، ولا قال لهم ذلك حتى يقام عليه الحجة به.

    [ ص: 2321 ] ثم قال الناصر رحمه الله: ولم يحسن الزمخشري في قوله: [ ليس بعد الإلهية منزلة أرفع من منزلة الملائكة ] فإنه جعل الإلهية من جملة المنازل كالملكية، ومثل هذا الإطلاق لا يسوغ. والمنزلة عبارة عن المحل الذي ينزل الله فيه العبد من علو وغيره، فإطلاقها على الإلهية تحريف. والله الموفق للصواب.

    الثالث: قال الرازي: ظاهر قوله تعالى: إن أتبع إلا ما يوحى إلي يدل على أنه صلى الله عليه وسلم لا يعمل إلا بالوحي، وهو يدل على حكمين:

    الأول: أن هذا النص يدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يحكم من تلقاء نفسه في شيء من الأحكام، وأنه ما كان يجتهد، بل جميع أحكامه صادرة عن الوحي، ويتأكد هذا بقوله تعالى: وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى

    الثاني: أن نفاة القياس قالوا: ثبت بهذا النص أنه صلى الله عليه وسلم ما كان يعمل إلا بالوحي النازل عليه، فوجب أن لا يجوز لأحد من أمته أن يعملوا إلا بالوحي النازل عليه، بقوله تعالى: فاتبعوه ، وذلك ينفي جواز العمل بالقياس. ثم أكد هذا الكلام بقوله: قل هل يستوي الأعمى والبصير وذلك لأن العمل بغير الوحي يجري مجرى عمل الأعمى. والعمل بمقتضى نزول الوحي يجري مجرى علم البصير. ثم قال: أفلا تتفكرون والمراد منه التنبيه على أنه يجب على العاقل أن يعرف الفرق بين هذين البابين، وأن لا يكون غافلا عن معرفته. انتهى.

    وفي "فتح الرحمن": تمسك بذلك من لم يثبت اجتهاد الأنبياء، عملا بما يفيده القصر في هذه الآية.

    والمسألة مدونة في الأصول. وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: أوتيت القرآن ومثله معه.

    ثم لما أخبر تعالى: أن أولئك المشركين كالصم البكم العمي، بل الموتى؛ إذ لم يتعظوا بتصريف الآيات الباهرة، أمر بتوجيه الإنذار إلى من يتأثر بما يوحى إليه، اطراحا لأولئك الفجار، فقال تعالى:
    [ ص: 2322 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [51] وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون

    وأنذر به أي: بما يوحى، المتقدم ذكره: الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه يعني: من دون الله تعالى: ولي أي: ناصر ينصرهم: ولا شفيع يشفع لهم وينجيهم من العذاب، غيره تعالى: لعلهم يتقون أي: الاعتقادات الفاسدة، والأعمال الطالحة، والأخلاق الرديئة.

    قال في "العناية": خص بالذكر هؤلاء، لأنهم الذين ينفعهم الإنذار، ويقودهم إلى التقوى. وليس المراد الحصر حتى يرد أن إنذاره لغيرهم لازم أيضا. انتهى.

    وجملة: ليس لهم في موضع الحال من: يحشروا ، فإن المخوف هو الحشر على هذه الحالة. والمراد ب (الولي) و (الشفيع) الآلهة التي كان المشركون يزعمون أنها شفعاؤهم، وحينئذ فلا دلالة في الآية على نفي الشفاعة للمسلمين؛ لأن شفاعة الرسل يومئذ إنما تكون بإذنه تعالى، فكأنها منه تعالى.
    [ ص: 2323 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [52] ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين

    روى الإمام مسلم عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة نفر، فقال له المشركون: اطرد هؤلاء يجترئون علينا! قال: وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان لست أسميهما، فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع، فحدث نفسه، فأنزل الله تعالى: ولا تطرد الذين الآية...

    وأخرج نحوه الحاكم وابن حبان في صحيحيهما.

    وروى الإمام أحمد عن ابن مسعود قال: مر الملأ من قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنده خباب وصهيب وبلال وعمار، فقالوا: يا محمد! أرضيت بهؤلاء؟ فنزل عليه القرآن: وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم إلى قوله: أليس الله بأعلم بالشاكرين .

    ورواه ابن جرير عن ابن مسعود أيضا قال: مر الملأ من قريش برسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده صهيب وبلال وعمار وخباب وغيرهم من ضعفاء المسلمين.

    [ ص: 2324 ] وفيه: فقالوا: يا محمد! أرضيت بهؤلاء من قومك، أهؤلاء من الله عليهم من بيننا ونحن نصير تبعا لهؤلاء؟ اطردهم، فلعلك إن طردتهم نتبعك! فنزلت هذه الآية: ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي الآية.


    ووراء ما ذكرنا، روايات لا تصح ولا يوثق بها.

    إذا علمت ذلك تبين أنه صلى الله عليه وسلم لم يطردهم بالفعل، وإنما هم بإبعادهم عن مجلسه آن قدوم أولئك، ليتألفهم فيقودهم ذلك إلى الإيمان، فنهاه الله عن إمضاء ذلك الهم. فما أورده الرازي من كونه صلى الله عليه وسلم طردهم، ثم أخذ يتكلف في الجواب عنه، لمنافاته العصمة على زعمه، فبناء على واه. والقاعدة المقررة أن البحث في الأثر فرع ثبوته، وإلا فالباطل يكفي في رده، كونه باطلا. وقد أوضحت ذلك في كتابي: "قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث". والمعنى: لا تبعد هؤلاء المتصفين بهذه الصفات عنك، بل اجعلهم جلساءك وأخصاءك. كقوله: واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا

    وقوله تعالى: يدعون ربهم أي: يعبدونه ويسألونه بالغداة والعشي قال سعيد بن المسيب وغيره: المراد به الصلاة المكتوبة.

    وقوله تعالى: يريدون وجهه المراد بالوجه الذات، كما في قوله: كل شيء هالك إلا وجهه ومعنى إرادة الذات الإخلاص لها، والجملة حال من: يدعون أي: يدعون ربهم مخلصين له فيه، وتقييده به لتأكيد عليته للنهي، فإن الإخلاص من أقوى موجبات الإكرام، المضاد للطرد.

    وقوله تعالى: ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء [ ص: 2325 ] كقول نوح عليه السلام في الذين قالوا: قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون قال وما علمي بما كانوا يعملون إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون أي: إنما حسابهم على الله عز وجل، وليس علي من حسابهم من شيء، كما أنه ليس عليهم من حسابي من شيء.

    قال العلامة أبو السعود: الجملة اعتراض وسط بين النهي وجوابه، تقريرا له ودفعا لما عسى يتوهم كونه مسوغا لطردهم من أقاويل الطاعنين في دينهم، كدأب قوم نوح حيث قالوا: وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي أي: ما عليك شيء من حساب إيمانهم وأعمالهم الباطنة، حتى تتصدى له، وتبني على ذلك ما تراه من الأحكام، وإنما وظيفتك، حسبما هو شأن منصب النبوة، اعتبار ظواهر الأعمال، وإجراء الأحكام على موجبها. وأما بواطن الأمر فحسابها على العليم بذات الصدور، كقوله تعالى: إن حسابهم إلا على ربي وذكر قوله تعالى: وما من حسابك عليهم من شيء مع أن الجواب قد تم بما قبله، للمبالغة في بيان انتفاء كون حسابهم عليه صلى الله عليه وسلم، بنظمه في سلك ما لا شبهة فيه أصلا، وهو انتفاء كون حسابه عليه السلام، عليهم، على طريقة قوله تعالى: لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون وأما ما قيل من أن ذلك لتنزيل الجملتين منزلة [ ص: 2326 ] جملة واحدة، لتأدية معنى واحد، على نهج قوله تعالى: ولا تزر وازرة وزر أخرى فغير حقيق بجلالة شأن التنزيل. انتهى.

    والقول المذكور للزمخشري، حيث ذهب إلى أن الجملتين في معنى جملة واحدة، تؤدي مؤدى: ولا تزر الآية. وأنه لا بد منهما.

    هذا، وقيل: الضمير للمشركين، والمعنى: لا يؤاخذون بحسابك، ولا أنت بحسابهم، حتى يهمك إيمانهم، ويجرك الحرص عليه إلى أن تطرد المؤمنين.

    وأغرب المهايمي حيث قال: والعماة، لكونهم أرباب شرف ومال، يكرهون مجالستهم، لقلة شرفهم ومالهم، فقال عز وجل لأشرف الناس: ما عليك من حسابهم من شيء أي: ما يعود عليك من نقصهم في الشرف والمال عليهم من شيء، فإذا لم يلحقك نقصهم، ولم يأخذوا كمالك بسلبه عنك، فلا وجه لطردهم. انتهى.

    وفيه بعد؛ لعدم ملاقاته لآية نوح السالفة. ولا يخفى مراعاة النظائر.

    وفي "العناية": قدم خطابه صلى الله عليه وسلم في الموضعين، تشريفا له. وإلا كان الظاهر [ وما عليهم من حسابك من شيء ] بتقديم (على) ومجرورها، كما في الأول. وفي النظم رد العجز على الصدر، كما في قوله: عادات السادات، سادات العادات.

    وقوله تعالى: فتطردهم فتكون من الظالمين الظلم: وضع الشيء في غير محله؛ أي: فلا تهم بطردهم عنك، فتضع الشيء في غير موضعه.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [53] وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين

    وكذلك فتنا بعضهم هم الشرفاء: ببعض وهم المستضعفون، بما [ ص: 2327 ] مننا عليهم بالإيمان. وقوله: ليقولوا أي: الشرفاء: أهؤلاء أي: المستضعفون من الله عليهم من بيننا أي: بشرف الإيمان، مع أن الشرفاء على زعمهم، أولى بكل شرف، فلو كان شرفا لانعكس الأمر، فهو إنكار لأن يخص هؤلاء من بينهم بإصابة الحق، والسبق إلى الخير، كقولهم: لو كان خيرا ما سبقونا إليه . ثم أشار تعالى إلى أنه إنما من عليهم بنعمة الإيمان؛ لأنه علم أنهم يعرفون قدر هذه النعمة، فيشكرونها حق شكرها. وأما أولئك، فلا يعرفون قدرها، فلا يشكرونها، بقوله سبحانه: أليس الله بأعلم بالشاكرين ؟ رد لقولهم ذلك، وإبطال له، وإشارة إلى أن مدار استحقاق الإنعام، معرفة شأن النعمة، والاعتراف بحق المنعم. كما أن فيه من الإشارة إلى أن أولئك المستضعفين عارفون بحق نعم الله تعالى في تنزيل القرآن، والتوفيق للإيمان، شاكرون له تعالى على ذلك، مع التعريض بأن القائلين بمعزل عن ذلك كله - ما لا يخفى.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #326
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,172

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْأَنْعَامِ
    المجلد السادس
    صـ 2328 الى صـ 2341
    الحلقة (326)




    قال الحافظ ابن كثير: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان غالب من اتبعه في أول بعثته ضعفاء الناس، من الرجال والنساء، والعبيد والإماء، ولم يتبعه من الأشراف إلا قليل، كما قال قوم نوح لنوح: وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي الآية. - وكما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان - حين سأله عن تلك المسائل -: [ فأشراف الناس [ ص: 2328 ] يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ قال: بل ضعفاؤهم. فقال: هم أتباع الرسل ] وكان مشركو مكة يسخرون بمن آمن من ضعفائهم، ويعذبون من يقدرون عليه منهم، وكانوا يقولون: أهؤلاء من الله عليهم من بيننا كقوله: لو كان خيرا ما سبقونا إليه وكقوله تعالى: وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا ؟ قال الله تعالى في جواب ذلك: وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا وقال في جوابهم هنا: أليس الله بأعلم بالشاكرين أي: له بأقوالهم وأفعالهم وضمائرهم، فيوفقهم ويهديهم سبل السلام، ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه، ويهديهم إلى صراط مستقيم. كما قال تعالى: والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين

    وفي الحديث الصحيح: «إن الله لا ينظر إلى صوركم، ولا إلى ألوانكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» . [ ص: 2329 ] وروى ابن جرير عن عكرمة قال: جاء عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، ومطعم بن عدي، والحارث بن نوفل، وقرظة بن عبد عمرو بن نوفل، في أشراف من بني عبد مناف، من الكفار، إلى أبي طالب فقالوا: يا أبا طالب! لو أن ابن أخيك يطرد عنه موالينا وحلفاءنا، فإنما هم عبيدنا وعسافاؤنا - كان أعظم في صدورنا، وأطوع له عندنا، وأدنى لاتباعنا إياه، وتصديقنا له. فأتى أبو طالب النبي صلى الله عليه وسلم، فحدثه بالذي كلموه به، فقال عمر بن الخطاب: لو فعلت ذلك، حتى تنظر ما الذي يريدون، وإلام يصيرون من قولهم! فأنزل الله عز وجل هذه الآية: وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم إلى قوله: أليس الله بأعلم بالشاكرين قال: وكانوا: بلال وعمار بن ياسر وسالم مولى أبي حذيفة وصبيح مولى أسيد. ومن الحلفاء ابن مسعود والمقداد بن عمرو، ومسعود بن القاري، وواقد بن عبد الله الحنظلي، وعمرو بن عمرو ذو الشمالين، ومرثد بن أبي مرثد - وأبو مرثد بن غني، حليف حمزة بن عبد المطلب - وأشباههم من الحلفاء. ونزلت في أئمة الكفر من قريش والموالي والحلفاء: وكذلك فتنا بعضهم .. الآية - فلما نزلت أقبل عمر فاعتذر من مقالته، فأنزل الله عز وجل: وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا الآية..

    تنبيهات وفوائد:

    قال بعض المفسرين:

    1 - أن الواجب في الدعاء الإخلاص به؛ لأنه تعالى قال: يريدون وجهه - هكذا قال الحاكم - وهكذا جميع الطاعات، لا تكون لغرض الدنيا، قال النفس الزكية عليه السلام: [ ص: 2330 ] إذا دعا الإمام ثم وجد أفضل منه، وجب عليه أن يسلم الأمر له. فإن لم يفعل ذلك فسق؛ لأنه إن لم يفعل دل على أنه طالب للدنيا.

    2 - ودلت على أن الغداة والعشي لهما اختصاص بفضل العمل والدعاء، فلذلك خصهما بالذكر.

    3 - ودلت على أن الفضل بالأعمال. وما خرج من المفاضلة من غير أمر الدين، كالكفاءة في النكاح، فذلك لمخصص، نحو قوله عليه السلام: العرب بعضها أكفاء للبعض.

    4 - ودلت على أن أحدا لا يؤخذ بذنب غيره وهي كقوله: ولا تزر وازرة وزر أخرى وقد تقدم ما ذكر فيما ورد أن الميت ليعذب ببكاء أهله، على أن المراد إذا أوصاهم بذلك.

    5 - ودلت على أن حديث النفس لا يؤاخذ به؛ لأنه قد روي أنه صلى الله عليه وسلم قد هم بذلك.

    6 - ودلت على أن الفقر لا يؤثر في حال المؤمن. وقد ورد في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: «يدخل فقراء المؤمنين الجنة قبل أغنيائهم بكذا سنة.» وروي أن آخر من يدخل الجنة [ ص: 2331 ] من الصحابة عبد الرحمن بن عوف لكثرة ماله. وروي أن عليا عليه السلام لم يخلف شيئا بعد وفاته - هكذا في التهذيب - انتهى.

    أقول: الحديث الأول، رواه الترمذي عن أبي هريرة وقال: حسن صحيح، ولفظه: «يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام» ، وأما حديث: « آخر من يدخل الجنة من الصحابة... إلخ» فلم أجده بهذا اللفظ.

    وقد روى البزار وأبو نعيم عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أول من يدخل الجنة من أغنياء أمتي عبد الرحمن بن عوف. والذي نفس محمد بيده! لن يدخلها إلا حبوا» . قال السيوطي: إسناده ضعيف - كذا في "منتخب كنز العمال" في ترجمة عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، في "فضائل الصحابة".

    7 - هذا، وقال ابن الفرس: قد يؤخذ من هذه الآية أن لا يمنع من يذكر الناس بالله وأمور الآخرة في جامع أو طريق أو غيره. قال: وقد اختلف المتأخرون في مؤذن يؤذن بالأسحار، ويبتهل بالدعاء، يردد ذلك إلى الصباح، وتأذى به الجيران، هل يمنع؟ واستدل (من قال: لا يمنع) بهذه الآية، وبقوله: ومن أظلم ممن منع مساجد الله الآية.. انتهى.

    8 - قرأ ابن عامر: "بالغدوة" بالواو وضم الغين، هنا وفي سورة الكهف، والباقون بالألف وفتح الغين، وهي قراءة الحسن ومالك بن دينار وأبي رجاء العطاردي وغيرهم.

    قال أبو عبيد: قرأ ابن عامر وأبو عبد الرحمن السلمي (بالغدوة)، وقرأ العامة (بالغداة) ونراهما قرآ ذلك اتباعا للخط؛ لأنها رسمت في جميع المصاحف بالواو، كالصلاة، والزكاة، [ ص: 2332 ] وليس، في إثباتهم الواو في الكتابة، دليل على أنها القراءة؛ لأنهم قد كتبوا (الصلاة والزكاة) بالواو، ولفظهما على تركها، فكذلك (الغداة)، على هذا وجدنا ألفاظ العرب. انتهى.

    وقال أبو علي الفارسي: الوجه قراءة العامة (بالغداة)، لأنها تستعمل نكرة، فأمكن تعريفها بإدخال لام التعريف عليها. فأما (غدوة) فمعرفة، وهو علم صيغ له، وحينئذ فيمتنع دخول لام التعريف عليه، كسائر المعارف، وكتابتها بالواو لا تدل على قولهم. انتهى.

    قال الشهاب مجيبا ومناقشا: إن (غدوة) وإن كان المعروف فيها أنها علم جنس، ممنوع من الصرف، ولا تدخله الألف واللام، ولا تصح إضافته، فلا تقول: غدوة يوم الخميس - كما قال الفراء - ولكنه سمع اسم جنس أيضا، منكرا مصروفا، فتدخله اللام، وقد نقله سيبويه في كتابه عن الخليل، وذكره جم غفير من أهل اللغة والنحو، فلا عبرة بقول أبي عبيد أن من قرأ بالواو أخطأ، وأنه اتبع رسم الخط؛ لأن الغداة تكتب بالواو، كالصلاة والزكاة، وهو علم جنس، لا تدخله الألف واللام، والمخطئ مخطئ، لما مر. وقد ذكر المبرد عن العرب تنكيره وصرفه، وإدخال الألف واللام عليه، إذا لم يرد غدوة يوم بعينه، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، وكفى بوقوعه في القراءة المتواترة حجة، فلا حاجة إلى ما قيل: إنه علم، لكنه نكر؛ لأن تنكير علم الجنس لم يعهد. ولا أنه معرفة، ودخلته اللام لمشاكلة العشي. كما في قوله: رأيت الوليد بن اليزيد مباركا، إذ قال (اليزيد) لمجاورة الوليد. ومنه تعلم أن المشاكلة قد تكون حقيقة. انتهى.

    9 - في القاموس: الغدوة بالضم، البكرة، أو ما بين صلاة الفجر وطلوع الشمس كالغداة. والعشي والعشية: آخر النهار.

    وفي الصحاح: من صلاة المغرب إلى العتمة.

    وقال الأزهري: يقع العشي على ما بين الزوال والغروب.

    10 - جعل الزمخشري (ذلك) إشارة إلى هذا الفتن المذكور، حيث قال: ومثل ذلك [ ص: 2333 ] الفتن العظيم، فتنا بعض الناس ببعض، أي: ابتليناهم بهم. وعبر عنه بذلك، إيذانا بتفخيمه. كقولك: ضربت زيدا ذلك الضرب. ولا يلزم منه تشبيه الشيء بنفسه؛ لأن المثل ليس بمراد، إنما جيء به مبالغة، كما يقال (ذلك كذلك) كذا قرره العلامة. يعني: أن التشبيه كما يجعل كناية عن الاستمرار؛ لأن ما له أمثال يستمر نوعه بتجدد أمثاله، كما أشار إليه شراح الحماسة في قوله:


    هكذا يذهب الزمان ويفنى الع لم فيه ويدرس الأثر


    والاستمرار يقتضي التحقق والتقرر ويستلزمه، فجعل في أمثال هذا بواسطة الإشارة إلى البعيد عبارة عن تحقق أمر عظيم. وكونه عظيما مستفاد من لفظ (ذلك) المشار به إلى هذا الفتن القريب المذكور، وليست الكاف فيه زائدة. ومن قال إنها مقحمة أراد أن التشبيه فيه غير مقصود فيه، بل المراد لازمه الكنائي أو المجازي. والزمخشري، لما في هذا الوجه من البلاغة والدقة، اختاره فيما ورد فيه كذلك. كذا في "العناية".

    وقال أبو السعود: (ذلك) إشارة إلى مصدر ما بعده من الفعل، ومحله في الأصل النصب على أنه نعت لمصدر مؤكد محذوف. والتقدير: فتنا بعضهم ببعض فتونا كائنا مثل ذلك الفتون، والكاف مقحمة لتأكيد ما أفاده اسم الإشارة من الفخامة، فصار نفس المصدر المؤكد، لا نعتا له. والمعنى: ذلك الفتون الكامل فتنا.

    قال الشهاب: هذا الإقحام للمبالغة، مطرد في عرفي العرب والعجم. انتهى.

    وقيل: الكاف ليست بزائدة، والمشار إليه هو المشبه به، الأمر المقرر في الذهن، والمشبه ما دل عليه الكلام من الأمر الخارجي، والمبالغة إنما يفيدها الإبهام الذهني والتفسير بقوله: فتنا ، وهو ما يعلمه كل أحد من الفتن من هو. انظر "العناية".
    [ ص: 2334 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [54] وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم

    قوله تعالى: وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم ذهب جماعة من المفسرين إلى أن هؤلاء هم الذين سأل المشركون طردهم وإبعادهم، فأكرمهم الله بهذا الإكرام.

    قال البيضاوي: وصفهم تعالى بالإيمان بالقرآن، واتباع الحجج، بعد ما وصفهم بالمواظبة على العبادة، وأمره بأن يبدأهم بالتسليم، أو يبلغ سلام الله تعالى إليهم، ويبشرهم بسعة رحمة الله تعالى وفضله، بعد النهي عن طردهم، إيذانا بأنهم الجامعون لفضيلتي العلم والعمل، ومن كان كذلك ينبغي أن يقرب ولا يطرد، ويعز ولا يذل، ويبشر من الله بالسلامة في الدنيا، والرحمة في الآخرة. انتهى.

    وسلف عن ابن جرير أنها نزلت في عمر رضي الله عنه. وأخرج الفريابي وابن أبي حاتم عن ماهان، قال جاء الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا أصبنا ذنوبا عظاما، فما رد عليهم شيئا، فأنزل الله: وإذا جاءك .. الآية. ولا يخفى أن الآية تشتمل جميع ذلك، وربما تتعدد الوقائع المشتركة في حكم واحد، فتنزل الآية بيانا للكل. وتقدم لنا في مقدمة هذا التفسير، في بحث سبب النزول، أن قول السلف: نزلت في كذا، قد يقصدون به أن واقعته مما يشملها لفظ الآية، لنزولها إثرها فتذكره، وأجل فكرك في أطرافه، فإنه مهم جدا. وبمعرفته يندفع إشكال الرازي الذي قرره هنا.

    [ ص: 2335 ] وقوله تعالى: كتب على نفسه الرحمة أي: أوجبها أي: أوجبها على ذاته المقدسة، تفضلا منه وإحسانا وامتنانا.

    وقوله: أنه من عمل إلخ بدل من: الرحمة . وقرئ بكسر الهمزة على أنه تفسير للرحمة بطريق الاستئناف.

    وقوله: بجهالة في موضع الحال، أي: عمله وهو جاهل، وفيه معنيان:

    أحدهما: أنه فاعل فعل الجهلة؛ لأن من عمل ما يؤدي إلى الضرر في العاقبة، وهو عالم بذلك، أو ظان، فهو من أهل السفه والجهل، لا من أهل الحكمة والتدبير، ومنه قول الشاعر:


    على أنها قالت عشية زرتها جهلت على عمد ولم تك جاهلا


    والثاني: أنه جاهل بما يتعلق به من المكروه والمضرة، ومن حق الحكيم أن لا يقدم على شيء حتى يعلم حاله وكيفيته. كذا في "الكشاف".

    [ ص: 2336 ] فعلى الأول، الجهل: بمعنى السفه والمخاطرة من غير نظر للعواقب، كما في قوله:


    فنجهل فوق جهل الجاهلينا


    وكانت العرب تتمدح به، فلا حاجة لتقدير مفعول.

    وعلى الثاني، المراد: الجهالة بمضار ما يفعله.

    وقوله تعالى: وأصلح أي: العمل. كقوله: وعمل عملا صالحا . وروى الإمام أحمد والشيخان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما قضى الله على الخلق كتب فيه كتابه، فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي غلبت غضبي.

    تنبيه:

    نقل بعض المفسرين عن الحاكم أنه قال: دلت الآية على وجوب تعظيم المؤمنين. [ ص: 2337 ] ودلت على أنه ينبغي إنزال المسرة بالمؤمن؛ لأنه أمر بأن يقول لهم: كتب على نفسه الرحمة لتطيب قلوبهم. انتهى.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [55] وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين

    وكذلك نفصل الآيات أي: آيات القرآن، في صفة المطيعين والمجرمين. ومر قريبا الكلام على (كذلك): ولتستبين سبيل المجرمين بتأنيث الفعل بناء على تأنيث الفاعل. وقرئ بالتذكير بناء على تذكيره، فإن (السبيل) مما يذكر ويؤنث، وهو عطف على علة محذوفة للفعل المذكور، لم يقصد تعليله بها بعينها، وإنما قصد الإشعار بأن له فوائد جمة، من جملتها ما ذكر. أو علة لفعل مقدر، هو عبارة عن المذكور، فيكون مستأنفا. أي: ولتستبين سبيلهم نفعل ما نفعل من التفضيل. وقرئ بنصب (السبيل) على أن الفعل متعد، وتاؤه للخطاب. أي: ولتستوضح أنت، يا محمد! سبيل المجرمين، فتعاملهم بما يليق بهم . أفاده أبو السعود.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [56] قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله قل لا أتبع أهواءكم قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين

    قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله أي: تعبدونه أو تسمونه آلهة. ثم كرر الأمر تأكيدا لقطع أطماعهم بقوله تعالى: قل لا أتبع أهواءكم أي: في عبادة الأصنام، وطرد من ذكر.

    ثم قال البيضاوي: هو إشارة إلى الموجب للنهي. وعلة الامتناع عن متابعتهم، واستجهال لهم، وبيان لمبدأ ضلالهم، وأن ما هم عليه هوى، وليس بهدى. وتنبيه لمن تحرى الحق على أن يتبع الحجة ولا يقلد. انتهى.

    [ ص: 2338 ] قد ضللت إذا أي: إن اتبعت أهواءكم، لمخالفة الأمر الإلهي والعقل جميعا وما أنا من المهتدين أي: للحق إن اتبعت ما ذكر. وفيه تعريض بأنهم كذلك.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [57] قل إني على بينة من ربي وكذبتم به ما عندي ما تستعجلون به إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين

    قل إني على بينة من ربي أي: على بصيرة من شريعة الله التي أوحاها إلي، لا يمكن التشكيك فيها: وكذبتم به استئناف أو حال، والضمير للبينة. والتذكير باعتبار المعنى المراد. أعني: الوحي، أو القرآن، أو نحوهما ما عندي ما تستعجلون به أي: من العذاب.

    قال أبو السعود: استئناف مبين لخطئهم في شأن ما جعلوه منشأ لتكذيبهم بالبينة، وهو عدم مجيء ما وعد فيها من العذاب الذي كانوا يستعجلونه بقولهم: متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ؟ بطريق الاستهزاء، أو بطريق الإلزام، على زعمهم. أي: ليس ما تستعجلونه من العذاب الموعود في القرآن، وتجعلون تأخره ذريعة إلى تكذيبه، في حكمي وقدرتي، حتى أجيء به، وأظهر لكم صدقه. أو ليس أمره بمفوض إلي.

    إن الحكم إلا لله أي: لو كان عندي لكنت أنا الحاكم، لكن ما الحكم في ذلك تعجيلا وتأخيرا إلا لله، وقد حكم بتأخيره، لما له من الحكمة العظيمة، لكنه محقق الوقوع لأنه: يقص الحق أي: يبينه بيانا شافيا وهو خير الفاصلين أي: القاضين بين عباده.

    [ ص: 2339 ] لطيفة:

    قرئ: "يقض الحق" بالضاد، وانتصاب الحق على المصدرية؛ لأنه صفة مصدر محذوف قامت مقامه. أو على المفعولية، بتضمين (يقضي) معنى (ينفذ)، أو هو متعد من (قضى الدرع) إذا صنعها. قال الهذلي:


    وعليها مسرودتان قضاهما داود أو صنع السوابغ تبع


    [ ص: 2340 ] قال الرازي: واحتج أبو عمرو على هذه القراءة بقوله: وهو خير الفاصلين قال: والفصل يكون في القضاء، لا في القصص. وأجاب أبو علي الفارسي. فقال: القصص هاهنا بمعنى القول، وقد جاء الفصل في القول. قال تعالى: إنه لقول فصل وقال: أحكمت آياته ثم فصلت وقال: نفصل الآيات . انتهى.

    قال الشهاب: معنى (يقصه) أي: يبينه بيانا شافيا، وهو عين القضاء.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [58] قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم والله أعلم بالظالمين

    قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم والله أعلم بالظالمين أي: لو أن في قدرتي وإمكاني العذاب الذي تتعجلونه، بأن يكون أمره مفوضا إلي من قبله تعالى، لقضي الأمر بيني وبينكم، بأن ينزل ذلك عليكم إثر استعجالكم.

    وفي "العناية": قضي الأمر بمعنى قطع. وقضاؤه كناية عن إهلاكهم.

    قال أبو السعود: وفي بناء الفعل للمفعول من الإيذان بتعيين الفاعل، الذي هو الله تعالى، وتهويل الأمر، ومراعاة حسن الأدب - ما لا يخفى. فما قيل في تفسيره: لأهلكتكم [ ص: 2341 ] عاجلا، غضبا لربي، واقتصاصا من تكذيبكم به، ولتخلصت سريعا - بمعزل من توفية المقام حقه.

    وقوله تعالى: والله أعلم بالظالمين اعتراض مقرر لما أفادته الجملة الامتناعية، من انتفاء كون أمر العذاب مفوضا إليه صلى الله عليه وسلم، المستتبع لانتفاء قضاء الأمر، وتعليل له. والمعنى: والله تعالى أعلم بحال الظالمين، وبأنهم مستحقون للإمهال بطريق الاستدراج، لتشديد العذاب، ولذلك لم يفوض الأمر إلي، فلم يقض الأمر بتعجيل العذاب. انتهى.

    تنبيه:

    قال ابن كثير: فإن قيل: فما الجمع بين هذه الآية، وبين ما ثبت في الصحيحين عن عائشة أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله! هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال: «لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة؛ إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني. فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله عز وجل قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، قال: فناداني ملك الجبال، وسلم علي، ثم قال: يا محمد! إن الله قد سمع قول قومك لك. وأنا ملك الجبال. وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك. فما شئت؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا» .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #327
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,172

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْأَنْعَامِ
    المجلد السادس
    صـ 2342 الى صـ 2356
    الحلقة (327)



    [ ص: 2342 ] وهذا لفظ مسلم. فقد عرض عليه عذابهم واستئصالهم فاستأناهم، وسأل لهم التأخير، لعل الله أن يخرج من أصلابهم من لا يشرك به شيئا.

    فالجواب: - والله أعلم - أن هذه الآية دلت على أنه لو كان إليه وقوع العذاب الذي يطلبونه، حال طلبهم له، لأوقعه بهم. وأما الحديث فليس فيه أنهم سألوه وقوع العذاب بهم، بل عرض عليه ملك الجبال أنه، إن شاء أطبق عليهم الأخشبين، وهما جبلا مكة، يكتنفانها جنوبا وشمالا، فلهذا استأنى بهم وسأل الرفق لهم. انتهى.
    ثم بين تعالى اختصاص المقدورات الغيبية به، من حيث العلم، إثر بيان اختصاص جميعها به تعالى من حيث القدرة، بقوله:

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [59] وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين

    وعنده مفاتح الغيب جمع (مفتح بكسر الميم، وهو المفتاح) وقرئ: "مفاتيح الغيب" شبه بالأمور الجليلة التي يستوثق منها بالأقفال، وأثبت لها المفاتح تخييلا.

    وقوله تعالى: لا يعلمها إلا هو تأكيد لمضمون ما قبله، وإيذان بأن المراد الاختصاص من حيث العلم. والمعنى: ما تستعجلونه من العذاب ليس مقدورا لي، حتى ألزمكم بتعجيله، ولا معلوما لدي لأخبركم بوقت نزوله، بل هو مما يختص به تعالى قدرة وعلما، فينزله حسبما تقتضيه مشيئته، المبنية على الحكم والمصالح . أفاده أبو السعود.

    ثم لما بين تعالى علمه بالمغيبات، تأثره بالمشاهدات، على اختلاف أنواعها، وتكثر أفرادها بقوله: ويعلم ما في البر والبحر من الخلق والعجائب. ثم بالغ في إحاطة علمه [ ص: 2343 ] بالجزئيات الفائتة للحصر بقوله سبحانه: وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين أي: مكتوب ومحفوظ في العلم الإلهي.

    تنبيهات:

    الأول: قال الحاكم: دل قوله تعالى: وعنده مفاتح الغيب على بطلان قول الإمامية: إن الإمام يعلم شيئا من الغيب. انتهى.

    وفي "فتح البيان": في هذه الآية الشريفة ما يدفع أباطيل الكهان والمنجمين والرمليين وغيرهم من مدعي الكشف والإلهام، ما ليس من شأنهم، ولا يدخل تحت قدرتهم، ولا يحيط به عملهم. ولقد ابتلي الإسلام وأهله بقوم سوء من هذه الأجناس الضالة، والأنواع المخذولة، ولم يربحوا من أكاذيبهم وأباطيلهم بغير خطة السوء المذكورة في قول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: «من أتى كاهنا أو منجما فقد كفر بما أنزل على محمد» .

    قال ابن مسعود: أوتي نبيكم كل شيء إلا مفاتيح الغيب.

    قال ابن عباس: إنها الأقدار والأرزاق.

    وقال الضحاك: خزائن الأرض، وعلم نزول العذاب.

    وقال عطاء: هو ما غاب عنكم من الثواب والعقاب.

    [ ص: 2344 ] وقيل: هو انقضاء الآجال، وعلم أحوال العباد من السعادة والشقاوة وخواتيم أعمالهم. واللفظ أوسع من ذلك. وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مفاتح الغيب خمس لا يعلمها [ ص: 2345 ] إلا الله تعالى. لا يعلم أحد ما يكون في غد إلا الله، ولا يعلم أحد ما يكون في الأرحام إلا الله. ولا تعلم نفس ماذا تكسب غدا. ولا تدري نفس بأي أرض تموت. ولا يدري أحد متى يجيء المطر» - أخرجه البخاري - وله ألفاظ. وفي رواية: «ولا يعلم أحد متى تقوم الساعة إلا الله» . انتهى.

    الثاني: قرئ: (ولا حبة ولا رطب ولا يابس) بالرفع، وفيه وجهان: أن يكون عطفا على محل (من ورقة) وأن يكون رفعا على الابتداء، وخبره: إلا في كتاب مبين كقولك: لا رجل منهم ولا امرأة إلا في الدار. كذا في "الكشاف".

    الثالث: ما أسلفناه في "الكتاب المبين" من أنه (اللوح المحفوظ) هو المتبادر من إطلاقه أينما ورد. وقيل: الكتاب المبين علم الله تعالى. والأظهر الأول.

    قال الزجاج: يجوز أن يكون الله جل ثناؤه أثبت كيفية المعلومات في كتاب من قبل أن يخلق الخلق، كما قال عز وجل: ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها وفائدة هذا الكتاب أمور:

    [ ص: 2346 ] أحدها: أنه تعالى إنما كتب هذه الأحوال في اللوح المحفوظ لتقف الملائكة على نفاذ علم الله تعالى في المعلومات، وأنه لا يغيب عنه مما في السماوات والأرض شيء. فيكون ذلك عبرة تامة كاملة للملائكة الموكلين باللوح المحفوظ؛ لأنهم يقابلون به ما يحدث في صحيفة هذا العالم، فيجدونه موافقا له.

    وثانيها: يجوز أن يقال: إنه تعالى ذكر ما ذكر، من الورقة والحبة، تنبيها للمكلفين على أمر الحساب، وإعلاما بأنه لا يفوته من كل ما يصنعون في الدنيا شيء؛ لأنه إذا كان لا يهمل الأحوال التي ليس فيها ثواب ولا عقاب ولا تكليف، فبأن لا يهمل الأحوال المشتملة على الثواب والعقاب أولى.

    وثالثها: أنه تعالى علم أحوال جميع الموجودات، فيمتنع تغييرها عن مقتضى ذلك العلم، وإلا لزم الجهل، فإذا كتب أحوال جميع الموجودات في ذلك الكتاب على التفصيل التام، امتنع أيضا تغييرها، وإلا لزم الكذب، فتصير كتبة جملة الأحوال في ذلك الكتاب موجبا تاما، وسببا كاملا في أنه يمتنع تقدم ما تأخر، وتأخر ما تقدم، كما قال صلوات الله عليه: «جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة» . انتهى.

