الصِّدِّيقـيّة في القرآن الكريم


د. عبدالمنعم عبدالله حسن


باحث أكاديمي في اللغة


التخلّي عن مكارم الأخلاق، وحميد الصفات، ضعف في الهمة، والشخصية والذات، ونقص في المروءة، والشعور، والقيم.


والتحلّي برفيع الخُلق، وعليّ المحامد، قوة في العزيمة، والشخصية والإنسانية، وكمال في الفطرة، والسلوك، والمبادئ. -


وإذا كانت صور الأخلاق متعددة، وشعبها كثيرة، فإن خلق الصدق يتصدر معالي الأخلاق، ويتسنم ذراها، إذ هو قرين الإيمان، وبرهان التُّقَى {أُولـئِكَ الذِينَ صَدَقُوا وَأُولـئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ } (البقرة: 177).


وإذا كان التحلي بمكارم الأخلاق قوة وكمالًا، فإن مادة الصدق في اللغة تحوي هذين المعنيين في أصلها الاشتقاقي وظلالها الدلالية، «فالصاد والدال والقاف – كما يقول ابن فارس – أصل يدل على قوة في الشيء قولًا وغيره، من ذلك: الصدق خلاف الكذب، سمي لقوته في نفسه، ولأن الكذب لا قوة له وهو باطل، وأصل ذلك من قولهم: شيء صَدْق أي صلب، ورمح صَدْق» (1).


فالصدق قوة ، كما أنه كمال، «فالصَّدْق: الكامل من كل شيء» (2).


والقوة والكمال صلابة واستقامة، جاء في القاموس «والصَّدق: الصلب المستوى من الرماح والرجال والكامل من كل شيء» (3).


فالصدق صفة تضفي على الصادق قوة في الحق، وصلابة في الموقف، وثباتًا في الرأي ، وكمالاً في الصفات والمبادئ والقيم، واستقامة في المنهج .


إذا كان هذا في الصادق، فما بالك بالصِّدِّيق ؟


الصِّدِّيق.. بهذه الصيغة الدالة على الكثرة والوفرة، والدوام واللزوم، والمبالغة.. منزلة لا تُبلغ إلا بجهاد وصبر، ومراس ومثابرة، وتحرٍّ ومداومة، ومعايشة صادقة لمعاني الصدق وأجوائه، ودوران دائم في فلكه، وولوج صادق في أبوابه، وانطلاق مستقيم في دروبه، حيث قال " صلى الله عليه وسلم" : «عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صدِّيقا» (4).


إن في التعبير بــ «ما يزال» إيحاء بالاستمرار والمداومة والتعبير بــ «يصدق» فعلًا مضارعًا إيحاء بالتجدد والحدوث وكذلك «يتحرى» وفي دلالة التحري «القصد والاجتهاد في الطلب، والعزم على تخصيص الشيء بالفعل والقول» (5).


إنها تربية ومجاهدة ليصبح الصادق صِدِّيقـًــا، وليكون الصدق صديقيَّــة .


إن هذه الصِّديقيَّة أسمى مراتب الصدق، وأعلى رتبه، وأغلى درره، وأرفع درجاته، وأسنى آياته، إنها عالم راق من صفاء الفطرة، ونقاء الطبع، وطهارة السجيّة، ونصاعة الطويّة، وضياء السلوك، ونور اليقين.


فالصّديق من يُصدِّق بكل أمر الله، وأمر النبي " صلى الله عليه وسلم" لا يتخالجه شك في شيء (6).


في سلوكه أمارات يقينه، وسمات اعتقاده، فهو مصاحب للصدق في جميع أموره، (فالصّدّيق): الملازم للصّدق(7).


-الدائم التصديق، ويكون الذي يصدّق قوله بالعمل.. والصّدّيق: المصدّق (8) «الكثير التصديق» (9).


وقد عُرف بهذه الصفة في تاريخ الإسلام أبو بكر "رضي الله عنه" ، وتأصلت فيه حتى لُقّب بها في الجاهلية، وفي الإسلام .


عُرف في الجاهلية بلقب الصدّيق، لأنه كان يتولى أمر الديات وينوب فيها عن قريش، فما تولاه من هذه الديات صدقته قريش فيه وقبلته، وما تولاه غيره خذلته، وترددت في قبوله وإمضائه.. وسمي في الإسلام بالصدّيق لأنه صدّق النبي عليه السلام في حديث الإسراء (10)، وفي كل ما جاء به ودعا إليه.


