القول المأثور في إحياء الصواب المهجور (6)


ينبغي ألا نضع على أعيننا عصابًا يعمينا عما يحاك للعربية الفصحى في السِّر وفي العَلن من أبناء جلدتنا ومن غيرهم، ومن ثمة نهمل شجرة الفصحى يطَوِّحها الظمأ والهجر، فتبدأ أوراقها في التساقط أخوَلَ أخْولا مثل أوراق الخريف. بل علينا أن ندرك ــ كما سائر الأمم الحية ــ أن اللغة هي مفتاح لإصلاح عقولنا ومادة لتنمية أفكارنا وإكسير لإشباع حاجاتنا، ومن ثمة يعد امتلاك اللغة الصحيحة؛ التي تقوم بدور تمثيل أشياء الواقع، مثل امتلاك العُملة الصحيحة التي تُمكِّننا من أن نتاجر بها فنربح، ونتعلم بها فنعرف، ونصنع بها فنكسب، ونتواصل بها فنتبادل الأفكار الفاذة فنشبع ونرتقي. عندما ندرك ــ كما أدركت الأمم المتقدمة ــ أن سوء استخدام اللغة هو المسؤول عن كثير من عِللنا، فإننا من دون تَمَارٍ سنقيم الدليل الساطع على تثبيت سلطان الصحة والسلامة اللغوية في كل ما نكتب وما نتلفظ به حتى تصبح الصحة عادة مركوزة في الطباع، كما كان أسلافنا من أمثال الكسائي الذي تعلم النحو على الكِبَر عندما نَبَّهَه قوم إلى خطئه لما جاءهم وقد أعيى، فقال: قد عييت، فقالوا له: تُجالسنا وأنت تلحن؟! قال: وكيف لَحَنْتُ؟ قالوا: إن كنتَ أردتَ من انقطاع الحيلة فقُلْ: عييت، وإن أردت من التعب فقل: أعييت. ومنذ تلك اللحظة سأل عمَّن يعلمه النحو. Kaul_opt.jpeg


هذا هو ديدن هذا العالِم وأمثاله في ذلك الزمن الذي تبدو فيه وسائل ومراكز التعليم والتعلم أبعد من بيض الأَنوق، بل أبعد من مطلع الغَفْر والقمر، فهل سعينا نحن في زمن العولمة الذي أصبح فيه التعليم والتعلم منا على طرف الثُّمام، أن نطير في هذه الزاوية بطائرة تنجينا من خبل الكلام، وهل أعددنا زُبر الحديد اللازمة التي تدرأ هذا السيل الجُراف الذي يقشر أديم العربية الفصحى، وهل استذْرَعْنَا أُمَّات المعجمات لتمييز الصريح عن الرغوة في ما نتفوه به من الكلام الذي بزل فيه الفساد، وهل ركبنا البحر(1)، لمعرفة وظائف الترتيب والتركيب لعناصر اللغة، وما هي الضميمة التي تصلح لهذا العنصر اللغوي دون الآخر، وهل ألزمنا مؤسساتنا التعليمية وأساتيذنا وشُداتنا بالرجوع إلى كتب الإملاء ومقررات مجامعنا العلمية العربية التي تحدد القواعد والضوابط التي فُرِغ من أمرها منذ ما ينوف عن ألف عام؟


أسئلة كثيرة تجد جوابها البليغ في التصحيفات والتحريفات الإملائية المسؤولة عن سوء الفهم الناتج عن رسم الكلمة العربية على غير أركانها الوثيقة، حيث كان الأوائل يعُدُّون الخط لسان اليد، كما يتضح ذلك من تخصيص ابن قتيبة في كتابه «أدب الكاتب» فصلًا سماه: «كتاب تقويم اليد(2) من الصفحة 182 إلى الصفحة 237. كما كان الأوائل حُرُصًا على شكل وتحصين الكتابة عن التصحيف والتحريف من خلال إعجامها الذي يصونها عن استعجامها، وشكلها الذي يقيها من إشكالها، فقد أوثر عن حماد الراوية المشهور أنه قرأ هذه الآية القرآنية على هذه الشاكلة: «صنعة الله ومن أحسن من الله صنعة» بدل:{صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً}(البقرة : 138)، كما قرأ الآية 156الواردة في سورة الأعراف هكذا: «...قال عذابيَ أصيب به من أساء...» بدل قوله تعالى{قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ ...}(الأعراف:156)كما قرأ الآية رقم 12 الواردة في سورة الجاثية هكذا: «وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا مِنَّةً» بدل قوله تعالى:{وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا مِنْهُ} هذه التصحيفات وغيرها هي التي حركت الهِمَمَ إلى إعجام الكتابة العربية وشكلها وصيانتها من تحريفات المحرِّفين على شاكلة قول أحد الشعراء:


وشكلتُهُ ونقطتُه فأمنْتُ مِــــــنْ


تصحيفه ونجوْتُ من تحريفه


بُسْتانُ خَطٍّ غير أنَّ ثِمـــــــاره


لا تُجْتنى إلاَّ بِشَكل حروفــــه


إن الهمز والمَدَّ والتَّرقين والشكل بالحركات الخمس (الضمة والفتحة والكسرة والسكون ثم الشدة) يزيل ضروب الاحتمالات للكلمة الواحدة، ويحصر دلالتها لإفادة المعنى الواحد والوحيد، كما يتضح من الغلطة الآتية التي تقترفها غفلتنا وسهونا وأحيانا كسلنا اللغوي:


حان موعد آذان الظهر حسب توقيت مكة المكرمة.