    الرابع: روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى: وما تسقط من ورقة إلا يعلمها قال: ما من شجرة في بر ولا بحر، إلا ملك موكل بها، يكتب ما يسقط منها.

    [ ص: 2347 ] وأخرج أيضا عن عبد الله بن الحارث قال: ما في الأرض من شجرة، ولا كمغرز إبرة، إلا عليها ملك موكل يأتي الله بعلمها. يبسها إذا يبست ورطوبتها إذا رطبت. وكذا رواه ابن جرير.

    وروى ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: خلق الله النون وهي الدواة، وخلق الألواح، فكتب فيها أمر الدنيا حتى تنقضي، ما كان من خلق مخلوق، أو رزق حلال أو حرام، أو عمل بر أو فجور، وقرأ هذه الآية: وما تسقط من ورقة إلى آخر الآية.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [60] وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون

    وهو الذي يتوفاكم بالليل أي: ينيمكم فيه. استعير (التوفي) من الموت للنوم، لما بينهما من المشاركة في زوال الإحساس والتمييز، فإن أصله قبض الشيء بتمامه.

    ويعلم ما جرحتم بالنهار أي: فيه: وتخصيص الليل بالنوم، والنهار بالكسب، جريا على المعتاد. ثم يبعثكم أي: يوقظكم. أطلق البعث ترشيحا للتوفي: فيه أي: في النهار: ليقضى أجل مسمى أي: ليتم مقدار حياة كل أحد.

    ثم إليه مرجعكم أي: رجوعكم بالبعث بعد الموت ثم ينبئكم بما كنتم تعملون أي: في ليلكم ونهاركم، بالمجازاة عليه، مبالغة في عدله.

    تنبيهان:

    الأول: ظاهر الخطاب في الآية على العموم. وخصه في "الكشاف" بالكفرة، ذهابا إلى أن قوله: ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم يدل على تهديد شديد، لا يليق إلا [ ص: 2348 ] بالمعاندين الجاحدين، وأن المقصود بيان حالهم المذمومة في الليل، كما أن قوله: ما جرحتم بيان حالهم المذمومة في النهار. وحمل (البعث) لا على الإيقاظ، بل على البعث من القبور. وفي (فيه) بمعنى (من أجله) كقولك: فيم دعوتني؟ فتقول: في أمر كذا، والمعنى: أنكم ملقون كالجيف بالليل كاسبون للآثام بالنهار. وأنه تعالى مطلع على أعمالكم، يبعثكم من القبور في شأن ما قطعتم به أعماركم، من النوم بالليل، وكسب الآثام بالنهار ليقضي الأجل الذي سماه وضربه لبعث الموتى، وجزائهم على أعمالهم. والذي حمله على ذلك زعمه أن قوله: ويعلم ما جرحتم بالنهار دال على حال اليقظة، وكسبهم فيها. وكلمة: ثم تقضي تأخير البعث عنها.

    قال شراحه: ولا يخفى ما فيه من التكلف، وأنه لا حاجة إليه؛ لأن قوله: ويعلم ما جرحتم بالنهار إشارة إلى ما كسب في النهار السابق على ذلك الليل، ولا دلالة فيه على الإيقاظ من هذا التوفي، وأن الإيقاظ متأخر عن التوفي. وإن قولنا: (يفعل ذلك التوفي لنقضي مدة الحياة المقدرة) كلام منتظم غاية الانتظام.

    الثاني: قال الشريف المرتضى في "الدرر والغرر" فيما وقع من القرآن من ذكر الرجوع إلى الله نحو: وإلى الله ترجع الأمور كيف ترجع إليه، وهي لم تخرج من يده؟ وأجاب: بأنه في دار التكليف قد يغير البعض، فيضيف بعض أفعاله تعالى إلى غيره. فإذا انكشف الغطاء، انقطعت حبال الآمال عن غيره، فيرجع إليه. أو أن المراد أن الأمور في يده من غير خروج ورجوع حقيقي. ف (رجع) بمعنى (صار). تقول العرب: رجع علي من فلان مكروه، بمعنى صار، ولم يكن سبق. فهو بمعنى المصير إليه، كما تشهد به اللغة. أو أنه في دار الدنيا ما يكون للعباد ظاهرا كالعبد لسيده، فإذا أفضى الأمر إلى الآخرة، زال ذلك، ورجع الأمر كله إلى الله، ظاهرا وباطنا.
    [ ص: 2349 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [61] وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون

    وهو القاهر فوق عباده قد مر تفسيره، وأنه المتصرف في أمورهم لا غيره، يفعل بهم ما يشاء. ويرسل عليكم حفظة أي: ملائكة تحفظ أعمالكم وتحصيها، وهم الكرام الكاتبون، كقوله تعالى: وإن عليكم لحافظين وقوله: إذ يتلقى المتلقيان الآية.

    لطيفة:

    الحكمة في ذلك أن المكلف إذا علم أن أعماله تكتب عليه، وتعرض على رؤوس الأشهاد، كان أزجر عن المعاصي. وأن العبد إذا وثق بلطف سيده، واعتمد على عفوه وستره، لم يحتشم منه احتشامه من خدمه المطلعين عليه - أفاده القاضي.

    حتى إذا جاء أحدكم الموت أي: أسبابه ومباديه: توفته رسلنا أي: ملائكة موكلون بذلك وهم لا يفرطون أي: بالتواني والتأخير. وقال ابن كثير: أي: في حفظ روح المتوفى، بل يحفظونها ويتركونها حيث شاء الله عز وجل، إن كان من الأبرار ففي عليين، وإن كان من الفجار في سجين.
    [ ص: 2350 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [62] ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين

    ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق أي: الذي يتولى أمورهم. و (الحق): العدل الذي لا يحكم إلا بالحق. قال ابن كثير: الضمير للملائكة. أو للخلائق المدلول عليهم ب (أحد). والإفراد أولا، والجمع آخرا لوقوع التوفي على الانفراد، والرد على الاجتماع. أي: ردوا بعد البعث، فيحكم فيهم بعدله، كما قال: قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم وقال: وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا إلى قوله: ولا يظلم ربك أحدا ولهذا قال: مولاهم الحق

    ألا له الحكم يومئذ لا حكم فيه لغيره وهو أسرع الحاسبين يحاسب الخلائق في أسرع زمان.

    فوائد:

    الأولى: قال ابن كثير: ونذكر ههنا الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الميت تحضره الملائكة، [ ص: 2351 ] فإذا كان الرجل الصالح، قالوا: اخرجي أيتها النفس الطيبة، كانت في الجسد الطيب، اخرجي حميدة وأبشري بروح وريحان، ورب غير غضبان. فلا يزال يقال ذلك حتى تخرج. ثم يعرج بها إلى السماء، فيستفتح لها، فيقال: من هذا؟ فيقال فلان. فيقولون: مرحبا بالنفس الطيبة، كانت في الجسد الطيب، ادخلي حميدة، وأبشري بروح وريحان، ورب غير غضبان، فلا زال يقال لها حتى ينتهى بها إلى السماء التي فيها الله عز وجل. وإذا كان الرجل السوء، قالوا: اخرجي أيتها النفس الخبيثة، كانت في الجسد الخبيث، اخرجي ذميمة، وأبشري بحميم وغساق، وآخر من شكله أزواج. فلا يزال حتى تخرج، ثم يعرج بها إلى السماء، فيستفتح لها، فيقال: من هذا؟ فيقال فلان! فيقال: لا مرحبا بالنفس الخبيثة، كانت في الجسد الخبيث. ارجعي ذميمة، فإنه لا يفتح لك أبواب السماء، فترسل من السماء، ثم تصير إلى القبر. فيجلس الرجل الصالح، فيقال له مثل ما قيل في الحديث الأول، ويجلس الرجل السوء فيقال له ما قيل في الحديث الأول.» . قال الحافظ ابن كثير: هذا حديث غريب.

    الثانية: قال بعض أهل الكلام: إن لكل حاسة من هذه الحواس روحا تقبض عند النوم، ثم ترد إليها إذا ذهب النوم. فإما الروح التي تحيا بها النفس، فإنها لا تقبض إلا عند انقضاء الأجل. والمراد بالأرواح، المعاني والقوى التي تقوم بالحواس، ويكون بها السمع والبصر، والأخذ والمشي والشم، ومعنى: ثم يبعثكم فيه أي: يوقظكم، ويرد إليكم أرواح الحواس، فيستدل به على منكري البعث؛ لأنه بالنوم يذهب أرواح هذه الحواس، ثم يردها إليها. فكذا يحيي الأنفس بعد موتها - نقله النسفي -.

    الثالثة: قال الخازن: فإن قلت: قال الله في آية: الله يتوفى الأنفس حين موتها [ ص: 2352 ] وقال في آية أخرى: قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم وقال هنا: توفته رسلنا فكيف الجمع بين هذه الآيات؟.

    قلت: وجه الجمع أن المتوفي في الحقيقة هو الله تعالى. فإذا حضر أجل العبد، أمر الله ملك الموت بقبض روحه، ولملك الموت أعوان من الملائكة، يأمرهم بنزع روح ذلك العبد من جسده. فإذا وصلت إلى الحلقوم، تولى قبضها ملك الموت نفسه، فحصل الجمع.

    قال مجاهد: جعلت الأرض لملك الموت، مثل الطشت، يتناول من حيث شاء، وجعلت له أعوان ينزعون الأنفس ثم يقبضها منهم. انتهى.

    ثم أمر تعالى أن يبكت المشركون بانحطاط شركائهم عما زعموا لها، بأنهم يخصون الحق تعالى بالالتجاء إليه عند الشدائد بقوله:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [63] قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين

    قل من ينجيكم من ظلمات البر أي: شدائده، كخوف العدو، وضلال الطريق والبحر كخوف الغرق، والضلال، وسكون الريح. استعيرت الظلمة للشدة، لمشاركتهما في الهول، وإبطال الأبصار، ودهش العقول. يقال لليوم الشديد: يوم مظلم، ويوم ذو كواكب. أي: اشتدت ظلمته حتى عاد كالليل، وظهرت الكواكب فيه.

    تدعونه تضرعا أي: تذللا إليه، تحقيقا للعبودية وخفية بضم الخاء، [ ص: 2353 ] وقرئ بكسرها. أي: سرا، تحقيقا للإخلاص لئن أنجانا حال من الفاعل بتقدير القول. أي: قائلين، وعدا بالشكر، لئن أنجيتنا: من هذه أي: الشدة المعبر عنها بالظلمات لنكونن من الشاكرين أي: لك، باعتقاد أنك المخصوص بالثناء الجميل.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [64] قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون

    ثم أمره تعالى بالجواب تنبيها على ظهوره وتعينه عندهم، أو إهانة لهم؛ إذ لا يلتفتون لخطابه بقوله: قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب أي: من غير شفاعة أحد ولا عون ثم أنتم تشركون أي: ثم أنتم بعد ما تشاهدون من النجاة عنها، الموعود فيها بالشكر وعدا وثيقا بالقسم، تشركون، بعبادته والثناء عليه، غيره. وتنسبون النجاة الحاصلة بعد تخصيصه بالدعوة، إلى شفاعة الشريك، فقد جعلتم الشرك مكان الشكر.

    تنبيهات:

    الأول: ما قدمناه من أن ظلمات: البر والبحر مجاز عن مخاوفها وأهوالها، هو ما قاله المحققون.

    قال الرازي: ومنهم من حمله على حقيقته فقال: أما ظلمات البحر، فهي أن تجتمع ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة السحاب، ويضاف الرياح الصعبة، والأمواج الهائلة إليها، فلم يعرفوا كيفية الخلاص، وعظم الخوف، وأما ظلمات البر، فهي ظلمة الليل، وظلمة السحاب، والخوف الشديد من هجوم الأعداء والخوف الشديد من عدم الاهتداء إلى طريق الصواب. والمقصود أن عند اجتماع هذه الأسباب الموجبة للخوف الشديد، لا يرجع [ ص: 2354 ] الإنسان إلا إلى الله تعالى. وهذا الرجوع يحصل ظاهرا وباطنا؛ لأن الإنسان في هذه الحالة يعظم إخلاصه في حضرة الله تعالى. وينقطع رجاؤه عن كل ما سوى الله تعالى. وهو المراد من قوله: تضرعا وخفية . فبين تعالى أنه إذا شهدت الفطرة السليمة، والخلقة الأصلية في هذه الحالة، بأنه لا ملجأ إلا الله، ولا تعويل إلا على فضل الله، وجب أن يبقى هذا الإخلاص عند كل الأحوال والأوقات. ولكنه ليس كذلك؛ فإن الإنسان بعد الفوز بالسلامة والنجاة. يحيل تلك السلامة إلى الأسباب، ويقدم على الشرك. ومن المفسرين من يقول: المقصود من هذه الآية الطعن في إلهية الأصنام والأوثان.

    ثم قال الرازي رحمه الله، وأنا أقول: التعلق بشيء مما سوى الله في طريق العبودية، يقرب من أن يكون تعلقا بالوثن؛ ولذلك فإن أهل التحقيق يسمونه بالشرك الخفي. انتهى.

    الثاني: قال بعض المفسرين: دل قوله تعالى: تدعونه تضرعا وخفية على أن دعاء السر أفضل. قيل: وكان جهر النبي صلى الله عليه وسلم بالدعاء ليعلم غيره. انتهى.

    وهذا بناء على أن قوله تعالى: تضرعا تذللا، لا جهرا. وكثير من المفسرين ذهب إلى أن المعنى جهرا وسرا، ولعله الصواب. فإن العيان يؤيده، إذ لا يتمالك من اشتد عليه الأمر، وأظلم عليه طريق الخلاص، على الاقتصار على دعاء السر وحده. والله أعلم.

    وفي القاموس وشرحه: تضرع إلى الله تعالى، أي: ابتهل وتذلل. وقيل: أظهر الضراعة، وهي شدة الفقر والحاجة إلى الله تعالى. ومنه قوله تعالى: تضرعا وخفية أي: مظهرين الضراعة، وحقيقة الخشوع. انتهى.

    الثالث: المراد بالكرب ما يعم ما تقدم، ولا محذور في التعميم بعد التخصيص، لكثرة وروده. أو ما يعتري المرء من العوارض النفسية التي لا تتناهى، كالأمراض والأسقام، [ ص: 2355 ] وما قيل: إن المراد بالأول كرب مخصوص، أو الأولى نعمة رفع، وهذه نعمة دفع، وأنه من قبيل (متقلدا سيفا ورمحا) - تكلف لا داعي له. كذا في "العناية".

    الرابع: وضع (تشركون)، موضع (لا تشركون) الذين هو مقتضى الظاهر المناسب لقوله: لنكونن من الشاكرين لأن إشراكهم تضمن عدم صحة عبادتهم، وشكرهم؛ لأنه عبادة، بل نفيها لعدم الاعتداد بها معه؛ إذ التوحيد ملاك الأمر، وأساس العبادة، فوضعه موضعه توبيخا لهم، لعدم الوفاء بالعهد. ولم يذكر متعلقه لتنزيله منزلة اللازم، تنبيها على استبعاد الشرك في نفسه. كذا في "العناية".
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [65] قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون

    قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم قال المهايمي: أي: قل للمشركين بعد النجاة الموعود فيها بالشكر: إنما أشركتم لأمنكم من الشدائد، لكن لا وجه للأمان منها، لاستمرار منشأ الخوف، وهو القدرة الإلهية على أنواع الشدائد من الجهات كلها. إذ هو القادر على إرسال عذاب أعظم من تلك الشدة من فوقكم، كإمطار النار أو الحجارة، أو إسقاط السماء.

    أو من تحت أرجلكم كالخسف والطوفان أو يلبسكم شيعا أي: يخلطكم فرقا خلط اضطراب، فيجعلكم متحزبين مختلفين في القتال، بأن يقوي أعداءكم: ويذيق بعضكم بأس أي: شدة: بعض يعني: يسلط بعضكم على بعض بالقتل والتعذيب.

    [ ص: 2356 ] انظر كيف نصرف الآيات أي: نحولها من نوع إلى آخر لعلهم يفقهون أي: يفهمون ويعتبرون، فيكفوا عن كفرهم وعنادهم.

    تنبيهان:

    الأول: روى البخاري عن جابر رضي الله عنه قال. لما نزلت هذه الآية: قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعوذ بوجهك! أو من تحت أرجلكم قال: أعوذ بوجهك! أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض قال: هذا أهون، أو أيسر» .

    قال الحافظ ابن حجر: وقد روى ابن مردويه من حديث ابن عباس ما يفسر به حديث جابر، ولفظه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «دعوت الله أن يرفع عن أمتي أربعا، فرفع عنهم اثنتين، وأبى أن يرفع عنهم اثنتين. دعوت الله أن يرفع عنهم الرجم من السماء والخسف من الأرض، وأن لا يلبسهم شيعا، ولا يذيق بعضهم بأس بعض; فرفع الله عنهم الخسف والرجم، وأبى أن يرفع عنهم الأخريين» . فيستفاد من هذه الرواية بقوله: من فوقكم أو من تحت أرجلكم ويستأنس له أيضا بقوله تعالى: أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #328
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,172

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْأَنْعَامِ
    المجلد السادس
    صـ 2357 الى صـ 2372
    الحلقة (328)





    وروى الإمام مسلم عن سعد بن أبي وقاص أنه أقبل مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم من العالية، حتى إذا مر بمسجد بني معاوية، دخل فركع فيه ركعتين، وصلينا معه ودعا ربه طويلا، ثم انصرف إلينا فقال: «سألت ربي ثلاثا، فأعطاني ثنتين، ومنعني واحدة. سألت [ ص: 2357 ] ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة، فأعطانيها. وسألته أن لا يهلك أمتي بالغرق، فأعطانيها. وسألت ربي أن لا يجعل بأسهم بينهم، فمنعنيها» .

    وروى الإمام أحمد من حديث أبي بصرة نحوه، لكن قال (بدل خصلة الإهلاك). أن لا يجمعهم على ضلالة. وكذا الطبري من مرسل الحسن.

    قال الخفاجي: فإن قلت: كيف أجيبت الدعويان، وسيكون خسف بالمشرق وخسف بجزيرة العرب؟ أي: كما رواه الترمذي وغيره؟ قلت: الممنوع خسف مستأصل لهم، وأما عدم إجابته في بأسهم، فبذنوب منهم، ولأنهم بعد تبليغه صلى الله عليه وسلم لهم، ونصيحته لهم، لم يعملوا بقوله. انتهى.

    وقد روى أحمد والترمذي من حديث سعد بن أبي وقاص قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: قل هو القادر إلخ. فقال: «أما إنها كائنة، ولم يأت تأويلها بعد» . قال الحافظ ابن حجر: وهذا يحتمل أن لا يخالف حديث جابر، بأن المراد بتأويلها [ ص: 2358 ] ما يتعلق بالفتن ونحوها. انتهى. أي: مما ستصدق عليها الآية، ولما تقع بالمسلمين. فقوله: إنها كائنة، أي: في المسلمين، لا أنها خطاب لهم، ونزولها فيهم - كما وهم - إذ يدفعه السياق والسباق، وتتمة الآية - كما لا يخفى - وسنزيده بيانا.

    الثاني: ما روي عن ابن عباس من أنه كان يقول في قوله تعالى: عذابا من فوقكم يعني أئمة السوء و: من تحت أرجلكم يعني: خدم السوء. رواه ابن جرير وابن أبي حاتم. فإن صح عنه، فمراده أن لفظ الآية مما يصدق على ذلك؛ لأن العذاب كل ما مر (من المرارة) على النفس، وشق عليها، لا أن ذلك هو المراد من الآية. لنبوه عن مقام التهويل، في شديد الوعيد، ولخفاء الكناية عن ذلك من جوهر اللفظ، ولعدم موافقته لنظائر الآية في هذا الباب - كما لا يخفى.

    والظاهر أن السلف كانوا يتلون بعض الآيات في بعض المقامات، إشعارا بأن معناها يحاكي تلك الواقعات، لا أنها نزلت في تلك القضيات. ومن ذلك قول أبي بن كعب، قال في هذه الآية: هن أربع خلال، كلهن واقع، منها ثنتان بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس وعشرين: (ألبسوا شيعا) و (ذاق بعضهم بأس بعض)، وبقيت اثنتان لا بد منهما الرجم والخسف - رواه الإمام أحمد وغيره - وقد أعل هذا الأثر بأن أبيا لم يدرك سنة خمس وعشرين من الوفاة النبوية، وكأن التقييد بذلك من كلام أبي العالية، رواية عنه. وبالجملة، فاستشهاد السلف بالآيات في بعض الشؤون، للإشعار المذكور - مما لا ينكر، فافهم ذلك، فإنه ينفعك في مواطن كثيرة.
    [ ص: 2359 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [66] وكذب به قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل

    قوله تعالى: وكذب به قومك أي: بالقرآن المجيد: وهو الحق أي: الكتاب الصادق في كل ما نطق به قل لست عليكم بوكيل أي: لم يفوض إلي أمركم فأمنعكم من التكذيب، وأجبركم على التصديق. إنما أنا منذر، وقد بلغت. وبعضهم أرجع الضمير في (به) للعذاب. أي: كذب بالعذاب الموعود، قومك المعاندون، وهو الواقع لا محالة.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [67] لكل نبإ مستقر وسوف تعلمون

    لكل نبإ مستقر أي: لكل خبر عظيم وقت استقرار، لصدقه أو كذبه وسوف تعلمون أي: مستقر هذا النبأ ومآله، وأن العاقبة له، كما قال تعالى: ولتعلمن نبأه بعد حين
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [68] وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين

    وإذا رأيت الذين يخوضون أي: بالطعن والاستهزاء في آياتنا أي: المنسوبة إلى مقام عظمتنا، التي حقها أن تعظم بما يناسب عظمتنا. والموصول كناية عن مشركي مكة، فقد كان ديدنهم ذلك فأعرض عنهم أي: فلا تجالسهم، وقم عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره أي: حتى يأخذوا في كلام آخر، غير ما كانوا فيه من الخوض في آياتنا.

    [ ص: 2360 ] وإما ينسينك الشيطان بأن يشغلك فتنسى النهي عن مجالستهم فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين أي: إن ينسينك الشيطان، فجلست معهم، فلا تؤاخذ به، لكن إذا ذكرت النهي، فلا تقعد معهم؛ لأنهم ظالمون بالطعن في الكلام المعجز، عنادا.

    وفي الحديث: «إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه» - رواه الطبراني عن ثوبان مرفوعا. وإسناده صحيح - وهذه الآية هي المشار إليها في قوله تعالى: وقد نـزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم الآية. لأن في حضور المنكر مع إمكان التباعد عنه، مشاركة لصاحبه.

    فوائد:

    قال السيوطي في "الإكليل": في هذه الآية وجوب اجتناب مجالس الملحدين، وأهل اللغو، ويستدل بها على أن الناسي غير مكلف، وأنه إذا ذكر عاد إليه التكليف، فيعفى عما ارتكبه في حال نسيانه. ويندرج تحت ذلك مسائل كثيرة في العبادات والتعليقات. انتهى.

    وقال الرازي: ومن الحشوية من استدل بهذه الآية في النهي عن الاستدلال والمناظرة في ذات الله تعالى وصفاته. قال: لأن ذلك خوض في آيات الله، والخوض في آيات الله حرام بدليل هذه الآية.

    والجواب عنه: أن المراد من الخوض في الآية الشروع في الطعن والاستهزاء. فسقط هذا الاستدلال. والله أعلم.

    [ ص: 2361 ] وقال بعض مفسري الزيدية - ثمرة الآية أحكام:

    الأول: وجوب الإعراض عن مجالس المستهزئين بآيات الله أو بحججه أو برسله، وأن لا يقعد معهم؛ لأن في القعود إظهار عدم الكراهة؛ وذلك لأن التكليف عام لنا، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يجب الإعراض، وترك الجلوس معهم، إذا لم يطمع في قبولهم، فإذا انقطع طمعه إذا، فلا فائدة في دعائهم. ويجب القيام عن مجالسهم إذا عرف أن قيامه يكون سببا في ترك الخوض، وأنهم إنما يفعلونه مغايظة للواقف، إذ كان وقوفه يوهم عدم الكراهة.

    الحكم الثاني: جواز مجالسة الكفار، مع عدم الخوض؛ لأنه إنما أمرنا بالإعراض مع الخوض. وأيضا فقد قال تعالى: حتى يخوضوا في حديث غيره قال الحاكم: والآية تدل أيضا على المنع من مجالسة الظلمة والفسقة، إذا أظهروا المنكرات، وتدل على إباحة الدخول عليهم لغرض، كما يباح للتذكير. وفي الآية أيضا دلالة على وجوب الإنكار؛ لأن الإعراض إنكار. قال: وتدل على أن التقية من الأنبياء والأئمة بإظهارهم المنكر لا تجوز، خلاف الإمامية، وتدل على جواز النسيان على الأنبياء.

    الحكم الثالث: أن الناسي مرفوع عنه الحرج، فإن قيل: النسيان فعل الله، فلم أضيف إلى الشيطان؟ أجيب: بأن السبب من الشيطان، وهو الوسوسة والإعراض عن الذكر، فأضيف إليك لذلك. كما أن من ألقى غيره في النار فمات، يقال، إنه القاتل، وإن كان الإحراق فعل الله، واختلف في النسيان ما هو؟ فقال الحاكم: هو معنى يحدثه الله في القلب. وقال أبو هاشم وأصحابه: ليس بمعنى، وإنما هو زوال العلم الضروري الذي جرت العادة بحصوله. انتهى.
    [ ص: 2362 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [69] وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ولكن ذكرى لعلهم يتقون

    وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء أي: وما يلزم المتقين الذين يجالسونهم شيء عما يحاسبون عليه من خوضهم ولكن ذكرى أي: ولكن أمروا بالإعراض عنهم، ليكون ذكرى لضعفاء المسلمين؛ لئلا يقع شيء من مطاعن المستهزئين في قلوبهم لعلهم يتقون أي: يبلغ مبلغ التوقي من شبهاتهم، بالجلوس مع علمائه بدلهم.

    تنبيهان:

    الأول: ما ذكرناه في معنى الآية، هو ما قرره المهايمي رحمه الله تعالى. وقيل: المعنى: ولكن على المتقين أن يذكروهم ذكرى إذا سمعوهم يخوضون، بالقيام عنهم، وإظهار الكراهة لهم وموعظتهم، لعلهم يتقون الخوض حياء أو كراهة لمساءتهم، فلا يعودون إليه، وجوزوا أن يكون الضمير: للذين يتقون ، أي: يذكرونهم رجاء أن يثبتوا على تقواهم، أو يزدادوها. انتهى.

    وما ذكرناه أسد وأوجه.

    وروى ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير، قال في الآية: أي: ما عليك أن يخوضوا في آيات الله إذا فعلت ذلك. أي: إذا تجنبتهم، وأعرضت عنهم. وعليه فالموصول كناية عن النبي صلى الله عليه وسلم. التفت به تعظيما وتكريما.

    الثاني: قال السيوطي في "الإكليل": قد يستدل بقوله تعالى: وما على الذين يتقون إلخ على أن من جالس أهل المنكر، وهو غير راض بفعلهم، فلا إثم عليه. لكن آية النساء تدل على أنه آثم، ما لم يفارقهم؛ لأنه قال: إنكم إذا مثلهم . أي: [ ص: 2363 ] إن قعدتم فأنتم مثلهم في الإثم، وهي متأخرة. فيحتمل أن تكون ناسخة لهذه كما ذهب إليه قوم منهم السدي. أقول: المنفي في الآية هو لحوق شيء من وبال الخائضين، وإثم كفرهم لمجالسيهم المتقين، فلا ينافي ذلك لحوق وبال المجالسة على انفرادها، وهو ما أفادته آية النساء. فالمثلية إذن في مطلق الإثم، وإن تباين (ماصدقه) فيهما؛ إذ لا قائل بأن مطلق مجالستهم ردة وكفر. نعم! لو قيل بأن المثلية محمولة على ما إذا حصل الرضا بشأن مجالستهم، فلا إشكال إذن. وبالجملة فاستدلال "الإكليل" واه، ولذا عبر ب (قد)، ودعوى النسخ أوهى. فتأمل! القول في تأويل قوله تعالى:

    [70] وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون

    وذر الذين اتخذوا دينهم أي: الذي كلفوه ودعوا إليه، وهو دين الإسلام لعبا ولهوا حيث سخروا به واستهزؤوا: وغرتهم الحياة الدنيا حيث اطمأنوا بها، وزعموا أن لا حياة بعدها أبدا، وأن السعادة في لذاتها. أي: أعرض عنهم، ودعهم، ولا تبال بتكذيبهم، وأمهلهم قليلا، فإنهم صائرون إلى عذاب عظيم وذكر به أي: ذكر الناس بهذا القرآن: أن تبسل نفس بما كسبت أي: مخافة أن تسلم إلى الهلاك، وترتهن بسوء كسبها. وغرورها بإنكار الآخرة. يقال: أبسله لكذا: عرضه ورهنه، [ ص: 2364 ] أو أسلمه للهلكة ليس لها من دون الله ولي ينصرها بالقوة: ولا شفيع يدفع عنها بالمسألة.

    وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها أي: وإن تفد كل نوع من أنواع الفداء، بما يقابل العذاب، لا يقبل منها، لبعدهم عن مقام الفداء. والعدل: الفدية؛ لأن الفادي يعدل المفدى بمثله.

    أولئك إشارة إلى المتخذين دينهم لعبا ولهوا: الذين أبسلوا أي: سلموا للهلاك، بحيث لا يعارضه شيء بما كسبوا بهذا الاغترار من إنكار الآخرة معها، والانهماك في الشهوات المحرمة لهم شراب من حميم أي: ماء مغلي يتجرجر في بطونهم، وتقطع به أمعاؤهم وعذاب أليم أي: بنار تشتعل بأبدانهم بما كانوا يكفرون أي: بسبب كفرهم.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [71] قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إن هدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لرب العالمين

    قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا أي: أنعبد من دونه ما لا يقدر على نفعنا، إن دعوناه، ولا ضرنا إن تركناه ونرد على أعقابنا عطف على (ندعو)، داخل في حكم الإنكار والنفي. أي: ونرد إلى الشرك. والتعبير عنه بالرد على الأعقاب - لزيادة تقبيحه بتصويره بصورة ما هو علم في القبح، مع ما فيه من الإشارة إلى كون الشرك حالة قد تركت ونبذت وراء الظهر . أفاده أبو السعود.

    بعد إذ هدانا الله أي: للإسلام والتوحيد، وأنقذنا من عبادة الأصنام، فنصير [ ص: 2365 ] كالمستمر على الضلال، بل: كالذي استهوته الشياطين أي: استمالته عن الطريق الواضح مردة الجن في الأرض القفر المهلكة حيران أي: تائها ضالا عن الجادة، لا يدري كيف يصنع له أي: لهذا المستهوى: أصحاب أي: رفقة: يدعونه إلى الهدى أي: إلى الطريق المستقيم ائتنا على إرادة القول، أي: يقولون: ائتنا. أي: وهو قد اعتسف المهمه، تابعا للشياطين، لا يجيبهم ولا يأتيهم. فشبه حال من خلص من الشرك، ثم عاد له، بحال من ذهب به المردة في مهمه بعد ما كان على الجادة، ولا يدري مقصده الذي هو سائر إليه، مع وجود رفقة تناديه لتهديه، وهو لا يسمع لهم قل إن هدى الله أي: الذي أرسل به رسله هو الهدى أي: وما وراءه ضلال وغي وأمرنا لنسلم لرب العالمين
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [72] وأن أقيموا الصلاة واتقوه وهو الذي إليه تحشرون

    وأن أقيموا الصلاة واتقوه أي: في مخالفة أمره وأن أقيموا عطف على: لنسلم . ومعناه: أن نسلم. فاللام فيه رديفة: أن ، أو عطف عليه; واللام تعليلية، أي: للإسلام، ولإقامة الصلاة. وفي ورود: أقيموا الصلاة محكيا بصيغته، وورود: نسلم محكيا بمعناه. احتمال أن يكون صلى الله عليه وسلم حكى قول الله بمعناه، دون لفظه. انظر "الانتصاف".

    تنبيه:

    في تخصيص الصلاة بالذكر من بين أنواع الشرائع، وعطفها على الأمر بالإسلام، وقرنها بالأمر بالتقوى - دليل على تفخيم أمرها، وعظيم شأنها - ذكره بعض الزيدية -: وهو الذي إليه تحشرون
    [ ص: 2366 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [73] وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق ويوم يقول كن فيكون قوله الحق وله الملك يوم ينفخ في الصور عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير

    وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق أي: بالحكمة، كقوله: وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا

    وقوله تعالى: ويوم يقول كن فيكون قوله الحق بيان لقدرته تعالى على حشرهم، بكون مراده لا يتخلف عن أمره، وأن قوله هو النافذ والواقع، والمراد ب (القول) كلمة (كن) تحقيقا أو تمثيلا. ف (قوله الحق) مبتدأ وخبر. و (يوم) ظرف لمضمون هذه الجملة. كقوله تعالى: إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون

    وكأن قوله تعالى: وهو الذي خلق السماوات إلخ عقب قوله: وهو الذي إليه تحشرون سيق للاحتجاج على قدرته تعالى على البعث، ردا على منكري ذلك من المشركين، الذين السياق فيهم. وما أشبه الآية بقوله تعالى: أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم إنما أمره إذا أراد شيئا

    ولا يخفى أن باستحضار النظائر القرآنية، تنجلي الحقائق. وقد توسع المفسرون هنا في إعراب هذه الجملة، بسرد وجوه ضاع الظاهر بينها - وقد علمته؛ فاحرص عليه.

    [ ص: 2367 ] وله الملك يوم ينفخ في الصور أي: فلا بد أن يفعل بالمطيع والعاصي فعل الملوك، لمن يطيعهم أو يعصيهم. ف (يوم) ظرف لقوله: وله الملك - قاله أبو السعود - وتقييد اختصاص الملك به تعالى، بذلك اليوم، مع اليوم، مع عموم الاختصاص لجميع الأوقات، لغاية ظهور ذلك. بانقطاع العلائق المجازية الكائنة في الدنيا، المصححة للمالكية المجازية في الجملة، كقوله تعالى: لمن الملك اليوم لله الواحد القهار وقوله: الملك يومئذ الحق للرحمن

    وقد زعم بعضهم أن المراد ب (الصور) هنا جمع صورة، أي: يوم ينفخ فيها، فتحيا. قال ابن كثير: والصحيح أن المراد ب (الصور) القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام، وهكذا قال ابن جرير: الصواب عندنا ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن إسرافيل قد التقم الصور، وحنى جبهته ينتظر متى يؤمر فينفخ» .

    وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو قال: إن أعرابيا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الصور؟ [ ص: 2368 ] فقال: «قرن ينفخ فيه» . ورواه أبو داود والترمذي والحاكم، عنه أيضا.

    عالم الغيب والشهادة أي: هو عالمهما وهو الحكيم الخبير ذو الحكمة في سائر أفعاله. والعلم بالأمور الجلية والخفية.
    ثم أمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يذكر لمن اتخذ دينه هزوا ولعبا إنكار إبراهيم عليه الصلاة والسلام - الذي يزعمون أنهم على دينه، ويفتخرون به - على أبيه في شركه بقوله سبحانه:

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [74] وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين

    وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما أي: صورا مصنوعة آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين أي: باعتقاد إلهيتها، أو اتصافها بصفاته، أو استحقاقها للعبادة؛ لأن الإلهية بوجوب الوجود بالذات، وهي ممكنة مصنوعة وأنى لها الاتصاف بصفاته، وهي عاجزة عن النفع والضر، خالية عن الحياة والسمع والبصر، والعبادة غاية التذلل، فلا يستحقها من لا يخلو عن هذه الوجوه من الذلة، وإنما يستحقها من كان في غاية العلو - أفاده المهايمي -.

    تنبيهات:

    الأول: قرئ: آزر بالنصب، عطف بيان لقوله: لأبيه وبالضم على النداء.

    الثاني: الآية حجة على الشيعة في زعمهم أنه لم يكن أحد من آباء الأنبياء كافرا، وأن آزر عم إبراهيم، لا أبوه، على ما بسطه الرازي هنا، وذلك لأن الأصل في الإطلاق الحقيقة، ومثله لا يجزم به من غير نقل.

    [ ص: 2369 ] الثالث: قال بعض مفسري الزيدية: في الآية دلالة على بطلان قول الإمامية: إن الإمام لا يجوز أن يكون أبوه كافرا؛ لأنه إذا جاز نبي أبوه وزوجته كافران فالإمام أولى.

    اشتمل كلام إبراهيم عليه الصلاة والسلام على ذكر الحجة العقلية إجمالا على فساد قول عبدة الأصنام، بإنكاره اتخاذها آلهة، وهي ما هي في عجزها. وقد جاءت مفصلة في سورة مريم في قوله: واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا الآيات.

    قال ابن كثير: ثبت في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة. فيقول إبراهيم: ألم أقل لك لا تعصني؟ فيقول أبوه: فاليوم لا أعصيك، فيقول إبراهيم: يا رب! إنك وعدتني يوم أن لا تخزني يوم يبعثون، فأي خزي أخزى من أبي الأبعد؟ فيقول الله تعالى: إني حرمت الجنة على الكافرين. ثم يقال: يا إبراهيم! انظر ما تحت رجليك، فينظر فإذا هو بذيخ متلطخ فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار» .

