الجمال وفساد الرؤية
الملكة الجمالية كونية من ناحية وجهوية من ناحية أخرى؛ طبيعية من ناحية وثقافية من ناحية أخرى.
لكن الجميل يبقى جميلا دائما، والقبيح قبيحا دائما، وإن كان لكل ساقطة لاقطة. فالمرغوب عنه في أمكنة معينة وأزمنة معينة يرى في سياقات أخرى حسنا جميلا مفيدا. لأن الحاجة وشدتها يقلبان الموازين.
وأضف إلى ذلك أن الجمال إضافي، والقبح إضافي كذلك. فالجميل وسط الجمال غير الجميل وسط القِبَاح، وغير الأقبح وسط القِبَاح فقط. إن الأمر هنا يتعلق بمنطق المقارنة. فيتبين من هذا أن الجمال ينمو ويكبر وفقا لأصله الأول.
بث الله في البشر قدرات لتذوق الجمال وفهمه. فأصل الأحكام الجمالية مستقر في الباحة الجمالية. وأصل الأحكام القبحية مستقر كذلك في الباحة القبحية. فهما باحتان متجاورتان تستند كل منهما على الأخرى في إصدار الأحكام. إنها لجنة ثنائية تستند في أحكامها على الزاد الطبيعي التليد المركوز في البشر، وعلى الزاد الثقافي التربوي المحيط بالزاد الأصلي.
ومن أسباب اختلاف الأحكام الجمالية نوعية التربية التي تلقاها المرء. من الممكن أن تظلل التربية الفاسدة الباحة الجمالية الأصلية بظلال يعطلها عن الحكم والنظر السديدين. لكن ذلك لا يمنع من انفلات جزئي أو كلي في وقت ما، فينطق بالحق.
يختلط الجميل بغيره في أحايين كثيرة، منها حالة الغرابة: فالمشاهد الغريبة الجديدة تحمل ما يشبه الجمال، كما أن النافع المفيد، بصرف النظر عن نوعية الفائدة، يحمل ما يشبه الجمال، كما أن السياق يخدع فيحمل ما يشبه مدلولات الجمال، والمظاهر الخارجية، بصرف النظر عن المحتويات الداخلية، تحمل ما يشبه الجمال، فيزعم المتسرع / المتسرعون في الأحكام أن ذلك يحمل الجمال، وذلك ليس كذلك، فهي بنات خيال؛ ليست لها حقيقة.
وأشير في هذا السياق إلى أن الإعلام قد يصلح الأذواق وقد يفسدها، من خلال قانون: الإيلاف والعادة.
الجميل في الحقيقة لا يحمل في طياته فسادا. والفساد أو ما يكون سببا له، صريحا وغير صريح، لا يعد حقيقة ومجازا جميلاً. فالجميل ما ثبت عوده بالنفع آجلا وعاجلا. وقد يكون هذا الجميل لوحة فنية أو أنشودة أو منظرا طبيعيا أو مسلسلا أو حديقة أو نصا شعريا أو نثريا...
يمكن تقسيم الجمال إلى نوعين: جمال معنوي يدرك بعقل القلب، من خلال حسن التعامل. وجمال مادي ملموس مرئي حقيقة، وله تأثيراته الباطنية. والفرق بينهما أن الجمال المعنوي يدرك منه الجمال تلقائيا.
أما المادي فندرك منه الجمال بالواسطة والانعكاس، والأول أكثر كونية من الثاني.
ويمكن تقسيم الجمال المادي إلى: جمال طبيعي، وجمال صناعي، ويتفرع عنهما نوع ثالث، وهو الجامع بين الطبيعة والصناعة، وأصل كل صناعة؛ كما لا يخفى عليك؛ طبيعة.
حُمِّل معنى الجمال بأمور لا تنتمي إلى الجمال، إذا نظر إليها نظرة شمولية موضوعية شرعية. فالمظاهر والصور تخدع، وليس باستطاعة كل الناس النفاذ إلى الأعماق لاستكناهها. ولئن نفذوا فلن يدركوا معرفةً موازين القسط والعدل، التي هي الأصل في التصنيف والتمييز، فالميزان الرائج اليوم ميزان الصحة- الصدق والكذب؛ ورزاياها لا تخفي على ذوي عقول القلوب.
في ظل عالم أفسدته المادة تغيرت معايير الجمال الحقيقية وحلت محلها أخرى مكذوبة خادمة للاقتصاد. فالمادة جملت القبيح وقبحت الجميل. أصبح الجمال صناعة من الصناعات التي تخضع لقوانين السوق العرض والطلب.
من موصلات الجمال:
العين – الأذن – الأنف- اللمس- الحدس...
توصل الإحساس بالجمال إلى مركز المعالجة، فتصنع بعد ذلك إجابة (سرور ظاهر أو مضمر)
الجمال والرغبة الجنسية:
- يثير جسد المرأة غريزة الرجل، وهناك أعضاء من جسدها أكثر إثارة. كالوجه مثلا. لهذا أوجب الشرع تغطيته؛ والأمر نفسه بالنسبة للمرأة فإنها تثار بالرجل.
