إبراهيم كان أمة

أنور الحمدوني -كاتب مغربي

يستوقفك وأنت تقرأ القرآن الكريم حديث في مواضع متعددة عن شخصية فريدة ومتميزة 390728_opt.jpeg اصطفاها الله سبحانه وتعالى ليكون لها دور محوري في تاريخ البشرية كلها، وفي تاريخ المسيرة الإيمانية على وجه الخصوص، إنها شخصية نبي الله ورسوله إبراهيم الخليل الذي تحمل اسمه سورة كاملة من القرآن، ويصفه ربنا عز وجل بأحسن المحامد والصفات حين يقول عنه: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ المُشْرِكِينَ. شَاكِرًا لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ. وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ. ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ}(ا لنحل: 120-123)

يذكرنا المولى إذن بكل ثناء وإشادة، بنبي من أعظم الأنبياء، هو إبراهيم عليه السلام، الذي سمي بأبي الأنبياء، والذي كان من أولي العزم من الرسل وجعله الله خليلًا.

ابتلاء الكلمات

أمَّا لماذا نال إبراهيم هذه المرتبة العظيمة وحظي بمقام الخلة عند الله، فذلك ما نتعرف عليه من قول الله سبحانه وتعالى:

{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}(ا لبقرة:124).

إنها مرتبة جليلة ومكانة عظيمة، هي منزلة الإمامة في الدين، نالها إبراهيم عليه السلام بعدما اجتاز الامتحان، ونجح في الاختبار عن جدارة واستحقاق، فلقد ابتلاه ربه واختبره بكلمات، وهي شرائع وأوامر ونواهٍ، أو قل وظائف وتكاليف أمر بها، لم تذكر في سياق هذه الآية، لكننا يمكن أن نتعرف على جملتها من خلال سيرة إبراهيم عليه السلام وما قص علينا من أموره، وأحواله أو ما روي لنا من أقوال المفسرين في معناها، فيكون من هذه الكلمات: 076389_opt.jpeg

- نبذه الإشراك بالله وفراق قومه في الله حين أمر بمفارقتهم.

– ومحاجته للنمرود وهو طاغية يعمل السيف فيمن خالفه قتلًا وسفكًا ويدعي لنفسه ربوبية زائفة وألوهية باطلة.

– صبره على قذفه في النار ليحرقوه في سبيل الله على هول ذلك وشدته.

– والهجرة بعد ذلك من وطنه وبلاده في الله حين أمره بالخروج عنهم.

– وما أمره به من الضيافة والصبر عليها بنفسه وماله.

- إتيانه بسنن الفطرة، وهي خصال حميدة مدارها على الطهارة الحسية الظاهرة لتكون مدخلًا ومرآة للطهارة المعنوية الباطنة.

- ثم ما ابتلي به من إسكان ذريته (ابنه إسماعيل وزوجه هاجر) بأرض خلاء هي موضع مكة حين كانت عبارة عن صحراء قاحلة غير ذي زرع ينتفع الناس به في بطونهم، لكن ما سيخرج منها من النور الذي يضيء للناس طريقهم، والهدى والإيمان الذي يشع منها كان خيرًا ونعمة على البشرية كلها.

- ومما فسرت به معنى الكلمات أيضًا، أنها مناسك الحج خاصة، وهو قول قتادة كما في التفاسير (ظ. القرطبي: 2/98).

الإمامة

لقد تبوأ إبراهيم نتيجة لذلك وتشرف بصفة الإمامة التي أكرمه الله تعالى بها، جزاءً له على قيامه بواجب التكاليف والوظائف الشرعية التي امتحنه بها قبل أن يسوده إمامًا، ولذلك نقرأ في القرآن الكريم إلى يوم الدين: (وإبراهيم الذي وفى) لأنه وفي بجميع ما شرعه الله له، فعمل به، وأداه أحسن أداء.. فطوبى له وحسن مآب، وسلام عليه في العالمين.

لقد كان من تمام الجائزة الإلهية والمنحة الربانية على إبراهيم عليه السلام أن عهد الله إليه وشرفه بأن يرفع قواعد البيت الحرام ويطهره للحجاج والمعتمرين، ولذلك قال تعالى عقب الآية التي وشحه فيها بوسام الإمامة:

{وَإِذْ جَعَلْنَا البَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ. وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ المَصِيرُ. وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ. رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ}(البقر ة/125-129)

وفي سرد رائع وحكاية بليغة، يقص علينا حبر الأمة عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قصة إبراهيم عليه السلام مع هذا البيت، فيقول فيما رواه البخاري عنه (كتاب أحاديث الأنبياء/ 3364و3365):

قال: «أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل، اتخذت منطقًا لتعفى أثرها على سارة». ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت، عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء فوضعهما هنالك ووضع عندهما جرابًا فيه تمر، وسقاء فيه ماء.

ثم قفى إبراهيم منطلقًا، فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس به أنيس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارًا؛ وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذا لا يضيعنا. ثم رجعت.

فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهؤلاء الدعوات، ورفع يديه فقال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}.

وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى، أو قال: يتلبط، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدًا فلم تر أحدًا، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت بطن الوادي رفعت طرف درعها ثم سعت سعي الإنسان المجهود، حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقامت عليها، ونظرت هل ترى أحدًا؟ فلم تر أحدًا ففعلت ذلك سبع مرات.

قال ابن عبَّاس قال النبي " صلى الله عليه وسلم" «فلذلك سعى الناس بينهما».