لقد غلبت صفة الصديقية على أبي بكر "رضي الله عنه" «حتى أوشك أن ينسى الناس اسمه الذي دعاه به أبواه» (11).


وكانت السيدة عائشة تفْخر بهذا اللقب لأبيها وتقول: «أبي ثاني اثنين الله ثالثهما، وأول من سُمي صدّيقًا» (12).


كما نالت هذا اللقلب، فهي الصّديقة بنت الصديق، «وكانوا يروون عنها الأحاديث، فيقولون: حدثتنا الصديقة بنت الصديق» (13).


فعن مسروق قال: «حدثتني الصّدّيقة بنت الصّدّيق، حبيبة حبيب الله، المبرأة: أن رسول " صلى الله عليه وسلم" كان يصلي ركعتين بعد العصر فلم أكذّبْها» (14).


وقد عنون الإمام أحمد "رضي الله عنه" في مسنده: مسند الصديقة عائشة بنت الصديق (15).


وفي القرآن الكريم وردت الصّديقيّة مقترنة بالصفوة من عباد الله في مواضع متعددة على النحو التالي:


1- قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدّيقًا نَّبِيًّا} (مريم: 56).


لقد وصف الله إدريس \ بصفة الصديقية «وهو أول من خط بالقلم» (16).


2- قال تعالى: {واذْكُرْ فِي الكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدّيقًا نَّبِيًّا} (مريم: 41)


وأثنى الله على إبراهيم \ بهذه الصديقية، فقد كان (صدّيقا) والمراد فرط صدقه، وكثرة ما صدّق به من غيوب الله، وآياته، وكتبه، ورسله.. أي كان مصدقًا بجميع الأنبياء وكتبهم (17).


3- قال تعالى: { يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدّيقُ} {يوسف: 46}


ويلقب يوسف \ بالصديق لكثرة صدقه، ويقال له: أيها الصّديق «أيها البليغ في الصدق، وإنما قال له ذلك لأنه ذاق أحواله وتعرّف صدقه في تأويل رؤياه ورؤيا صاحبه» (18).


قال تعالى: {مَّا المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ}


(المائدة 75).


وإنما قيل لها صديقة لكثرة تصديقها بآيات ربها . وتصديقها ولدها فيما أخبرها به (19).


5- قال تعالى: { وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُول فَأُوْلـئِكَ مَعَ الذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَليْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِين َ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ } (النساء: 69).


والصديقون هم الذين صدقوا في أقوالهم وسلوكهم، وصدّقوا ما جاءهم من الهدى وصدّقت أفعالُهم أقوالَهم، وقيل هم فضلاء أتباع الأنبياء الذين يسبقونهم إلى التصديق كأبي بكر الصديق (20).


وإنَّ ذِكْرهم بعد مرتبة الأنبياء مباشرة لدلالة على علو مكانتهم، ورفعة قدرهم.


6- وقال تعالى:{وَالذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُوْلئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} (الحديد: 19)


والمؤمنون بالله ورسله، المصدقون بما بلغهم من الحق، هم الصِّدِّيقون، وقد أعد الله لهم من رفعة المنازل في الجنة، وعليّ الدرجات. فعنّ أبي سعيد الخدري، أن رسول الله " صلى الله عليه وسلم" قال: «إن أهل الجنة ليتراءون الغرف من فوقهم، كما تتراءون الكوكب الدريّ الغابر من الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم ، قالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم، قال: بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدّقوا المرسلين » (21).


وهكذا.. ترتقي درجة الصديقية في معارج الأخلاق، ومراقي الكمال، ويرتقي الصديقون في رفيع الغرف، ودرجات الجنة.


الهوامش


1- مقاييس اللغة، لابن فارس (ص د ق).


2- العين، للخليل بن أحمد (ص د ق).


3- القاموس المحيط (ص د ق).


4- رواه مسلم.


5- لسان العرب ( ح ر ي ).


6- العين ( ص د ق ).


7- مقاييس اللغة (ص د ق).


8- لسان العرب (ص د ق).


9- القاموس المحيط (ص د ق).


10- عبقرية الصديق . عباس العقاد صـ 9.


11- الصديقة بنت الصديق . العقاد صـ 49.


12- السابق صـ 54.


13- السابق صـ 50.


14- رواه الإمام أحمد.


15- مسند الإمام أحمد . مؤسسة الرسالة 40/9.


16- الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 11/78.


17- الكشاف ، للزمخشري 2/ 510.


18- السابق 2/ 324.


19- الجامع لأحكام القرآن 6/ 162.


20- السابق 5/ 176.


21- رواه مسلم.