- اللذة الجنسية متعة وجمال، إذا كانت تحت غطاء شرعي.
تذوق الناس للجمال:
- لا يتذوق الجمال ويستلذه إلا من تلقى تربية جمالية، فيدرك قيمة ما يرى ويسمع بعقل قلبه. أما الجمال الجنسي (النكاح الشرعي) فلا أظن أحدا لا يستلذه إلا أن يكون شاذا، فلا قياس عليه وقتئذ. والميلانُ إلى هذا الجمال وما يرتبط به فطري أصلي في التركيبة البشرية والحيوانية.
أعود والعود أحمد إلى تأصيل المسألة فيما يلي:
- قدر مهم من أمهات الجمال مبثوث في عقل قلب الإنسان.
- الملكة الجمالية تنمو وتكبر وتتقهقر وفقا لنوعية التربية التي تلقاها الفرد.
- الجمال الكامن في الإنسان يظهر في أوقات معينة ثم يختفي.
- ساهم الإعلام في إفساد الأذواق.
- الجمال نوعان معنوي ومادي، والمادي طبيعي وصناعي، ومنه نوع بينهما؛ يضم الطبيعة والصناعة.
- المظاهر تخدع والتفكير الظاهراتي يطغى ويفسد.
- أصل كل المعايير المصلحة في العاجل والآجل وما أفسد العالم إلا منهج الصدق والكذب.
فصل في آثار جمال العمارة وموقف الإسلام من الزينة
لجمالية العمارة وحسنها تأثير قوي في سلوك الأفراد في بيئات العمل، فتزيدهم قوة لقوة وتحسن من المردود، لأن الصدور إذا انشرحت وأثلجت أثمرت الثمار الطيبة وغذت الرغبة في العمل.
ويؤثر تصميم الحجرات وترتيب الأثاث على التفاعلات الاجتماعية والاستجابات الانفعالية للأفراد والجماعات في هذه البيئات، فالطفل الناشئ في البيت الواسع المنظم الجميل غيرُ الطفل الناشئ في كوخ أو بيت يفتقر إلى الأساسيات، فنفسية الأول غير نفسية الثاني.
إن الطريقة التي توثر بها البيئة المحيطة بمكان العمل على مستويات الاستثارة عند العمال لها تأثير قوي على أدائهم للعمل وجودته. ويمكن أن يؤدي التصميم الرديء البيئة الفيزيقية إلى عدم الرضا عن العمل وانخفاض الدافعية إليه وتقهقر المردود.
وللخصوصية وبيئة العمل المناسبة لمكانة أو مركز الفرد في المؤسسة أو المنظمة أهمية كبيرة لمعظم الموظفين، وخاصة موظفي المكاتب؛ وقد جرت الأعراف بذلك جريانا وسار الناس هذا المهيع زمنا.
ويعكس التصميم المعياري فلسفة المصمم ومن صمم له، إذا كان ذلك وفقا لذوقه وطلبه لا فرض عليه فرضا أو اختاره تقليدا؛ وهذا هو الأعم الأغلب. يمكن أن نتحدث في هذا السياق عن هيبة المكان، فالمكتب الجميل المصمم تصميما معماريا جيدا يفرض على الناظر الهيبة ويكسي الموظف/ الرئيس الحال به بالاحترام.
خلافا للمكان الرديء والتصميم القبيح فإنه مدعاة إلى السخرية والاقتحام...
اهتم الإسلام بالجمال وحث على تحسين الهيئة ونهى عن الإسراف والتبذير والانسياق مع الأشكال والأعراف الفاسدة.
فتوزيع المال في الإسلام خاضع لضوابط صارمة، إنه يوزع حسب الأولويات والضروريات، فلا يعقل في الإسلام أن يصرف المال في الزخرفة والأشكال الكمالية وأنواع الزينة ومن الأمة كثيرون يتدور جوعا أو لم يجدوا مأوى يأوون إليه.
المعايير في الإسلام تختلف عن معايير الناس، عن أعرافهم وعاداتهم. إن الأصل في الإسلام النظر إلى الجواهر لا الانسياق مع الأشكال والألوان والزينة. فالمؤمن التقي النقي يحترم الإنسان لأن الله أمره باحترامه، لا للمظاهر والأشكال التي تحيط به. قيمة الإنسان لا تكمن في مكتبه ولا في الأشكال والزخارف التي تحيط به...وإنما في عدله والتزامه وخوفه من ربه خالقه.
صحيح إن معايير الناس اختلفت وموازينهم اختلت فأصبحت الأشكال مسيطرة على الألباب، لذا فالاهتمام بالأشكال ليس مذموما ولا قبيحا إذا كان بالمعروف والعدل.