    الرابع: قال بعض مفسري الزيدية: ثمرة الآية الدلالة على وجوب النصيحة في الدين، لا سيما للأقارب، فإن من كان أقرب، فهو أهم. ولهذا قال تعالى: وأنذر عشيرتك الأقربين [ ص: 2370 ] وقال تعالى: قوا أنفسكم وأهليكم نارا قال صلى الله عليه وسلم: «ابدأ بنفسك ثم بمن تعول» . ولهذا بدأ صلى الله عليه وسلم بعلي وخديجة وزيد، وكانوا معه في الدار، فآمنوا وسبقوا، ثم بسائر قريش، ثم بالعرب، ثم بالموالي. وبدأ إبراهيم بأبيه، ثم بقومه. وتدل هذه الآية على أن النصيحة في الدين والذم والتوبيخ لأجله، ليس من العقوق، كالهجرة - هكذا في التهذيب. انتهى.
    [ ص: 2371 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [75] وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين

    وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض أي: نطلعه على حقائقهما، ونبصره في دلالتهما على شؤونه عز وجل، من حيث إنهما بما فيهما، مربوبان ومملوكان، له تعالى. و (الملكوت) مصدر على زنة المبالغة، كالرهبوت والجبروت، ومعناه: الملك العظيم، والسلطان القاهر. وقيل: ملكوتهما عجائبهما وبدائعهما. وقد أسلفنا الكلام في (وكذلك) قريبا عند قوله تعالى: وكذلك فتنا وأن مختار الزمخشري كونه إشارة إلى مصدر ما بعده، والكاف مقحمة، والتقدير: تلك الإراءة والتبصير البديع، نريه ونبصره. فجدد به عهدا.

    وليكون من الموقنين عطف على علة محذوفة لم تقصد بعينها، إشعارا بأن لتلك الإراءة فوائد جمة، من جملتها ما ذكر.

    قال المهايمي في الآية: وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض ليعلم أن شيئا من روحانيات الأفلاك والكواكب والمشايخ والشياطين لا يصلح للإلهية وليكون من الموقنين بالتوحيد بالاستدلال بالأدلة الكثيرة. وقيل: وليكون علة لمقدر هو عبارة عن المذكور. أي: وليكون من الموقنين بالتوحيد، فعلنا ما فعلنا من الإراءة والتبصير بآيات السماوات والأرض.

    لطائف:

    الأولى: قال الرازي: وههنا دقيقة عقلية، وهي أن نور جلال الله تعالى لائح غير [ ص: 2372 ] منقطع ولا زائل البتة، والأرواح البشرية، لا تصير محرومة عن تلك الأنوار إلا لأجل حجاب، وذلك الحجاب ليس إلا الاشتغال بغير الله تعالى. فإذا كان الأمر كذلك. فبقدر ما يزول ذلك الحجاب، يحصل هذا التجلي. فقول إبراهيم عليه الصلاة والسلام: أتتخذ أصناما آلهة إشارة إلى تقبيح الاشتغال بعبادة غير الله تعالى؛ لأن كل ما سوى الله فهو حجاب عن الله تعالى، فلما زال ذلك الحجاب، لا جرم تجلى له ملكوت السماوات بالتمام. فقوله: وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات معناه: وبعد زوال الاشتغال بغير الله حصل له نور تجلى جلال الله تعالى، فكان قوله: وكذلك منشأ لهذه الفائدة الشريفة الروحانية.

    الثانية: قال الرازي: اليقين عبارة عن علم يحصل بعد زوال الشبهة بسبب التأمل. ولهذا المعنى لا يوصف علم الله تعالى بكونه يقينا؛ لأن علمه غير مسبوق بالشبهة، وغير مستفاد من الفكر والتأمل. واعلم أن الإنسان في أول ما يستدل به، فإنه لا ينفك قلبه عن شك وشبهة من بعض الوجوه، فإذا كثرت الدلائل وتوافقت وتطابقت، صارت سببا لحصول اليقين. وذلك لوجوه:

    الأول: أنه يحصل لكل واحد من تلك الدلائل نوع تأثر وقوة، فلا تزال القوة تتزايد حتى تنتهي إلى الجزم.

    الثاني: أن كثرة الأفعال سبب لحصول الملكة. فكثرة الاستدلال بالدلائل المختلفة على المدلول الواحد، جار مجرى تكرار الدرس الواحد. فكما أن كثرة التكرار تفيد الحفظ المتأكد الذي لا يزول عن القلب، فكذا ههنا.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #329
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,172

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْأَنْعَامِ
    المجلد السادس
    صـ 2373 الى صـ 2387
    الحلقة (329)




    الثالث: أن القلب عند الاستدلال كان مظلما جدا، فإذا حصل فيه الاعتقاد المستفاد من الدليل الأول، امتزج نور ذلك الاستدلال بظلمة سائر الصفات الحاصلة في القلب، فحصل فيه حالة شبيهة بالحالة الممتزجة من النور والظلمة، فإذا حصل الاستدلال الثاني امتزج نوره بالحالة الأولى، فيصير الإشراق واللمعان أتم. وكما أن الشمس إذا قربت من المشرق ظهر [ ص: 2373 ] نورها في أول الأمر، وهو الصبح، فكذلك الاستدلال الأول يكون كالصبح. ثم، كما أن الصبح لا يزال يتزايد بسبب تزايد قرب الشمس من سمت الرأس، فإذا وصلت إلى سمت الرأس حصل النور التام، فكذلك العبد كلما كان تدبره في مراتب مخلوقات الله تعالى أكثر، كان شروق نور المعرفة والتوحيد أجلى. إلا أن الفرق بين شمس العلم، وشمس العالم، أن شمس العالم الجسماني لها في الارتقاء والتصاعد حد معين، لا يمكن أن يزاد عليه في الصعود. وأما شمس المعرفة والعقل والتوحيد، فلا نهاية لتصاعدها، ولا غاية لازديادها. فقوله: وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض إشارة إلى مراتب الدلائل والبينات. وقوله: وليكون من الموقنين إشارة إلى درجات أنوار التجلي، وشروق شمس المعرفة والتوحيد. انتهى.

    الثالثة: ذكر تعالى الإراءة في هذه الآية مجملة، ثم فصلها بقوله:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [76] فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين

    فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي قال المهايمي: لما رأى - يعني إبراهيم عليه الصلاة والسلام - الملكوت، وأيقن أن شيئا منها لا يصلح للإلهية، أراد الرد على قومه في اعتقاد إلهيتها لخستها، باعتبار افتقارها في أفعالها إلى أجسام لها دناءة الأفول، وإن كانت علوية، وكذا في اعتقاد إلهية تلك الأجسام. كما رد عليهم في اعتقاد إلهية الأصنام، فلتظهر ظهور الكواكب التي كانوا يعبدونها. انتهى.

    وبالجملة، فالآية بيان لكيفية استدلاله عليه الصلاة والسلام، ووصوله إلى رتبة الإيقان. ومعنى: جن عليه الليل ستره بظلامه. و (الكوكب) قيل: الزهرة، وقيل: المشتري.

    [ ص: 2374 ] أقول: (الكوكب) لغة: النجم. قال الزبيدي في "شرح القاموس": وكونه علما بالغلبة على الزهرة غير معتد به، وإنما هي الكوكبة بالهاء. انتهى.

    [ ص: 2375 ] قال الزمخشري: كان أبوه وقومه يعبدون الأصنام والشمس والقمر والكواكب فأراد أن ينبههم على الخطأ في دينهم، وأن يرشدهم إلى طريق النظر والاستدلال، ويعرفهم أن النظر الصحيح مؤد إلى أن شيئا منها لا يصح أن يكون إلها، لقيام دليل الحدوث فيها وأن وراءها محدثا أحدثها، وصانعا صنعها، ومدبرا دبر طلوعها وأفولها وانتقالها ومسيرها وسائر أحوالها. وقول إبراهيم لقومه: هذا ربي إرخاء للعنان معهم بإظهار موافقته لهم أولا، ثم إبطال قولهم بالاستدلال؛ لأنه أقرب لرجوع الخصم. قال الزمخشري: قول إبراهيم ذلك. هو قول من ينصف خصمه، مع علمه بأنه مبطل. يحكي قوله كما هو غير متعصب لمذهبه؛ لأن ذلك أدعى إلى الحق، وأنجى من الشغب. ثم يكر عليه بعد حكايته، فيبطله بالحجة.

    فلما أفل أي: غاب: قال لا أحب الآفلين أي: لا أحب عبادة من كان كذلك، فإن الأفول دناءة تنافي الإلهية، بل تمنع من الميل إلى صاحبها، فضلا عن اتخاذه إلها أو معبودا، فضلا عما يفتقر إليه.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [77] فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين

    فلما رأى القمر بازغا أي: طالعا منتشر الضوء: قال هذا ربي على الأسلوب المتقدم: فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين فإن ما رأيته لا يليق بالإلهية لدناءته بمحوه.

    قال الزمخشري: وفيه تنبيه لقومه على أن من اتخذ القمر إلها، وهو نظير الكواكب في الأفول، فهو ضال. وأن الهداية إلى الحق بتوفيق الله تعالى ولطفه.

    وفي "الانتصاف": التعريض بضلالهم ثانيا أصرح وأقوى من قوله أولا: لا أحب الآفلين وإنما ترقى إلى ذلك؛ لأن الخصوم قد أقامت عليه، بالاستدلال الأول، حجة فأنسوا بالقدح في معتقدهم، ولو قيل هذا في الأول فلعلهم كانوا ينفرون، ولا يصغون إلى الاستدلال. فما عرض صلوات الله عليه بأنهم في ضلالة، إلا بعد أن وثق بإصغائهم إلى تمام المقصود، واستماعهم إلى آخره. والدليل على ذلك أنه ترقى في النوبة الثالثة إلى التصريح بالبراءة منهم، والتقريع بأنهم على شرك حين تم قيام الحجة، وتبلج الحق، وبلغ من الظهور غاية المقصود. كما قال تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [78] فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون

    فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي على نحو ما تقدم، وتذكير اسم الإشارة لتذكير الخبر، أو لأنه أراد: هذا الطالع، أو الذي أراه، أو لصيانة الرب عن شبهة التأنيث، ليستدرجهم. إذ لو حقر بوجه ما كان سببا لعدم إصغائهم - وعلى الأخير اقتصر المهايمي - فقال: لم يؤنثه لئلا يعارض عظمته نقص الأنوثة، ولو غير حقيقة، وهي وإن كانت في الواقع لم يأت بها لفظا؛ لأنه قصد بذلك مساعدة الخصم أولا.

    وقوله تعالى: هذا أكبر أي: أكبر الكواكب جرما، وأعظمها قوة، فهو أولى بالإلهية. وفيه تأكيد لما رامه عليه الصلاة والسلام من إظهار النصفة، مع إشارة خفية إلى فساد دينهم من جهة أخرى، ببيان أن الأكبر أحق بالربوبية من الأصغر.

    [ ص: 2376 ] فلما أفلت قال صادعا بالحق: يا قوم إني بريء مما تشركون أي: من الأجرام المحدثة المتغيرة من حالة إلى أخرى، أو من إشراككم.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [79] إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين

    إني وجهت وجهي أي: وجهت قلبي وروحي في المحبة والعبادة، بل جعلته مسلما: للذي فطر السماوات والأرض حنيفا أي: مائلا عن الأديان الباطلة، والعقائد الزائغة وما أنا من المشركين

    وفي هذا المقام:

    مباحث:

    الأول: توسع المفسرون هنا في قوله: هذا ربي .

    فمن قائل بأن المتكلم بهذا آزر، وأنه لما قال ذلك، قال إبراهيم: لا أحب الآفلين .

    وقيل: إنه إبراهيم. وكان ذلك في حال الطفولية، قبل استحكام النظر في معرفة الله تعالى لقوله: لئن لم يهدني ربي ... إلخ.

    وقيل: بعد بلوغه وتكريمه بالرسالة. إلا أنه أراد الاستفهام الإنكاري، توبيخا لقومه، فحذف الهمزة، ومثله كثير.

    وقيل: على إضمار القول أي: يقولون هذا ربي، وإضمار القول كثير.

    وقيل: المعنى في زعمكم واعتقادكم. وقيل: الإخبار على سبيل الاستهزاء... إلى أقوال أخر.

    والقصد في ذلك تنزيه مقامه عليه الصلاة والسلام عن الشك والحيرة، واعتقاد ربوبية ذلك، لمنافاته للعصمة.

    [ ص: 2377 ] وأقول: هذا مسلم بلا ريب، ولكن الأوجه من جميع ذلك كله ما أسلفناه أولا من أن قوله: هذا ربي من باب استعمال النصفة مع الخصوم، على سبيل الوضع، وهو سوق مقدمة في الدليل لا يعتقدها، لكونها مسلمة عند غيره، لأجل إلزامه بها. وهو مصطلح أهل الجدل. وقد اقتصر الزمخشري على هذا الوجه الفريد.

    قال الناصر في "الانتصاف": وذلك متعين. وقد ورد في الحديث الوارد في الشفاعة أنهم يأتون إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فيلتمسون منه الشفاعة، فيقول: نفسي! نفسي! ويذكر كذباته الثلاث، ويقول: لست لها، يريد قوله لسارة: هي أختي، وإنما عنى: في الإسلام، وقوله: إنه سقيم، وإنما عنى همه بقومه وبشركهم، والمؤمن يسقمه ذلك - وقوله: بل فعله كبيرهم ، وقد ذكرت فيه وجوه من التعريض. فإذا عد صلوات الله عليه وسلامه على نفسه هذه الكلمات، مع العلم بأنه غير مؤاخذ بها، دل ذلك على أنه أعظم ما صدر منه. فلو كان الأمر على ما يقال، من أن هذا الكلام محكي عنه على أنه نظره لنفسه، لكان أولى أن يعده، وأعظم، مما ذكرناه؛ لأنه حينئذ يكون شكا، بل جزما. على أن الصحيح أن الأنبياء قبل النبوة معصومون من ذلك، انتهى.

    وقال الحافظ ابن كثير: اختلف المفسرون في هذا المقام، هل هو مقام نظر أو مناظرة؟ فروى ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ما يقتضي أنه مقام نظر. واختاره ابن جرير مستدلا عليه بقوله: لئن لم يهدني ربي الآية... وقال محمد بن إسحاق: قال ذلك حين خرج من السرب الذي ولدته فيه أمه، حين تخوفت عليه من نمروذ بن كنعان [ ص: 2378 ] لما كان قد أخبر بوجود مولود يكون ذهاب ملكه على يديه، فأمر بقتل الغلمان عامئذ. فلما حملت أم إبراهيم به، وحان وضعها، ذهبت إلى سرب، ظاهر البلدة، فولدت فيه إبراهيم، وتركته هناك. وذكر أشياء من خوارق العادات، كما ذكرها غيره من المفسرين. ثم قال ابن كثير: والحق أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان في هذا المقام مناظرا لقومه، مبينا لهم بطلان ما كانوا عليه من عبادة الهياكل والأصنام، فبين، في المقام الأول مع أبيه، خطأهم في عبادة الأصنام الأرضية، التي هي على صورة الملائكة السماوية ليشفعوا له إلى الخالق العظيم الذي هم عند أنفسهم أحقر من أن يعبدوه، وإنما يتوسلون إليه بعبادة ملائكته، ليشفعوا لهم عنده في الرزق، وغير ذلك مما يحتاجون إليه، وبين في هذا المقام خطأهم وضلالهم في عبادة الهياكل، وهي الكواكب السيارة السبعة. وأشدهن إضاءة وأشرفهن عندهم، الشمس ثم القمر ثم الزهرة. فبين أولا -صلوات الله وسلامه عليه- أن هذه الزهرة لا تصلح للإلهية، فإنها مسخرة مقدرة بسير معين، لا تزيغ عنه، ولا تملك لنفسها تصرفا، بل هي جرم من الأجرام، خلقها الله منيرة، لما له في ذلك من الحكم العظيمة، وهي تطلع من المشرق، ثم تسير فيما بينه وبين المغرب، حتى تغيب عن الأبصار فيه، ثم تبدو في الليلة القابلة على هذا المنوال. وهذه لا تصلح للإلهية. ثم بين في القمر ما بين في النجم، ثم الشمس كذلك. فلما انتفت الإلهية عن هذه الأجرام الثلاثة، التي هي أنور ما تقع عليه الأبصار، وتحقق ذلك بالدليل القاطع، تبرأ من عبادتهن وموالاتهن، وأخبر بأنه يعبد خالقهن ومسخرهن.

    ثم قال ابن كثير: وكيف يجوز أن يكون ناظرا في هذا المقام، وهو الذي قال الله في حقه: ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون وقال تعالى: إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم

    [ ص: 2379 ] وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كل مولود يولد على الفطرة» .

    وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله تعالى: إني خلقت عبادي حنفاء» . وقال تعالى: فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله وقال تعالى: وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى ومعناه -على أحد القولين- كقوله: فطرت الله التي فطر الناس عليها فإذا كان هذا في حق سائر الخليقة، فكيف يكون إبراهيم الخليل [ ص: 2380 ] الذي جعله الله: أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين ناظرا في هذا المقام؟ بل هو أولى الناس بالفطرة السليمة، والسجية المستقيمة، بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، بلا شك ولا ريب.

    ومما يؤيد أنه كان في هذا المقام مناظرا لقومه فيما كانوا فيه من الشرك، لا ناظرا، قوله تعالى: وحاجه قومه الآية الآتية. انتهى.

    وممن جود هذا المبحث الجليل، وبين أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان مناظرا لقومه، العلامة الشهرستاني في كتابه "الملل والنحل"، ونحن نسوقه عنه تأييدا لهذا البحث المهم، وتعرفا بمعتقد قومه، وما دفعهم إليه، لما فيه من الفوائد.

    قال رحمه الله تحت ترجمة "أصحاب الهياكل والأشخاص": هؤلاء من فرق الصابئة (وهم المتعصبون للروحانيين)، وقد أدرجنا مقالتهم في المناظرات جملة، ونذكرها ههنا تفصيلا:

    اعلم أن أصحاب الروحانيات، لما عرفوا أن لا بد للإنسان من متوسط، ولا بد للمتوسط من أن يرى فيتوجه إليه للتقرب به، ويستفاد منه، فزعوا إلى الهياكل التي هي السيارات السبع، فتعرفوا أولا بيوتها ومنازلها، وثانيا مطالعها ومغاربها، وثالثا اتصالاتها على أشكال الموافقة والمخالفة، مرتبة على طبائعها، ورابعا تقسيم الأيام والليالي والساعات عليها، وخامسا تقدير الصور والأشخاص والأقاليم والأمصار عليها، فعملوا الخواتيم، وتعلموا العزائم والدعوات، وعينوا ليوم زحل مثلا يوم السبت، وراعوا فيه ساعته الأولى، وتختموا بخاتمه المعمول على صورته وصفته، ولبسوا اللباس الخاص به، وبخروا ببخوره الخاص، ودعوا بدعواته الخاصة، وسألوا حاجاتهم منه، الحاجة التي تستدعى من زحل من أفعاله وآثاره الخاصة به.

    وكذاك رفع الحاجة التي تختص بالمشتري في يومه وساعته، وجميع الإضافات التي [ ص: 2381 ] ذكرنا إليه. وكذلك سائر الحاجات إلى الكواكب. وكانوا يسمونها: أربابا آلهة، والله تعالى هو رب الأرباب، وإله الآلهة. ومنهم من جعل الشمس إله الآلهة ورب الأرباب، فكانوا يتقربون إلى الهياكل، تقربا إلى الروحانيات - يعني الملائكة - ويتقربون إلى الروحانيات، تقربا إلى البارئ تعالى، لاعتقادهم بأن لكل روحاني هيكلا، ولكل هيكل فلكا، فالهياكل أبدان الروحانيات، ونسبتها إلى الروحانيات نسبة أجسادنا إلى أرواحنا فهم الأحياء الناطقون بحياة الروحانيات، وهي أربابها ومدبراتها، تتصرف في أبدانها تدبيرا وتصريفا وتحريكا، كما يتصرف في أبداننا. ولا شك أن من تقرب إلى شخص فقد تقرب إلى روحه. ثم استخرجوا من عجائب الحيل المرتبة على عمل الكواكب ما كان يقضى منهم العجب. وهذه الطلسمات المذكورة في الكتب والسحر والكهانة والتختيم والتعزيم والخواتيم والصور، كلها من علومهم.

    وأما أصحاب الأشخاص فقالوا: إذا كان لا بد من متوسط يتوسل به، وشفيع يتشفع إليه، والروحانيات وإن كانت هي الوسائل، لكنا إذا لم نرها بالأبصار، ولم نخاطبها بالألسن، لم يتحقق القرب إليها إلا بهياكلها، ولكن الهياكل قد ترى في وقت، ولا ترى في وقت؛ لأن لها طلوعا وأفولا، وظهورا بالليل، وخفاء بالنهار، فلم يصف لنا التقرب بها، والتوجه إليها، فلا بد لنا من صور وأشخاص موجودة قائمة منصوبة نصب أعيننا، فنعكف عليها، ونتوسل بها إلى الهياكل، فنتقرب بها إلى الروحانيات، ونتقرب بالروحانيات إلى الله تعالى، فنعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى، فاتخذوا أصناما أشخاصا على مثال الهياكل السبعة، كل شخص في مقابلة هيكل، وراعوا في ذلك جوهر الهيكل، أعني الجوهر الخاص به من الحديد وغيره، وصوروه بصورته على الهيئة التي تصدر أفعاله عنه، وراعوا في ذلك الزمان والوقت والساعة والدرجة والدقيقة وجميع الإضافات النجومية، من اتصال محمود يؤثر في نجاح المطالب التي تستدعى منه، فتقربوا إليه في يومه وساعته، وتبخروا بالبخور الخاص به وتختموا بخاتمه، ولبسوا ثيابه، وتضرعوا بدعائه، وعزموا [ ص: 2382 ] بعزائمه، وسألوا حاجتهم منه، فيقولون: كان تقضى حوائجهم بعد رعاية هذه الإضافات كلها، وذلك هو الذي أخبر التنزيل عنه أنهم عبدة الكواكب والأوثان، فأصحاب الهياكل هم عبدة الكواكب، إذ قالوا بإلهيتها - كما شرحنا - وأصحاب الأشخاص هم عبدة الأوثان، إذ سموها آلهة في مقابل آلهة أولئك السماوية، وقالوا: هؤلاء شفعاؤنا عند الله . وقد ناظر الخليل عليه الصلاة والسلام هذين الفريقين، فابتدأ بكسر مذهب أصحاب الأشخاص، وذلك قوله تعالى: وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم وتلك الحجة أن كسرهم قولا بقوله: أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون ولما كان أبوه آزر هو أعلم القوم بعمل الأشخاص والأصنام ورعاية الإضافات النجومية فيها حق الرعاية، ولهذا كانوا يشترون منه الأصنام، لا من غيره، كان أكثر الحجج معه، وأقوى الإلزامات عليه: وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين وقال: إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا لأنك جهدت كل الجهد، واستعملت كل العلم، حتى عملت أصناما في مقابلة الأجرام السماوية فما بلغت قوتك العلمية والعملية إلى أن تحدث فيها سمعا وبصرا، وأن تغني عنك وتضر وتنفع، وإنك بفطرتك وخلقتك أشرف درجة منها، لأنك خلقت سميعا بصيرا ضارا نافعا، والآثار السماوية فيك أظهر منها في هذا المتخذ تكلفا، والمعمول تصنعا، فيا لها من حيرة، إذ صار المصنوع بيديك معبودا لك، والصانع أشرف من المصنوع يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان : [ ص: 2383 ] يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم فلم يقبل حجته القولية. فعدل عليه الصلاة والسلام إلى الكسر بالفعل، فجعلهم جذاذا، إلا كبيرا لهم: قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون ثم نكسوا على رءوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون فأفحمهم بالفعل حيث أحال الفعل على كبيرهم، كما أفحمهم بالقول، حيث أحال الفعل منهم، وكل ذلك على طريق الإلزام عليهم، وإلا فما كان الخليل كاذبا قط، ثم عدل إلى كسر مذاهب أصحاب الهياكل كما أراه الله تعالى الحجة على قومه، قال: وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين فأطلعه على ملكوت الكونين والعالمين تشريفا له على الروحانيات وهياكلها، وترجيحا لمذهب الحنفاء على مذهب الصابئة، وتقريرا أن الكمال في الرجال، فأقبل على إبطال مذهب أصحاب الهياكل: فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي على ميزان إلزامه على أصحاب الأصنام: بل فعله كبيرهم هذا وإلا فما كان الخليل كاذبا في هذا القول، ولا مشركا في تلك الإشارة، ثم استدل بالأفول والزوال والتغير والانتقال، بأنه لا يصلح أن يكون ربا إلها، فإن الإله القديم لا يتغير، وإذا تغير فاحتاج إلى مغير، وهذا لو اعتقدتموه ربا قديما وإلها أزليا، ولو اعتقدتموه واسطة وقبلة وشفيعا ووسيلة، فالأفول والزوال أيضا، يخرجه عن الكمال. وعن هذا [ ص: 2384 ] ما استدل عليه بالطلوع، وإن كان الطلوع أقرب إلى الحدوث من الأفول، فإنهم إنما انتقلوا إلى الأشخاص، لما عراهم من التحير بالأفول، فأتاهم الخليل عليه الصلاة والسلام من حيث تحيرهم، فاستدل عليهم بما اعترفوا بصحته، وذلك أبلغ في الاحتجاج. ثم: فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين فيا عجبا! من لا يعرف ربا كيف يقول: لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين ؟ رؤية الهداية من الرب تعالى غاية التوحيد، ونهاية المعرفة، والواصل إلى الغاية والنهاية، كيف يكون في مدارج البداية؟ دع هذا كله خلف قاف، وارجع بنا إلى ما هو شاف كاف؛ فإن الموافقة في العبارة على طريق الإلزام على الخصم من أبلغ الحجج، وأوضح المناهج. وعن هذا قال: فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر لاعتقاد القوم أن الشمس ملك الفلك، وهو رب الأرباب الذي يقتبسون منه الأنوار، ويقبلون منه الآثار: فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين قرر مذهب الحنفاء، وأبطل مذهب الصابئة، وبين أن الفطرة هي الحنيفية، وأن الطهارة فيها، وأن الشهادة بالتوحيد مقصورة عليها، وأن الأنبياء والرسل مبعوثة لتقريرها وتقديرها، وأن الفاتحة والخاتمة، والمبدأ والكمال، منوطة بتلخيصها وتحريرها. ذلك الدين القيم، والصراط المستقيم، والمنهج الواضح، والمسلك اللائح. انتهى كلام الشهرستاني رحمه الله تعالى. وإنما نقلت كلامه برمته؛ لأنه كما قيل:


    وما محاسن شيء كله حسن


    وقد قدم رحمه الله الكلام على أصحاب الروحانيات الصابئة، وأتبعها بمناظرة بديعة جرت بينهم وبين الحنفاء، بما تفيد مراجعته فائدة كبرى. فجزاه الله خيرا.

    [ ص: 2385 ] الثاني: تبين مما ذكره الشهرستاني أن سر احتجاج الخليل عليه الصلاة والسلام بالأفول دون البزوغ، مع كون كل منهما منافيا لاستحقاق معروضه للربوبية - هو إتيانهم من حيث تحيرهم، إلزاما لهم بما يعترفون بصحته.

    وقال أبو السعود: لما كان البزوغ حالة موجبة لظهور الآثار والأحكام، ملائمة لتوهم الاستحقاق في الجملة - عدل عنه إلى الأفول؛ لأنه حالة مقتضية لانطماس الآثار، وبطلان الأحكام المنافيين للاستحقاق المذكور منافاة بينة، يكاد يعترف بها كل مكابر عنيد. انتهى. وهو لطيف إلا أن الأول أسد.

    الثالث: لو قيل: إن الأفول، لما كان يمنع من استحقاق معروضه لصفة الربوبية على ما ذكرنا، وقد ثبت ذلك في أكبر الكواكب - (أعني الشمس) - فلزم ثبوته فيما دونها بالأولى: فهلا اقتصر على أفول الشمس رعاية للإيجاز والاختصار؟ أجيب: بأن الأخذ من الأدنى فالأدنى، إلى الأعلى، له نوع تأثير في التقرير والبيان والتأكيد، لا يحصل من غيره، فكان سوق الاستدلال على هذا الوجه أولى - أفاده الرازي -.

    الرابع: قال الرازي: تدل هذه الآية على أن الدين يجب أن يكون مبنيا على الدليل، لا على التقليد، وإلا لم يكن لهذا الاستدلال فائدة البتة.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [80] وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هداني ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون

    قوله تعالى: وحاجه قومه أي: جادلوه، وأرادوا مغالبته بالحجة، فيما ذهب إليه من توحيد الله، ونفي الشركاء عنه، تارة بأدلة فاسدة واقفة في حضيض التقليد، وأخرى بالتخويف، وقد أشير إلى جواب كل منهما. قال أتحاجوني في الله وقد هداني أي: أتجادلونني في توحيده، وقد هداني لإقامة الحجج، ورفع الشبه على نفي إلهية ما سواه، [ ص: 2386 ] وقد ثبت أنها ناقصة في ذواتها، فكمالاتها من غيرها، ولا إلهية للناقص بالذات؛ لأن كماله لا يكون مطلقا، و (تحاجوني) بإدغام نون الجمع في نون الوقاية، وقرئ بحذف الأولى.

    وقوله تعالى: ولا أخاف ما تشركون به أي: لا أخاف معبوداتكم؛ لأنها جمادات لا تضر بنفسها ولا تنفع، وهو جواب عما خوفوه عليه الصلاة والسلام في أثناء المحاجة من إصابة مكروه من جهة أصنامهم، كما قال لهود عليه السلام قومه: إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء . وتخويفهم، وإن لم يسبق له ذكر فهم من قوله: ولا أخاف .

    وقال ابن كثير: أي: ومن الدليل على بطلان قولكم; إن هذه المعبودات لا تؤثر شيئا، وأنا لا أخافها ولا أباليها، فإن كان لها كيد فكيدوني بها ولا تنظرون. انتهى.

    إلا أن يشاء ربي شيئا أي: من إصابة مكروه بي من جهتها، وذلك إنما هو من جهته تعالى، من غير دخل لمعبوداتكم فيه أصلا.

    وفي "الانتصاف": غاية خوف إبراهيم منها المعلق على مشيئة الله تعالى لذلك، خوف الضرر عندها بقدرة الله تعالى، لا بها، وكأنه في الحقيقة لم يخف إلا من الله؛ لأن الخوف الذي أثبته منها معلق بمشيئة الله وقدرته، وهو كالخوف منها. والله أعلم.

    وقوله تعالى: وسع ربي كل شيء علما كأنه علة الاستثناء، أي: أحاط بكل شيء علما. فلا يبعد أن يكون في علمه إنزال المخوف بي من جهتها، أي: كرجمه بالنجوم لأنه إذا أحيل شيء إلى علم الله، أشعر بجواز وقوعه. وفي الإظهار في موضع الإضمار، مع التعرض لعنوان الربوبية، إظهار منه عليه الصلاة والسلام لانقياده لحكمه سبحانه وتعالى، واستسلام لأمره، واعتراف بكونه تحت ملكوته وربوبيته.

    [ ص: 2387 ] هذا وجعل المهايمي ذلك علة لاستدراك محذوف، لعلمه من المقام، حيث قال في الآية: ولا أخاف الضرر على نفسي من تأثير ما تشركون به، إلا أن يشاء ربي أن يجعل لهم شيئا من التأثير، لكنه لا يشاء في شأني؛ لأنه: وسع ربي كل شيء علما فعلم أنه لو أوجد التأثير فيهم بما يضرون به من بعثه لتوحيده، صار محجوبا انتهى، والأول أقرب.

    أفلا تتذكرون أي: تعتبرون بأن هذه المعبودات جمادات، لا تضر ولا تنفع، وأن النافع الضار هو الذي خلق السماوات والأرض.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [81] وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينـزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون

    وكيف أخاف ما أشركتم أي: معبوداتكم، وهي مأمونة الخوف ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينـزل به أي: بإشراكه: عليكم سلطانا أي: حجة. إذ الإشراك لا يصح أن يكون عليه حجة. والمعنى: وما لكم تنكرون علي الأمن في موضع الأمن، ولا تنكرون على أنفسكم الأمن في موضع أعظم المخوفات وأهولها: فأي الفريقين أي: فريقي الموحدين والمشركين أحق بالأمن أي: من لحوق الضرر إن كنتم تعلمون أي: ما يحق أن يخاف منه. أو من أحق بالأمن أو من أولي العلم؟ وجواب الشرط محذوف. أي: فأخبروني.
    ثم بين تعالى من له الأمن، جوابا عما استفهم عنه الخليل عليه السلام بقوله:


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #330
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,172

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْأَنْعَامِ
    المجلد السادس
    صـ 2388 الى صـ 2402
    الحلقة (330)


    القول في تأويل قوله تعالى:

    [82] الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون

    الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أي: بشرك، كما يفعله الفريق المشركون [ ص: 2388 ] حيث يزعمون أنهم يؤمنون بالله عز وجل، وأن عبادتهم للأصنام من تتمات إيمانكم وأحكامه، لكونها لأجل التقريب والشفاعة، كما قالوا: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى . وهذا معنى اللبس - أفاده أبو السعود - وسيأتي زيادة لذلك.

    أولئك لهم الأمن يوم القيامة: وهم مهتدون أي: إلى الحق، ومن عداهم في ضلال.

    روى البخاري ومسلم وغيرهما عن عبد الله قال: لما نزلت: ولم يلبسوا إيمانهم بظلم قال أصحابه: وأينا لم يظلم نفسه؟ فنزلت: إن الشرك لظلم عظيم . - هذا لفظ رواية البخاري -.

    ولفظ رواية الإمام أحمد عن عبد الله قال: لما نزلت هذه الآية: الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم شق ذلك على الناس، فقالوا: يا رسول الله! فأينا لا يظلم نفسه؟ قال: «إنه ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح: يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ؟ إنما هو الشرك» .

    أقول: هذه الرواية توضح رواية البخاري السابقة - أعني: قول ابن مسعود: فنزلت: إن الشرك .. إلخ - من جهة أن النزول أريد به تفسير الآية، لا سبب نزولها، وهو اصطلاح للصحابة والتابعين دقيق، ينبغي التنبه له. وقد أشرنا له في المقدمة. فجدد به عهدا.

    ولابن أبي حاتم عن عبد الله مرفوعا: ولم يلبسوا إيمانهم بظلم قال: «بشرك» .

    [ ص: 2389 ] قال: وروي عن أبي بكر وعمر وأبي بن كعب وحذيفة وابن عباس وابن عمر وعمرو بن شرحبيل وأبي عبد الرحمن السلمي ومجاهد وعكرمة والنخعي والضحاك وقتادة والسدي، وغير واحد نحو ذلك. نقله ابن كثير. وبالجملة، فلا يعلم مخالف من الصحابة والتابعين في تفسير (الظلم) هنا بالشرك، وقوفا مع الحديث الصحيح في ذلك، المبين للنظائر القرآنية الموضح بعضها لما أبهم في بعض. وتعرف تلك القاعدة من مثل هذا الحديث يكشف غمة أوهام كثيرة. ولو قيل: لا يلزم من قوله: إن الشرك لظلم عظيم أن غير الشرك لا يكون ظلما، يجاب: بأن التنوين في (بظلم) للتعظيم، فكأنه قيل: لم يلبسوا إيمانهم بظلم عظيم. ولما تبين أن الشرك ظلم عظيم علم أن المراد: لم يلبسوا إيمانهم بشرك، أو أن المتبادر من المطلق أكمل أفراده. كذا في "العناية".

    قال الرازي: والدليل على أن هذا هو المراد، أن هذه القصة من أولها إلى آخرها إنما وردت في نفي الشركاء والأضداد والأنداد، وليس فيها ذكر الطاعات والعبادات، فوجب حمل الظلم ههنا على ذلك.

    تنبيه:

    حيث علم أن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم فسر الآية بما تقدم فليعض عليه بالنواجذ، وأما ما هذى به الزمخشري من قوله في تفسير الآية: أي: لم يخلطوا إيمانهم بمعصية تفسقهم، وأبى تفسير الظلم بالكفر، لفظ (اللبس) أي: لأن لبس الإيمان بالشرك أي: خلطه به، مما لا يتصور، لأنهما ضدان لا يجتمعان - على زعمه - فمدفوع بأنه يلابسه؛ لأنه إن أريد بالإيمان مطلق التصديق، سواء كان اللسان أو غيره، فظاهر أنه يجامع الشرك كالمنافق. وكذا إن أريد تصديق القلب، لجواز أن يصدق بوجود الصانع، دون وحدانيته، لما في قوله تعالى: وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون وهو ما أشير إليه قبل. [ ص: 2390 ] ولو أريد التصديق بجميع ما يجب التصديق به بحيث يخرج عن الكفر، فلا يلزم من لبس الإيمان بالشرك الجمع بينهما، بحيث يصدق عليه أنه مؤمن ومشرك، بل تغطيته بالكفر، وجعله مغلوبا مضمحلا، أو اتصافه بالإيمان، ثم الكفر، ثم الإيمان ثم الكفر مرارا، وبعد تسليم ما ذكر، فاختصاص الأمن بغير العصاة لا يوجب كون العصاة معذبين البتة، بل خائفين ذلك، متوقعين للاحتمال، ورجحان جانب الوقوع - كذا في "شرح الكشاف".

    وفي "الانتصاف": إنما يروم الزمخشري بذلك تنزيله على معتقده، في وجوب وعيد العصاة، وأنهم لا حظ لهم في الأمن كالكفار. ويجعل هذه الآية تقتضي تخصيص الأمن بالجامعين بين الأمرين: الإيمان والبراءة من المعاصي. ونحن نسلم ذلك، ولا يلزم أن يكون الخوف اللاحق للعصاة، هو الخوف اللاحق للكفار؛ لأن العصاة من المؤمنين إنما يخافون العذاب المؤقت، وهم آمنون من الخلود. وأما الكفار فغير آمنين بوجه ما. انتهى.