هذا الخطأ التصحيفي الذي تطالعنا به بعض القنوات الفضائية في أثناء كل نداء للصلاة، خطب بازل لا يدرؤه إلا رأي قارح، يظهر الفرق بين الأذان للصلاة بهمزة القطع، وبين جمع الأذن، الحاسة المعروفة، آذان بالمَدِّ، كما يتجلى ذلك في الآيات القرآنية التي فرَّقت بلا امتراء بين الدلالتين. قال تعالى من سورة التوبة آية 3: {وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر...} كما قال من سورة الأعراف آية 44: {فأذَّن مؤذِّنٌ بينهم أن لعنة الله على الظالمين} وغيرها من الآيات التي تشير إلى أن الأذان بهمزة القطع هو الإعلام. قال ابن منظور المصري: « وآذن يُؤْذِن = إيذانًا، وأذَّن يؤذِّن تأذينا... والمشدد مخصوص في الاستعمال بإعلام وقت الصلاة(3) أما الأذْنُ بالسكون على الذال المعجمة فهي من الحواس، جمع آذان بالمد. قال تعالى من سورة النساء آية 119:{ولآمرنَّهم فلَيُبَتِّكُنَّ آذان الأنعام...} وقال من سورة البقرة آية 19:{يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت} وغيرها من الآيات القرآنية التي تبين كيف يجعل الكفار في آذانهم وَقْرا لكي لا يسمعوا ما يُدعَوْن إليه من الإيمان بالله.


إذا كان البحتري يَعُدُّ شر الإساءة تكرارها على هذه الشاكلة:


لا تلحقَنَّ إلى الإساءة أختَهــــــــــ ـــا


شرُّ الإساءة أن تُسيء مُعـــــــــــا ودا


فإنني أدعو قنواتنا الفضائية التي تعيد هذه السوأة الصلعاء، إلى الإقلاع عن هذا الخطأ التصحيفي الذي يجعل الإعلام بالصلاة والنداء لها، كأنهم يقولون: حان موعد حواس السمع = الآذان. وهذا لعمري لا يقول به أحد ولا يرضى أن يسمع عنه مهما بلغ خبله! ولذلك يجب أن تستبدل تلك القنوات وغيرها بتلك الجريرة العبارة الآتية:


حان موعد أذان الظهر حسب توقيت مكة المكرمة. قال الشاعر السعودي القصيبي رحمة الله عليه:


حتى مآذننا جفَّ الأذان بهــــــــا


وصاحت القدس مَن يهدي لها عُمَـــــرا؟


هذه قبسة قابس غزوتُ منها التنبيه إلى الرجوع إلى كلمات القرآن الكريم التي تدق علينا أبواب المعرفة اللغوية السليمة، لأجل الإقلاع عن مثل تلك الخطآت القبيحة التي تظهر غفلتنا وكسلنا وتهاوننا في الاستمساك بالصحة اللغوية، إذ لو وقع مثل هذا الخطأ من أهل الحجاز قبل نزول الوحي، ولاسيما من قريش التي لا تهمز لكان الأمر هيِّنا، ذلك أن عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال: «نزل القرآن بلسان قريش، وليسوا بأصحاب نبر، ولولا أن جبريل عليه السلام نزل بالهمزة على النبي " صلى الله عليه وسلم" ما همزنا» (4) أما وقد تكرر هذا الخطأ في قنواتنا، وفي لوحات مساجدنا حتى تكرَّجَ، فإنه يجب طرده ومحوه مما نكتب إلى غير رجعة.


الهوامش


1 ــ تعني عبارة «ركبت البحر» قراءة كتاب سيبويه المعرف بـ: (الكتاب)


2 ــ أدب الكاتب - أبو محمد عبدالله بن مسلم بن قتيبة - تحقيق وضبط وشرح العلامة محمد محيي الدين عبدالحميد -الطبعة الرابعة 1382 هـ 1963م م . السعادة بمصر.


3 ــ لسان العرب. جمال الدين محمد بن مكرم ابن منظور الإفريقي المصري- المجلد 13- ص 12- ط 3- 1414هـ 1994م دار صادر بيروت.


4 ــ قطوف أدبية. دراسات نقدية في التراث العربي حول تحقيق التراث- د. عبدالسلام محمد هارون- ص541- ط1- 1409هـ نونبر 1988م مكتبة السنة - القاهرة.