فلما أشرفت على المروة سمعت صوتًا فقالت: صه، تريد نفسها.

ثم تسمعت فسمعت أيضًا، فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غواث فإذا هي بالملك عند موضع زمزم، فبحث بعقبه، أو قال بجناحه، حتى ظهر الماء، فجعلت تحوضُه وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعد ما تغرف.

قال ابن عبَّاس قال النبي " صلى الله عليه وسلم" «يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم». أو قال: «لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عينًا مَعِيْنًا». قال: فشربت وأرضعت ولدها. فقال لها الملك: لا تخافي الضيعة، فإن هاهنا بيتًا لله يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله.

وكان البيت مرتفعًا من الأرض كالرابية، تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وعن شماله، فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم، أو أهل بيت من جرهم، مقبلين من طريق كداء، فنزلوا في أسفل مكة فرأوا طائرًا عائفًا، فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على الماء، لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء، فأرسلوا جريًا أو جرييّن فإذا هم بالماء، فرجعوا فأخبروهم بالماء، فأقبلوا.

قال: وأم إسماعيل عند الماء، فقالوا: أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ قالت: نعم ولكن لا حقَّ لكم في الماء عندنا. قالوا: نعم.

قال عبدالله بن عبَّاس قال النبي " صلى الله عليه وسلم" : «فألفى ذلك أمَّ إسماعيل وهي تحب الأنس، فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم، فنزلوا معهم حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم.

وشبَّ الغلام وتعلّم العربية منهم وأنفسهم وأعجبهم حين شب، فلما أدرك، زوّجوه امرأة منهم.

وماتت أم إسماعيل، فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيل، يطالع تركته فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته عنه؟ فقالت: خرج يبتغي لنا. ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم؟ فقالت: نحن بشرٍّ نحن في ضيق وشدّةٍ وشكت إليه. قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام وقولي له يغيّر عتبة بابه.

فلما جاء إسماعيل كأنه آنس شيئًا، فقال: هل جاءكم من أحد؟ فقالت: نعم جاءنا شيخ كذا كذا، فسألنا عنك فأخبرته، وسألني كيف عيشنا فأخبرته أنا في جهد وشدة. قال: فهل أوصاك بشيء؟ قالت: نعم أمرني أن أقرأ عليك السلام، ويقول لك غيّر عتبة بابك. قال: ذاك أبي وقد أمرني أن أفارقك، فالحقي بأهلك، وطلقها وتزوَّج منهم أخرى، ولبث عنهم إبراهيم ما شاء الله. ثم أتاهم بعد فلم يجده، فدخل على امرأته فسألها عنه؟ فقالت: خرج يبتغي لنا، قال: كيف أنتم؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت: نحن بخير وسعة، وأثنت على الله عز وجل، فقال: ما طعامكم؟ قالت: اللحم قال: فما شرابكم؟ قالت: الماء. قال اللهم بارك لهم في اللحم والماء.

قال النبي " صلى الله عليه وسلم" : «ولم يكن لهم يومئذ حب. ولو كان لهم حب لدعا لهم فيه» قال: فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه.

قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام ومُريه يثبت عتبة بابه. فلما جاء إسماعيل قال هل أتاكم من أحد؟ قالت: نعم أتانا شيخ حسن الهيئة، وأثنت عليه، فسألني عنك فأخبرته فسألني كيف عيشنا؟ فأخبرته أنّا بخير. قال: فأوصاك بشيء؟ قالت: نعم هو يقرأ عليك السلام ويأمرك أن تثبت عتبة بابك. قال: ذاك أبي وأنت العتبة، أمرني أن أمسكك.

ثم ما لبث عنهم ما شاء الله ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نَبْلًا له تحت دوحةٍ قريبًا من زمزم، فلما رآه قام إليه فصنعا، كما يصنع الوالد بالولد، والولد بالوالد. ثم قال: يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر، قال: فاصنع ما أمرك به ربك، قال: وتعينني؟ قال: وأعينك. قال: فإن الله أمرني أن أبني هاهنا بيتًا، وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها.

قال فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة، وإبراهيم يبني حتى إذا ارتفع البناء، جاء بهذا الحجر فوضعه له فقام عليه، وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.

قال: فجعلا يبنيان، حتى يدورا حول البيت، وهما يقولان: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.

أول بيت

فيتحصل مما تلوناه في الآيات البينات، وما استفدناه من الآثار المرويات أمور منها:

- مجيء إبراهيم عليه السلام بزوجه هاجر وابنه إسماعيل، بأمر من ربه – إلى مكان البيت في وادي لا زرع فيه ولا ماء، وتركهما هناك راجعا إلى الشام.

- دعاؤه عند الثنية وهو مستقبل جهة البيت {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}(إبر اهيم: 37)

- سعي أم اسماعيل بين الصفا والمروة سبع مرات لعلها تجد ما تسقي به رضيعها، ومنة الله عليها بتفجير ماء زمزم بين يدي وليدها.

- كون قواعد البيت موجودة قبل إبراهيم عليه السلام فهداه الله إليها وبوأه لها بأن أمره أن يرفعها ويبني عليها، قال تعالى: {وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود، وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالًا، وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق} (سورة الحج 24-25)

ويصدق ذلك ما ورد في الحديث من قول الملك لأم إسماعيل: (فإن ههنا بيتا لله يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله).

- وبهذا المعنى نفهم قول الله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وَضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ . فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا}(آل عمران: 96-97)