    وأما قول المعتزلة: حديث عبد الله المتقدم - إن صح - يكون خبر واحد، في مقابلة الدليل القطعي، ومثله لا يعمل به - فالجواب: بأنه صح بلا ريب، لتخريج الشيخين له.


    وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل


    وقولهم: في مقابلة الدليل القطعي، بهتان عظيم. ويا لله العجب من هؤلاء، قابلوا السنة الصحيحة بكناسة الرأي، ولم يستحيوا من الله تعالى ورسوله في هذه المخالفة، فأين تذهب [ ص: 2391 ] به عقولهم؟ إلى الحق أم إلى الباطل؟ ولكن كما قال ابن سهل:


    فما أضيع البرهان عند المقلد


    هذا، وقد روى ابن مردويه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسير ساره، إذ عرض له أعرابي فقال: يا رسول الله! والذي بعثك بالحق! لقد خرجت من بلادي وتلادي ومالي، لأهتدي بهداك، وآخذ من قولك، وما بلغتك حتى ما لي طعام إلا من خضر الأرض، فاعرض علي. فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبل. فازدحمنا حوله، فدخل خف بكره في بيت جرذان، فتردى الأعرابي، فانكسرت عنقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صدق! والذي بعثني بالحق! لقد خرج من بلاده وتلاده وماله ليهتدي بهداي، ويأخذ من قولي، وما بلغني حتى ما له من طعام إلا من خضر الأرض. أسمعتم بالذي عمل قليلا وأجر كثيرا؟ هذا منهم! أسمعتم ب: الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون ؟ فإن هذا منهم. وفي لفظ قال: هذا عمل قليلا وأجر كثيرا» .

    وروى نحوه الإمام أحمد عن جرير بن عبد الله مطولا، وفيه بيان قوله: فاعرض علي، ولفظه: ما الإيمان؟ قال: «تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت» قال: قد أقررت.
    [ ص: 2392 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [83] وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم

    قوله تعالى: وتلك أي: الدلائل المشار إليها في قوله: أتتخذ أصناما آلهة إلى هاهنا: حجتنا أي: لا يمكن نقضها: آتيناها إبراهيم أي: أرشدناه إليها، وعلمناه إياها، بلا واسطة معلم: على قومه متعلق ب: حجتنا إن جعل خبر: تلك ، وبمحذوف إن جعل بدله، أي: آتيناها حجة ودليلا على قومه الكثيرين، ليغلب وحده.

    نرفع درجات من نشاء يعني: في العلم والحكمة، وقرئ بالتنوين إن ربك حكيم في رفعه وخفضه عليم بحال من يرفعه واستعداده له.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [84] ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين

    [85] وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين

    [86] وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين

    ووهبنا له أي: لإبراهيم عوضا عن قومه، لما اعتزلهم وما يعبدون إسحاق ويعقوب أي: ولدا، وولد ولد، لتقر عينه ببقاء العقب: كلا هدينا أي: كلا منهما هديناه الهداية الكبرى، بلحوقهما بدرجة أبيهما في النبوة، كما قال تعالى: فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا

    [ ص: 2393 ] قال ابن كثير: يذكر تعالى أنه وهب لإبراهيم إسحاق، وذلك بعد أن طعن في السن، وأيس وامرأته سارة من الولد، فجاءته الملائكة وهم ذاهبون إلى قوم لوط، فبشروهما بإسحاق، فتعجبت المرأة من ذلك: قالت يا ويلتى أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب قالوا أتعجبين من أمر الله رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد فبشروهما فتعجبت، وبشروهما مع وجوده بنبوته، وبأن له نسلا وعقبا، كما قال تعالى: وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين وهذا أكمل في البشارة، وأعظم في النعمة. وقال: فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب أي: ويولد لهذا المولود ولد في حياتكما، فتقر أعينكما به، كما قرت بوالده، وإن الفرح بولد الولد شديد، لبقاء النسل والعقب. ولما كان ولد الشيخ والشيخة قد يتوهم أنه لا يعقب لضعفه، وقعت البشارة به، وبولد اسمه يعقوب، الذي فيه اشتقاق العقب والذرية، وكانت هذه المجازاة لإبراهيم عليه السلام حين اعتزل قومه وتركهم، ونزح عنهم، وهاجر من بلادهم، ذاهبا إلى عبادة الله في الأرض، فعوضه الله عز وجل عن قومه وعشيرته بأولاد صالحين، من صلبه، على دينه، لتقر بهم عينه، كما قال تعالى: فلما اعتزلهم وما يعبدون الآية...

    ونوحا هدينا من قبل أي: من قبله، هديناه كما هديناه. وعد هداه نعمة على إبراهيم، من حيث إنه أبوه، وشرف الوالد يتعدى إلى الولد.

    [ ص: 2394 ] قال ابن كثير: كل منهما له خصوصية عظيمة، أما نوح عليه السلام فإن الله تعالى لما أغرق أهل الأرض، إلا من آمن به، وهم الذين صحبوه في السفينة، جعل الله ذريته هم الباقين، فالناس كلهم من ذريته، وأما الخليل إبراهيم عليه السلام، فلم يبعث الله عز وجل بعده نبيا إلا من ذريته، كما قال تعالى: وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب الآية... وقال تعالى: ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب وقال تعالى: أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا

    وقوله تعالى: ومن ذريته الضمير لإبراهيم أو لنوح، على ما يأتي. داود عطف على: نوحا أي: وهدينا داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين .

    وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين

    وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين

    اعلم أن المقصود من هذه الآيات، وما قبلها، وما يلحقها، تعديد أنواع نعم الله تعالى على إبراهيم عليه الصلاة والسلام، جزاء اعتزاله قومه وما يعبدون، وقيامه بنصرة التوحيد، ودحض الشرك. فذكر تعالى أولا رفع درجته، بإيتائه الحجة على قومه، وتخصيصه بها، ثم جعله عزيزا في الدنيا، حسبا ونسبا، أصلا وفرعا؛ لأنه تولد من نوح أول المرسلين [ ص: 2395 ] رسالة عامة، ووهبت له الذرية الطاهرة، أنبياء البشر. ولذا ذهب الأكثرون إلى أن الضمير في: ومن ذريته لإبراهيم؛ لأن مساق النظم لبيان شؤونه العظيمة، كأنه قيل: ولم نزل نرفع درجاته بعد ذلك إذ هدينا من ذريته داود... إلخ، فهو المقصود بالذكر في هذه الآيات. وذكر نوح عليه السلام؛ لأن كون إبراهيم من أولاده أحد موجبات رفعته كما تقدم. والغاية هي إلزام من ينتمي إليه من المشركين.

    ولا يقال: إن لوطا ليس من ذرية إبراهيم لأنه ابن أخيه؛ لأنه يقال: إن العرب تجعل العم أبا، كما أخبر تعالى عن أبناء يعقوب أنهم قالوا: نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق مع أن إسماعيل عم يعقوب، ودخل في آبائه تغليبا.

    وقال محيي السنة رحمه الله تعالى: ومن ذريته أي: ذرية نوح صلى الله عليه وسلم، ولم يرد من ذرية إبراهيم عليه الصلاة والسلام؛ لأنه ذكر في جملتهم يونس صلى الله عليه وسلم، وكان من الأسباط، في زمن شعياء، أرسله الله تعالى إلى أهل نينوى من الموصل.

    وقال: إن لوطا عليه السلام كان ابن أخي إبراهيم عليه السلام، آمن بإبراهيم، وشخص معه مهاجرا إلى الشام، فأرسله الله إلى أهل سدوم.

    ومن قال: الضمير لإبراهيم صلى الله عليه وسلم، يقدر: ومن ذرية إبراهيم وداود وسليمان هدينا؛ لأن إبراهيم هو المقصود بالذكر. وذكر نوح لتعظيم إبراهيم. ولذلك ختم بيونس ولوط، وجعلهما معطوفين على: نوحا هدينا من تعطف الجملة على الجملة. وصاحب (الكشف) أخرج (إلياس) صلى الله عليه وسلم. وليس كذلك. لما في "جامع الأصول" عن الكسائي، أنهما من ذريته. فبقي لوط خارجا، لما كان ابن أخيه آمن به، وهاجر معه، أمكن أن يجعل من ذريته على سبيل التغليب. كما ذكره الطيبي.

    [ ص: 2396 ] وبالجملة، فالآية المذكورة من المنن على إبراهيم على كلا الوجهين؛ لأن شرف الذرية، وشرف الأقارب شرف، لكنه على الأول أظهر، ويكون تطرية في مدح إبراهيم صلى الله عليه وسلم بالعود إليه مرة بعد أخرى.

    تنبيهات:

    الأول: قال الحافظ ابن كثير: في ذكر عيسى عليه السلام، في ذرية إبراهيم أو نوح (على القول الآخر) دلالة على دخول ولد البنات في ذرية الرجل؛ لأن انتساب عيسى ليس إلا من جهة أمه مريم عليهما السلام، وقد روى ابن أبي حاتم أن الحجاج أرسل إلى يحيى بن يعمر فقال: بلغني أنك تزعم أن الحسن والحسين من ذرية النبي صلى الله عليه وسلم، تجده في كتاب الله وقد قرأته من أوله إلى آخره فلم أجده؟! قال: أليس تقرأ سورة الأنعام: ومن ذريته داود وسليمان حتى بلغ: ويحيى وعيسى قال: بلى! قال: أليس من ذرية إبراهيم، وليس له أب؟ قال: صدقت! فلهذا إذا أوصى الرجل لذريته أو وقف على ذريته، أو وهبهم دخل أولاد البنات فيهم. فأما إذا أعطى الرجل بنيه، أو وقف عليهم، فإنه يختص بذلك بنوه لصلبه، وبنو بنيه، واحتجوا بقول الشاعر:


    بنونا بنو أبنائنا. وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعد


    وقال آخرون: ويدخل بنو البنات فيهم، لما ثبت في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 2397 ] قال للحسن بن علي: إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين. فسماه (ابنا) فدل على دخوله في الأبناء. وقال آخرون: هذا تجوز: انتهى.

    وفي "العناية": أورد على الاستدلال بتناول الذرية أولاد البنت من هذه الآية، بأن عيسى عليه السلام ليس له أب يصرف إضافته إلى الأم إلى نفسه، فلا يظهر قياس غيره عليه. والمسألة مختلف فيها، والقائل بها استدل بهذه الآية، وآية المباهلة، حيث دعا النبي صلى الله عليه وسلم الحسن والحسين رضي الله عنهما بعدما نزل: ندع أبناءنا وأبناءكم . إن لم نقل إنه من خصائصه صلى الله عليه وسلم. انتهى.

    الثاني: إنما لم يذكر إسماعيل عليه السلام مع إسحاق، بل أخر ذكره عنه؛ لأن المقصود بالذكر ههنا أنبياء بني إسرائيل، وهم بأسرهم أولاد إسحاق ويعقوب، وأما إسماعيل فلم يخرج من صلبه من الأنبياء إلا خاتمهم وأفضلهم صلى الله عليه وسلم. ولا يقتضي المقام ذكره صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أمر أن يحتج على العرب في نفي الشرك بأن إبراهيم لما ترك قومه وما يعبدون إلى عبادة الله وحده، رزقه الله النعم العظيمة في الدين والدنيا، ومنها إيتاؤه أولادا أنبياء. فإذا كان المحتج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يذكر في هذا المعرض. ولهذا السبب لم يذكر إسماعيل مع إسحاق. أفاده الرازي.

    الثالث: اعلم أنه تعالى ذكر هنا ثمانية عشر نبيا من الأنبياء عليهم السلام من غير ترتيب، لا بحسب الزمان، ولا بحسب الفضل؛ لأن الواو لا تقتضي الترتيب. ولكن هنا لطيفة في هذا الترتيب، وهي أن الله تعالى خص كل طائفة من طوائف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بنوع من الكرامة والفضل، فذكر أولا نوحا وإبراهيم وإسحاق ويعقوب لأنهم أصول [ ص: 2398 ] الأنبياء، وإليهم ترجع أنسابهم جميعا. ثم من المراتب المعتبرة، بعد النبوة، الملك والقدرة والسلطان. وقد أعطى الله داود وسليمان من ذلك حظا وافرا. ومن المراتب الصبر عند نزول البلاء والمحن والشدائد، وقد خص الله بهذه أيوب عليه السلام. ثم عطف على هاتين المرتبتين من جمع ببينهما، وهو يوسف عليه السلام، فإنه صبر على البلاء والشدة إلى أن آتاه الله ملك مصر مع النبوة، ثم من المراتب المعتبرة في تفضيل الأنبياء عليهم السلام كثرة المعجزات، وقوة البراهين، وقد خص الله موسى وهارون من ذلك بالحظ الوافر. ثم من المراتب المعتبرة الزهد في الدنيا، والإعراض عنها، وقد خص الله بذلك زكريا ويحيى وعيسى وإلياس عليهم السلام، ولهذا السبب وصفهم بأنهم من الصالحين، ثم ذكر الله من بعد هؤلاء الأنبياء، من لم يبق له أتباع ولا شريعة، وهم إسماعيل واليسع ويونس ولوط. فإذا اعتبرنا هذه اللطيفة على هذا الوجه، كان هذا الترتيب من أحسن شيء يذكر، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه - أفاده الخازن وأصله للرازي -.
    [ ص: 2399 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [87] ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم

    ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم عطف على: كلا أو: ونوحا أي: كلا منهم فضلنا، وفضلنا بعض آبائهم، أو هدينا من آبائهم ومن معهم للدين الخالص جماعات كثيرة، فالمفعول محذوف واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم أي: في الاعتقادات والأخلاق والأعمال، فجعلت لهم هذه الفضائل أيضا، ولحقت إبراهيم، فازداد ارتفاع درجاته.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [88] ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون

    ذلك هدى الله إشارة إلى ما دانوا به يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا أي: هؤلاء مع عظمتهم: لحبط عنهم ما كانوا يعملون من الأعمال المرضية. فكيف بمن عداهم؟

    قال ابن كثير: فيه تشديد لأمر الشرك، وتغليظ لشأنه، وتعظيم لملابسته، كقوله تعالى: ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك وهذا شرط، والشرط لا يقتضي جواز الوقوع كقوله: قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين وكقوله تعالى: لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين

    [ ص: 2400 ] وكقوله: لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [89] أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين

    أولئك إشارة إلى المذكورين من الأنبياء الثمانية عشر، والمعطوفين عليهم، باعتبار اتصافهم بما ذكر من الهداية وغيرها الذين آتيناهم الكتاب أي: جنس الكتاب المتحقق في ضمن أي فرد كان من أفراد الكتب السماوية. والمراد ب (إيتائه)؟ التفهيم التام بما فيه من الحقائق. والتمكين من الإحاطة بالجلائل والدقائق، أعم من أن يكون ذلك بالإنزال ابتداء، أو بالإيراث نقاء. فإن المذكورين لم ينزل على كل واحد منهم كتاب معين . أفاده أبو السعود.

    والحكم أي: الحكمة، أو فصل الأمر على ما يقتضيه الحق والصواب والنبوة قال البيضاوي وأبو السعود: أي: الرسالة. قال الخفاجي: النبوة وإن كانت أعم، إلا أن المراد بها ما يشتمل الرسالة؛ لأن المذكورين رسل. انتهى.

    الرابع: استدل بقوله تعالى: وكلا فضلنا على العالمين من يرى أن الأنبياء أفضل من الملائكة؛ لأن العالم اسم لكل موجود سوى الله تعالى، فيدخل فيه الملك.

    الخامس: نكتة ذكر "الهداية" في قوله تعالى: كلا هدينا هو تعديد النعم على إبراهيم صلى الله عليه وسلم بشرف الأصول والفروع - كما أسلفنا - والولد لا يعد نعمة ما لم يكن مهديا.

    السادس: قال السيوطي في "الإكليل": استدل بقوله تعالى: كلا هدينا ونوحا هدينا من أنكر إفادة التقديم الحصر.
    فإن يكفر بها أي: بهذه الثلاثة هؤلاء يعني: قريشا، فإنهم بكفرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه من القرآن، كافرون بما يصدقه جميعا فقد وكلنا بها أي: وفقنا للإيمان بها قوما ليسوا بها بكافرين وهم الأنبياء عليهم السلام، المذكورون وأتباعهم. أو أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - وهو الأظهر - في مقابلة [ ص: 2401 ] كفار قريش. أي: فإن في إيمانهم غنية عن إيمان الكفرة بها. وفي التكنية عن توفيقهم للإيمان بها، بالتوكيل الذي أصله الحفظ للشيء، ومراعاته - إيذان بفخامتها وعلوها، وأنه مما ينبغي أن يقدر قدرها قياما بحق الوكالة، وعهد الاستحفاظ.

    قال الرازي: دلت هذه الآية على أنه تعالى سينصر نبيه، ويقوي دينه، ويجعله مستعليا على كل من عاداه، قاهرا لكل من نازعه. وقد وقع هذا الذي أخبر الله تعالى عنه في هذا الموضع. فكان جاريا مجرى الإخبار عن الغيب، فيكون معجزا.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [90] أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين

    أولئك إشارة إلى الأنبياء المذكورين: الذين هدى الله أي: إلى الصراط المستقيم: فبهداهم اقتده أي: بطريقتهم في الإيمان بالله وتوحيده، والأخلاق الحميدة، والأفعال المرضية، والصفات الرفيعة، اعمل.

    تنبيهات:

    الأول: استدل بهذه الآية من قال: إن شرع من قبلنا شرع لنا، ما لم يرد ناسخ.

    الثاني: استدل بها ابن عباس رضي الله عنه على استحباب السجدة في ؛ لأن داود عليه السلام سجدها، رواه البخاري وغيره - ولفظ البخاري: عن العوام، قال سألت مجاهدا عن سجدة ، فقال: سألت ابن عباس: من أين سجدت؟ فقال: أو ما تقرأ: ومن ذريته داود وسليمان أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده فكان داود [ ص: 2402 ] ممن أمر نبيكم صلى الله عليه وسلم أن يقتدي به، فسجدها داود عليه السلام فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم. الثالث - قال الرازي: احتج العلماء بهذه الآية على أن رسولنا صلى الله عليه وسلم أفضل من جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وتقريره: أنا بينا أن خصال الكمال، وصفة الشرف، كانت مفرقة فيهم بأجمعهم، فداود وسليمان كانا من أصحاب الشكر على النعمة، وأيوب كان من أصحاب الصبر على البلاء، ويوسف كان مستجمعا لهاتين الحالتين، وموسى عليه السلام كان صاحب الشريعة القوية القاهرة، والمعجزات الظاهرة، وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كانوا أصحاب الزهد، وإسماعيل كان صاحب الصدق، ويونس كان صاحب التضرع، فثبت أنه تعالى إنما ذكر كل واحد من هؤلاء الأنبياء؛ لأن الغالب عليه خصلة معينة من خصال المدح والشرف. ثم إنه تعالى لما ذكر الكل، أمر نبينا صلى الله عليه وسلم بأن يقتدي بهم بأسرهم، فكأنه أمر بأن يجمع من خصال العبودية والطاعة كل الصفات التي كانت مفرقة فيهم بأجمعهم، وهو معصوم عن مخالفة ما أمر به، فثبت أنه اجتمع فيه جميع ما تفرق فيهم من الكمال، وثبت أنه أفضلهم. وهو استنباط حسن.

    الرابع: "اقتده" يقرأ بسكون الهاء وإثباتها في الوقف دون الوصل، وهي على هذا هاء السكت. ومنهم من يثبتها في الوصل أيضا لشبهها بهاء الإضمار. ومنهم من يكسرها وفيه وجهان:

    أحدهما هي هاء السكت أيضا، شبهت بهاء الضمير، وليس بشيء.

    الثاني هي هاء الضمير والمصدر؛ أي: اقتد الاقتداء. ومثله:


    هذا سراقة للقرآن يدرسه والمرء عند الرشا، إن يلقها ذيب



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #331
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,172

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْأَنْعَامِ
    المجلد السادس
    صـ 2403 الى صـ 2410
    الحلقة (331)



    [ ص: 2403 ] (فالهاء) ضمير (الدرس) لا مفعول؛ لأن (يدرس) قد تعدى إلى (القرآن). وقيل: من سكن الهاء جعلها هاء الضمير، وأجرى الوصل مجرى الوقف. أفاده أبو البقاء.

    وأما قول الواحدي: الذين أثبتوا الهاء راموا موافقة المصحف، فإن الهاء ثابتة في الخط، فكرهوا مخالفة الخط في حالتي الوقف والوصل، لأثبتوا - فقد قال الخفاجي: إنه مما لا ينبغي ذكره؛ لأنه يقتضي أن القراءة بغير نقل تقليدا للخط. فمن قاله فقد وهم.

    قل لا أسألكم عليه أجرا أي: على القرآن أو التبليغ. فإن مساق الكلام يدل عليهما، وإن لم يجر ذكرهما إن هو إلا ذكرى للعالمين أي: عظة وتذكير لهم ليرشدوا من العمى إلى الهدى.

    تنبيهان:

    الأول: فيه دليل على أنه صلى الله عليه وسلم كان مبعوثا إلى جميع الخلق، من الجن والإنس. وأن دعوته قد عمت جميع الخلائق.

    الثاني: قال الخفاجي: قيل: الآية تدل على أنه يحل أخذ الأجر للتعليم وتبليغ الأحكام. قال: وللفقهاء فيه كلام. انتهى.

    [ ص: 2404 ] وعكس بعض مفسري الزيدية حيث قال: في هذا إشارة إلى أنه لا يجوز أخذ الأجرة على تعليم العلوم؛ لأن ذلك جرى مجرى تبليغ الرسالة. انتهى.

    أقول: إن الآية على نفي سؤاله صلى الله عليه وسلم منهم أجرا، كي لا يثقل عليهم الامتثال. وأما ما استفادة الحل والتحريم منها، ففيه خفاء. والقائل بالأول يقول: المعنى: لا أسألكم جعلا تعففا. أي: وإن حل لي أخذه. وبالثاني: لا أسألكم عليه أجرا لأني حظرت من ذلك.

    قال ابن القيم: أما الهدية للمفتي، ففيها تفصيل: فإن كانت بغير سبب الفتوى، كمن عادته يهاديه أو من لا يعرف أنه مفت، فلا بأس بقبولها، والأولى أن يكافأ عليها. وإن كانت بسبب الفتوى، فإن كانت سببا إلى أن يفتيه بما لا يفتي به غيره ممن لا يهدي له، لم يجز له قبول هديته؛ لأنها تشبه المعاوضة على الإفتاء. وأما أخذ الرزق من بيت المال، فإن كان محتاجا إليه، جاز له ذلك. وإن كان غنيا عنه، ففيه وجهان: وهذا فرع متردد بين عامل الزكاة، وعامل اليتيم. فمن ألحقه بعامل الزكاة قال: النفع فيه عام، فله الأخذ. ومن ألحقه بعامل اليتيم منعه من الأخذ. وحكم القاضي في ذلك حكم المفتي، بل القاضي أولى بالمنع. وأما أخذ الأجرة فلا يجوز؛ لأن الفتيا منصب تبليغ عن الله ورسوله، فلا يجوز المعاوضة عليه، كما لو قال: لا أعلمك الإسلام والوضوء والصلاة إلا بأجرة. أو سئل عن حلال أو حرام؟ فقال للسائل: لا أجيبك عنه إلا بأجرة، فهذا حرام قطعا، ويلزمه رد العوض، ولا يملكه، انتهى.

    وفي حديث عبد الرحمن بن شبل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اقرؤوا القرآن، ولا تغلوا فيه، ولا تجفوا عنه، ولا تأكلوا به، ولا تستكثروا به» - أخرجه الإمام أحمد برجال الصحيح. وأخرجه أيضا البزار. وله شواهد.

    [ ص: 2405 ] وأخرج أحمد والترمذي - وحسنه - عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ القرآن فليسأل الله تبارك وتعالى به، فإنه سيجيء قوم يقرءون القرآن يسألون الناس به» . وأخرج ابن ماجه والبيهقي عن أبي بن كعب قال: علمت رجلا القرآن فأهدى لي قوسا، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أخذتها أخذت قوسا من نار.

    وهناك أحاديث أخر، ومنها استدل على حظر أخذ الأجرة على التعليم.

    وأما أخذ الأجرة على التلاوة، ففي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود في قصة اللديغ من قوله صلى الله عليه وسلم: «إن أحق ما أخذتم عليه أجرا، كتاب الله، أصبتم اقتسموا، واضربوا لي معكم سهما» .

    [ ص: 2406 ] قال العلامة الشوكاني: حديث: (أحق ما أخذتم عليه أجرا) عام يصدق على التعليم، وأخذ الأجرة على التلاوة. لمن طلب من القارئ ذلك، وأخذ الأجرة على الرقية، وأخذ ما يدفع إلى القارئ من العطاء، لأجل كونه قارئا، ونحو ذلك. فيخص من هذا العموم تعليم المكلف، ويبقى ما عداه داخلا تحت العموم. وبعض أفراد العام فيه، أدلة خاصة تدل على جوازه، كما دل العام على ذلك. فمن تلك الأفراد أخذ الأجرة على الرقية، وتعليم المرأة في مقابلة مهرها. قال: هكذا ينبغي تحرير الكلام في المقام، والمصير إلى الترجيح من ضيق العطن. أي: لأنه يصار إليه عند تعذر الجمع، وقد أمكن، فكان الأحق. والله الموفق.
    ولما بين تعالى شأن القرآن العظيم، وأنه نعمة كبرى على العالمين، تأثره ببيان كفرهم بذلك، على وجه سرى إلى الكفر بجميع الكتب المنزلة، فقال سبحانه:

    [ ص: 2407 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [91] وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنـزل الله على بشر من شيء قل من أنـزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون

    وما قدروا الله حق قدره أي: ما عظموه حق تعظيمه و: حق نصب على المصدرية، وهو في الأصل صفة للمصدر. أي: قدره الحق، فلما أضيف إلى موصوفه انتصب على ما كان ينتصب عليه موصوفه إذ قالوا ما أنـزل الله على بشر من شيء أي: حين اجترؤوا على التفوه بهذه الجملة الشنعاء، وذلك منهم مبالغة في إنكار إنزال القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فألزموا بما لا سبيل لهم إلى إنكاره أصلا، حيث قيل في جواب سلبهم العام، بإثبات قضية جزئية بديهية التسليم:

    قل من أنـزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا حال من الضمير في: به أو من: الكتاب وهدى للناس أي: ضياء من ظلمة الجهالة، وبيانا يفرق بين الحق والباطل تجعلونه قراطيس تبدونها يجزئونه أوراقا يبدونها للناس مما ينتخبونه. أي: فكيف ينكر إنزال شيء، وهذا المنزل المذكور ظاهر للعيان. والعدول عن التوراة إلى ذكر الكتاب وصفته، والحال بعده - لزيادة التقريع، وتشديد التبكيت، وإلقام الحجر وتخفون كثيرا معطوف على (تبدونها)، والعائد محذوف. أي: كثيرا منها. أو كلام مبتدأ لا محل له من الإعراب. أي: وهم يخفون كثيرا. أي: ومع ذلك فالإلزام يكفي بما يبدونه، المعترف لديهم بحقيته. وفيه نعي على أهل الكتاب بسوء صنيعهم المذكور، إذ ما يريدون بإخفاء كثير منها إلا تبديل الدين.

    وعلمتم أي: على لسان محمد صلى الله عليه وسلم: ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم من المعارف [ ص: 2408 ] التي لا يرتاب في أنها تنزيل رباني قل الله أي: أنزله الله، أو الله أنزله. أمره بأنه يجيب عنهم، إشعارا بأن الجواب متعين لا يمكن غيره، وتنبيها على أنهم بهتوا، بحيث إنهم لا يقدرون على الجواب.

    ثم بعد التبليغ وإلزام الحجة: ذرهم في خوضهم أي: في باطلهم: يلعبون أي: يفعلون فعل اللاعب، وهو ما لا يجر لهم نفعا، ولا يدفع عنهم ضررا، مع تضييع الزمان.

    تنبيه:

    في هذه الآية قولان:

    الأول: أنها مكية النزول تبعا للسورة، وأن القائل ذلك هم المشركون، وإلزامهم إنزال التوراة، لما أنه كان عندهم من المشاهير الذائعة، وهذا هو الظاهر.

    قال ابن كثير: قال ابن عباس، ومجاهد وعبد بن كثير: هذه الآية نزلت في قريش، واختاره ابن جرير. قال ابن كثير: وهو الأصح؛ لأن اليهود لا ينكرون إنزال الكتب من السماء، وأما كفار قريش فكانوا ينكرون رسالة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه من البشر كما قال تعالى: أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وكقوله تعالى: وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا وكذا قالوا هنا: ما أنـزل الله على بشر من شيء فألزموا بإنزال [ ص: 2409 ] الكتاب الذي جاء به موسى، وهو التوراة التي علموا هم وكل أحد أن الله أنزلها على موسى تكذيبا لقولهم، وإيقافا على عنادهم. ومعلوم ما كان بين قريش ويهود المدينة من التعارف، وتسليم قريش أنهم أهل كتاب، وأنهم أعلم منهم لأجله، مما يوجب اعترافهم بحقية التوراة، وأنها منزلة من لدنه تعالى، وعلى هذا القول، فالقراءة بالياء التحتية ظاهرة. وعلى قراءة الخطاب، فهو التفات من خطاب قوم إلى خطاب قوم آخرين. وهو التفات عند الأدباء - حكاه الخفاجي - وإنما جعل من الانتقال عن خطابهم إلى خطاب اليهودية، تعريضا لهم بأن إنكارهم إنزال الله تعالى من جنس فعل هؤلاء بالتوراة في البطلان، وعدم الإسناد إلى برهان. ثم القول بأن الخطاب في: علمتم لمؤمني قريش. لا يقتضيه السياق ولا السباق، وفيه تفكيك للنظم الجليل، كالقول بأنه اعتراض للامتنان على النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه، لهدايتهم للمجادلة بالتي هي أحسن. بل الخطاب فيه كسابقه، والمراد بتعليمهم، وهم مشركون، ما يسمعونه ويتلقفونه من النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، من فرائد الوحي وفوائده، مما لا يرتاب في تنزيلها، كما أوضحناه قبل.

    القول الثاني: إن هذه الآية مدنية النزول. ولا يرد أن هذه السورة مكية، ومناظرات اليهود كانت في المدينة؛ لأن كثيرا من السور المكية ألحقت بها آيات مدنية، وحينئذ فقولهم: (هذه السورة مكية) أي: إلا ما استثني مما ألحق بها، كما أوضحه السيوطي في "الإتقان" وساق له شواهد. وقد أشرنا إلى ذلك أول هذه السورة، فتذكر!.

    ثم القائلون بأنها مدنية، منهم من قال: نزلت في طائفة من اليهود، أو في فنحاص، أو في مالك بن الصيف. أخرج ابن جرير من طريق ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: قالت اليهود: والله ما أنزل الله من السماء كتابا، فأنزلت.

    [ ص: 2410 ] وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير - مرسلا - قال: جاء رجل من اليهود يقال له مالك بن الصيف، فخاصم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى، هل تجد في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين - وكان حبرا سمينا -؟ فغضب وقال: ما أنزل الله على بشر من شيء! فقال له أصحابه: ويحك! ولا على موسى؟ فأنزل الله: وما قدروا الله حق قدره الآية. قال البغوي: وفي القصة أن مالك بن الصيف، لما سمعت اليهود منه تلك المقالة، عتبوا عليه، وقالوا: أليس الله أنزل التوراة على موسى، فلم قلت: ما أنزل الله من شيء؟ فقال مالك بن الصيف: أغضبني محمد، فقلت ذلك! فقالوا له: وأنت إذا غضبت تقول على الله غير الحق! فنزعوه عن الحبرية. وبعد الوقوف على ذلك، فلا معنى لاعتراض بعضهم بأن مالك بن الصيف كان مفتخرا بكونه يهوديا متظاهرا بذلك، ومع هذا المذهب لا يمكنه البتة أن يقول: ما أنزل الله على بشر من شيء؛ لأنه تبين أنه قال ذلك متغيظا، وقد أخذ الغضب منه مأخذه عنادا ومكابرة، توصلا لدفع ما يريده. وقد يبلغ الحمق بصاحبه إلى حد يتبرأ فيه من مذهبه ومعتقده، إغاظة لخصمه على زعمه. وبوادر اللسان في حق المولى تعالى وتقدس، مما لا تغتفر، ولذا بين تعالى جهل ذاك القائل بقوله: وما قدروا الله حق قدره .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #332
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,172

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْأَنْعَامِ
    المجلد السادس
    صـ 2411 الى صـ 2418
    الحلقة (332)




    قال العلامة البقاعي: لأن من نسب ملكا تام الملك إلى أنه لم يبث أوامره في رعيته بما يرضيه ليفعلوه، وما يسخطه ليجتنبوه، فقد نسبه إلى نقص عظيم. فكيف إذا كانت تلك النسبة كذبا؟ وإنما أسند إلى الكل - والقائل بعضهم - لأنهم لم يردوا على قائله، ولم [ ص: 2411 ] يعاجلوه بالأخذ على يده، تهويلا للأمر، وبيانا لأنه يجب على كل من سمع بآية من آيات الله أن يسعى إليها، ويتعرف أمورها، فمن طعن فيها أخذ على يده بما تصل إليه قدرته، فقال مشيرا إلى اليهود قائلو ذلك. ملزما لهم بالاعتراف بالكذب، أو المساواة للأميين في التمسك بالهوى دون كتاب، موبخا لهم، ناعيا عليهم سوء جهلهم، وعظيم بهتهم، وشدة وقاحتهم، وعدم حيائهم: قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى ؟ أي: قل لهؤلاء السفهاء الذين تجرأوا على هذه المقالة، غير ناظرين في عاقبتها، وما يلزم منها، توبيخا لهم، وتوقيفا على شنيع جهلهم: من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى الذي أنتم تزعمون التمسك بشرعه: تجعلونه قراطيس أي: أوراقا مفرقة، لتتمكنوا بها من إخفاء ما أردتم تبدونها للناس أي: تظهرونها للناس وتخفون كثيرا أي: منها مما تريدون به تبديل الدين. هذا على قراءة الفوقانية. وعلى قراءة التحتانية التفات مؤذن بشدة الغضب، مشير إلى أن ما قالوه حقيق بأن يستحى من ذكره، فكيف بفعله. وقوله: وعلمتم أي: أيها اليهود بالكتاب الذي أنزل على موسى: ما لم تعلموا أنتم أي: أيها اليهود من أهل هذا الزمان: ولا آباؤكم أي: الأقدمون. انتهى كلام البقاعي رحمه الله تعالى. وفي قوله: (وإنما أسند إلى الكل..) إلى آخره، نظر؛ لأن إسناده ليس إليهم؛ لأنهم رضوا به؛ لأن القصة السالفة تدل على خلافه. وللبقاعي رحمه الله وجه آخر في الآية. قال: ويمكن أن تكون مكية، ويكون قولهم هذا حين أرسلت إليهم قريش تسألهم عنه صلى الله عليه وسلم في أمر رسالته، فاحتج عليهم بإرسال موسى عليه السلام، وإنزال التوراة عليه. انتهى. وهو قريب وجيه جدا.

    وبالجملة، فالآية الكريمة متصادقة مع الأوجه المذكورة، وتتنزل في التأويل، على ما بينا في كل تنزيلا لا شائبة معه لإشكال ما. وقد استصعب الرازي تأويلها، وأخذ يحاول أسئلة هي على طرف الثمام، بعد النظر فيما بينا، فالحمد لله الذي هدانا لهذا.

    [ ص: 2412 ] لطائف:

    الأولى: قال أبو السعود رحمه الله: ليس المراد بالآية مجرد إلزامهم بالاعتراف بإنزال التوراة فقط، بل بإنزال القرآن أيضا؛ فإن الاعتراف بإنزالها مستلزم للاعتراف بإنزاله قطعا، لما فيها من الشواهد الناطقة به.

    الثانية: قال أيضا في قوله تعالى: تجعلونه قراطيس أي: تضعونه في قراطيس مقطعة، وورقات مفرقة، بحذف الجار، بناء على تشبيه القراطيس بالظرف المبهم، أو تجعلونه نفس القراطيس المقطعة. وفيه زيادة توبيخ لهم بسوء صنيعهم، كأنهم أخرجوه من جنس الكتاب، ونزلوه منزلة القراطيس الخالية عن الكتابة.

    الثالثة: في قوله تعالى: تبدونها وتخفون كثيرا دلالة على أنه لا يجوز كتم العلم الديني عمن يهتدي به. قاله بعض الزيدية.
    ولما أبطل تعالى كلمتهم الشنعاء بتقرير إنزال التوراة، بين تنزيل ما يصدقها بقوله:

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [92] وهذا كتاب أنـزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون

    وهذا يعني: القرآن كتاب أنـزلناه مبارك أي: كثير المنافع والفوائد، لاشتماله على منافع الدارين، وعلوم الأولين والآخرين، وما لا يتناهى من الفوائد.

    قال الرازي: العلوم إما نظرية، وإما عملية. فالأولى أشرفها. وأكملها معرفة ذات الله وصفاته وأفعاله وأحكامه وأسمائه. ولا ترى هذه العلوم أكمل ولا أشرف مما تجده في هذا الكتاب.

    وأما الثانية: فالمطلوب إما أعمال الجوارح، وإما أعمال القلوب، وهو المسمى [ ص: 2413 ] بطهارة الأخلاق، وتزكية النفس. ولا تجد هذين العلمين مثل ما تجده في هذا الكتاب. ثم جرت سنة الله تعالى بأن الباحث عنه، والمتمسك به، يحصل له عز الدنيا، وسعادة الآخرة. انتهى. قال الخفاجي: وقد شوهد ذلك في كل عصر.

    مصدق الذي بين يديه أي: من التوراة أو من الكتب التي أنزلت قبله، في إثبات التوحيد، والأمر به، ونفي الشرك، والنهي عنه. وفي سائر أصول الشرائع التي لا تنسخ.

    ولتنذر أم القرى يعني: مكة. سميت بذلك لأنها مكان أول بيت وضع للناس، ولأنها قبلة أهل القرى كلها ومحجهم، ولأنها أعظم القرى شأنا، وغيرها كالتبع لها، كما يتبع الفرع الأصل. وفي ذكرها بهذا الاسم، المنبئ عما ذكر، إشعار بأن إنذار أهلها مستتبع لإنذار أهل الأرض كافة. ومن حولها من أطراف الأرض، شرقا وغربا. كما قال في الآية الأخرى: لأنذركم به ومن بلغ وقوله: قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا وقال: تبارك الذي نـزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا وقال تعالى: وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد

    [ ص: 2414 ] وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي، وذكر منهن: وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة» .

    والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون فإن من صدق بالآخرة خاف العاقبة، ولا يزال الخوف يحمله على النظر والتدبر، حتى يؤمن بالنبي والكتاب (والضمير يحتملها) ويحافظ على الصلاة. والمراد بها إما الطاعة مجازا، أو حقيقتها، وتخصيصها لكونها أشرف العبادات بعد الإيمان، وأعظمها خطرا.

    قال الرازي: ألا ترى أنه لم يقع اسم الإيمان على شيء من العبادات الظاهرة إلا على الصلاة، كما قال تعالى: وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرءوف رحيم [ ص: 2415 ] أي: صلاتكم. ولم يقع اسم الكفر على شيء من المعاصي إلا على ترك الصلاة. قال عليه الصلاة والسلام: «من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر» . فلما اختصت الصلاة بهذا النوع من التشريف، لا جرم خصها الله بالذكر في هذا المقام. انتهى.

    أقول: الحديث المذكور رواه الطبراني في أوسط معاجمه عن أنس وصحح. وتمامه: «فقد كفر جهرا» . كما في الجامع الصغير.

    أخرج ابن أبي حاتم عن مسروق، قال في هذه الآية: أي: يحافظون على مواقيتها.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [93] ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنـزل مثل ما أنـزل الله ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون

    ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أي: اختلق إفكا، فجعل له شركاء أو ولدا، أو أحكاما في الحل والحرمة، كعمرو بن لحي وأشباهه، ممن جعل قوله قول الله.

    أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ممن ادعى النبوة كذبا، وهذا يزيد على الافتراء في دعوى النبوة.

    قال البقاعي: هذا تهديد على سبيل الإجمال، كعادة القرآن الجميل، يدخل فيه كل من اتصف بشيء من ذلك، كمسيلمة والأسود العنسي وغيرهما، ثم قال: رأيت في كتاب "غاية المقصود في الرد على النصارى واليهود" لابن يحيى المغربي الذي كان من علمائهم في حدود [ ص: 2416 ] سنة 560 ثم هداه الله للإسلام فبين فضائحهم: إن الربانيين منهم زعموا أن الله يوحي إلى جميعهم في كل يوم مرات. ثم قال: إن الربانيين أكثرهم عددا، يزعمون أن الله يخاطبهم في كل مسألة بالصواب، وهذه الطائفة أشد اليهود عداوة لغيرهم في الأمم. انتهى.

    ومن قال سأنـزل مثل ما أنـزل الله أي: ومن ادعى أنه يعارض ما جاء من عند الله من الوحي مما يفتريه من القول، كالنضر بن الحارث. وهذا كقوله تعالى: وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا

    قال المهايمي: أي: ومن أنكر إعجاز القرآن حتى قال: سأنـزل مثل ما أنـزل الله مع أنه قد عرف إعجازه، فكأنه ادعى لنفسه قدرة الله، فكأنه ادعى الإلهية لنفسه، ولا يجترئ على هذه الوجوه من الظلم من يؤمن بالآخرة. فيعلم ما للظالمين فيها، المبين بقوله تعالى: ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت أي: شدائده وسكراته وكرباته والملائكة باسطو أيديهم أي: بالضرب والعذاب، كقوله تعالى: ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم

    أخرجوا أنفسكم أي: قائلين لهم: أخرجوا إلينا أرواحكم من أجسادكم، تغليظا وتوبيخا وتعنيفا عليهم. وقد جنح بعضهم إلى أن ما ذكر من مجاز التمثيل. أي: فشبه فعل الملائكة في قبض أرواحهم، بفعل الغريم الذي يبسط يده إلى من عليه الحق ويعنف في استيفاء حقه من غير إمهال. وفي "الكشف" أنه كناية عن ذلك، ولا بسط ولا قول حقيقة. قال الناصر في "الانتصاف": ولا حاجة إلى ذلك. والظاهر أنهم يفعلون معهم هذه الأمور حقيقة، على الصور المحكية. وإذا أمكن البقاء على الحقيقة، فلا معدل عنها. انتهى.

    [ ص: 2417 ] وقال الحافظ ابن كثير: إن الكافر إذا احتضر بشرته الملائكة بالعذاب والنكال والأغلال والسلاسل والجحيم والحميم وغضب الرحمن الرحيم، فتتفرق روحه في جسده، وتعصي، وتأبى الخروج، فتضربهم الملائكة حتى تخرج أرواحهم من أجسادهم، قائلين لهم: أخرجوا أنفسكم انتهى.

    أقول: مما يؤيد الحقيقة آية: ولو ترى إذ يتوفى المتقدمة، فإنها صريحة، ومراعاة النظائر القرآنية أعظم ما يفيد في باب التأويل.

    قال السيوطي في "الإكليل": في هذه الآية حال الكافر عند القبض، وعذاب القبر. واستدل بها محمد بن قيس على أن لملك الموت أعوانا من الملائكة. أخرجه ابن أبي حاتم.

    اليوم أي: وقت الإماتة، أو الوقت الممتد من الإماتة إلى ما لا نهاية له تجزون عذاب الهون أي: الهوان الشديد بما كنتم تقولون على الله غير الحق كالتحريف ودعوى النبوة الكاذبة. وهو جراءة على الله متضمنة للاستهانة به - قاله المهايمي - وكنتم عن آياته تستكبرون حتى قال بعضكم: سأنزل مثل ما أنزل الله.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [94] ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون

    ولقد جئتمونا أي: للحساب والجزاء: فرادى أي: منفردين عن الأموال والأولاد، وما أثرتموه من الدنيا. أو عن الأعوان والأوثان التي زعمتم أنها شفعاؤكم. و (فرادى) جمع فريد، كأسير وأسارى.

    [ ص: 2418 ] كما خلقناكم أول مرة أي: مشبهين ابتداء خلقكم، حفاة عراة غرلا (يعني قلفا).

    روى الشيخان عن ابن عباس قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال: «أيها الناس! إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا» كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين

    ورويا أيضا عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تحشرون حفاة عراة غرلا. قالت عائشة: فقلت: يا رسول الله! الرجال والنساء جميعا ينظر بعضهم إلى بعض؟! قال: الأمر أشد من أن يهمهم ذلك» .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #333
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,172

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْأَنْعَامِ
    المجلد السادس
    صـ 2419 الى صـ 2426
    الحلقة (333)



    وروى الطبري بسنده عن عائشة أنها قرأت قول الله عز وجل: ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة فقالت: يا رسول الله! واسوأتاه! إن الرجال والنساء يحشرون [ ص: 2419 ] جميعا ينظر بعضهم إلى سوأة بعض! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه لا ينظر الرجال إلى النساء، ولا النساء إلى الرجال، شغل بعضهم عن بعض» .

    وتركتم ما خولناكم ما تفضلنا به عليكم في الدنيا، فشغلتم به عن الآخرة من الأموال والأولاد والخدم والخول: وراء ظهوركم يعني: في الدنيا، ولم تحملوا منه نقيرا. كناية عن كونهم لم يصرفوه إلى ما يفيد في الآخرة.

    وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يقول ابن آدم: مالي! مالي! وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت؟ وزاد في رواية: وما سوى بذلك فهو ذاهب وتاركه للناس.

    وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء أي: لله في الربوبية، واستحقاق العبادة.

    لقد تقطع بينكم قرئ بالرفع. أي: شملكم؛ فإن البين من الأضداد، يستعمل للوصل والفصل. وبالنصب على إضمار الفاعل، لدلالة ما قبله عليه. أي: تقطع الأمر، أو الاشتراك، أو وصلكم بينكم. أو على إقامته مقام موصوفه. والأصل: لقد تقطع ما بينكم، وقد قرئ به. أي: تقطع ما بينكم من الأسباب والوصلات.

    وضل عنكم ما كنتم تزعمون أي: ذهب عنكم ما زعمتم من رجاء الأنداد والأصنام، كقوله تعالى: إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار وقال تعالى: فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون [ ص: 2420 ] وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا والآيات في هذا كثيرة جدا.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [95] إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون

    إن الله فالق الحب والنوى شروع في بعض مبدعاته الدالة على كمال قدرته، وعلمه وحكمته، إثر تقرير شأن توحيده تعالى، وذلك للتنبيه على أن المقصود الأعظم هو معرفته سبحانه وتعالى بجميع صفاته وأفعاله، وأنه مبدع الأشياء وخالقها. ومن كان كذلك كان هو المستحق للعبادة، لا هذه الأصنام التي كانوا يعبدونها، ولتعريف خطئهم في الإشراك الذي كانوا عليه. والمعنى: أن الذي يستحق العبادة دون غيره، هو الله الذي فلق الحب عن النبات، والنواة عن النخلة.

    وفي معنى (فالق) قولان:

    أحدهما: أنه بمعنى خالق. وهو قول ابن عباس في رواية العوفي عنه. وبه قال الضحاك ومقاتل. قال الواحدي: ذهبوا ب (فالق) مذهب (فاطر). وأنكر الطبري هذا، وقال: لا يعرف في كلام العرب (فلق الله الشيء)، بمعنى خلق. ونقل الأزهري عن الزجاج جوازه. وكذا المجد في القاموس.

    قال الرازي: (الفطر) هو الشق، وكذلك (الفلق). فالشيء قبل أن دخل في الوجود كان معدوما محضا، ونفيا صرفا. والعقل يتصور من العدم ظلمة متصلة لا انفراج فيها، [ ص: 2421 ] ولا انفلاق، ولا انشقاق. فإذا أخرجه المبدع الموجود من العدم إلى الوجود، فكأنه بحسب التخيل والتوهم شق ذلك العدم وفلقه. وأخرج الحدث من ذلك الشق. فهذا التأويل لا يبعد حمل الفالق على الموجد والمبدع.

    والقول الثاني: وهو قول الأكثرين: أن الفلق هو الشق. وفي معناه وجهان:

    أحدهما: مروي عن ابن عباس قال: فلق الحبة عن السنبلة، والنواة عن النخلة. وهو قول الحسن والسدي وابن زيد. قال الزجاج: يشق الحبة اليابسة، والنواة عن اليابسة، فيخرج منها ورقا أخضر.

    الوجه الثاني: وهو قول مجاهد: أنه الشقان اللذان في الحب والنوى.

    وضعف بأنه لا دلالة فيه على كمال القدرة.

    و (الحب): ما ليس له نوى، كالحنطة والشعير والأرز.

    و (النوى): جمع نواة، وهو الموجود في داخل الثمرة، مثل نوى التمر والخوخ وغيرهما.

    قال الإمام الرازي: إذا عرفت ذلك، فنقول: إنه إذا وقعت الحبة أو النواة في الأرض الرطبة، ثم مر به قدر من المدة، أظهر الله تعالى في تلك الحبة والنواة من أعلاها شقا، ومن أسفلها شقا آخر، فالأول يخرج منه الشجرة الصاعدة إلى الهواء والثاني يخرج منه الشجرة الهابطة في الأرض، المسماة بعروق الشجرة. وتصير تلك الحبة والنواة سببا لاتصال الشجرة الصاعدة في الهواء بالشجرة الهابطة في الأرض. ثم إن ههنا.

    عجائب:

    فإحداها - أن طبيعة الشجرة، إن كانت تقتضي الهوي في عمق الأرض، فكيف تولدت منها الشجرة الصاعدة في الهواء؟ وإن كانت تقتضي الصعود في الهواء، فكيف تولدت منها الشجرة الهابطة في الأرض؟ فلما تولد منها الشجرتان، مع أن الحس والعقل [ ص: 2422 ] يشهد بكون طبيعة إحدى الشجرتين مضادة لطبيعة الشجرة الأخرى - علمنا أن ذلك ليس بمقتضى الطبع والخاصية، بل بمقتضى الإيجاد والإبداع والتكوين والاختراع.

    وثانيها: أن باطن الأرض جرم كثيف صلب، لا تنفذ المسلة القوية فيه، ولا يغوص السكين الحاد القوي فيه. ثم إنا نشاهد أطراف تلك العروق في غاية الدقة واللطافة بحيث لو دلكها الإنسان بإصبعه بأدنى قوة، لصارت كالماء، ثم إنها مع غاية اللطافة تقوى على النفوذ في تلك الأرض الصلبة، والغوص في بواطن تلك الأجرام الكثيفة. فحصول هذه القوى الشديدة، لهذه الأجرام الضعيفة التي هي في غاية اللطافة، لابد وأن يكون بتقدير العزيز الحكيم.

    وثالثها: أنه يتولد من تلك النواة شجرة، ويحصل في تلك الشجرة طبائع مختلفة، فإن قشر الخشبة له طبيعة مخصوصة، وفي داخل ذلك القشر جرم الخشبة، وفي تلك الخشبة جسم رخو ضعيف يشبه العهن المنفوش. ثم إنه يتولد من ساق الشجرة أغصانها، ويتولد على الأغصان الأوراق أولا، ثم الأزهار والأنوار ثانيا، ثم الفاكهة ثالثا. ثم قد يحصل للفاكهة أربعة أنواع من القشر: مثل الجوز، فإن قشره الأعلى هو ذلك الأخضر، وتحته ذلك القشر الذي يشبه الخشب، وتحته ذلك القشر الذي هو كالغشاء الرقيق المحيط باللب، وتحته ذلك اللب وذلك اللب مشتمل على جرم كثيف، وهو أيضا كالقشر، وعلى جرم لطيف، وهو الدهن. وهو المقصود الأصلي. فتولد هذه الأجسام المختلفة في طبائعها وصفاتها وألوانها وأشكالها وطعومها، مع تساوي تأثيرات الطبائع والنجوم والفصول الأربعة، والطبائع الأربع - يدل على أنها إنما حدثت بتدبير الحكيم الرحيم المختار القادر، لا بتدبير الطبائع والعناصر.

    ورابعها: أنك قد تجد الطبائع الأربع حاصلة في الفاكهة الواحدة، فالأترنج: قشره حار يابس، ولحمه بارد رطب، وحماضه بارد يابس، وبزره حار يابس. وكذلك العنب: قشره [ ص: 2423 ] وعجمه بارد يابس، وماؤه ولحمه حار رطب. فتولد هذه الطبائع المتضادة، والخواص المتنافرة عن الحبة الواحدة - لا بد وأن يكون بإيجاد الفاعل المختار.

    وخامسها: أنك تجد الفواكه مختلفة، فبعضها يكون اللب في الداخل، والقشرة في الخارج، كما في الجوز واللوز. وبعضها يكون الفاكهة المطلوبة في الخارج، وتكون الخشبة في الداخل، كالخوخ والمشمش. وبعضها يكون النواة لها لب، كما في نوى المشمش والخوخ. وبعضها لا لب له، كما في نوى التمر. وبعض الفواكه لا يكون له من الداخل والخارج قشر، بل يكون كله مطلوبا، كالتين. فهذه أحوال مختلفة في هذه الفواكه. وأيضا هذه الحبوب مختلفة في الأشكال والصور، فشكل الحنطة كأنه نصف دائرة، وشكل الشعير كأنه مخروطان اتصلا بقاعدتهما، وشكل العدس كأنه دائرة، وشكل الحمص على وجه آخر. فهذه الأشكال المختلفة لا بد وأن تكون لأسرار وحكم، علم الخالق أن تركيبها لا يكمل إلا على ذلك الشكل. وأيضا فقد أودع الخالق تعالى في كل نوع من أنواع الحبوب خاصية أخرى. ومنفعة أخرى. وأيضا تكون الثمرة الواحدة غذاء لحيوان، وسما لحيوان آخر، فاختلاف هذه الصفات والأشكال والأحوال، مع اتحاد الطبائع، وتأثيرات الكواكب، يدل على أن كلها إنما حصلت بتخليق الفاعل المختار الحكيم.

    وسادسها: أنك إذا أخذت ورقة واحدة من أوراق الشجرة، وجدت خطا واحدا مستقيما في وسطها، كأنه بالنسبة إلى تلك الورقة كالنخاع بالنسبة إلى بدن الإنسان. وكما أنه ينفصل من النخاع أعصاب كثيرة، يمنة ويسرة، في بدن الإنسان، ثم لا يزال ينفصل عن كل شعبة شعب أخر ولا تزال تستدق حتى تخرج عن الحس والأبصار، بسبب الصغر - فكذلك في تلك الورقة قد ينفصل عن ذلك الخط الكبير الوسطاني خطوط منفصلة، وعن كل واحد منها خطوط مختلفة أخرى أدق من الأولى، ولا يزال يبقى على هذا المنهج، حتى تخرج تلك الخطوط عن الحس والبصر. الخالق تعالى إنما فعل ذلك، حتى أن القوى الجاذبة [ ص: 2424 ] المركوزة في جرم تلك الورقة، تقوى على جذب الأجزاء اللطيفة الأرضية في تلك المجاري الضيقة. فلما وقفت على عناية الخالق في إيجاد تلك الورقة الواحدة، عملت أن عنايته في تخليق جملة تلك الشجرة أكمل، وعرفت أن عنايته في تكوين جملة النبات أكمل، ثم إذا عرفت أنه تعالى إنما خلق جملة النبات لمصلحة الحيوان، علمت أن عنايته بتخليق الحيوان أكمل. ولما عرفت أن المقصود من تخليق جملة الحيوانات هو الإنسان، علمت أن عنايته في تخليق الإنسان أكمل. ثم إنه تعالى خلق النبات والحيوان في هذا العالم ليكون غداء ودواء للإنسان بحسب جسده، والمقصود من تخليق الإنسان هو المعرفة والمحبة والخدمة، كما قال تعالى: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون . فانظر أيها المسكين بعين رأسك في تلك الورقة الواحدة من تلك الشجرة، واعرف كيفية تلك العروق والأوتار فيها، ثم انتقل من مرتبة إلى ما فوقها، حتى تعرف أن المقصود الأخير منها حصول المعرفة والمحبة في الأرواح البشرية، فحينئذ ينفتح لك باب من المكاشفات لا آخر له، ويظهر لك أن أنواع نعم الله في حقك غير متناهية، كما قال: وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها وكل ذلك إنما ظهر من كيفية خلقة تلك الورقة من الحبة والنواة. فهذا كلام مختصر في تفسير قوله تعالى: إن الله فالق الحب والنوى ومتى وقف الإنسان عليه أمكنه تفريقها وتشعيبها إلى ما لا آخر له. ونسأل الله التوفيق والهداية. انتهى كلام الرازي رحمه الله تعالى.

    يخرج الحي من الميت كالحيوان من النطفة، والنبات الغض الطري من الحب اليابس ومخرج الميت كالنطفة والحب: من الحي كالحيوان والنبات.

    [ ص: 2425 ] ذلكم الله أي: الفالق للحب والنوى، والمخرج الحي من الميت وعكسه، هو الله، القادر العظيم الشأن، المستحق للعبادة وحده.

    فأنى تؤفكون أي: تصرفون عنه إلى غيره.

    قال الرازي: والمقصود منه أن الحي والميت متضادان متنافيان، فحصول المثل عن المثل، يوهم أن يكون بسبب الطبيعة والخاصية. أما حصول الضد من الضد فيمتنع أن يكون بسبب الطبيعة والخاصية. بل لا بد وأن يكون بتقدير المقدر الحكيم، والمدبر العليم.

    تنبيه:

    ذهب الزمخشري ومن تبعه إلى أن قوله تعالى: ومخرج الميت عطف على: فالق لا على: يخرج الحي ؛ لأنه بيان لفالق الحب والنوى، وهذا لا يصلح للبيان وإن صح عطف الاسم المشتق على الفعل وعكسه، كقوله: صافات ويقبضن . والصحيح أنه معطوف على: يخرج الحي من الميت واشتماله على زيادة فيه، لا يضر ذلك بكونه بيانا. كما أن: مخرج الميت من الحي بيان مع شموله للحيوان والنبات. وفيه من البديع التبديل، كقوله تعالى: يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل

    [ ص: 2426 ] قال في "الانتصاف": وقد وردا جميعا بصيغة الفعل كثيرا في قوله: يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون وقوله: أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي فعطف أحد القسمين على الآخر، كثيرا دليل على أنهما توأمان مقترنان، وذلك يبعد قطعه عنه في آية الأنعام هذه ورده إلى: فالق الحب والنوى فالوجه - والله أعلم - أن يقال: كان الأصل وروده بصيغة اسم الفاعل أسوة أمثاله من الصفات المذكورة في هذه الآية من قوله: فالق الحب و: فالق الإصباح و: وجعل الليل و: ومخرج الميت من الحي إلا أنه عدل عن اسم الفاعل إلى الفعل المضارع في هذا الوصف وحده، وهو قوله: يخرج الحي من الميت إرادة لتصوير إخراج الحي من الميت، واستحضاره في ذهن السامع. وهذا التصوير والاستحضار إنما يتمكن في أدائها الفعل المضارع دون اسم الفاعل [ ص: 2427 ] والماضي. وقد مضى تمثيل ذلك بقوله تعالى: ألم تر أن الله أنـزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة فعدل عن الماضي المطابق لقوله: أنزل لهذا المعنى، ومنه ما في قوله:


    بأني قد لقيت الغول تهوي بسهب كالصحيفة صحصحان

    فأضربها بلا دهش
    فخرت صريعا لليدين وللجران




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #334
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,172

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْأَنْعَامِ
    المجلد السادس
    صـ 2428 الى صـ 2436
    الحلقة (334)



    [ ص: 2428 ] فعدل إلى المضارع إرادة لتصوير شجاعته، واستحضارها لذهن السامع. ومنه: إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق والطير محشورة فعدل عن (مسبحات) وإن كان مطابقا ل: محشورة لهذا السبب - والله أعلم -. ثم هذا المقصد إنما يجيء فيما يكون العناية به أقوى. ولا شك أن إخراج الحي من الميت أشهر في القدرة من عكسه. وهو أيضا أول الحالين، والنظر أول ما يبدأ فيه. ثم القسم الآخر وهو إخراج الميت من الحي بان عنه، فكان الأول جديرا بالتصديق والتأكيد في النفس، ولذلك هو مقدم أبدا على القسم الآخر في الذكر; حسب ترتيبهما في الواقع. وسهل عطف الاسم على الفعل وحسنه أن اسم الفاعل في معنى الفعل المضارع، فكل واحد منهما يقدر بالآخر، فلا جناح في عطفه عليه - والله أعلم - انتهى.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [96] فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم

    وقوله تعالى: فالق الإصباح خبر آخر ل (إن)، أو لمبتدأ محذوف. و (الإصباح) مصدر سمي به الصبح. قال امرؤ القيس:


    ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي بصبح وما الإصباح فيك بأمثل


    [ ص: 2429 ] أي: شاقه عن ظلمة الليل: وجعل الليل سكنا أي: صير الظلام يسكن إليه، ويطمئن به، استرواحا من تعب النهار. أو يسكن فيه الخلق، أي: يقروا ويهدؤا (من السكون) - وهو الأظهر لقوله: لتسكنوا فيه - وقرئ (وجاعل الليل).

    والشمس والقمر حسبانا أي: على أدوار مختلفة، لتحسب بهما الأوقات التي نيط بها العبادات والمعاملات. كما ذكره في سورة يونس في قوله: هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب

    ذلك أي: التسيير بالحساب المعلوم: تقدير العزيز العليم أي: الغالب على أمره العليم بتدبيرهما، ومراعاة الحكمة في شأنهما.

    [ ص: 2430 ] تنبيهات:

    الأول: قال الرازي: قوله تعالى: فالق الإصباح الآية. نوع آخر من دلائل وجود الصانع وعلمه وقدرته وحكمته. فالنوع المتقدم كان مأخوذا من دلالة أحوال النبات والحيوان. والنوع المذكور في هذه الآية مأخوذ من الأحوال الفلكية. وذلك لأن فلق ظلمة الليل بنور الصبح أعظم في كمال القدرة من فلق الحب والنوى بالنبات والشجر، ولأن من المعلوم بالضرورة أن الأحوال الفلكية أعظم في القلوب وأكثر وقعا من الأحوال الأرضية. ثم قرر الحجة من وجوه عديدة، وأجاد رحمه الله.

    الثاني: قرئ: (الأصباح) بفتح الهمزة، على أنه جمع صبح، كقفل وأقفال.

    الثالث: في "البحر الكبير": أن السنة الشرعية قمرية لا شمسية، والشمسية مما حدث في دواوين الخراج، وإنما أضيف الحساب في الآية إليهما؛ لأن بطلوع الشمس ومغيبها يعرف عدد الأيام التي تتركب منها الشهور والسنون، فمن هنا دخلت - انتهى.

    الرابع: قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: وكثيرا ما إذا ذكر الله تعالى خلق الليل والنهار والشمس والقمر يختم الكلام بالعزة والعلم، كما ذكر في هذه الآية، وكما في قوله: وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم ولما ذكر خلق السماوات والأرض وما فيهن في أول سورة (حم السجدة) قال: وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم انتهى.

    وفي (العزة) معنى القهر، أي: الذي قهرهما بجعلهما مسخرين، لا يتيسر لهما إلا ما أريد [ ص: 2431 ] بهما، كما قال: والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ومعنى القدرة الكاملة أيضا.

    قال الرازي: العزيز إشارة إلى كمال قدرته، و: العليم إشارة إلى كمال علمه، ومعناه: أن تقدير أجرام الأفلاك بصفاتها المخصوصة وهيأتها المحدودة، وحركاتها المقدرة بالمقادير المخصوصة في البطء والسرعة لا يمكن تحصيله إلا بقدرة كاملة متعلقة بجميع الممكنات، وعلم نافذ في جميع المعلومات من الكليات والجزئيات. وذلك تصريح بأن حصول هذه الأحوال والصفات ليس بالطبع والخاصة. وإنما هو بتخصيص الفاعل المختار. والله أعلم.

    الخامس: وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى: حسبانا قال: يعني عدد الأيام والشهور والسنين. وقال قتادة: يدوران في حساب. قال السيوطي: فالآية أصل في الحساب والميقات. انتهى.
    ثم بين تعالى نعمته في الكواكب، إثر بيان نعمته في النيرين إعلاما بكمال قدرته وحكمته ورحمته بقوله سبحانه:

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [97] وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون

    وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر أي: [ ص: 2432 ] في ظلمات الليل في طرق البر والبحر: قد فصلنا الآيات أي: بينا الآيات على قدرته تعالى وحكمته واليوم الآخر. لقوم يعلمون أي: وجه الاستدلال بها. وإنما خلقت للاستدلال المتأثر بالعمل بموجبها، ألا وهو الاستدلال بها على معرفة الصانع الحكيم، وكمال قدرته وعلمه واستحقاقه العبادة وحده.

    تنبيهان

    الأول: ذكر تعالى في غير هذه السورة كون هذه الكواكب زينة للسماء، وكونها رجوما للشياطين. قال بعض السلف: من اعتقد في هذه النجوم غير ثلاث فقد أخطأ وكذب على الله سبحانه: أن الله جعلها زينة للسماء، ورجوما للشياطين، ويهتدى بها في ظلمات البر والبحر. نقله ابن كثير.

    أقول: مراده اعتقاد مناف للعقد الصحيح لا اعتقاد حكم وإسرار غير الثلاث فيها إذ فوائد المكونات غير محصور. وذكر حكمة في مكون لا ينفي ما عداها - فافهم.

    الثاني: قال السيوطي في "الإكليل": هذه الآية أصل في الميقات، وأدلة العقليات،
    ثم بين تعالى نوعا آخر من نعمه، وأدلة قدرته الباهرة بقوله:

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [98] وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون

    وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة يعني: آدم عليه السلام: فمستقر ومستودع قرئ: مستقر بفتح القاف وكسرها، وأما: مستودع فبفتح الدال لا غير. وهما على الأول، إما مصدران، أي: فلكم استقرار واستيداع، أو اسما مكان، أي: موضع استقرار واستيداع. والاستقرار إما في الأصلاب، أو فوق الأرض، لقوله تعالى: [ ص: 2433 ] ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين أو في الأرحام، لقوله تعالى: ونقر في الأرحام أو الاستيداع في الأرحام، فجعل الصلب مستقر النطفة، والرحم مستودعها؛ لأنها تحصل في الصلب، لا من قبل شخص آخر، وفي الرحم من قبل الأب، فأشبهت الوديعة، كأن الرجل أودعها ما كان عنده، أو في الأصلاب، أو تحت الأرض، أو فوقها، فإنها عليها، أو وضعت فيها لتخرج منها مرة أخرى كقوله:


    وما المال والأهلون إلا ودائع ولا بد يوما أن ترد الودائع


    ونقل الرازي عن الأصم أن المستقر من خلق من النفس الأولى، ودخل الدنيا واستقر فيها. والمستودع الذي لم يخلق بعد وسيخلق. وجعل الأصفهاني (المستقر) كناية عن الذكر، و (المستودع) كناية عن الأنثى. قال: إنما عبر عن الذكر ب (المستقر) لأن النطفة إنما تتولد في صلبه، وإنما تستقر هناك. وعبر عن الأنثى ب (المستودع) لأن رحمها شبيهة بالمستودع لتلك النطفة. والله أعلم.

    [ ص: 2434 ] وعلى قراءة (مستقر) بكسر القاف اسم فاعل، أي: فمنكم قار، ومنكم مستودع، ووجه كون الأول معلوما. والثاني مجهولا، كون الاستقرار صادرا منا دون الاستيداع.

    قال الرازي: مقصود الآية أن الناس إنما تولدوا من شخص واحد وهو آدم عليه السلام، ثم اختلفوا في المستقر والمستودع بحسب الوجوه المذكورة فنقول: الأشخاص الإنسانية متساوية في الجسمية، ومختلفة في الصفات التي باعتبارها حصل التفاوت في المستقر والمستودع. والاختلاف في تلك الصفات لا بد له من سبب ومؤثر، وليس السبب هو الجسمية ولوازمها، وإلا لامتنع حصول التفاوت في الصفات، فوجب أن يكون السبب هو الفاعل المختار الحكيم. ونظير هذه الآية في الدلالة قوله تعالى: واختلاف ألسنتكم وألوانكم

    قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون قال الزمخشري: فإن قلت: لم قيل: (يعلمون) مع ذكر النجوم، و (يفقهون) مع ذكر إنشاء بني آدم؟ قلت: كان إنشاء الإنس من نفس واحدة، وتصريفهم بين أحوال مختلفة ألطف وأدق صنعة وتدبيرا. فكان ذكر الفقه الذي هو استعمال فطنة وتدقيق نظر، مطابقا له. انتهى - وهذا بناء على أن الفقه شدة الفهم والفطنة، ومن قال: إنه الفهم مطلقا، وليس بأبلغ من العلم - قال: إنه تفنن، حذرا من صورة التكرير.

    قال الناصر في "الانتصاف": جواب الزمخشري صناعي، وإلا فلا يتحقق هذا التفاوت، ولا سبيل إلى الحقيقة.

    قال: والتحقيق أنه لما أريد فصل كليهما بفاصلة تنبيها على استقلال كل واحدة منهما بالمقصود من الحجة كره فصلهما بفاصلتين متساويتين في اللفظ، لما في ذلك من التكرار، فعدل إلى فاصلة مخالفة، تحسينا للنظم، واتساقا في البلاغة، ويحتمل [ ص: 2435 ] وجها آخر في تخصيص الأولى بالعلم، والثانية بالفقه، وهو أنه لما كان المقصود التعريض بمن لا يتدبر آيات الله، ولا يعتبر بمخلوقاته، وكانت الآيات المذكورة أولا خارجة عن أنفس النظار ومنافية لها، إذ النجوم والنظر فيها، وعلم الحكمة الإلهية في تدبيره لها، أمر خارج عن نفس الناظر، ولا كذلك النظر في إنشائهم من نفس واحدة، وتقلباتهم في أطوار مختلفة، وأحوال متغايرة فإنه نظر لا يعدو نفس الناظر، ولا يتجاوزها. فإذا تمهد ذلك. فجهل الإنسان بنفسه وأحواله، وعدم النظر فيها والتفكر، أبشع من جهله بالأمور الخارجية عنه، كالنجوم والأفلاك، ومقادير سيرها وتقلبها. فلما كان الفقه أدنى درجات العلم، إذ هو عبارة عن الفهم، نفي من أبشع القبيلين جهلا، وهم الذين لا يتبصرون في أنفسهم، ونفي الأدنى أبشع من نفي الأعلى درجة، فخص به أسوأ الفريقين حالا. و (يفقهون) ههنا مضارع فقه الشيء - بكسر القاف - إذا فهمه، ولو أدنى فهم. وليس من (فقه) بضم القاف؛ لأن تلك درجة عالية، ومعناه صار فقيها - قاله الهروي في معرض الاستدلال على أن (فقه) أنزل من (علم) -. وفي حديث سلمان أنه قال وقد سألته امرأة جاءته: فقهت أي: فهمت، كالمتعجب من فهم المرأة عنه. وإذا قيل: فلان لا يفقه شيئا كان أذم في العرف من قول: فلان لا يعلم شيئا. وكأن معنى قولك: (لا يفقه شيئا) ليست له أهلية الفهم وإن فهم. وأما قولك: (لا يعلم شيئا) فغايته نفي حصول العلم له، وقد يكون له أهلية الفهم والعلم، لو يعلم. والذي يدل على أن التارك للفكرة في نفسه أجهل وأسوأ حالا من التارك للفكرة في غيره قوله تعالى: وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون فخص التبصر [ ص: 2436 ] في النفس بعد اندراجها فيما في الأرض من الآيات، وأنكر على من لا يتبصر في نفسه إنكارا مستأنفا. وقولنا، في أدراج الكلام: (إنه نفى العلم عن أحد الفريقين، ونفى الفقه عن الآخر) يعني: بطريق التعريض، حيث خص العلم بالآيات المفصلة، والتفقه فيها بقوم. فأشعر أن قوما غيرهم لا علم عندهم، ولا فقه - والله الموفق - فتأمل هذا الفصل، وإن طال بعض الطول، فالنظر في الحسن غير مملول. انتهى. وهذا من دقة النظر في الكتاب العزيز، وإبراز محاسنه ولطائفه.
    ثم بين تعالى حجة كبرى على كمال قدرته، ومنة أخرى من جسيم نعمته بقوله:




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #335
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,172

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْأَنْعَامِ
    المجلد السادس
    صـ 2437 الى صـ 2446
    الحلقة (335)







    القول في تأويل قوله تعالى:

    [99] وهو الذي أنـزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون

    وهو الذي أنـزل من السماء ماء أي: من السحاب، لقوله تعالى: أفرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم أنـزلتموه من المزن أم نحن المنـزلون وسمي السحاب سماء؛ لأن العرب تسمي كل ما علا سماء.

    فأخرجنا به التفت إلى التكلم إظهارا لكمال العناية بشأن ما أنزل الماء لأجله؛ أي: فأخرجنا بعظمتنا بذلك الماء مع وحدته: نبات كل شيء أي: صنف من أصناف [ ص: 2437 ] النبات والثمار المختلفة الطعوم والألوان، كقوله تعالى: يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل

    فأخرجنا منه أي: من النبات، يعني أصوله: خضرا أي: شيئا غضا أخصر. يقال: أخضر وخضر، كأعور وعور، وهو ما تشعب من أصل النبات الخارج من الحبة نخرج منه صفة ل (خضرا) وصيغة المضارع، لاستحضار الصورة، لما فيها من الغرابة، أي: نخرج من ذلك الخضر: حبا متراكبا أي: متراكما بعضه على بعض، مثل سنابل البر والشعير والأرز.

    قال الرازي: ويحصل فوق السنبلة أجسام دقيقة حادة كأنها الإبر، والمقصود من تخليقها أن تمنع الطيور من التقاط تلك الحبات المتراكبة.

    ثم بين تعالى ما ينشأ عن النوى من الشجر، إثر بيان ما ينشأ عن الحب من النبات بقوله سبحانه: ومن النخل من طلعها قنوان دانية الطلع: أول ما يبدو من ثمر النخيل كالكيزان يكون فيه العذق، فإذا شق عنه كيزانه سمي عذقا (بكسر العين وسكون الذال المعجمة بعدها) - وهو القنو، أي: العرجون، بما فيه من الشماريخ، وجمعه قنوان - (مثلث القاف) وهو ومثناه سواء، لا يفرق بينهما إلا الإعراب.

    قال الزمخشري: قنوان، رفع الابتداء، و (من النخل) خبره، و (من طلعها) بدل منه، كأنه قيل: وحاصلة من طلع النخل قنوان، انتهى. وجوز أن يكون (من النخل) عطفا على (منه) وما بعده مبتدأ وخبر. أي: وأخرجنا من النخل نخلا من طلعها قنوان دانية، أي: ملتفة، يقرب بعضها من بعض، أو قريبة من المتناول، وإنما اقتصر على [ ص: 2438 ] ذكرها لدلالتها على مقابلها، أعني البعيدة، كقوله تعالى: سرابيل تقيكم الحر ولزيادة النعمة فيها: وجنات من أعناب عطف على (نبات كل شيء) أي: وأخرجنا به جنات، أو على (خضرا). وقال الطيبي: الأظهر أن يكون عطفا على (حبا) لأن قوله: (نبات كل شيء) مفصل لاشتماله على كل صنف من أصناف النامي، كأنه قال: فأخرجنا بالنامي نبات كل شيء ينبت كل صنف من أصناف النامي، والنامي: الحب والنوى وشبههما. وقوله: فأخرجنا منه خضرا إلخ تفصيل لذلك النبات. أي: أخرجنا منه خضرا بسبب الماء، فيكون بدلا من (فأخرجنا) الأول، بدل اشتمال. ومن ههنا يقع التفصيل، فبعض يخرج منه السنابل ذات حبوب متكاثرة، وبعض يخرج منه ذات قنوان دانية، وبعض يخرج منه وبعض آخر جنات معروشات... إلخ.

    والزيتون والرمان العطف فيه كما تقدم: مشتبها وغير متشابه حال من (الزيتون)، اكتفى به عن حال ما بعده. أو من (الرمان) لقربه. والمحذوف حال الأول.

    قال الزمخشري: يقال: اشتبه الشيئان وتشابها، كقولك: استويا وتساويا. والافتعال والتفاعل يشتركان كثيرا. وقرئ: (متشابها وغير متشابه). والمعنى: بعضه متشابها، وبعضه غير متشابه في الهيئة والمقدار واللون والطعم، وغير ذلك من الأوصاف الدالة على كمال قدرة صانعها، وحكمة منشئها ومبدعها.

    انظروا إلى ثمره إذا أثمر أي: ثمر كل واحد من ذلك إذا أخرج ثمره، كيف يكون ضئيلا ضعيفا، لا يكاد ينتفع به. وينعه أي: وإلى حال ينعه ونضجه، كيف يعود شيئا جامعا لمنافع وملاذ. أي: انظروا إلى ذلك نظر اعتبار واستبصار واستدلال، على قدرة مقدره ومدبره وناقله، على وفق الرحمة والحكمة، من حال إلى حال، فإن فيه آيات عظيمة دالة على ذلك، كما قال:

    [ ص: 2439 ] إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون أي: يصدقون بأن الذي أخرج هذا النبات وهذه الثمار هو المستحق للعبادة دون ما سواه، أو هو القادر على أن يحيي الموتى ويبعثهم. قال بعضهم: القوم كانوا ينكرون البعث، فاحتج عليهم بتصريف ما خلق، ونقله من حال إلى حال، وهو ما يعلمونه قطعا ويشاهدونه من إحياء الأرض بعد موتها، وإخراج أنواع النبات والثمار منها، وأنه لا يقدر على ذلك أحد إلا الله تعالى. فبين أنه تعالى كذلك قادر على إنشائهم من نفوسهم وأبدانهم، وعلى البعث بإنزال المطر من السماء، ثم إنبات الأجساد كالنبات، ثم جعلها خضرة بالحياة، ثم تصوير الأعمال بصورة كثيرة، وإفادة أمور زائدة، وتفريعها، وإعطاء أطعمة مشتبهة في الصورة، غير متشابهة في اللذة، جزاء عليها، والله أعلم.

    لطيفة:

    قال الرازي: اعلم أنه تعالى ذكر ههنا أربعة أنواع من الأشجار: النخل والعنب والزيتون والرمان، وإنما قدم الزرع على الشجر؛ لأن الزرع غذاء، وثمار الأشجار فواكه، والغذاء مقدم على الفاكهة. وإنما قدم النخل على سائر الفواكه؛ لأن التمر يجري مجرى الغذاء بالنسبة إلى العرب، ولأن الحكماء بينوا أن بينه وبين الحيوان مشابهة في خواص كثيرة، بحيث لا توجد تلك المشابهة في سائر أنواع النبات. ولهذا المعنى قال صلى الله عليه وسلم: «فإنها خلقت من بقية طينة آدم» . وإنما ذكر العنب عقيب النخل؛ لأن العنب أشرف أنواع الفواكه؛ وذلك لأنه من أول ما يظهر يصير منتفعا به إلى آخر الحال. فأول ما يظهر على الشجر، يظهر خيوط خضر دقيقة حامضة الطعم، لذيذة المطعم، وقد يمكن اتخاذ الطبائخ منه. ثم بعده يظهر الحصرم، وهو طعام شريف للأصحاء والمرضى، وقد يتخذ الحصرم أشربة لطيفة المذاق، نافعة لأصحاب الصفراء، وقد يتخذ الطبيخ منه، فكأنه ألذ الطبائخ الحامضة. ثم إذا تم العنب فهو ألذ الفواكه وأشهاها، ويمكن ادخار العنب المعلق سنة أو أقل أو أكثر [ ص: 2440 ] وهو في الحقيقة ألذ الفواكه المدخرة، ثم يبقى منه أنواع من المتناولات وهي الزبيب والدبس والخل، ومنافع هذه لا يمكن ذكرها إلا في المجلدات. وأحسن ما في العنب عجمه، والأطباء يتخذون منه (جوارشنات) عظيمة النفع للمعدة الضعيفة الرطبة. فثبت أن العنب كأنه سلطان الفواكه.

    وأما الزيتون فهو أيضا كثير النفع؛ لأنه يمكن تناوله كما هو، وينفصل أيضا عنه دهن كثير، عظيم النفع في الأكل، وفي سائر وجوه الاستعمال.

    وأما الرمان فحاله عجيب جدا؛ وذلك لأنه جسم مركب من أربعة أقسام: قشره وشحمه وعجمه وماؤه. أما الأقسام الثلاثة الأول وهي القشر والشحم والعجم فكلها باردة يابسة قابضة عفصة قوية في هذه الصفات. وأما ماء الرمان فبالضد من هذه الصفات، فإنه ألذ الأشربة وألطفها وأقربها إلى الاعتدال، وأشدها مناسبة للطباع المعتدلة، وفيه تقوية للمزاج الضعيف، وهو غذاء من وجه، ودواء من وجه، فكأنه سبحانه جمع فيه بين المتضادين المتغايرين. فكانت دلالة القدرة والرحمة فيه أكمل وأتم.

    واعلم أن أنواع النبات أكثر من أن تفي بشرحها مجلدات، فلهذا السبب ذكر الله تعالى هذه الأقسام الأربعة، التي هي أشرف أنواع النبات، واكتفى بذكرها تنبيها على البواقي. انتهى.

    أقول: حديث «أكرموا عمتكم النخلة» المذكور، رواه أبو يعلى وابن أبي حاتم والعقيلي وابن عدي وابن السني وأبو نعيم وابن مردويه عن علي رضي الله عنه، كما في الجامع الصغير، ورمز عليه بالضعف.
    ولما ذكر تعالى هذه البراهين، من دلائل العالم العلوي والسفلي، على عظيم قدرته، وباهر حكمته، ووافر نعمته، واستحقاقه للألوهية وحده - عقبها بتوبيخ من أشرك به والرد عليه بقوله سبحانه:

    [ ص: 2441 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [100] وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون

    وجعلوا لله شركاء الجن أي: جعلوهم شركاء له في العبادة. فإن قيل: فكيف عبدت الجن مع أنهم إنما كانوا يعبدون الأصنام؟ فالجواب: أنهم ما عبدوها إلا عن طاعة الجن، وأمرهم بذلك. كقوله: إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا وكقوله تعالى: أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني الآية.. وقال إبراهيم لأبيه: يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا وكقوله: ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم وتقول الملائكة يوم القيامة: سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون

    [ ص: 2442 ] وخلقهم حال من فاعل: جعلوا ، مؤكدة لما في جعلهم ذلك من كمال القباحة والبطلان، باعتبار علمهم بمضمونها. أي: وقد علموا أن الله خالقهم دون الجن: (وليس من يخلق كمن لا يخلق) وقيل: الضمير للشركاء. أي: والحال أنه تعالى خلق الجن، فكيف يجعلون مخلوقه شريكا له؟ كقول إبراهيم: قال أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون أي: وإذا كان هو المستقل بالخالقية، وجب أن يفرد بالعبادة، وحده لا شريك له.

    تنبيه:

    ما ذكرناه من معنى قوله تعالى: وجعلوا لله شركاء الجن أنهم أطاعوا الجن في عبادة الأوثان، هو ما قرره ابن كثير، وأيده بالنظائر المتقدمة، ونقل عن الحسن، فتكون الكناية لمشركي العرب. وقيل: المراد بالجن الملائكة، فإنهم عبدوهم وقالوا عنهم بنات الله. وكلا الأمرين موجب للشريك. أما الأول فظاهر. وأما الثاني فلأن الولد كفء الوالد، فيشاركه في صفات الألوهية. وتسمية الملائكة (جنا) حقيقة، لشمول لفظ الجن لهم. وقيل: استعارة. أي: عبدوا ما هو كالجن، فيكون مخلوقا مستترا عن الأعين.

    وذهب بعض السلف - منهم الكلبي - إلى أنها نزلت في الثنوية القائلين بأن للعالم إلهين: أحدهما خالق الخير وكل نافع. وثانيهما خالق الشر وكل ضار. ونقله ابن الجوزي عن ابن السائب. وحكاه الفخر عن ابن عباس رضي الله عنه، وأنه قال: نزلت في الزنادقة الذين قالوا: إن الله وإبليس أخوان. فالله تعالى خالق الناس والدواب والأنعام والخيرات; وإبليس خالق السباع والحيات والعقارب والشرور.

    قال الرازي: وقول ابن عباس المذكور أحسن الوجوه المذكورة في هذه الآية، وذلك؛ [ ص: 2443 ] لأن بهذا الوجه يحصل لهذه الآية مزيد فائدة مغايرة لما سبق ذكره في هذه الآيات المتقدمة.

    وقوى ابن عباس قوله المذكور بقوله تعالى: وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا وإنما وصف بكونه من الجن؛ لأن لفظ الجن مشتق من الاستتار، والملائكة والروحانيون مستترة من العيون، فلذلك أطلق لفظ الجن عليها.

    قال الفخر: هذا مذهب المجوس. وإنما قال ابن عباس: هذا قول الزنادقة؛ لأن المجوس يلقبون بالزنادقة؛ لأن الكتاب الذي زعم زرادشت أنه نزل عليه من عند الله مسمى ب (الزند)، والمنسوب إليه يسمى (زندي)، ثم عرب فقيل: (زنديق)، ثم جمع فقيل: (زنادقة). واعلم أن المجوس قالوا: كل ما في هذا العالم من الخيرات فهو من (يزدان)، وجميع ما فيه من الشرور فهو من (أهرمن) (وهو المسمى بإبليس في شرعنا) ثم اختلفوا؛ فالأكثرون منهم على أن (أهرمن) محدث، ولهم في كيفية حدوثه أقوال عجيبة. والأقلون منهم قالوا: إنه قديم أزلي. وعلى القولين فقد اتفقوا على أنه شريك الله في تدبير هذا العالم، فخيرات هذا العالم من الله تعالى، وشروره من إبليس. فهذا شرح ما قاله ابن عباس رضي الله عنهما. وإنما جمع حينئذ في الآية، لكونه مع أتباعه كأنهم معبودون.

    ثم قال الرازي: وقوله تعالى: وخلقهم إشارة إلى الدليل القاطع على فساد كون إبليس شريكا، وتقريره أنا نقلنا عن المجوس أن الأكثرين منهم معترفون بأن إبليس ليس بقديم، بل هو محدث. إذا ثبت هذا فنقول: إن كل محدث فله خالق وموجد، وما ذلك إلا الله سبحانه وتعالى. فهؤلاء المجوس يلزمهم القطع بأن خالق إبليس هو الله تعالى. ولما كان إبليس أصلا لجميع الشرور والآفات والمفاسد والقبائح، والمجوس سلموا أن خالقه هو الله تعالى، فحينئذ قد سلموا أن إله العالم هو الخالق لما هو أصل الشرور والقبائح والمفاسد. وإذا كان كذلك امتنع عليهم أن يقولوا: لا بد من إلهين، فسقط قولهم. انتهى ملخصا.

    [ ص: 2444 ] وقوله تعالى: وخرقوا له أي: اختلقوا وافتروا له: بنين كقول أهل الكتابين في المسيح وعزير: وبنات كقول بعض العرب في الملائكة.

    قال الزمخشري: يقال: خلق الإفك وخرقه واختلقه بمعنى. وسئل الحسن عنه فقال: كلمة عربية كانت العرب تقولها. كان الرجل إذا كذب كذبة في نادي القوم يقول له بعضهم: قد خرقها والله! ويجوز أن يكون من (خرق الثوب) إذا شقه: أي: اشتقوا له بنين وبنات. وقرئ: "وخرقوا" بالتشديد للتكثير لقوله (بنين وبنات).

    بغير علم أي: من غير أن يعلموا حقيقة ما قالوه من خطأ أو صواب، ولكن رميا بقول عن عمى وجهالة، من غير فكر وروية، أو بغير علم بمرتبة ما قالوا، وأنه من الشناعة والبطلان بحيث لا يقادر قدره. وفيه ذم لهم بأنهم يقولون بمجرد الرأي والهوى. وفيه إشارة إلى أنه لا يجوز أن ينسب إليه تعالى إلا ما جزم به، وقام عليه الدليل.

    ثم نزه ذاته العلية عما نسبوه إليه بقوله: سبحانه وتعالى عما يصفون من أوصاف الحوادث الخسيسة من المشاركة والتوليد.
    ثم استدل تعالى على بطلان ما اجترؤوا عليه بوجوه أربعة. بدأ منها بقوله

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [101] بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم

    بديع السماوات والأرض أي: مبدعهما بلا مثال سبق. وقيل: بمعنى عديم النظير فيهما. قال أبو السعود: والأول هو الوجه. والمعنى: أنه تعالى مبدع لقطري العالم العلوي والسفلي، بلا مادة، فاعل على الإطلاق، منزه عن الانفعال بالمرة.

    والوالد عنصر الولد منفعل بانتقال مادته عنه، فكيف يمكن أن يكون له ولد؟

    [ ص: 2445 ] أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة أي: من أين وكيف يكون له ولد - كما زعموا - والحال أنه ليس له على زعمهم أيضا صاحبة يكون الولد منها؟ ويستحيل ضرورة وجود الولد بلا والدة، وإن أمكن وجوده بلا والد. وأيضا، الولد لا يحصل إلا بين متجانسين، ولا مجانس له تعالى.

    وقوله تعالى: أنى يكون له ولد جملة مستأنفة، لتقرير تنزهه عنه، والحالية بعدها مؤكدة للاستحالة المذكورة.

    وقوله تعالى: وخلق كل شيء جملة أخرى مستأنفة، لتحقيق ما ذكر من الاستحالة أو حال ثانية مقررة لها. أي: أنى يكون له ولد والحال أنه خلق كل شيء انتظمه التكوين والإيجاد من الموجودات التي من جملتها ما سموه ولدا له تعالى: فكيف يتصور أن يكون المخلوق ولدا لخالقه؟ أفاده أبو السعود.

    وهو بكل شيء عليم أي: مبالغ في العلم أزلا وأبدا. جملة مستأنفة أيضا، مقررة لمضمون ما قبلها من الدلائل القاطعة، ببطلان مقالتهم الشنعاء. أي: أنه سبحانه لذاته عالم بكل المعلومات، فلو كان له ولد، فلا بد أن يتصف بصفاته، ومنها عموم العلم، وهو لغيره تعالى منفي بالإجماع.
    [ ص: 2446 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [102] ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل

    ذلكم أي: الموصوف بما سبق، البعيد رتبته عن مراتب من يشارك أو ينسب إليه الولادة، إذ هو: الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه أي: بالإيمان به وحده، فإن من جمع تلك الصفات استحق العبادة وحده وهو على كل شيء وكيل أي: رقيب وحفيظ، يدبر كل ما سواه ويرزقهم ويكلؤهم بالليل والنهار.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [103] لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير

    قوله تعالى: لا تدركه الأبصار جملة مستأنفة، إما مؤكدة لقوله تعالى: وهو على كل شيء وكيل ذكرت للتخويف بأنه رقيب من حيث لا يرى فليحذر، وإما هي مؤكدة لما تقرر قبل من تنزهه وتعاليه عن إفكهم أعظم تأكيد، ببيان أنه لا تراه الأبصار المعهودة وهي أبصار أهل الدنيا، لجلاله وكبريائه وعظمته، فأنى يصح أن ينسب إلى عليائه تلك العظيمة؟ وذلك لأنه تعالى لم يخلق لأرباب هذه النشأة الدنيوية استعدادا لرؤيته المقدسة.

    قال العارف الجليل الشيخ الأكبر قدس سره في "فتوحاته": سبب عجز الناس عن رؤية ربهم في الدنيا ضعف نشأة هذه الدار، إلا لمن أمده الله بالقوة، بخلاف نشأة الآخرة لقوتها. وسبب رؤيته تعالى في المنام كون النوم أخا الموت. وفي الحديث: إنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا. فما نفى الشرع إلا رؤية الله في الدنيا يقظة. انتهى.

    وقال بعضهم: إن الأبصار المعهودة في الدنيا لا تدركه تعالى؛ لأن هذه الأحداق مادامت تبقى على هذه الصفات التي هي موصوفة بها في الدنيا لا تدرك الله تعالى، وإنما تدركه إذا تبدلت صفاتها، وتغيرت أحوالها.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #336
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,172

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْأَنْعَامِ
    المجلد السادس
    صـ 2447 الى صـ 2457
    الحلقة (336)






    وفي الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ ص: 2447 ] «إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل النهار قبل الليل، وعمل الليل قبل النهار، حجابه النور أو النار، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» .

    قال ابن كثير: وفي الكتب المتقدمة أن الله تعالى قال لموسى لما سأل الرؤية: يا موسى! إنه لا يراني حي إلا مات، ولا يابس إلا تدهده. وقال تعالى: فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين

    أقول: كون المنفي من الإدراك في هذه الآية هو الإدراك الدنيوي خاصة، لا يحتاج إلى حجة ولا برهان. ومن فهم من بعض الفرق، كالمعتزلة، من هذه الآية أن المنفي هو الإدراك في النشأتين، فقد نادى على نفسه بالجهل بما دل عليه كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم المتواترة. أما الكتاب فمثل قوله: وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة وأما السنة فما روي عن جرير بن عبد الله البجلي قال: كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم، إذ نظر إلى القمر ليلة البدر وقال: «إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر، لا تضامون في [ ص: 2448 ] رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا عن صلاة قبل طلوع الشمس، وقبل غروبها فافعلوا» ، ثم قرأ: وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب .

    قال ابن كثير: تواترت الأخبار عن أبي سعيد وأبي هريرة وأنس وجرير وصهيب وبلال وغير واحد من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن المؤمنين يرون الله في الدار الآخرة في العرصاة وفي روضات الجنات» . انتهى.

    قال الحافظ ابن حجر في "الفتح": وأدلة السمع طافحة بوقوع ذلك في الآخرة لأهل الإيمان دون غيرهم، ومنع ذلك في الدنيا. إلا أنه اختلف في نبينا صلى الله عليه وسلم. انتهى.

    قال ابن كثير: كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تثبت الرؤيا في الدار الآخرة وتنفيها في الدنيا، وتحتج بهذه الآية. انتهى.

    فعن مسروق قال: قلت لعائشة رضي الله عنها: يا أمتاه! هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه، فقالت: لقد قف شعري مما قلت! أين أنت من ثلاث: من حدثكهن فقد كذب: من حدثك أن محمدا رأى ربه [ ص: 2449 ] فقد كذب. ثم قرأت: لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب ومن حدثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب. ثم قرأت: وما تدري نفس ماذا تكسب غدا ومن حدثك أنه كتم فقد كذب. ثم قرأت: يا أيها الرسول بلغ ما أنـزل إليك من ربك ولكنه رأى جبريل في صورته مرتين. أخرجه الشيخان والترمذي.

    وخالفها ابن عباس. فعنه إطلاق الرؤية، وعنه أنه رآه بفؤاده. والمسألة تذكر مبسوطة في أول سورة النجم إن شاء الله تعالى. ومن الناس من ذهب إلى أن الإدراك ليس هو مطلق الرؤية، بل معرفة الكنه أو الإحاطة.

    قال ابن كثير: قال آخرون: لا منافاة بين إثبات الرؤية ونفي الإدراك. فإن الإدراك أخص من الرؤية، ولا يلزم من نفي الأخص انتفاء الأعم. ثم اختلف هؤلاء في الإدراك المنفي ما هو؟ فقيل: معرفة الحقيقة؛ فإن هذا لا يعلمه إلا هو، وإن رآه المؤمنون، كما أن من رأى القمر فإنه لا يدرك حقيقته وكنهه وماهيته، فالعظيم أولى بذلك، وله المثل الأعلى.

    وقال آخرون: الإدراك أخص من الرؤية؛ وهو الإحاطة. قالوا: ولا يلزم من عدم الإحاطة عدم الرؤية، كما لا يلزم من عدم إحاطة العلم عدم العلم. قال تعالى: ولا يحيطون به علما

    [ ص: 2450 ] وفي صحيح مسلم: «لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك» . ولا يلزم منه عدم الثناء، فكذلك هذا. انتهى.

    وقال النسفي: تشبث المعتزلة بهذه الآية لا يستتب؛ لأن المنفي هو الإدراك لا الرؤية والإدراك هو الوقوف على جوانب المرئي وحدوده، وما يستحيل عليه الحدود والجهات، يستحيل إدراكه، لا رؤيته، فنزل الإدراك من الرؤية منزلة الإحاطة من العلم، ونفي الإحاطة التي تقتضي الوقوف على الجوانب والحدود، لا يقتضي نفي العلم به، فكذا هذا. على أن مورد الآية، وهو التمدح، يوجب ثبوت الرؤية، إذ نفي إدراك ما تستحيل رؤيته. لا تمدح فيه؛ لأن كل ما لا يرى لا يدرك، وإنما التمدح بنفي الإدراك مع تحقق الرؤية، إذ انتفاؤه مع تحقق الرؤية، دليل ارتفاع نقيصة التناهي والحدود عن الذات، فكانت الآية حجة لنا عليهم. انتهى.

    وقد جود العلامة العضد في "المواقف" البحث في هذه الآية، ونقل شبه المنكرين فيها، وأجاب عنها. ونحن، لنفاسته، ننقل كلامه مع شرحه للسيد الشريف قدس سره، وبعض حواشيه، ونصه:

    الأولى: من شبه المنكرين للرؤية السمعية قوله تعالى: لا تدركه الأبصار

    1 - والإدراك المضاف إلى الأبصار إنما هو الرؤية. فمعنى قولك: أدركته ببصري، معنى رأيته. لا فرق إلا في اللفظ. أو هما أمران متلازمان لا يصح نفي أحدهما مع إثبات الآخر، [ ص: 2451 ] فلا يجوز: رأيته وما أدركته ببصري ولا عكسه. فالآية نفت أن تراه الأبصار وذلك يتناول جميع الأبصار بواسطة اللام الجنسية في مقام المبالغة، في جميع الأوقات؛ لأن قولك: فلان تدركه الأبصار، لا يفيد عموم الأوقات، فلا بد أن يفيده ما يقابله، فلا يراه شيء من الأبصار، لا في الدنيا، ولا في الآخرة لما ذكرنا.

    2 - ولأنه تعالى تمدح بكونه لا يرى، فإنه ذكره في أثناء المدائح: وما كان من الصفات عدمه مدحا، كان وجوده نقصا، يجب تنزيه الله عنه، فظهر أنه يمتنع رؤيته، وإنما قلنا: (من الصفات) احترازا عن (الأفعال)، كالعفو والانتقام، فإن الأول فضل، والثاني عدل، وكلاهما كمال. والجواب:

    أما عن الوجه الأول في الاستدلال بالآية فمن وجوه:

    الأول: أن الإدراك هو الرؤية، على نعت الإحاطة بجوانب المرئي، إذ حقيقته النيل والوصول، و (إنا لمدركون) أي: ملحقون، و (أدركت الثمرة) أي: وصلت إلى حد النضج و (أدرك الغلام) أي: بلغ. ثم نقل إلى الرؤية المحيطة، لكونها أقرب إلى تلك الحقيقة. والرؤية المكيفة بكيفية الإحاطة، أخص مطلقا من الرؤية المطلقة. فلا يلزم من نفي المحيطة عن الباري سبحانه، لامتناع الإحاطة، نفي المطلقة عنه. وقوله: (لا يصح نفي أحدهما مع إثبات الآخر) ممنوع، بل يصح أن يقال: رأيته وما أدركه بصري. أي: لم يحط به من جوانبه، وإن لم يصح عكسه.

    الثاني: أن (تدركه الأبصار) موجبة كلية؛ لأن موضوعها جمع محلى باللام الاستغراقية. وقد دخل عليها النفي فرفعها. ورفع الموجبة الكلية سالبة جزئية. وبالجملة فيحتمل قوله: لا تدركه الأبصار إسناد النفي إلى الكل، بأن يلاحظ أولا دخول النفي، ثم ورود العموم عليه، فيكون سالبة كلية. ونفي الإسناد إلى الكل بأن يعتبر العموم أولا، ثم ورود النفي عليه، فيكون سالبة جزئية. ومع احتمال المعنى الثاني، لم يبق فيه حجة لكم علينا؛ [ ص: 2452 ] لأن أبصار الكفار لا تدركه، إجماعا. هذا ما نقوله: لو ثبت أن اللام في الجمع للعموم والاستغراق، وإلا عكسنا القضية، فادعينا أن الآية حجة لنا وقلنا: لا تدركه الأبصار سالبة مهملة في قوة الجزئية، فالمعنى: لا تدركه بعض الأبصار، وتخصيص البعض بالنفي يدل بالمفهوم على الإثبات للبعض، فالآية حجة لنا لا علينا. انتهى - لكن هذا إنما يستقيم إذا كانت المهملة مرادفة للجزئية. وكونها في قوتها لا يفيد المرادفة. ولهذا اعترض عليه بأن الجنس في حيز النفي يفيد العموم اتفاقا، نحو: ما جاءني الرجل. وإنما الاحتمال لعموم السلب، وسلب العموم عند قصد الاستغراق، فكيف تعكس القضية على تقدير حمل اللام على الجنس؟ ولو ثبت المرادفة لا ندفع الاعتراض، إذ تصير الآية حينئذ حجة لنا إلزامية، حيث يرجع قيد البعضية إلى النفي، كما أرجع المعتدل قيد العموم، على تقدير الاستغراق، إليه. فتأمل! كذا في حواشي الحلبي والشرواني.

    الثالث: من تلك الوجوه أنها - أي: الآية - وإن عمت في الأشخاص باستغراق اللام، فإنها لا تعم في الأزمان؛ فإنها سالبة مطلقة لا دائمة، ونحن نقول بموجبه، حيث لا يرى في الدنيا.

    قال العلامة حسن حلبي: وما استدل به الخصم سابقا على أنها دائمة، من أن إيجابها لا يفيد عموم الأوقات، فلا بد أن يفيد ما يقابله – فجوابه: أنه إنما يتم إذا كان التقابل بينهما تقابل التناقض، وهو ممنوع. فإن القضية الموجبة والسالبة، الغير الموجهتين، لم توضعا في العربية لمعنيين متناقضين، بل لهما محامل يحملهما المستعمل حسب ما يريده.

    الرابع: منها أن الآية تدل على أن الأبصار لا تراه، ولا يلزم منه أن المبصرين لا يرونه، لجواز أن يكون ذلك النفي المذكور في الآية، نفيا للرؤية بالجارحة مواجهة وانطباعا، كما هو العادة، فلا يلزم نفي الرؤية بالجارحة مطلقا. وأما الجواب عن الوجه الثاني وهو قوله: تمدح الباري بأنه لا يرى، فنقول: هذا مدعاكم، فأين الدليل عليه؟ إن قلت: أشير فيما [ ص: 2453 ] تقدم إلى دليله بأنه ذكر في أثناء المدائح، والمذكور بينهما يجب أن يكون مدحا - قلت: ذلك الدليل إنما يدل على التمدح بنفي المبصرية، لا بنفي الرؤية، والفرق قد سبق في الجواب الأول. انتهى.

    وإذا ثبت أن سياق الكلام يقتضي أنه تمدح، لم يكن لكم فيه دليل على امتناع رؤيته، بل لنا فيه الحجة على صحة الرؤية؛ لأنه لو امتنعت رؤيته لما حصل المدح بنفيها عنه؛ إذ لا مدح للمعدوم بأنه لا يرى، حيث لم يكن له ذلك، وإنما المدح في عدم الرؤية للمتمنع المتعزز بحجاب الكبرياء، كما في الشاهد. انتهى.

    وناقش الخيالي قولهم: (لا مدح للمعدوم) بأن عدم مدح المعدوم لاشتماله على معدن كل نقص؛ أعني: العدم، فإن أصل الممادح والكمالات هو الوجود، وقد عرا عنه. كما أن الأصوات والروائح لا تمدح بمنع إمكان رؤيتها، لكونها مقرونة بسمات النقص.

    قال: والحق أن امتناع الشيء لا يمتنع التمدح بنفيه؛ إذ قد ورد التمدح بنفي الشريك، ونفي اتخاذ الولد في القرآن، مع امتناعهما في حقه تعالى. انتهى.

    ووافقه حسن حلبي في "حواشي شرح المواقف"، لكنه أجاب بأن المدح بجهة لا يقتضي الكمال من جهات أخر، وكذا النقصان من جهة لا ينافي المدح بغيرها. انتهى.

    وأجاب قره خليل بوجوه:

    الأول: أن مراد ذلك المستدل هو الإلزام على المعتزلة، لا تحقيق الاستدلال على جواز الرؤية.

    الثاني: أن مبنى كلامه على العرف واللغة، فإن أهلها إذا أرادوا مدح شيء يقولون: هذا الشيء مما لا تدركه الأبصار، أو مما لا تراه العيون، مع أنها مما تدركه عادة. فهذا القول منهم يدل على إمكان رؤية ذلك الشيء عادة، بل على وقوعها أيضا. بخلاف الأصوات والروائح ونحوها، فإنها ليست مما تدركه الأبصار عادة، فلا يحسن مدحها بعدم إدراك [ ص: 2454 ] الأبصار، أو بعدم رؤيتها. نعم! إذا أرادوا مدح الأصوات يقولون: لم تسمعها أذن، وإذا أرادوا مدح الروائح يقولون: لم يشمها أنف.

    الثالث: إنا قلنا: إن نفي الرؤية في مقام المدح يدل على إمكان الرؤية، ولم نقل إن نفي كل شيء في مقام المدح يدل على إمكان ذلك الشيء، حتى يرد علينا النقض بنفي الشريك، أو بنفي اتخاذ الولد في مقام المدح، مع أن إمكان المنفي في صورة النقض نقص ينافي الألوهية، وإمكان المنفي فيما نحن بصدده ليس نقصا، بل هو كمال. انتهى.

    قال حسن حلبي: إن قيل: يلزم على ثبوت التمدح بنفي الرؤية، تعززا وتمنعا، أن لا يزول؛ لأن زوال ما به التمدح نقص، فيلزم أن لا يرى في الآخرة. والجواب: أن ذلك فيما يرجع إلى الصفات. والتمدح بنفي الرؤية يرجع إلى التمدح بخلق ضدها، وهو من قبيل الأفعال، كما أن خلق الرؤية أيضا منها. انتهى.

    وقد بيناه أولا، وسيأتي لذلك تتمة شافية إن شاء الله تعالى عند قوله سبحانه: وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة مما هو أعظم حجة، وأوضح برهانا، والله الموفق.

    وقوله تعالى: وهو يدرك الأبصار أي: يرى جميع المرئيات، ويبصر جميع المبصرات، لا يخفى عليه شيء منها وهو اللطيف أي: الذي يعامل عباده باللطف والرأفة الخبير أي: العليم بدقائق الأمور وجلياتها. وجوز أن تكون الجملة تعليلا لما قبلها، على طريقة اللف، أي: لا تدركه الأبصار لأنه اللطيف، وهو يدرك الأبصار لأنه الخبير. قيل: فيكون: اللطيف مستعارا من مقابل الكثيف، فشبه به الخفي عن الإدراك. وهذا بناء على أنه في ظاهر الاستعمال من أوصاف الجسم والتحقيق أن اللطافة المطلقة لا توجد في الجسم؛ لأن الجسمية يلزمها الكثافة، وإنما لطافتها بالإضافة، فاللطافة المطلقة لا يبعد أن يوصف بها النور المطلق، الذي يجل عن إدراك البصائر، فضلا عن الإبصار، ويعز عن شعور الأسرار، فضلا عن الأفكار، ويتعالى عن مشابهة الصور والأمثال، [ ص: 2455 ] وينزه عن حلول الألوان والأشكال. فإن كمال اللطافة إنما يكون لمن هذا شأنه، ووصف الغير بها لا يكون على الإطلاق، بل بالقياس إلى ما هو دونه في اللطافة، ويوصف بالنسبة إليه بالكثافة - كذا حققه البهائي في "شرح الأسماء الحسنى". وقول الخفاجي: (اللطيف المشتق من اللطف بمعنى الرأفة)، لا يظهر له مناسبة هنا - مدفوع بملاحظة أن قوله تعالى: لا تدركه الأبصار ذكر للتخويف، كما أسلفنا، وحينئذ يناسب أن يشفع ببيان رأفته ورحمته، جريا على سنن الترغيب والترهيب.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [104] قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ

    وقوله تعالى: قد جاءكم بصائر من ربكم أي: الآيات والدلائل التي تبصرون بها الهدى من الضلالة. جمع (بصيرة)، وهي الدلالة التي توجب البصر بالشيء، والعلم به. وجوز أن يكون المعنى: قد جاءكم من الوحي ما هو كالبصائر للقلوب، جمع (بصيرة) وهو النور الذي يستبصر به القلب، كما أن البصر نور تستبصر به العين.

    فمن أبصر أي: الحق بتلك البصائر وآمن به: فلنفسه أي: فلنفسه أبصر؛ لأن نفعه لها ومن عمي أي: ضل عن الحق. والتعبير عنه ب (العمى) للتقبيح له، والتنفير عنه: فعليها أي: فعلى نفسه عمي، وإياها ضر بالعمى وما أنا عليكم بحفيظ أي: برقيب يرقبكم، ويحفظكم عن الضلال، بل أنا منذر، والله يحفظ أعمالكم، ويجازيكم عليها.
    [ ص: 2456 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [105] وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست ولنبينه لقوم يعلمون

    وكذلك نصرف الآيات أي: نوردها على وجوه كثيرة في سائر المواضع، لتكمل الحجة على المخالفين وليقولوا في ردها: درست أي: قرأت على غيرك، وتعلمت منه. وحفظت بالدرس أخبار من مضى. كقولهم: فهي تملى عليه بكرة وأصيلا

    يقال: درس الكتاب يدرسه دراسة، إذا أكثر قراءته وذلله للحفظ. قال ابن عباس: وليقولوا يعني: أهل مكة حين تقرأ عليهم القرآن (درست) يعني: تعلمت من يسار وخير، وكانا عبدين من سبي الروم. ثم قرأت علينا تزعم أنه من عند الله! وقال الفراء: معناه تعلمت من اليهود. كذا في "اللباب".

    وقرئ: "دارست" بالألف وفتح التاء. أي: دارست غيرك ممن يعلم الأخبار الماضية. كقولهم: إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه

    ويقرأ: "درست" بفتح الدال والراء والسين وسكون التاء. أي: مضت وقدمت وتكررت على الأسماع، كما قالوا: أساطير الأولين . وهذه القراءات الثلاث [ ص: 2457 ] متواترة. وقرئ في الشواذ: "درست" ماضيا مجهولا. أي: تليت وعفيت تلك الآيات. وقرئ: "درست" مشددا معلوما. وتشديده للتكثير أو للتعدية. أي: درست غيرك الكتب. وقرئ مشددا مجهولا. وقرئ: "دورست" بضم الراء، والإسناد للآيات مبالغة في محوه أو تلاوته؛ لأن (فعل) المضموم للطبائع والغرائز. وقرأ أبي رضي الله عنه: (درس) وفاعله ضمير النبي صلى الله عليه وسلم، أو الكتاب، إن كان بمعنى انمحى. و (درسن) بنون الإناث مخففا ومشددا. وقرئ: (دارسات) بمعنى قديمات، أو بمعنى ذات درس أو دروس، ك: عيشة راضية . وارتفاعه على أنه خبر مبتدأ محذوف. أي: هي دارسات.

    ولنبينه أي: القرآن، وإن لم يجر له ذكر لكونه معلوما. أو الآيات، لأنها في معنى القرآن. لقوم يعلمون أي: الحق فيتبعونه، والباطل فيجتنبونه.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #337
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,172

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْأَنْعَامِ
    المجلد السادس
    صـ 2458 الى صـ 2468
    الحلقة (337)




    [ ص: 2458 ] تنبيهان:

    الأول: قيل: اللام الثانية حقيقية، والأولى لام العاقبة والصيرورة. أي: لتصير عاقبة أمرهم، إلى أن يقولوا: درست، كهي في قوله تعالى: فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا وهم لم يلتقطوه للعداوة، وإنما التقطوه ليصير لهم قرة عين، ولكن صارت عاقبة أمرهم إلى العداوة. فكذلك الآيات صرفت للتبيين، ولم تصرف ليقولوا: درست. ولكن حصل هذا القول بتصريف الآيات، كما حصل التبيين، فشبه به.

    قال الخفاجي: وجوز أن يكون على الحقيقة أبو البقاء وغيره؛ لأن نزول الآيات لإضلال الأشقياء، وهداية السعداء. قال تعالى: يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وقال الرازي: حمل اللام على العاقبة بعيد؛ لأنه مجاز. وحمله على لام الغرض حقيقة، والحقيقة أقوى من المجاز. وإن المراد منه عين المذكور في قوله تعالى: يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا قال: ومما يؤكد هذا التأويل قوله: ولنبينه لقوم يعلمون يعني: إنا ما بيناه إلا لهؤلاء. فأما الذين لا يعلمون، فما بينا هذه الآيات لهم، وإذ لم يكن بيانا لهم ثبت جعله ضلالا لهم. انتهى.

    وقيل: هذه اللام لام الأمر، ويؤيده أنه قرئ بسكونها، كأنه قيل: وكذلك نصرف الآيات، وليقولوا هم ما يقولون، فإنه لا احتفال بهم، ولا اعتداد بقولهم. وهو أمر معناه الوعيد والتهديد وعدم الاكتراث بقولهم.

    [ ص: 2459 ] وفيه نظر؛ لأن ما بعده يأباه، إذ اللام في (لنبينه) نص في أنها لام كي. وأما تسكين اللام في القراءة الشاذة، فلا دليل فيه، لاحتمال أنها خففت لإجرائها مجرى كبد، وكونها معترضة. و (لنبينه) متعلق بمقدر معطوف على ما قبله، وإن صححه لا يخرجه عن كونه خلاف الظاهر. كذا في "العناية".

    الثاني: قال الشريف قدس سره: أفعاله تعالى يتفرع عليها حكم ومصالح متقنة هي ثمراتها، وإن لم تكن عللا غائية لها، حيث لولاها لم يقدم الفاعل عليها. ومن أهل السنة من وافق المعتزلة في التعليل والغرض الراجع منفعته إلى العباد، وادعى أنه مذهب الفقهاء والمحدثين.

    إذا عرفت هذا، فاعلم أن حقيقة التعليل والغرض عند أهل السنة بيان ما يدل على المصلحة المترتبة على الفعل. وأما تفسيره بالباعث الذي لولاه لم يقدم الفاعل على الفعل، أو عدم اشتراط ذلك، فهو من تحقيقات المتكلمين، لا تعلق له باللغة. وأما عند أهل اللغة فهو حقيقة في ذلك مطلقا، والفرق بينها وبين لام العاقبة، أن لام العاقبة ما تدخل على ما يترتب على الفعل وليس مصلحة. وهل يشترط فيها أن يظنه المتكلم غير مترتب أم لا، حتى يكون في كلامه تعالى من غير حكاية أم لا، فيه خلاف. كذا في "العناية".
    ولما حكى تعالى عن المشركين قدحهم في تصريف الآيات، أتبعه بالأمر بالثبات على ما هو عليه، تقوية لقلبه، وإزالة لما يحزنه، فقال سبحانه:

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [106] اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين

    اتبع ما أوحي إليك من ربك أي: من تبليغ الرسالة، التي هي الآيات المصرفة، مبالغة في إلزام الحجة. وقوله: لا إله إلا هو اعتراض أكد به إيجاب [ ص: 2460 ] الاتباع، أو حال مؤكدة من: ربك ، بمعنى: منفردا في الألوهية وأعرض عن المشركين قال أبو مسلم: أريد بالإعراض الهجران لهم دون الإنذار، وترك الموعظة. وقال المهايمي: أي: لا تحزن عليهم إذا أصروا على الشرك والعمى مع هذه البصائر. فإنه تعالى أراد بقاءهم على الشرك والعمى، لاقتضاء استعدادهم ذلك.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [107] ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل

    ولو شاء الله ما أشركوا أي: مع استعدادهم، ولكن جرت سنته برعاية الاستعدادات وما جعلناك عليهم حفيظا أي: هم وإن كان لهم الاستعداد للإيمان في فطرتهم، وقد أبطلوه، فأنت وإن كنت داعيا إلى إصلاح الاستعداد الفطري، وما جعلناك متوليا عليهم، تحفظ مصالحهم، حتى تكون مصلحا لاستعدادهم الفطري.

    وما أنت عليهم بوكيل تدبر عليهم أمورهم، أو تغيرهم من استعدادهم إلى آخر، بل هو مفوض إلى الله تعالى، يفعل بهم بمقتضى استعدادهم الطبيعي لهم من غير تغيير له، بل هو مفوض إلى اختيارهم. أفاده المهايمي.

    تنبيهان:

    الأول: في قوله تعالى: ولو شاء الله ما أشركوا دليل على أنه تعالى لا يريد إيمان الكافر، لكن لا بمعنى أنه تعالى يمنعه عنه، مع توجهه إليه، بل بمعنى أنه تعالى لا يريده منه، لعدم صرف اختياره الجزئي نحو الإيمان، وإصراره على الكفر. والزمخشري يفسره بمشيئة إكراه وقسر؛ لأن عندهم مشيئة الاختيار حاصلة البتة. قال النحرير: وهذه عكازته في دفع مذهب أهل السنة.

    [ ص: 2461 ] الثاني: قال القاشاني في تفسير قوله تعالى: ولو شاء الله ما أشركوا أي: كل ما يقع، فإنما يقع بمشيئة الله، ولا شك أن استعداداتهم التي وقعوا بها في الشرك، وأسباب ذلك، من تعليم الآباء والعادات وغيرها، أيضا واقعة بإرادة من الله، وإلا لم تقع. فإن آمنوا بذلك فبهداية الله، وإلا فهون على نفسك، فما جعلناك تحفظهم عن الضلال، وما أنت بموكل عليهم بالإيمان. ولا ينافي هذا ما قال في تعييرهم فيما بعد بقوله: سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا لأنهم قالوا ذلك عنادا ودفعا للإيمان بذلك التعلل، لا اعتقادا. فقولهم ذلك، وإن كان صدقا في نفس الأمر، لكنهم كانوا به كاذبين، مكذبين للرسول، إذ لو صدقوا لعلموا أن توحيد المؤمنين أيضا بإرادة الله، وكذا كل دين، فلم يعادوا أحدا. ولو علموا أن كل شيء لا يقع إلا بإرادة الله لما بقوا مشركين، بل كانوا موحدين. لكنهم قالوه لغرض التكذيب والعناد، وإثبات أنه لا يمكنهم الانتهاء عن شركهم، فلذلك عيرهم به، لا لأنه ليس كذلك في نفس الأمر. فإنهم لم يطلعوا على مشيئة الله، وأنه كما أراد شركهم في الزمان السابق، لم يرد إيمانهم الآن؛ إذ ليس كل منهم مطبوع القلب، بدليل إيمان من آمن منهم، فلم لا يجوز أن يكون بعضهم كانوا مستعدين للإيمان والتوحيد، واحتجوا بالعادة، وما وجدوا من آبائهم فأشركوا، ثم إذا سمعوا الإنذار، وشاهدوا آيات التوحيد، اشتاقوا إلى الحق، وارتفع حجابهم فوحدوا. فلذلك وبخهم على قولهم، وطلب منهم الحجة على أن الله أرادهم بذلك دائما، وأنذرهم بوعيد من كان قبلهم، لعل من كان فيه أدنى استعداد، إذا انقطع عن حجته، وسمع وعيد من قبله من المنكرين، ارتفع حجابه، ولان قلبه فآمن، ويكون ذلك توفيقا له، ولطفا في شأنه، فإن عالم الحكمة يبتنى على الأسباب. وأما من كان من الأشقياء [ ص: 2462 ] المردودين، المختوم على قلوبهم، فلا يرفع لذلك رأسا، ولا يلقي إليه سمعا. انتهى.
    وليكن هذا على بال منك، فالمقام دقيق جدا، وسيأتي بيانه في الآية الآتية إن شاء الله تعالى.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [108] ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون

    ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم أي: لا تذكروا آلهتهم، التي يعبدونها، بما فيها من القبائح؛ لئلا يتجاوزوا إلى الجناب الرفيع.

    روى عبد الرزاق عن قتادة قال: كان المسلمون يسبون أصنام الكفار، فنهوا عنه لذلك. وقال الزجاج: نهوا أن يلعنوا الأصنام التي كانت تعبدها المشركون. انتهى.

    ف: الذين يدعون عبارة عن الآلهة، والعائد مقدر، والتعبير ب: الذين على زعمهم أنهم من أولي العلم، أو بناء على أن سب آلهتهم سب لهم، كما يقال: ضرب الدابة صفع لراكبها. فإن قيل: إنهم كانوا يقرون بالله وعظمته، وأن آلهتهم إنما عبدوها لتكون شفعاء عنده، فكيف يسبونه؟ قلنا: لا يفعلون ذلك صريحا، بل يفضي كلامهم إلى ذلك، كشتمهم له ولمن يأمر بذلك مثلا. وقد فسر: بغير علم بهذا، وهو حسن جدا. أو أن الغيظ والغضب ربما حملهم على سب الله صريحا. ألا ترى المسلم قد تحمله شدة غضبه بالكفر؟!

    و: عدوا مصدر، أي: ظلما وعدوانا، يقال: عدا عليه عدوا، ك (ضربا)، و (عدوا) ك (عتو)، و (عداء) ك (عزاء)، و (عدوانا) ك (سبحان) إذا تعدى [ ص: 2463 ] وتجاوز، وهو مفعول مطلق ل (تسبوا) من معناه؛ لأن السب عدوان. أو مفعول له، أو حال مؤكدة مثل: بغير علم - كذا في العناية -.

    تنبيه:

    قال ابن الفرس في الآية: إنه متى خيف من سب الكفار وأصنامهم، أن يسبوا الله أو رسوله أو القرآن، لم يجز أن يسبوا ولا دينهم. قال: وهي أصل في قاعدة سد الذرائع.

    قال السيوطي: وقد يستدل بها على سقوط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذا خيف من ذلك مفسدة أقوى. وكذا كل فعل مطلوب ترتب على فعله مفسدة أقوى من مفسدة تركه.

    وقال بعض مفسري الزيدية: ثمرة الآية أن الحسن يصير قبيحا إذا كان يحصل بفعله مفسدة. قال الحاكم: نهوا عن سب الأصنام لوجهين:

    أحدهما: أنها جماد لا ذنب لها.

    والثاني: أن ذلك يؤدي إلى المعصية بسب الله تعالى.

    قال: والذي يجب علينا بيان بغضها، وأنه لا تجوز عبادتها، وأنها لا تضر ولا تنفع، وأنها لا تستحق العبادة، وهذا ليس بسب. ولهذا قال أمير المؤمنين (يوم صفين): لا تسبوهم، ولكن اذكروا قبيح أفعالهم. انتهى.

    وقال الزمخشري: فإن قلت: سب الآلهة حق وطاعة، فكيف صح النهي عنه، وإنما يصح النهي عن المعاصي؟ قلت: رب طاعة علم أنها تكون مفسدة، فتخرج عن أن تكون طاعة، فيجب النهي عنها لأنها معصية، لا لأنها طاعة. كالنهي عن المنكر، هو من أجل الطاعات، فإذا علم أنه يؤدي إلى زيادة الشر انقلب إلى معصية، ووجب النهي عن ذلك، كما يجب النهي عن المنكر. فإن قلت: فقد روي عن الحسن وابن سيرين أنهما حضرا [ ص: 2464 ] جنازة، فرأى محمد نساء، فرجع. فقال الحسن: لو تركنا الطاعة لأجل المعصية، لأسرع ذلك في ديننا. قلت: ليس هذا مما نحن بصدده؛ لأن حضور الرجال الجنازة طاعة، وليس بسبب لحضور النساء، فإنهن يحضرنها، حضر الرجال أو لم يحضروا. بخلاف سب الآلهة. وإنما خيل إلى ابن سيرين أنه مثله، حتى نبه عليه الحسن. انتهى.

    ومنه قال بعض مفسري الزيدية: واعلم أن المعصية إن كانت حاصلة لا محالة، سواء فعل الحسن أم لا، لم يسقط الواجب، ولا يقبح الحسن. انتهى.

    وكذا قال الخفاجي: إن الطاعة إذا أدت إلى معصية راجحة، وكانت سببا لها، وجب تركها. بخلاف الطاعة في موضع فيه معصية، لا يمكن دفعها. وكثيرا ما يشتبهان ولذا لم يحضر ابن سيرين جنازة اجتمع فيها الرجال والنساء، وخالفه الحسن للفرق بينهما. انتهى.

    قال الرازي: وفي الآية تأديب لمن يدعو إلى الدين؛ لئلا يتشاغل بما لا فائدة له في المطلوب؛ لأن وصف الأوثان بأنها جمادات لا تضر ولا تنفع، يكفي في القدح في إلهيتها، فلا حاجة، مع ذلك، إلى شتمها.

    كذلك زينا لكل أمة من الأمم الماضية على الضلال: عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم أي: بالبعث بعد الموت فينبئهم أي: يخبرهم: بما كانوا يعملون في الدنيا. وذلك بالمحاسبة والمجازاة عليه. تنبيهات:

    الأول: ذهب أهل السنة إلى ظاهر الآية، من أن المزين للكافر الكفر، وللمؤمن الإيمان، هو الله تعالى؛ وذلك لأن صدور الفعل من العبد يتوقف على حصول الداعي، ولا بد أن يكون ذلك الداعي بخلق الله تعالى. وقد بسط الرازي ذلك، وساق تأويلات المعتزلة الركيكة، فانظره!

    الثاني: في قوله تعالى: فينبئهم إلخ وعيد الجزاء والعذاب. كقول الرجل لمن يتوعده: سأخبرك بما فعلت.

    [ ص: 2465 ] الثالث: فيه نكتة سرية، مبنية على حكمة أبية، وهي أن كل ما يظهر في هذه النشأة من الأعيان والأعراض، فإنما يظهر بصورة مستعارة مخالفة لصورته الحقيقة التي بها يظهر في النشأة الآخرة. فإن المعاصي سموم قاتلة، قد برزت في الدنيا بصورة تستحسنها نفوس العصاة، كما نطقت به هذه الآية الكريمة، وكذا الطاعات، فإنها مع كونها أحسن الأحاسن، قد ظهرت عندهم بصورة مكروهة، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات. فأعمال الكفرة قد برزت لهم في هذه النشأة بصورة مزينة تستحسنها الغواة وتستحبها الطغاة. وستظهر في النشأة الآخرة بصورتها الحقيقة المنكرة الهائلة، فعند ذلك يعرفون أن أعمالهم ماذا؟ فعبر عن إظهارها بصورها الحقيقة بالإخبار بها، لما أن كلا منهما سبب للعلم بحقيقتها كما هي. فليتدبر! - أفاده أبو السعود.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [109] وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون

    وأقسموا بالله جهد أيمانهم مصدر في موضع الحال. أي: أقسموا به تعالى جاهدين في أيمانهم، باذلين في توثيقها طاقتهم: لئن جاءتهم آية أي: خارق كما اقترحوا. ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله أي: أمرها في حكمه وقضائه خاصة، يتصرف بها حسب مشيئته المبنية على الحكم البالغة، لا تتعلق بها قدرة أحد ولا مشيئته، حتى يمكنني أن أتصدى لاستنزالها بالاستدعاء. وهذا سد لباب الاقتراح على أبلغ وجه وأحسنه، ببيان صعوبة منالها، وعلو شأنها . أفاده أبو السعود.

    [ ص: 2466 ] وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون قرئ: "إنها" بالكسر على الاستئناف، والمفعول الثاني محذوف، كأنه قيل: وما يدريكم إيمانهم؟ ثم أخبرهم بما علم منهم إخبارا ابتدائيا. أو هو جواب سؤال، كأنه قيل: لم وبخوا؟ فقيل: لأنها إذا جاءت لا يؤمنون! أو هو مبني على قوله: وما يشعركم فإنه أبرز في معرض المحتمل، كأنه سأل عنه سؤال شاك، ثم علل بقوله ل: أنها إذا جاءت لا يؤمنون جزما بالطرف الخالف، وبيانا لكون الاستفهام غير جار على الحقيقة. وفيه إنكار لتصديق المؤمنين على وجه يتضمن إنكار صدق المشركين في المقسم عليه. وهذا نوع من السحر البياني، لطيف المسلك، هذا على أن الخطاب للمؤمنين؛ إذ كانوا يتمنون مجيء الآية طمعا في إيمانهم. وقيل: هو للمشركين، لقراءة: "لا تؤمنون"، فيكون فيه التفات. وقرئ: أنها بالفتح، وعليه فقيل: مقتضى حسن ظن المؤمنين بهؤلاء المعاندين، حذف (لا). وتوضيح ذلك بالمثال أنه إذا قيل لك: أكرم زيدا يكافئك، قلت في إنكاره: ما أدراك أني إذا أكرمته يكافئني؟! فإن قيل: لا تكرمه فإنه لا يكافئك، قلت في إنكار: ما أدراك أنه لا يكافئني؟! تريد: وأنا أعلم منه المكافأة. فمقتضى حسن ظن المؤمنين بالمشركين أن يقال: وما يدريكم أنها إذا جاءت يؤمنون، فإثبات (لا) يعكس المعنى، إلى أن المعلوم لك الثبوت، وأنت تنكر على من نفى.

    وقد وجه الفتح بستة وجوه:

    منها - جعل (لا) صلة، كقوله: ما منعك ألا تسجد ، وقوله تعالى: وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون أي: يرجعون. وضعف الزجاج هذا الوجه، بأن ما كان لغوا يكون كذلك على جميع التقديرات، وليس كذلك هنا، فإن (لا) [ ص: 2467 ] على قراءة الكسر ليست بصلة. وأجاب الفارسي بأنه لم لا يجوز أن يكون لغوا على أحد التقديرين، ومفيدا على التقدير الثاني؟ انتهى.

    ومنها - جعل: "أن" بمعنى (لعل). قال الخليل: تقول العرب: ائت السوق أنك تشتري لنا شيئا، أي: لعلك. فكأنه تعالى قال: لعلها إذا جاءت لا يؤمنون. قال الواحدي: "أن" بمعنى (لعل) كثير في كلامهم، قال الشاعر:


    أريني جوادا مات هزلا لأنني أرى ما ترين أو بخيلا مخلدا


    وقال عدي بن حاتم:


    أعاذل ما يدريك أن منيتي إلى ساعة في اليوم أو في ضحى الغد


    ويؤيده أن (يشعركم) و (يدريكم) بمعنى. وكثيرا ما تأتي (لعل) بعد فعل الدراية. نحو: وما يدريك لعله يزكى وفي مصحف أبي: "وما أدراك لعلها إذا جاءتهم لا يؤمنون".

    ومنها - جعل: "أن" بمعنى هل.

    ومنها - جعل الكلام جواب قسم محذوف بناء على أن: "إن" في جواب القسم يجوز فتحها. والذي ارتضاه الزمخشري وتبعه المحققون حمل الكلام على ظاهره، وأن الاستفهام [ ص: 2468 ] في معنى النفي، والإخبار بعدم العلم لا إنكار عليهم. والمعنى: وما يدريكم أن الآية التي يقترحونها إذا جاءت لا يؤمنون بها، يعني: أنا أعلم أنها إذا جاءت لا يؤمنون بها، وأنتم لا تدرون ذلك.

    قال في" الانتصاف ": لما جاءت الآية تفهم، ببادئ، أن الله تعالى علم الإيمان منهم، وأنكر على المؤمنين نفيهم له، والواقع على خلاف ذلك. اختلف العلماء (وساق نحو ما قدمنا في الوجوه) ثم قال: وأما الزمخشري فتفطن لبقاء الآية على ظاهرها وقرارها في نصابها، من غير حذف ولا تأويل. فقال قوله السالف. ونحن نوضح اطراده في المثال المتقدم، ليتضح بوجهيه في الآية، فنقول: إذا حرمت زيدا لعلمك بعدم مكافأته، فأشير عليك بالإكرام بناء على أن المشير يظن المكافأة، فلك معه حالتان: حالة تنكر عليه ادعاء العلم بما يعلم خلافه، وحالة تعذره في عدم العلم بما أحطت به علما. فإن أنكرت عليه قلت: وما يدريك أنه يكافئ؟ وإن عذرته في عدم علمه بأنه لا يكافئ قلت: وما يدريك أنه لا يكافئ؟ يعني: ومن أين تعلم أنت ما علمته أنا من عدم مكافأته، وأنت لا تخبر أمره خبري. فكذلك الآية إنما ورد فيها الكلام إقامة عذر للمؤمنين في عدم علمهم بالمغيب في علم الله تعالى، وهو عدم إيمان هؤلاء. فاستقام دخول (لا) وتعين، وتبين أن سبب الاضطراب التباس الإنكار بإقامة الأعذار. انتهى.

    وفي نفي السبب، وهو الإشعار، مبالغة في نفي المسبب، وهو الشعور.

    قال الخفاجي: وفي نفي المسبب بهذا الطريق مبالغة ليست في نفيها بدونها؛ لأن في الكناية إثبات الشيء ببينة. وفيه تعريض بأن الله عالم بعدم إيمانهم، على تقدير مجيء الآية المقترحة لهم، وتنبيه على أنه تعالى لم ينزلها لعلمه بأنها إذا جاءت لا يؤمنون. فعدم الإنزال لعدم الإيمان. و (يشعركم وينصركم) ونحوه، قرئ بضم خالص وسكون واختلاس.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #338
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,172

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْأَنْعَامِ
    المجلد السادس
    صـ 2469 الى صـ 2480
    الحلقة (338)




    [ ص: 2469 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [110] ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون

    ونقلب أفئدتهم وأبصارهم عطف على (لا يؤمنون)، داخل في حكم (ما يشعركم)، مقيد بما قيد به. أي: وما يشعركم أنا نقلب أفئدتهم عن إدراك الحق فلا يفقهونه. وأبصارهم عن اجتلائه فلا يبصرونه، لكن لا مع توجهها إليه، واستعدادها لقبوله، بل لكمال نبوها عنه، وإعراضها بالكلية. ولذلك أخر ذكره عن ذكر عدم إيمانهم، إشعارا بأصالتهم في الكفر، وحسما لتوهم أن عدم إيمانهم ناشئ من تقليبه تعالى مشاعرهم بطريق الإجبار. أفاده أبو السعود.

    كما لم يؤمنوا به أي: بما جاء من الآيات: أول مرة أي: قبل سؤالهم الآيات التي اقترحوها ونذرهم أي: ندعهم: في طغيانهم يعمهون أي: يترددون متحيرين، لا نهديهم هداية المؤمنين.

    قال أبو السعود (ونذرهم) عطف على (يؤمنون)، داخل في حكم الاستفهام الإنكاري، مقيد به، مبين لما هو المراد بتقليب الأفئدة والأبصار، ومعرب عن حقيقته بأنه ليس على ظاهره، بأن يقلب الله سبحانه مشاعرهم عن الحق، مع توجههم إليه، واستعدادهم له بطريق الإجبار، بل بأن يخليهم وشأنهم، بعد ما علم فساد استعدادهم، وفرط نفورهم عن الحق، وعدم تأثير اللطف فيهم أصلا، ويطبع على قلوبهم حسبما يقتضيه استعدادهم، كما أشرنا إليه. انتهى.

    وفي "اللباب": في الآية دليل على أن الله تعالى يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، وأن [ ص: 2470 ] القلوب والأبصار بيده وفي تصريفه، فيقيم ما شاء منها، ويزيغ ما أراد منها. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك» . انتهى.
    ثم بين تعالى كذبهم في أيمانهم الفاجرة على أبلغ وجه وآكده بقوله:

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [111] ولو أننا نـزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون

    ولو أننا نـزلنا إليهم الملائكة أي: ولو أننا لم نقتصر على إيتاء ما اقترحوه هنا من آية واحدة، بل نزلنا إليهم الملائكة، كما قالوا: لولا أنزل علينا الملائكة .

    وكلمهم الموتى كما قالوا: فأتوا بآبائنا إن كنتم صادقين : وحشرنا أي: جمعنا: عليهم كل شيء من الحيوانات والنباتات والجمادات قبلا أي: كفلاء بصحة ما بشروا به وأنذروا: ما كانوا ليؤمنوا لغلوهم في التمرد والطغيان إلا أن يشاء الله أي: إيمانهم فيؤمنوا ولكن أكثرهم يجهلون أي: [ ص: 2471 ] إنهم لو أوتوا كل آية لم يؤمنوا، فيقسمون بالله جهد أيمانهم على ما لا يكاد يكون. أو يجهلون أن الإيمان بمشيئة الله لا بخوارق العادات.

    قال القاشاني: وفي الحقيقة لا اعتبار بالإيمان المرتب على مشاهدة خوارق العادات، فإنه ربما كان مجرد إذعان لأمر محسوس، وإقرار باللسان، وليس في القلب من معناه شيء، كإيمان أصحاب السامري. والإيمان لا يكون إلا بالجنان، كما قال تعالى: قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم

    تنبيهان:

    الأول: يقرأ (قبلا) بضم القاف والباء، وفيه وجهان: أحدهما: هو جمع قبيل بمعنى الكفيل، مثل قليب وقلب; والآخر: أنه مفرد، كقبل الإنسان ودبره. وعلى كلا الوجهين هو حال من كل. ويقرأ بالضم وسكون الباء على تخفيف الضمة يقرأ بكسر القاف وفتح الباء، وانتصابه على الظرفية. كقولهم: لي قبل فلان حق. أو على الحالية، وهو مصدر، أي: ومشاهدة.

    الثاني: في قوله تعالى: إلا أن يشاء الله حجة واضحة على المعتزلة لدلالته على أن جميع الأشياء بمشيئة الله تعالى، حتى الإيمان والكفر. وقد اتفق سلف هذه الأمة، وحملة شريعتها على أنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. وللمعتزلة تحيل في المدافعة بحمل المشيئة المنفية، على مشيئة القسر والاضطرار. وإنما يتم لهم ذلك أن لو كان القرآن يتبع الآراء. وأما وهو القدوة والمتبوع، فما خالفه حينئذ وتزحزح عنه، فإلى النار، وما بعد الحق إلا الضلال.
    ثم سلى تعالى نبيه عما كان يقاسيه من قومه، بتأسيه بمن سبقه من الأنبياء عليه الصلاة والسلام، فقال سبحانه:

    [ ص: 2472 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [112] وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون

    وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن أي: مثل ذلك الجعل الذي جعلناه في حقك، حيث جعلنا لك عدوا يضادونك ولا يؤمنون، جعلنا لكل نبي تقدمك عدوا من مردة الإنس والجن، فعلوا بهم ما فعل بك أعداؤك، كما قال تعالى: ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك وقال ورقة بن نوفل للنبي صلى الله عليه وسلم: لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي.

    يوحي أي: يلقي ويوسوس: بعضهم إلى بعض زخرف القول أي: المموه منه، المزين ظاهره، الباطل باطنه غرورا أي: للضعفاء؛ لأن الله تعالى جعلهم أهل الحجاب، وكذا الغابرين، ليقهرهم بمقتضى استعدادهم. وفي الآية دليل على أن عداوة الكفرة للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، بفعل الله سبحانه وتعالى، وخلقه.

    قال المهايمي: لتظهر الحجج بمجادلتهم، وترتفع شبهاتهم، ولئلا يقال إنه شخص ساعده الكل ليأكلوا أموال الناس، أو يتواسوا عليهم.

    ولو شاء ربك ما فعلوه أي: ما فعلوا ذلك، يعني: معاداة الأنبياء، وإيحاء الزخارف. وهو أيضا دليل على المعتزلة. فذرهم وما يفترون أي: من الكفر، فسوف يعلمون.
    ثم عطف على قوله: غرورا علة ثانية للإيحاء بقوله تعالى:

    [ ص: 2473 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [113] ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون

    ولتصغى إليه أي: يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول، ليغرهم به، ولتميل إليه: أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة لمساعدته لهم على أهوائهم وليرضوه أي: لأنفسهم بعد ما مالت إليه قلوبهم وليقترفوا أي: وليكتسبوا بموجب ارتضائهم له ما هم مقترفون أي: من الآثام.

    قال القاشاني: فتقوى غوايتهم، ويتظاهرون، ويخرج ما فيهم من الشرور إلى الفعل، ويزدادوا طغيانا وتعديا على النبي، فتزداد قوة كماله، وتهيج أيضا بسببه دواعي المؤمنين، والذين في استعدادهم مناسبة للنبي، فتنبعث حميتهم، وتزداد محبتهم للنبي، ونصرهم إياه، فتظهر عليهم كمالاتهم.

    لطيفة:

    إنما خص بالذكر عدم إيمانهم بالآخرة، دون ما عداها من الأمور التي يجب الإيمان بها، وهم بها كافرون، إشعارا بما هو المدار في صغو أفئدتهم إلى ما يلقى إليهم؛ فإن لذات الآخرة محفوفة في هذه النشأة بالمكاره، وآلامها مزينة بالشهوات، فالذين لا يؤمنون بها، وبأحوال ما فيها، لا يدرون أن وراء تلك المكاره لذات، ودون هذه الشهوات آلاما، وإنما ينظرون إلى ما بدا لهم في الدنيا بادئ الرأي، فهم مضطرون إلى حب الشهوات، التي من جملتها مزخرفات الأقاويل، ومموهات الأباطيل. وأما المؤمنون بها، فحيث كانوا واقفين على حقيقة الحال، ناظرين إلى عواقب الأمور، لم يتصور منهم الميل إلى تلك المزخرفات، لعلمهم ببطلانها، ووخامة عاقبتها . أفاده أبو السعود.
    [ ص: 2474 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [114] أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنـزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منـزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين

    وقوله تعالى: أفغير الله أبتغي حكما على تقدير القول، كما في نظائره، أي: قل لهم: أفغير الله أطلب من يحكم بيني وبينكم، ويفصل المحق منا من المبطل. والمعنى: أطلب معبودا؛ لأنه كانوا يتحاكمون إلى طواغيتهم - وهذا عندي أظهر - ثم رأيت في "تنوير المقباس" الاقتصار عليه، حيث قال: أبتغي حكما أعبد ربا. وأما كون الآية واردة على قولهم: (اجعل بيننا وبينك حكما) فلا يصح؛ لأنهم بمعزل عن الانصياع لذلك.

    وهو الذي أنـزل إليكم الكتاب أي: القرآن المعجز مفصلا أي: مبينا فيه الفصل بين الحق والباطل، والحلال والحرام، وأنتم أمة أمية، لا تدرون ما تأتون وما تذرون.

    وفي الآية مسائل:

    الأولى: قال في "الإكليل": استدل الخوارج بقوله تعالى: أفغير الله أبتغي حكما على إنكارهم التحكيم. قال: وهو مردود، فإن التحكيم المنكر أن يريد حكما يحكم بغير ما حكم الله تعالى. انتهى.

    قلت: هذا مبني على الوجه الأول، وقد عرفت أن الأظهر الوجه الثاني، فلا استدلال، ولا رد.

    الثانية: قالوا: الحكم أبلغ من الحاكم، وأدل على الرسوخ، لما أنه لا يطلق إلى إلا على العادل، وعلى من تكرر منه الحكم، بخلاف الحاكم.

    [ ص: 2475 ] الثالثة: في الآية تنبيه على أن القرآن الكريم كاف في أمر الدين، مغن عن غيره، ببيانه وتفصيله.

    والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منـزل من ربك بالحق لما عندهم من البشارات بك من الأنبياء المتقدمين، ولتصديقه ما عندهم، مع أنه صلى الله عليه وسلم لم يمارس كتبهم، ولم يخالط علماءهم. وهذا تقرير لكونه منزلا من عند الله ببيان أن الذين وثق بهم المشركون من علماء أهل الكتاب عالمون بحقيقته ونزوله من عنده تعالى.

    فلا تكونن من الممترين أي: في أنه منزل من ربك بالحق، بسبب جحود أكثرهم وكفرهم به، فيكون من باب التهييج والإلهاب، كقوله تعالى: ولا تكونن من المشركين

    قال ابن كثير: هذا كقوله تعالى: فإن كنت في شك مما أنـزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين قال: وهذا شرط، والشرط لا يقتضى وقوعه. ولهذا جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا أشك ولا أسأل» . انتهى.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [115] وتمت كلمت ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم

    وتمت كلمة ربك وقرئ: (كلمات ربك) أي: بلغت الغاية أخباره وأحكامه ومواعيده: صدقا في الأخبار والمواعيد: وعدلا في الأقضية والأحكام.

    [ ص: 2476 ] وقال القاشاني: أي: تم قضاؤه تعالى في الأزل بما قضى وقدر من إسلام من أسلم، وكفر من كفر، ومحبة من أحب، وعداوة من عادى، قضاء مبرما، وحكما صادقا، مطابقا لما يقع، عادلا بمناسبة كل قول وكل كمال وحال، لاستعداد من يصدر عنه واقتضائه له. انتهى.

    لا مبدل لكلماته أي: لا أحد يبدل شيئا منها بما هو أصدق وأعدل. أو لا أحد يقدر أن يحرفها شائعا ذائعا، كما فعل بالتوراة. على أن المراد بها القرآن فيكون ضمانا لها منه تعالى بالحفظ، كقوله: وإنا له لحافظون

    وقال القاشاني: أي: لا مبدل لأحكامه الأزلية. انتهى.

    قال السيوطي في "الإكليل": يستدل به من قال إن اليهود والنصارى لم يبدلوا لفظ التوراة والإنجيل، وإنما بدلوا المعنى؛ لأن كلمات الله لا تبدل. انتهى - وهو رواية عن ابن عباس - أخرجها البخاري في آخر صحيحه. وبسط المقام في ذلك الحافظ ابن حجر في "فتح الباري". وتقدم لنا في سورة البقرة شذرة من هذا البحث، فجدد به عهدا.

    وهو السميع لما يظهرون من الأقوال: العليم أي: بما يخفون.
    ثم حذر تعالى من الركون إليهم والعمل بآثارهم بقوله:

    [ ص: 2477 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [116] وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون

    وإن تطع أكثر من في الأرض أي: من الناس، وهو الكفار: يضلوك عن سبيل الله أي: عن الطريق الموصل إليه، بتزيينهم زخارفهم عليك، ودعوتهم إياك إلى ما هم فيه من اتباع الهوى، كما قال: إن يتبعون إلا الظن وهو ظنهم أن آباءهم كانوا على الحق، فهم يقلدونهم: وإن هم إلا يخرصون يكذبون على الله تعالى فيما ينسبون إليه، كاتخاذ الولد، وجعل عبادة الأوثان وصلة إليه، وتحليل الميتة، وتحريم البحائر. و (إن) فيه وفيما قبله نافية. والخرص: الحزر والتخمين، وقد يعبر به عن الكذب والافتراء، وأصله القول بالظن، وقول ما لا يستيقن ويتحقق. قاله الأزهري.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [117] إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين

    إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين تقرير لمضمون الشرطية، وما بعدها. وتأكيد لما يفيده من التحذير. أي: هو أعلم بالفريقين، فاحذر أن تكون من الأولين. أفاده أبو السعود.

    تنبيه:

    قال الرازي: تمسك نفاة القياس بهذه الآية فقالوا: رأينا أن الله تعالى بالغ في ذم الكفار في كثير من آيات القرآن، بسبب كونهم متبعين للظن. والشيء الذي يجعله الله تعالى موجبا لذم الكفار، لا بد وأن يكون في المعنى في أقصى مراتب الذم. والعلم بالقياس يوجب اتباع الظن، فوجب كونه مذموما محرما. لا يقال: لما ورد الدليل القاطع بكونه حجة، كان العمل له عملا بدليل مقطوع، لا بدليل مظنون. لأنا نقول: هذا مدفوع من وجوه:

    [ ص: 2478 ] الأول: أن ذلك الدليل القاطع إما أن يكون عقليا، وإما أن يكون سمعيا، والأول باطل؛ لأن العقل لا مجال له في أن العمل بالقياس جائز أو غير جائز، لا سيما عند من ينكر تحسين العقل وتقبيحه. والثاني أيضا باطل؛ لأن الدليل السمعي إنما يكون قاطعا لو كان متوترا، أو كانت ألفاظه غير محتملة لوجه آخر، سوى هذا المعنى الواحد. ولو حصل مثل هذا الدليل لعلم الناس بالضرورة كون القياس حجة، ولارتفع الخلاف فيه بين الأمة. فحيث لم يوجد ذلك. علمنا أن الدليل القاطع على صحة القياس مفقود.

    الثاني: هب أنه وجد الدليل القاطع على أن القياس حجة، إلا أن مع ذلك لا يتم العمل بالقياس إلا مع اتباع الظن. وبيانه أن التمسك بالقياس مبني على مقامين: الأول: أن الحكم في محل الوفاق معلل بكذا. والثاني: أن ذلك المعنى حاصل في محل الخلاف. فهذان المقامان، إن كانا معلومين على سبيل القطع واليقين، فهذا مما لا خلاف فيه بين العقلاء في صحته. وإن كان مجموعهما، أو كان أحدهما ظنيا، فحينئذ لا يتم العلم بهذا القياس إلا بمتابعة الظن، وحينئذ يندرج تحت النص الدال على أن متابعة الظن مذمومة. والجواب: لم لا يجوز أن يقال: الظن عبارة عن الاعتقاد الراجح إذا لم يستند إلى أمارة، وهو مثل اعتقاد الكفار. أما إذا كان الاعتقاد الراجح مستندا إلى أمارة، فهذا الاعتقاد لا يسمى ظنا، وبهذا الطريق سقط هذا الاستدلال. انتهى.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [118] فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين

    وقوله تعالى: فكلوا مما ذكر اسم الله عليه أمر مترتب على النهي عن اتباع المضلين الذين من جملة إضلالهم تحليل الحرام وتحريم الحلال؛ وذلك أنهم خاصموا المسلمين فقالوا: ما ذبح الله لا تأكلونه، وما ذبحتم أنتم أكلتموه - أخرجه النسائي عن ابن عباس - [ ص: 2479 ] فنزلت الآية. والمعنى: كلوا مما ذكر اسم الله على ذبحه، لرفعه تنجيس الموت إياه المانع من الأكل، لا مما ذكر عليه اسم غيره، أو مات حتف أنفه.

    إن كنتم بآياته مؤمنين فإن الإيمان بها يقتضي استباحة ما أحله سبحانه، واجتناب ما حرمه.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [119] وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين

    قوله تعالى: وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه إنكار لأن يكون لهم شيء يدعوهم إلى الاجتناب عن أكل ما ذكر عليه اسم الله تعالى من البحائر والسوائب. أي: وأي غرض لكم في أن تتحرجوا من أكله، وما يمنعكم عنه؟: وقد فصل لكم ما حرم عليكم أي: بينه ووضحه.

    قال بعض المفسرين: يعني في آية المائدة في قوله تعالى: حرمت عليكم الميتة الآية.. ورد بأن المائدة من آخر ما نزل بالمدينة، والأنعام مكية. فالصواب أن التفصيل إما [ ص: 2480 ] في قوله تعالى بعد هذه الآية: قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما الآية.. فإنه ذكر بعد بيسير، وهذا القدر من التأخر لا يمنع أن يكون هو المراد، وإما على لسان الرسول، ثم أنزل بعد ذلك في القرآن. و (فصل) و (حرم) قرئ كل منهما معلوما ومجهولا. ومعنى الآية: لا مانع لكم من أكل ما ذكر، وقد بين لكم المحرم أكله، وهذا ليس منه.

    إلا ما اضطررتم إليه أي: مما حرم عليكم. أي: إلا أن تدعوكم الضرورة إلى أكله بسبب شدة المجاعة، فيباح لكم.

    وإن كثيرا ليضلون قرئ بفتح الياء وضمها: بأهوائهم بغير علم أي: يضلون فيحرمون ويحللون بأهوائهم وشهواتهم، من غير تعلق بشريعة.

    إن ربك هو أعلم بالمعتدين أي: المتجاوزين لحدود الحق إلى الباطل، والحلال إلى الحرام.

    تنبيه:

    قال الرازي: دلت هذه الآية على أن القول في الدين بمجرد التقليد حرام؛ لأن القول بالتقليد قول بمحض الهوى والشهوة، والآية دلت على أن ذلك حرام. انتهى.

    وقال بعض الزيدية: في الآية دلالة على تحريم الفتوى والحكم بغير دلالة، ولكن اتباع الهوى.
    ولما بين تعالى أنه فصل المحرمات، أتبعه بما يوجب تركها بالكلية، فقال سبحانه:



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #339
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,172

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْأَنْعَامِ
    المجلد السادس
    صـ 2481 الى صـ 2492
    الحلقة (339)




    [ ص: 2481 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [120] وذروا ظاهر الإثم وباطنه إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون

    وذروا ظاهر الإثم أي: سيئات الأعمال والأقوال الظاهرة على الجوارح: وباطنه أي: ما يسر منه بالقلب كالعقائد الفاسدة، والعزائم الباطلة. أو ما يعلن من الذنوب وما يسر منها، ويستتر فيه.

    قال السدي: ظاهره الزنا مع البغايا ذوات الرايات، وباطنه مع الخليلة والصدائق والأخدان. ولا يخفى أن اللفظ عام في كل محرم، ولذا قال قتادة: أي: سره وعلانيته، قليله وكثيره، وصغيره وكبيره. كقوله تعالى: قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن

    إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون أي: يكتسبون. قال الشهاب: الاقتراف في اللغة الاكتساب، وأكثر ما يقال في الشر والذنب. ولذا قيل: الاعتراف يزيل الاقتراف وقد يرد في الخير كقوله تعالى: ومن يقترف حسنة نـزد له فيها حسنا انتهى.

    وقد روى مسلم وغيره عن نواس بن سمعان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ ص: 2482 ] «البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس» .
    قال الحاكم: في الآية دلالة على أن العبد يؤاخذ بأفعال القلب، كما يؤاخذ بأفعال الجوارح. أي: على التفسير الأول فيها.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [121] ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون

    ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه أي: عند ذبحه. أي: بأن ذكر عليه اسم غيره، يعني: ذبح لغيره تعالى: وإنه لفسق والفسق ما أهل لغير الله به، كما في الآية الآتية آخر السورة. قال المهايمي: وإنه لفسق أي: خروج عن الحسن إلى القبح، بتناول ما تنجس بالموت بلا مانع عن تأثيره وإن الشياطين ليوحون أي: يوسوسون إلى أوليائهم أي: من الكفار ليجادلوكم أي: في تحليل الميتة وإن أطعتموهم أي: في تحليل ما حرم الله، أو تحريم ما أحل إنكم لمشركون أي: لهم مع الله، فيما يختص به من التحليل والتحريم.

    تنبيهات:

    الأول: روي في سبب نزول هذه الآيات عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أتى ناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! إنا نأكل ما نقتل، ولا نأكل ما يقتل الله تعالى، فأنزل الله تعالى: فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين إلى قوله: وإن أطعتموهم إنكم لمشركون . أخرجه أصحاب السنن.

    وفي رواية لأبي داود في قوله تعالى: وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم [ ص: 2483 ] قال: يقولون: ما ذبح الله - فلا تأكلوا، وما ذبحتم أنتم فكلوا؟ فأنزل الله تعالى: فكلوا مما ذكر اسم الله عليه ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه فنسخ، واستثنى من ذلك فقال: وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم

    وعند النسائي قال: خاصمهم المشركون، فقالوا: ما ذبح الله لا تأكلونه، وما ذبحتم أنتم أكلتموه؟ - كذا في تيسير الوصول.

    الثاني: دلت الآية على مشروعية التسمية عند الذبح فقيل: باسم الله، بهذا اللفظ الكريم. وقيل بكل قول فيه تعظيم له كالرحمن، وسائر أسمائه الحسنى، لقوله تعالى: قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن ولقوله تعالى: ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها

    الثالث: ما قدمناه من حمل الآية على ما ذبح لغير الله تعالى هو الأظهر في تأويلها، لقوله تعالى بعد: أو فسقا أهل لغير الله به ومراعاة النظائر في القرآن أولى ما يلتمس به المراد.

    وقد روى ابن أبي حاتم عن عطاء قال: نزلت في ذبائح كانت تذبحها قريش على الأوثان، [ ص: 2484 ] وذبائح المجوس. وقد حاول بعضهم أن يقويه فجعل الواو في قوله: وإنه لفسق حالية، لقبح عطف الخبر على الإنشاء. قال: والمعنى: لا تأكلوه حال كونه فسقا. والفسق مجمل يفسره قوله: أهل لغير الله به فيكون النهي مخصوصا بما أهل لغير الله به، فيبقى ما عداه حلالا، إما بالمفهوم، أو بعموم دليل الحل، أو بحكم الأصل. واعترض على هذا الحمل بأنه يقتضي أن لا يتناول النهي أكل الميتة، مع أنه سبب النزول، وبأن التأكيد ب (إن) و (اللام) ينفي كون الجملة حالية؛ لأنه إنما يحسن فيما قصد الإعلام بتحققه البتة، والرد على منكر تحقيقا أو تقديرا (على ما بين في المعاني)، والحال الواقع في الأمر والنهي مبناه على التقدير، كأنه قيل: لا تأكلوا منه إن كان فسقا، فلا يحسن: (وإنه لفسق) بل (وهو فسق) وأجيب عن الأول بأنه دخل بقوله: وإنه لفسق : ما أهل به لغير الله وبقوله: وإن الشياطين ... إلخ الميتة، فيتحقق أن هذا النهي مخصوص بما ذبح على النصب، أو مات حتف أنفه. وعن الثاني بأنه لما كان المراد بالفسق ههنا الإهلال لغير الله، كان التأكيد مناسبا، كأنه قيل: لا تأكلوا منه إذا كان هذا النوع من الفسق الذي الحكم به متحقق، والمشركون ينكرونه. كذا في "العناية".

    ومما يقويه أيضا قوله تعالى: وإنه لفسق على أن المراد به الخروج عن طاعة الله تعالى، وهو وجه ثان فيه، وقوله تعالى: إنكم لمشركون فإن من أكل الميتة، أو ما ذبح على النصب فسق، ومع الاستحلال يكفر، بخلاف ما ذبحه المسلم ولم يسم عليه، فإن آكله لا يفسق ولا يكفر إجماعا - أشار له الرازي - وحينئذ فلا دلالة في الآية على تحريم ذبيحة المسلم التي تركت التسمية عليها عمدا أو سهوا.

    وقد روى أبو داود في "مراسيله" عن الصلت السدوسي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذبيحة المسلم حلال، ذكر اسم الله أو لم يذكره، إنه إن ذكر لم يذكر إلا اسم الله» .

    قال الحافظ ابن كثير: وهذا مرسل يعضد بما رواه الدارقطني عن ابن عباس أنه قال: «إذا ذبح المسلم ولم يذكر اسم الله، فليأكل، فإن المسلم فيه اسم من أسماء الله تعالى» .

    [ ص: 2485 ] واحتج البيهقي أيضا بحديث عائشة رضي الله عنها أن قوما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن قوما يأتوننا باللحم لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا، فقال: سموا عليه أنتم وكلوه. قالت: وكانوا حديثي عهد بكفر - رواه البخاري والنسائي - قال: فلو كان وجود التسمية شرطا لم يرخص لهم إلا مع تحققها. وكذا قال الخطابي: فيه دليل على أن التسمية غير شرط على الذبيحة، لأنها لو كانت شرطا لم تستبح الذبيحة بالأمر المشكوك فيه، كما لو عرض الشك في نفس الذبيحة، فلم يعلم هل وقعت الذكاة المعتبرة أم لا؟ وهذا هو المتبادر من سياق الحديث، حيث وقع الجواب فيه: (سموا أنتم)، كأنه قيل لهم: لا تهتموا بذلك، بل الذي يهمكم أنتم أن تذكروا اسم الله وتأكلوا. وهذا من الأسلوب الحكيم. ومما يدل أيضا قوله تعالى: وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم فأباح الأكل من ذبائحهم، مع وجود الشك في أنهم سموا أم لا. هذا، وقد تمسك بظاهر الآية قوم فذهبوا إلى أن الذبيحة لا تحل إذا لم يذكر اسم الله عليها، وإن كان الذابح مسلما، عمدا تركت التسمية أو نسيانا. واحتجوا أيضا بقوله تعالى في آية الصيد: فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه وبالأحاديث الواردة في الأمر بالتسمية عند الذبيحة والصيد، [ ص: 2486 ] كحديثي عدي بن حاتم وأبي ثعلبة: «إذا أرسلت كلبك المعلم، وذكرت اسم الله فكل» ، وهما في الصحيحين.

    [ ص: 2487 ] وحديث رافع بن خديج: «ما أنهر الدم وذكر اسم الله فكلوه» - في الصحيحين أيضا -. وحديث ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للجن: «لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه» . رواه مسلم.

    [ ص: 2488 ] وحديث جندب بن سفيان البجلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ذبح قبل أن يصلي، فليذبح مكانها أخرى، ومن لم يكن ذبح حتى صلينا، فليذبح باسم الله» - أخرجاه.

    قالوا: ففي هذه الأحاديث إيقاف الإذن في الأكل على التسمية، والمعلق بالوصف ينتفي عند انتفائه، عند من يقول بالمفهوم. والشرط أقوى من الوصف.

    واحتجوا أيضا بحديث عائشة المتقدم سموا عليه أنتم وكلوا . قالوا: إن القوم فهموا أن التسمية لا بد منها، وخشوا أن لا تكون وجدت من أولئك، لحداثة إسلامهم، فأمرهم بالاحتياط بالتسمية عن الأكل، لتكون كالعوض عن المتروكة عند الذبح، إن لم تكن وجدت. أي: فتسميتكم الآن تستبيحون بها كل ما لم تعلموا أذكروا اسم الله عليه [ ص: 2489 ] أم لا، إذا كان الذابح ممن تصح ذبيحته إذا سمى. قالوا: ويستفاد منه أن كل ما يوجد في أسواق المسلمين محمول على الصحة، وكذا ما ذبحه أعراب المسلمين؛ لأن الغالب أنهم عرفوا التسمية. انتهى.

    وأجاب من حمل الآية على الوجه الأول; بأن الأمر في حديث عدي وأبي ثعلبة محمول على التنزيه، من أجل أنهما كانا يصيدان على مذهب الجاهلية، فعلمهما النبي صلى الله عليه وسلم أمر الصيد والذبح، فرضه ومندوبه؛ لئلا يوافقا شبهة في ذلك، وليأخذا بأكمل الأمور. وأما الذين سألوا عن تلك الذبائح، فإنهم سألوا عن أمر قد وقع لغيرهم، فعرفهم بأصل الحل فيه.

    وقال ابن التين: يحتمل أن يراد التسمية هنا عند الأكل، وبذلك جزم النووي.

    وأما التسمية على ذبح تولاه غيرهم، فلا تكلف عليهم فيه، وإنما يحمل على غير الصحة إذا تبين خلافها.

    وقال المهلب: هذا الحديث أصل في أن التسمية ليست فرضا. فلما نابت تسميتهم عن التسمية على الذبح، دل على أنها سنة؛ لأن السنة لا تنوب عن فرض. انتهى.

    وذهب بعض من اشترط التسمية في الحل إلى جواز أكل ما تركت عليه سهوا لا عمدا. واحتج بما رواه البيهقي عن ابن عباس مرفوعا: «المسلم يكفيه اسمه، إن نسي أن يسمي حين يذبح، فليذكر اسم الله وليأكله» . قال الحافظ ابن كثير: ورفعه خطأ والصواب وقفه على ابن عباس، من قوله نص عليه البيهقي. واحتج أيضا بالحديث المروي من طرق عند ابن ماجه عن ابن عباس وأبي هريرة وأبي ذر وعقبة بن عامر وعبد الله بن عمرو [ ص: 2490 ] عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» .

    ورواه الطبراني عن ثوبان مرفوعا بلفظ: «رفع عن أمتي الخطأ...» . الحديث.

    وروى ابن عدي عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أرأيت الرجل منا يذبح وينسى أن يسمي! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اسم الله على كل مسلم» . قال ابن كثير: وإسناده ضعيف.

    وقد علمت الأظهر في تأويل الآية أولا. والله أعلم.

    الرابع: قال ابن جرير: اختلف أهل العلم في هذه الآية: هل نسخ من حكمها شيء أم لا؟ فقال بعضهم: لم ينسخ منها شيء، وهي محكمة فيما عنيت به. وعلى هذا قول مجاهد وعامة أهل العلم.

    وروي عن الحسن البصري وعكرمة أنه تعالى نسخ من هذه الآية واستثنى قوله: وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وروى ابن أبي حاتم عن مكحول أيضا أنه تعالى نسخها بذلك وأحل طعام أهل الكتاب.

    قال ابن جرير: والصواب أنه لا تعارض بين حل طعام أهل الكتاب، وبين تحريم ما لم يذكر اسم الله عليه.

    قال ابن كثير: وهذا الذي قاله صحيح. ومن أطلق من السلف النسخ ههنا، فإنما أراد التخصيص. انتهى.

    وقد قدمنا في المقدمة أنه علم من استقراء كلام الصحابة والتابعين أنهم كانوا يستعلمون النسخ بإزاء المعنى اللغوي، الذي هو إزالة شيء بشيء، لا بإزاء مصطلح الأصوليين. فمعنى النسخ عندهم إزالة بعض الأوصاف من الآية بآية أخرى. إما بانتهاء مدة العمل، أو بصرف الكلام عن المعنى المتبادر إلى غيره، أو بيان كون قيد من القيود اتفاقيا، أو تخصيص عام، وغير ذلك مما أسلفنا، فتذكر!

    [ ص: 2491 ] الخامس: قال الزجاج: في قوله تعالى: وإن أطعتموهم إنكم لمشركون دليل على أن كل من أحل شيئا مما حرم الله تعالى، أو حرم شيئا مما أحل الله تعالى، فهو مشرك. وإنما سمي مشركا لأنه أثبت حاكما سوى الله تعالى. وهذا هو الشرك. انتهى.

    وقال ابن كثير: إنكم لمشركون أي: حيث عدلتم عن أمر الله لكم وشرعه إلى قول غيره، فقدمتم عليه غيره، فهذا هو الشرك. كقوله تعالى: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله الآية. وقد روى الترمذي في تفسيرها عن عدي بن حاتم أنه قال: يا رسول الله! ما عبدوهم. قال: إنهم أحلوا لهم الحرام، وحرموا عليهم الحلال فاتبعوهم. فذاك عبادتهم إياهم. انتهى.

    السادس: قال الكعبي: الآية حجة على أن (الإيمان) اسم لجميع الطاعات، وإن كان معناه في اللغة التصديق، كما جعل تعالى (الشرك) اسما لكل ما كان مخالفا لله تعالى، وإن كان في اللغة مختصا بمن يعتقد أن لله شريكا، بدليل أنه تعالى سمى طاعة المؤمنين للمشركين، في إباحة الميتة، شركا.

    [ ص: 2492 ] وتعقبه الرازي; بأنه لم لا يجوز أن يكون المراد من الشرك ههنا اعتقاد أن لله شريكا في الحكم والتكليف؟ وبهذا التقدير يرجع معنى هذا الشرك إلى الاعتقاد فقط. انتهى.
    ثم ضرب تعالى مثلا للمؤمن والكافر، لتنفير المسلمين عن طاعة المشركين، إثر تحذيرهم عنها، بقوله سبحانه:

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [122] أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون

    أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها مثل به من هداه الله بعد الضلالة، وبصره بنور الحجج والآيات، يتأمل بها في الأشياء، فيميز بين الحق والباطل، والمهتدي والضال، بمن كان ميتا فأعطاه الحياة، وما يتبعها من القوى المدركة والمحركة. ومن بقي على الضلالة، بالخابط في الظلمات، لا ينفك منها، ولا يتخلص، فهو متحير على الدوام كذلك أي: مثل ذلك التزيين البليغ: زين للكافرين ما كانوا يعملون أي: من فنون الكفر والمعاصي، ولذا جادلوا بها الحق، وأصروا عليها.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #340
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,172

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْأَنْعَامِ
    المجلد السادس
    صـ 2493 الى صـ 2505
    الحلقة (340)




    القول في تأويل قوله تعالى:

    [123] وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون

    وقوله تعالى: وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم. أي: كما جعلنا بمكة كبراء ليمكروا على أتباعهم في تزيين الباطل، وستر الحق - جعلنا في كل قرية، أرسلنا إليها الرسل، أكابرها المجرمين، متصفين بصفات [ ص: 2493 ] المذكورين، مزينا لهم أعمالهم، مصرين على الباطل، مجادلين به الحق، ليفعلوا المكر فيها على أتباعهم بالتلبيس، ليتركوا متابعة الرسل.

    قال ابن كثير: المراد ب (المكر) ههنا دعاؤهم إلى الضلالة بزخرف المقال والفعال، كقوله تعالى إخبارا عن قوم نوح: ومكروا مكرا كبارا وكقوله تعالى: ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا الآية.

    وقال الزمخشري: خص الأكابر لأنهم هم الحاملون على الضلال، والماكرون بالناس، كقوله: أمرنا مترفيها

    وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون أي: ما يضرون بمكرهم إلا أنفسهم؛ لأن وباله يحيق بهم، كما قال تعالى: وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وقال: [ ص: 2494 ] ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون قال الزمخشري: هذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقديم موعد بالنصرة عليهم.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [124] وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون

    وإذا جاءتهم آية أي: برهان وحجة قاطعة: قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله أي: من الوحي والمعجزات المصدقة له. كقوله تعالى: وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنـزل علينا الملائكة أو نرى ربنا الآية.

    وقوله سبحانه: بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة

    الله أعلم حيث يجعل رسالته كلام مستأنف للإنكار عليهم، وأن لا يصطفي للنبوة إلا من علم أنه يصلح لها، فيليق للاستشراق بأنوار علمه، والأمانة على مكنون سره، مما لو انكشف لغيره انكشافه له، لفاضت له نفسه، أو ذهبت بعقله جلالته وعظمته، فهو أعلم بالمكان الذي يضعها فيه منهم.

    وقد روى الإمام أحمد عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل. واصطفى من بني إسماعيل، بني [ ص: 2495 ] كنانة. واصطفى من بني كنانة قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم. واصطفاني من بني هاشم» . وانفرد بإخراجه مسلم أيضا.

    وروى الإمام أحمد عن المطلب بن أبي وداعة عن العباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله خلق الخلق فجعلني في خير خلقه، وجعلهم فريقين، فجعلني في خير فرقة، وخلق القبائل، فجعلني في خير قبيلة، وجعلهم بيوتا، فجعلني في خيرهم بيتا، فأنا خيركم بيتا، وخيركم نفسا» .

    سيصيب الذين أجرموا صغار أي: ذلة وهوان بعد كبرهم وعظمتهم: عند الله أي: يوم القيامة، جزاء على منازعتهم له تعالى في كبره برد آياته ورسالته، واعتراضهم عليه في تخصيصه بالرسالة غيرهم وعذاب شديد يعني: في الآخرة بما كانوا يمكرون في الدنيا إضرارا بالأنبياء.

    قال ابن كثير: لما كان المكر غالبا، إنما يكون خفيا، وهو التلطف في التحليل والخديعة، قوبلوا بالعذاب الشديد من الله يوم القيامة، جزاء وفاقا. ولا يظلم ربك أحدا. وجاء في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ينصب لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة، فيقال: هذه غدرة فلان بن فلان» .

    [ ص: 2496 ] والحكمة في هذا، أنه لما كان الغدر خفيا لا يطلع عليه الناس، فيوم القيامة يصير علما منشورا على صاحبه بما فعل. انتهى.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [125] فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون

    فمن يرد الله أن يهديه أي: للتوحيد: يشرح أي: يوسع: صدره للإسلام بتصقيله بنور الهداية، فيقبل نور الحق، كما قال تعالى: ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم

    [ ص: 2497 ] روى عبد الرزاق أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن هذه الآية: كيف يشرح صدره؟ قال: نور يقذف فيه فينشرح. قالوا: فهل لذلك من أمارة يعرف بها؟ قال: الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل لقاء الموت. ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم. قال ابن كثير: وللحديث طرق مرسلة ومتصلة يشد بعضها بعضا.

    ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا أي: شديد الضيق، فلا يتسع للاعتقادات الصائبة في الله، والأمور الأخروية.

    قال أبو البقاء: حرجا (بكسر الراء) صفة ل (ضيقا)، أو مفعول ثالث، كما جاز في المبتدأ أن تخبر عنه بعدة أخبار. أو يكون الجميع في موضع خبر واحد (حلو حامض). وعلى كل تقدير، هو مؤكد للمعنى. يقرأ بفتح الراء، على أنه مصدر. أي: ذا حرج. وقيل: هو جمع حرجة، مثل قصبة وقصب، والهاء فيه للمبالغة. انتهى.

    وقوله تعالى: كأنما يصعد في السماء أي: يتكلف الصعود في جهة السماء، وطبعه يهبط إلى الأرض، فشبه، للمبالغة في ضيق صدره، بمن يزاول أمرا غير ممكن لأن صعود السماء مثل فيما يمتنع ويبعد من الاستطاعة، وتضيق عنه المقدرة. وقيل: معناه كأنما يتصاعد إلى السماء نبوا عن الحق، وتباعدا في الهرب منه. وأصل (يصعد) يتصعد من (الصعود).

    كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون في الاعتقادات والأخلاق. والرجس ما استقذر من العمل، وسمي بذلك مبالغة في ذمه.
    [ ص: 2498 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [126] وهذا صراط ربك مستقيما قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون

    وهذا أي: البيان الذي جاء به القرآن، أو طريق التوحيد، وإسلام الوجه إلى الله. صراط ربك أي: طريقه الذي ارتضاه: مستقيما لا ميل فيه إلى إفراط وتفريط في الاعتقادات والأخلاق والأعمال. أو لا اعوجاج فيه إلى النظر إلى الغير والشرك به.

    قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون أي: المعارف والحقائق التي هي مركزة في استعداهم، فيهتدوا بها.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [127] لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون

    لهم دار السلام أي: السلامة من المكاره، وهو الجنة، لكونهم في مقام القرب: عند ربهم وهو وليهم يتولاهم بمحبته، ويجعلهم في أمانة. بما كانوا يعملون أي: بسبب أعمالهم الصالحة في سلوكهم صراطه.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [128] ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم

    ويوم يحشرهم جميعا أي: اذكر يا محمد فيما تقصه عليهم، وتنذرهم به، يوم نحشرهم جميعا، يعني الجن وأولياءهم من الإنس الذين كانوا يعبدونهم في الدنيا، ويعوذون بهم، ويطيعونهم، ويوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا.

    [ ص: 2499 ] يا معشر الجن أي: نقول: يا معشر الجن! يعني: الشياطين. قال المهايمي: خصهم بالنداء لأنهم الأصل في المكر قد استكثرتم من الإنس أي: من إغوائهم وإضلالهم. أو منهم، بأن جعلتموهم أتباعكم، وتسويلكم وتزيينكم الحطام الدنيوية، واللذات الجسمانية عليهم، ووسوستكم لهم بالمعاصي، فحشروا معكم. وهذا بطريق التوبيخ والتقريع. وقال أولياؤهم أي: الذين أطاعوهم وتولوهم: من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض قال الحسن: ما كان استمتاع بعضهم ببعض إلا أن الجن أمرت، وعلمت الإنس. أي: فالجن نالت التعظيم منهم فعبدت، والإنس بوسوستهم تمتعوا بإيثار الشهوات الحاضرة، على اللذات الغائبة: وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا أي: بالموت، أو بالمعاد الجسماني على أقبح صورة، وأسوأ عيش.

    قال أبو السعود: قالوا اعترافا بما فعلوا من طاعة الشياطين، واتباع الهوى، وتكذيب البعث، وإظهارا للندامة عليها، وتحسرا على حالهم، واستسلاما لربهم. ولعل الاقتصار على حكاية كلام الضالين، للإيذان بأن المضلين قد أفحموا بالمرة فلم يقدروا على التكلم أصلا.

    قال النار مثواكم أي: منزلكم، كما أن دار السلام مثوى المؤمنين.

    خالدين فيها إلا ما شاء الله قال القاشاني: أي: إلا وقت مشيئته أن تخفف، أو ينجى منكم من لا يكون سبب تعذيبه شركا راسخا في اعتقاده.

    وقال المهايمي: أي: إلا وقت مشيئته أن ينقلكم منها إلى الزمهرير، انتقالكم من شهوة إلى أخرى.

    وقال الزمخشري: أي: يخلدون في عذاب النار، الأبد كله، إلا الأوقات التي ينقلون فيها من عذاب النار إلى عذاب الزمهرير. فقد روي أنهم يدخلون واديا فيه من الزمهرير ما يميز بعض أوصالهم من بعض، فيتعاوون ويطلبون الرد إلى الجحيم. أو يكون من قول [ ص: 2500 ] الموتور الذي ظفر بواتره، ولم يزل يحرق عليه أنيابه، وقد طلب إليه أن ينفس عن خناقه: أهلكني الله إن نفست عنك إلا إذا شئت. وقد علم أنه لا يشاء إلا التشفي منه بأقصى ما يقدر عليه من التعنيف والتشديد. فيكون قوله: (إلا إذا شئت) من أشد الوعيد، مع تهكم بالموعد، لخروجه في صورة الاستثناء الذي فيه إطماع. انتهى.

    قال الخفاجي: لما كان الخطاب للكفرة، وهم لا يخرجون من النار؛ لأن ما قبله بيان حالهم، فيبعد جعله شاملا للعصاة، ليصح الاستثناء باعتباره، مع أن استعمال (ما) للعقلاء قليل - وجهوه بأن المراد النقل من النار إلى الزمهرير، أو المبالغة في الخلود، بمعنى أنه لا ينتفي إلا وقت مشيئة الله، وهو مما لا يكون مع إبرازه في صورة الخروج وإطماعهم في ذلك تهكما وتشديدا للأمر عليهم. و (ما) مصدرية وقتية. أو إن المستثنى زمان إمهالهم قبل الدخول. ورد الأول بأن فيه صرف النار من معناها العلمي، وهو دار العذاب، إلى اللغوي. وأجيب عنه بأنه لا بأس بالصرف إذا دعت إليه ضرورة. وقيل عليه: إن المعترض لا يسلم الضرورة، لإمكان غير ذلك التأويل. مع أن قوله: مثواكم يقتضي ما ذهب إليه المعترض بحسب الظاهر. ورد الأخير أبو حيان بأن في الاستثناء يشترط اتحاد زمان المخرج، والمخرج منه، فإذا قلت: قام القوم إلا زيدا، فمعناه: إلا زيدا ما قام. ولا يصح أن يكون المعنى: إلا زيدا ما يقوم في المستقبل. وكذلك سأضرب القوم إلا زيدا، معناه: إلا زيدا فإني لا أضربه في المستقبل، ولا يصح أن يكون المعنى: إلا زيدا فإني ما ضربته قبل، إلا إذا كان استثناء منقطعا، فإنه يسوغ، كقوله: لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى . فإنهم ذاقوها. ولك أن تقول: إن القائل بل يلتزم انقطاعه، كما في الآية التي ذكرها، ولا محذور فيه، مع ورود مثله في القرآن، وفيه نظر. وقيل: إنه غفلة عن تأويل الخلود بالأبد، والأبد لا يقتضي الدخول. انتهى.

    وقال الناصر في "الانتصاف": قد ثبت خلود الكفار في العذاب ثبوتا قطعيا، فمن ثم [ ص: 2501 ] اعتنى العلماء بالكلام على الاستثناء في هذه الآية، وفي أختها في سورة هود. فذهب بعضهم إلى أنها شاملة لعصاة الموحدين وللكفار، والمستثنى العصاة؛ لأنهم لا يخلدون. وقد علمت بعده.

    ثم قال: وذهب بعضهم إلى أن هذا الاستثناء محدود بمشيئة رفع العذاب، أي: مخلدون إلا أن يشاء الله لو شاء. وفائدته إظهار القدرة، والإعلان بأن خلودهم إنما كان لأن الله تعالى قد شاءه، وكان الجائز العقلي في مشيئته أن لا يعذبهم، ولو عذبهم لا يخلدهم، وأن ذلك ليس بأمر واجب عليه، وإنما هو مقتضى مشيئته وإرادته عز وجل. وفيها على هذا الوجه دفع في صدر المعتزلة الذين يزعمون أن تخليد الكفار واجب على الله تعالى بمقتضى الحكمة، وأنه لا يجوز في العقل أن يشاء خلاف ذلك.

    وذهب الزجاج إلى وجه لطيف، إنما يظهر بالبسط فقال: المراد - والله أعلم - إلا ما يشاء من زيادة العذاب. ولم يبين وجه الاستثناء. والمستثنى على هذا التأويل لم يغاير المستثنى منه في الحكم، ونحن نبينه فنقول: العذاب - والعياذ بالله - على درجات متفاوتة، كأن المراد أنهم مخلدون في جنس العذاب إلا ما شاء ربك من زيادة تبلغ الغاية، وتنتهي إلى أقصى النهاية، حتى تكاد لبلوغها الغاية، ومباينتها لأنواع العذاب في الشدة، تعد ليس من جنس العذاب، وخارجة عنه. والشيء إذا بلغ الغاية عندهم عبروا عنه بالضد، كما تقدم في التعبير عن كثرة الفعل ب (رب) و (قد)، وهما موضوعان لضد الكثرة من القلة، وذلك أمر يعتاد في لغة العرب. وقد حام أبو الطيب حوله فقال:


    لقد جدت حتى كاد يبخل حاتم للمنتهى ومن السرور بكاء


    [ ص: 2502 ] فكأن هؤلاء إذا نقلوا إلى غاية العذاب، ونهاية الشدة، فقد وصلوا إلى الحد الذي يكاد أن يخرج من اسم العذاب المطلق، حتى يسوغ معاملته في التعبير بمعاملة المغاير. وهو وجه حسن لا يكاد يفهم من كلام الزجاج إلا بعد هذا البسط.

    وفي تفسير ابن عباس رضي الله عنه ما يؤيده. انتهى.

    وفي الآية تأويلات أخر:

    منها: ما نقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه تعالى استثنى قوما قد سبق علمه أنهم يسلمون ويصدقون النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا مبني على أن الاستثناء ليس من المحكي، وأن (ما) بمعنى (من).

    [ ص: 2503 ] ومنها: أنهم يفتح لهم أبواب الجنة، ويخرجون من النار، فإذا توجهوا للدخول أغلقت في وجوههم استهزاء بهم. وهو معنى قوله: فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون . قال الشريف المرتضى في "الدرر": فإن قيل: أي فائدة في هذا الفعل، وما وجه الحكمة فيه؟ قلنا: وجه الحكمة فيه ظاهر؛ لأن ذلك أغلظ على نفوسهم، وأعظم في مكروههم، وهو ضرب من العقاب الذي يستحقونه بأفعالهم القبيحة؛ لأن من طمع في النجاة والخلاص من المكروه، واشتد حرصه على ذلك، ثم حيل بينه وبين الفرج، ورد إلى المكروه، يكون عذابه أصعب وأغلظ من عذاب من لا طريق للطمع عليه. كذا في "العناية".

    ومنها: إن هذا الاستثناء إشارة إلى فناء النار. أي: إلا وقت مشيئته فناءها، وزوال عذابها.

    قال السيوطي في "الدر المنثور": أخرج ابن المنذر عن الحسن قال: قال عمر رضي الله عنه: لو لبث أهل النار في النار، كقدر رمل عالج، لكان لهم يوم على ذلك يخرجون فيه. وأخرجه عبد بن حميد عن الحسن أيضا.

    قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ونقل هذا عن عمر وابن مسعود وأبي هريرة وأبي سعيد وغيرهم. انتهى. وقد انتصر لهذا القول جماعة. قالوا: وما ورد من الخلود فيها والتأبيد وعدم الخروج، وأن عذابها مقيم، كله حق مسلم لا نزاع فيه. وذلك يقتضي الخلود في دار العذاب ما دامت باقية، وإنما يخرج منها في حال بقائها أهل التوحيد، ففرق بين من يخرج من الحبس، وهو حبس على حاله، وبين من يبطل حبسه بخراب الحبس وانتقاضه. وقد بسط البحث في ذلك وجوده الإمام ابن القيم في كتابه "حادي الأرواح"، ومع كونه انتصر لهذا القول انتصارا عظيما، وذكر له خمسة وعشرين دليلا، لم يصححه، حيث قال: أما أبدية الجنة، وأنها لا تفنى ولا [ ص: 2504 ] تبيد، فمما يعلم بالاضطرار، ولم يقل بفنائها أحد. ومن قال به - كالجهمية - فهو ضال مبتدع منحرف عن الصواب وليس له في ذلك سلف. وأما أبدية النار ففيها قولان معروفان عن السلف والخلف، والأصح عدم فنائها أيضا. انتهى.

    وسيأتي إن شاء الله تعالى بسط هذا المقام في آية هود.

    وقد روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في هذه الآية أنه قال: لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه. لا ينزلهم جنة ولا نارا.

    إن ربك حكيم فلا يعذب إلا على ما تقتضيه الحكمة عليم أي: بمن يعذب بكفره، فيدوم عذابه. أو بسيئات أعماله، فيعذب على حسبها، ثم ينجو منه.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [129] وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون

    وكذلك نولي بعض الظالمين أي: من الإنس: بعضا أي: نجعلهم بحيث يتولونهم بالإغواء والإضلال، كما فعل الشياطين وغواة الإنس بما كانوا يكسبون أي: بسبب ما كانوا مستمرين على كسبه من الكفر والمعاصي.

    قال الرازي:

    لأن الجنسية علة الضم. فالأرواح الخبيثة تنضم إلى ما يشاكلها في الخبث. وكذا القول في الأرواح الطاهرة، فكل أحد يهتم بشأن من يشاكله في النصرة والمعونة والتقوية.

    [ ص: 2505 ] تنبيه:

    قال السيوطي في "الإكليل": الآية معنى حديث: «كما تكونون يولى عليكم» ، أخرجه ابن قانع في معجم الصحابة من حديث أبي بكرة. انتهى.

    وأسند في "الجامع الصغير" تخريجه إلى الديلمي في "الفردوس (عن أبي بكرة وإلى البيهقي، عن أبي إسحاق السبيعي مرسلا - ورمز له بالضعف -.

    وأسند في "الدر المنثور" عن منصور بن الأسود قال: سألت الأعمش عن قوله تعالى: وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا ما سمعتهم يقولون فيه؟ قال: سمعتهم يقولون: إذا فسد الناس أمر عليهم شرارهم.

    وأخرج نحوه عن مالك بن دينار وكعب والحسن.

    قال أبو الليث السمرقندي في "تفسيره": ويقال في معنى الآية: نسلط على بعض الظالمين بعضا فيهلكه أو يذله. قال: وهذا كلام لتهديد الظالم، لكي يمتنع عن ظلمه. ويدخل في الآية جميع من يظلم: من راع في رعيته، وتاجر في تجارته، وسارق، وغيرهم.

    قال الفضيل بن عياض: إذا رأيت ظالما ينتقم من ظالم، فقف وانظر فيه متعجبا. انتهى.

    وقال ابن كثير: معنى الآية الكريمة: كما ولينا هؤلاء الخاسرين من الإنس تلك الطائفة التي أغوتهم من الجن، كذلك نفعل بالظالمين، نسلط بعضهم على بعض، ونهلك بعضهم ببعض، وننتقم من بعضهم ببعض، جزاء على ظلمهم وبغيهم.
    ثم بين تعالى ما سيكون من توبيخ الكفار من الفريقين يوم القيامة، إثر بيان توبيخ الجن بإغواء الإنس وإضلالهم، واعلم أنه لا يكون لهم إلى الجحود سبيل، فيشهدون على أنفسهم بالكفر، وأنهم لم يعذبوا إلا بالحجة، فقال تعالى:




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •