بسم الله الرحمن الرحيم
هذه دروس في الأحاديث المعلة في الأذان والإقامة، وأصلها المجالس السبعة الأولى المفرغة من دروس الأحاديث المعلة في الصلاة
[الدرس:01]
*حديث أبي الدرداء عليه رضوان الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا يؤذن فيهم ولا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان وعليك بالجماعة فإن الذئب يأكل من الغنم القاصية)).
أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي عن زائدة، عن السائب بن حُبَيْش الكَلاَعي، عن مِعْدان بن أبي طلحة، عن أبي الدرداء.
وهذا الحديث يروى تارة بذكر الأذان فيه: ((ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا يؤذن فيهم)). وتارة تُذكر إقامة الصلاة: ((لاتقام فيهم الصلاة)).
والحديث من جهة الإسناد جيد، وهو حديث لا بأس به، وصحّحه غير واحد.
ولكن ذكر الأذان فيه ليس بمحفوظ فيما يظهر:
لأن أكثر الرواة الذين يروونه عن زائدة بن قدامة، لا يذكرون فيه الأذان كعبد الله بن المبارك، وأحمد بن يونس، ومعاوية، ومروان بن معاوية، وأبو أسامة حمَاَّد بن أسامة، وعبد الصمد، وغيرهم
وقد روى أحمد حديث وكيع بن الجراح، عن زائدة بن قدامة، فذكر الأذان فيه.
والمشكل في هذا أن وكيع بن الجراح إمام حافظ، ولكن قد روى ابن أبي شيبة هذا الحديث عنه، ولم يذكر الأذان، مما يدل على أنه يُحتمل أن الوهم في ذلك ليس من وكيع من جهة زيادة اللفظة، وإنما هي ممن يروي عنه وكيع.
وقد روى الإمام أحمد في كتابه "المسند" رواية وكيع بن الجراح في بعض المواضع، وقرنها برواية عبد الرحمن بن مهدي، وذكر الأذان فيه.
ولا يُقطع أن عبد الرحمن بن مهدي قد وافق وكيع في روايته هذه. ويُحتمل أن الإمام أحمد رحمه الله قد قدّم رواية وكيع، وقرن رواية عبد الرحمن بن مهدي بها على التغليب في الموافقة في أكثر اللفظ.
والذي يظهر والله أعلم أن ذكر الأذان ليس في حديث وكيع.
وربما وكيع بن الجراح سمعه أكثر من مرة من زائدة، تارة بذكر الأذان، وتارة بغير ذكر الأذان.
والعلة فيما يظهر أنها من السائب بن حُبَيْش الكَلاَعي. وهو شامي مقل الرواية،
لا يُعرف من روى عنه إلا زائدة. وروى عنه حفص بن عمر الأنصاري. حفص بن عمر بن رَوَاحَة الأنصاري، كما رواه عنه غير واحد، كما أسند ذلك ابن عساكر في "تاريخ دمشق". وهذا يدل على أن السائب من المقلين في الرواية.
قال الإمام أحمد عليه رحمة الله لا أعلم يروي عنه إلا زائدة. ونصّ على هذا أيضاً الدارقطني كما في "سؤالات البُرْقَاني" له فقد سأله عن السائب، فقال لم يروِ عنه إلا زائدة بن قُدامة. ولكن قد روى عنه غيره، وروى عنه حفص بن عمر بن رواحة الأنصاري، كما عند ابن عساكر في "تاريخ دمشق".
وقول الإمام أحمد رحمه الله أنه لم يروِ عنه إلا زائدة، إشارة إلى قلة روايته، وهذا ظاهر. وقلة الرواية من الراوي، تضعف جانب السبر لدى الأئمة.
جانب السبر لدى الأئمة، هو أن ينظروا ويتأملوا في مرويات الراوي، ثم يحكموا عليها في موافقته لمتون الآخرين. وإذا كان الراوي من المقلين ولا يروي عنه إلا واحد واثنين، فهذا يجعل الأئمة يتوقفون. ولهذا سأل عبد الله بن أحمد أباه عن السائب فقال: "لم يروِ عنه إلا زائدة. فقال: هو ثقة؟ قال: لا أدري".
والإمام أحمد رحمه الله في قوله: "لم يروِ عنه إلا زائدة" يعني أنه سبر تلامذته، ولم يروِ عنه إلا فلان. ولكن الأئمة في الرواة المقلين، لا يوثقونهم ما استقام المتن.
هذا المتن مستقيم، ولكن خشية أن يكون ثمة حديث آخر جاء بمثل هذا الإسناد، أو جاء بغيره عن هذا الراوي، فيُحمل ذلك التوثيق على غيره، على المتن الذي يُستنكر. فيُقال إن الأئمة قد وثّقوا ذلك الراوي، لذلك يحتاط الأئمة في المقلّين.
وهذا عند الإمام أحمد رحمه الله في غير العراقيين. أما العراقيون، فالإمام أحمد رحمه الله فيمن لم يروِ عنه إلا واحد، هو أبصر بحديثهم، وأظهر في أبواب الإحاطة، فيوثّق الراوي ولو كان مقلاً، إذا لم يروِ عنه إلا واحد. وقد جاء هذا في غير واحد ممن وثقهم من أهل الكوفة، وكذلك البصرة.
ولكن لما كان بعيداً من جهة المنزلة، وليس أيضاً من المعروفين بالرواية والمشهورين.ىأمس الإمام أحمد رحمه الله عن توثيقه. وقد وثقه غير واحد كابن حبان، وكذلك العِجْلي. ولكن إنما كلامنا هنا على عدم شهرة روايته.
وتفرده السائب بهذا الحديث محتمل؛ لأن الأصول قد دلت عليه في وجوب الجماعة، ووجوب إقامتها،
لكن مسألة الأذان، أن الجماعة إذا لم يؤذنوا وأقاموا الصلاة، استحوذ عليهم الشيطان، هذا مما يقال بأنه تفرد به السائب، وأكثر الرواة على عدم ذكر هذه الزيادة فيه كما تقدم، وحديثهم في ذلك أرجح.
ووكيع بن الجراح، وإن كان قد ذكر الأذان، فله رواية أخرى لا يذكر فيها الأذان.
وإنما حمّلنا فيه السائب؛ لأن السائب أقرب الرواة في الإسناد إلى الجرح، ولا نستطيع أن نجرِّح الأئمة الذين لم يذكروا هذه اللفظة، باعتبار أنهم أئمة ورواة كثر، ولا الذين ذكروها عنه لجلالة قدرهم.
وهذا الحديث قد جاء بغير ذكر الأذان:
رواه حفص بن عمر الأنصاري، عن السائب، عن معدان بن أبي طلحة، عن أبي الدرداء ولم يذكر الأذان فيه، وهذا يدل على رجحان تلك الرواية.
كذلك أيضاً قد جاء هذا الحديث من وجه آخر، من حديث عُبَادة بن نُسَي، يرويه عن معدان، عن أبي الدرداء، ولم يذكر الزيادة فيه، مما يدل على أن مثل هذه الزيادة مما يتوقف فيها العلماء بالتصحيح.
وهنا قاعدة في الرواة المقلين: الرواة المقلون إذا تأخروا طبقة، أو بعدوا مكاناً عن معاقل النبوة ونزول الوحي، هؤلاء مما يحتاط في زياداتهم، ومفاريدهم. وكلما تأخر راوي منهم طبقة، كان أقرب إلى الجرح.
ويدل على أن السائب بن أبي حبيش ليس بمعروف بالرواية عند الأئمة، أن عبد الرحمن بن مهدي وهم في اسمه، وهم في اسمه كما ذكر ذلك الإمام أحمد قال: "حدث عبد الرحمن بن مهدي في هذا الحديث عن زائدة، عن السائب، قال ابن حَنَش، ووهم فيه".
والرواة إذا كانوا من المشهورين، لا يخطئ الناس في أسمائهم، وإذا كانوا من المقلين يخطئ الناس في أسمائهم. والذي أخطأ هنا هو عبد الرحمن بن مهدي، من أبصر الأئمة بالرجال، وهو عراقي، وقريب من بلد السائب، فأخطأ باسمه، دليل على أنه لا تُروى عنه الأحاديث بكثرة.
ومنهم من يعدّل السائب ويوثقه من وجه :أن زائدة بن قدامة من الثقات الرفعاء، ولا يحدّث أحداً إلا وقد سأل عنه. فإذا كان من الثقاة حدثه،وإذا كان ليس من الثقات لم يحدثه، وهذا يقول به بعض العلماء، أن زائدة بن قدامة تلاميذه معدّلون، لتشدّده بالتحديث للتلاميذ، بخلاف غيره.
نقول : الإمام أحمد توقف عن توثيق السائب مع علمه بوجود زائدة. فالرجل قد يكون ثقة في دينه، ولكن من جهة الرواية والضبط فيه ضعف. والراوي لا يظهر حفظه وضبطه للمرويات إلا بكثرة مرويه.
والشام هي من بلدان الأحاديث والرواية، ومع ذلك لم يروِ إلا عن معدان، وعن أبي الشماخ الأزدي، ولم يروِ عنه إلا زائدة، وحفص بن عمر الأنصاري، وهذا يدل على أنه ليس من المعروفين بالرواية.
لهذا نقول إن ذكر الأذان في حديث أبي الدرداء ليس بمحفوظ ، والحديث جيد.
-ويعضد هذا ويؤكده أن الحديث هذا قد جاء من حديث نافع عن عبد الله بن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من ثلاثة في بدو ولا حضر لا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان)) فما ذكر الأذان فيه؛ وإنما أشار إلى إقامة الجماعة.
وربما تُذكر هذه اللفظة لفظة الأذان في المتن؛ لأن الغالب أن الصلوات لا تقام إلا بأذان، وهذا هو المعتاد. فأغلب ما يجري على ألسنة الناس: ((لا يؤذن فيهم ولا يقام فيهم الصلاة)) فربما تجوّز السائب لقلة مرويه في ذلك، بذكر بعض الألفاظ تارة، وبعدمها تارة أخرى. وهذا لا يطعن في أصل الحديث لاشتهاره، وكذلك صحة إسناده، وعدم وجود مطعن فيه.
ومن الأمور التي ينبغي أن تُضبط في مسألة الرواة، في الرواة المقلين الذين لا يروون إلا عن واحد أو اثنين، أنه ينبغي أن يُنظر للتلامذة. فالتلامذة لهم أثر على الراوي المجهول، فربما كان ذلك من الرواة الذين لا يحدث إلا عن ثقة، ويُنظر أيضاً إلى كون ذلك الراوي بلديا له.
فاتحاد البلد أقوى، لأنه يشق أن يأتي إمام كبير إلى الشام، يدخلها فيروي عن مجهول ثم يخرج منها. ولكن إذا روى شامي عن شامي عن شامي، دليل على أن أهل البلد أدرى بالاختصاص، وأعرف بالحديث.
كذلك أيضاً رواية الحافظ المدني أو المكي عن الشامي المقل، هذه دليل على الضعف.
لكن رواية الإمام الحافظ الشامي، عن مقل مدني، هذا تعديل لأن أصل الرواية من المدينة.
*حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن)).
هذا الحديث جاء من وجوه متعددة:
من حديث أبي هريرة، وهذا الذي نتكلم عليه،
وجاء من حديث أبي أمامة، ومن حديث واثلة ،ومن حديث الحسن مرسلاً، ومن حديث سهل بن سعد الساعدي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وموقوفاً على عبد الله بن عمر ويأتي الكلام عليها بإذن الله.
حديث أبي هريرة :رواه أحمد، وأبو داود، وغيرهم، من حديث الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن)).
وهذا الحديث ظاهر الإسناد لأول وهلة الصحة. فالأعمش إمام ويروي عن أبي صالح، وأبو صالح ممن أكثر عنه الأعمش، وهو من شيوخه. وأبو صالح أيضاً من خاصة وتلامذة أبي هريرة، ولكن هذا الحديث لا يصح للانقطاع، فمع كون أبي صالح شيخاً للأعمش، إلا أنه لم يسمع هذا الحديث منه.
فقد روى أَسْباط بن محمد، وأبو بدر شجاع بن الوليد، ومحمد بن فُضَيْل هذا الحديث عن الأعمش. قال: "حُدِّثْتُ عن أبي صالح عن أبي هريرة".
ورواه جماعة ولم يذكروا صيغة السماع بين الأعمش وأبي صالح، الأعمش فيه تدليس[1]. وممن رواه ولم يذكر صيغة السماع: سفيان الثوري، وحفص بن غياث، ومعمر بن راشد الأزدي، وأحمد الرَّاسِبي، وغيرهم .
ومال إلى الإعلال بالانقطاع جماعة من الحفاظ كأحمد، وابن المديني؛ بل إن أحمد يقول هذا الحديث "ليس له أصل صحيح". يعني أن الطرق كلها مردها إلى الأعمش
وهذا الحديث عامة المتقدمين على إعلاله، وعامة المتأخرين على تصحيحه، يقولون إن هذا الحديث جاء فيه التصريح بالسماع. فقد رواه الدارقطني في كتابه "العلل" أن الأعمش يقول سمعته من أبي صالح، سمعته من أبي صالح.
نقول : إن الأئمة ذكروا أن الأعمش ذكر الواسطة.
والأعمش إذا كان قد سمع من أبي صالح مثل هذا الحديث، ينبغي أن يذكر صيغة السماع مع اشتهارها عن الأعمش، وقد رواه عنه جماعة.
وكذلك أيضاً يُشكك في هذا الطريق التي قال فيها الأعمش قال: "سمعته من أبي صالح"، وهذا غريب.
وإيراد الدارقطني رحمه الله لها يُحتمل أنه أراد بذلك ذكر الوجه في هذا، أنه قيل أنه سمع في ذلك على وهم من الرواة، والرواة ربما يهمون في صيغ السماع.
ويعضد ذلك أن سفيان الثوري، وهو من أبصر الناس بأحاديث الأعمش وأحاديث العراقيين، قال: "لم يسمعه الأعمش من أبي صالح". أسند ذلك عنه البيهقي، وأبو موسى المديني في كتابه "اللطائف".
-وأما الاحتجاج بما جاء من وجه آخر أن هذا الحديث قد توبع عليه الأعمش، وأنه جاء من حديث سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة. كما رواه الإمام أحمد في كتابه "المسند".
فنقول : إن هذه المتابعة وهم وغلط، والصواب أن سهيل وإن روى عن أبيه إلا أنه لم يسمع هذا الحديث من أبيه، إنما سمعه من الأعمش، فرجع إلى الأعمش. نص على هذا الإمام أحمد والبيهقي. فقالوا إن سهيلاً يحدث بهذا عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة. فرجعنا إلى الانقطاع الأول.
-كذلك أيضاً قد جاء من وجه آخر هذا الحديث، من حديث هُشَيْم بن بُشَيْر السُّلَمي، عن الأعمش قال: "أنبأني أبو صالح"، وذكر صيغة السماع. ويستدلون بهذا من قال بالوصل. ونقول :هُشَيْم لم يسمعه من الأعمش. نص على هذا الإمام أحمد .
-وأما ما جاء من حديث محمد بن جَحَادَة، عن أبي صالح، عن أبي هريرة فيما رواه الطبراني وأبو نعيم. فنقول :إن هذا الحديث لا يصح أيضاً عن محمد بن جحادة ، فإن إسناده إليه ضعيف.
-وأما ما يُستدل به أيضاً أن هذا الحديث جاء من حديث أبي إسحاق السبيعي، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، كما رواه أحمد، فقالوا إن أبا إسحاق تابع الأعمش على روايته. وأبو إسحاق قد سمع شيئاً من أبي صالح.
نقول إن أبا إسحاق في هذا الحديث هو العلة، لأنه قد اختلط في آخره، والراوي عنه في هذا الحديث زهير قد روى عنه بعد اختلاطه. فربما سمع أبو إسحاق هذا الحديث من الأعمش، فرجعنا إلى العلة الأولى.
-كذلك أيضاً ما يستدلون به، أن الحديث جاء عن محمد بن أبي صالح، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: "وهذه متابعة أخرى للأعمش".
نقول :إن محمد بن أبي صالح مجهول لا يُعرف. وإن قيل أنه أخو سهيل كما أشار إلى هذا أبو داود، وأبو زرعة الدمشقي، فهو هذا مما يُشك فيه، وقد شكك فيه غير واحد. وإن كان أخوه أيضاً، إلا أنه لا يُعرف بالحديث، وهو في عداد المجهولين، وقد اختُلف فيه هل هو هو أم غيره. وعلى كلٍ فهو ضعيف.
ولكن هذا الحديث الذي يرويه محمد بن أبي صالح، عن أبي صالح، لا يرويه عن أبي هريرة وإنما يرويه عن عائشة، فجعله من مسند عائشة، وهذا اختلاف في الإسناد.
واختلف العلماء في هذه الوجوه، أيها أصح.
فذهب أبو زرعة، وأبو حاتم، إلى أن الأصح حديث أبو هريرة. وكلمة أصح لا يعني الصحة.
وذهب البخاري إلى أن حديث أبي صالح عن عائشة أصح.
وذهب أحمد وابن المديني إلى أنه لا يصح الحديث بوجوهه كلها. نقل الترمذي في كتابه "السنن" هذا عن ابن المديني، ونقله أيضاً البيهقي، وكذلك عبد الله بن أحمد، عن الإمام أحمد أنه ليس له أصل صحيح.
ولو صح هذا الحديث عن أبي صالح عن عائشة، أو عن أبي صالح عن أبي هريرة، فالحديث من حديث الأعمش عن أبي صالح، فالانقطاع موجود، فالانقطاع موجود على أي الوجهين.
يبقى الترجيح في أي الوجهين أرجح؟ وعامة الأئمة من الحفاظ على ترجيح حديث أبي هريرة على حديث عائشة. كما مال إلى هذا أبو حاتم، وأبو زرعة، وابن خزيمة، وكذلك العُقَيْلي، وغيرهم.
على هذا نقول إن حديث أبي هريرة حديث ضعيف.
جاء هذا الحديث من وجوه أخرى:
-جاء عند ابن ماجه من حديث عبد الحميد بن سليمان -وهو أخو فُلَيْح بن سليمان-، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد الساعدي مرفوعا .وهذا الحديث منكر. قال الإمام أحمد: "ما سمعنا بهذا" يعني بهذا الوجه. وعبد الحميد ضعيف الحديث جداً، وقد تفرد به من هذا الوجه.
-وجاء من حديث أبي أمامة كما رواه أحمد وغيره، من حديث أبي غالب، عن أبي أمامة مرفوعا.
وهذا الحديث تفرد به أبو غالب عن أبي أمامة. وأبو غالب ضعيف الحديث. قال ابن حبان: "لا يحتج بما يتفرد به عن الثقات". وقد ليّنه غير واحد.
-وجاء الحديث بإسناد صحيح -وهو أصح الأوجه- من حديث الحسن البصري مرسلاً. والمرسل ضعيف.
على هذا نقول إن الحديث بجميع وجوهه لا يصح.
وجاء موقوفاً على عمر بن الخطاب وفي إسناده ليث بن أبي سليم، وجاء أيضاً من حديث أبي محذورة، ومن حديث عبد الله بن عمر وهو ضعيف. والحديث بهذا اللفظ لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
*حديث أبي وائل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث أبي وائل أنه قال: ((سنة مسنونة ألا يؤذن المؤذن إلا وهو طاهر)).
هذا الحديث تقدم معنا في كتاب الطهارة.
وقد تفرد به الحارث بن عِنَبَة، عن عبد الجبار بن وائل، عن أبيه والحارث متكلَّم فيه. كذلك فإن عبد الجبار بن وائل لم يسمع من أبيه كما قال ذلك غير واحد، كما نص على هذا ابن معين وغيره.
وجاء هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث عبد الله بن عباس وحديث أبي هريرة.
حديث أبي هريرة : جاء من حديث يونس، عن الزهري، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يؤذن إلا متوضئ)) وهذا الحديث في إسناده انقطاع، فإن الزهري لم يسمع أبا هريرة.
وحديث ابن عباس أخرجه ابن عدي في "الكامل" وهو واه، بل منكر جداً.
ومن جهة استحباب الطهارة على الأذان، هذا مما لا خلاف فيه.
أما من جهة الإيجاب وأنه لا يؤذن إلا متوضئ، ولا يصح منه، هذا يفتقر إلى دليل، ولا دليل يثبت في هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
*حديث الحسن، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((أنه أمر بلالاً أن يؤذن فأذن وهو على راحلته فنزل ثم صلوا)).
رواه البيهقي، من حديث إسماعيل بن مسلم البصري، عن الحسن البصري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والحديث معلول بعلل:
1.تفرد إسماعيل بن مسلم البصري بهذا الحديث وهو مضعّف. وقد ضعّفه غير واحد من الأئمة، وترك حديثه ابن المبارك، وابن مهدي، وجماعة.
2. الحسن البصري أرسله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومراسيل الحسن واهية.
ويتكلم في هذا الحديث العلماء عند كلامهم عن الأذان لمن كان جالساً هل يؤذن أم لا؟ كأن يكون الإنسان مثلاً على السيارة، أو يكون الإنسان مثلاً على الراحلة، هل يؤذن وهو جالس في الطائرة، أو حافلة ونحو ذلك، فيؤذن وهو جالس أم لا بد من القيام؟
هذا من الموارد تحت هذا الحديث الذي تكلم عليه العلماء، ولكنه حديث مرسل.والعلماء يجمعون على استحباب القيام.
أما الوجوب فهو موضع خلاف، والصواب أن القيام سنة، وأن المراد بذلك هو إيصال الصوت. فإذا أوصل الإنسان صوته وهو جالس، صح أذانه.
وكانوا في السابق يصعدون على السطوح ليؤذنون، ليؤذنوا عليها لكي يسمع الأذان، ثم أصبح الناس بعد أن فتح الله عز وجل على الناس، ويسّر عليهم، وأصبحوا يؤذنون من داخل المساجد بالأجهزة المعروفة.
*حديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يُكره للإمام أن يكون مؤذناً)).
هذا الحديث رواه ابن عدي من حديث سَلاَّم الطويل، عن زيد العَمَّي، عن قتادة، عن أنس بن مالك
وهذه المسألة لا يثبت فيها بالنص شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما يثبت في ذلك العمل. ولو فعله الإنسان صح منه وجاز، ولا إشكال في ذلك، ولا إشكال في هذا.
والحديث حديث منكر، تفرد به سلام الطويل، عن زيد العمي، عن قتادة، عن أنس بن مالك.
1.وسلام الطويل متروك الحديث،
2.وزيد العمي واه.
3.وتفرده عن قتادة مع كثرة أصحابه، والحاجة لهذه المسألة، أمارة على الضعف.
وإنما قلنا الحاجة لهذه المسألة، أن الإنسان قد يكون في موضع ليس فيه إلا هو فيؤذن ويقيم ويصلي، فيؤذن ويقيم ويصلي.
*حديث جابر بن عبد الله أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يؤذن الإمام)).
وهذا الحديث أيضاً رواه ابن عدي، وغيره من حديث المُعَلَّى بن هلال، عن محمد بن سُوقَة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر.
والحديث مطروح بل يقال إنه موضوع، وذلك أنه تفرد به معلى بن هلال، وهو وضّاع اتهمه بالكذب جماعة: سفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، والإمام أحمد، وتركه سائر الأئمة. وتفرد بهذا الحديث.
وهل ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أذن؟
إذا قلنا بثبوت أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن، فنقطع أنه أمّ لأنه هو الإمام لا يصلي به أحد. فإذا أذن، أمّ. وإذا أمّ، لا يلزم أن يكون أذن عليه الصلاة والسلام .
جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض الأحاديث أنه أذن. روى أبو عوانة، وكذلك ابن شاهين وغيرهم، من حديث عامر بن شَرَحِيل الشَّعْبي، عن عبد الله بن زيد: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن))
وهذا الحديث ضعيف، وذلك أن عامر بن شرحيل الشعبي لم يدرك عبد الله بن زيد إدراكاً، وهو –أي عبد الله بن زيد-على أبعد أحواله توفي عام تسعة عشر (19) للهجرة.
وعامر بن شرحيل الشعبي متأخر عن ذلك؛ بل لم يسمع علي بن أبي طالب عليه رضوان الله تعالى وإنما رآه. وقيل إن عبد الله بن زيد استُشهد في أُحُد. كما جاء من حديث عبيد الله بن عمر، أن ابنة عبد الله بن زيد دخلت على عمر بن عبد العزيز فقالت له: "إن أبي استشهد يوم أحد". وبعضهم يعل هذه الرواية في استشهاد عبد الله بن زيد في أحد.
وعلى كل حال نقول إنه لو قلنا بتأخير حديثه، نقول إنه توفي عام تسعة عشر (19). وعلى هذا لم يسمع عامر بن شرحيل الشعبي من عبد الله بن زيد، ويكون ثمة إرسال وانقطاع في هذا الحديث.
وكون الرجل يريد أن يؤذن وهو إمام، الأصل في ذلك الجواز. جاء هذا عن عبد الله بن عمر كما رواه ابن أبي شيبة من حديث عبد الله بن عمر أنه أذن وأمّ.
وجاء عن بعض التابعين أنه كره ذلك، وحكى أن من السنة ألا يؤم المؤذن، ألا يؤم المؤذن وإنما يؤم غيره، وألا يؤذن الإمام.
جاء هذا عند ابن أبي شيبة من حديث عمران بن مسلم، عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص أن قال: ((من السنة ألا يؤذن الإمام)).
وقوله: ((من السنة)) الأصل فيه على أقوى الوجوه أن يقال أن له حكم الرفع ولكنه مرسل؛ لأن مصعب بن سعد هو من التابعين. وإنما قيل: ((من السنة)) لجريان العمل على ذلك.
والأصل إن الذي يقوم بالإمامة هو الإمام الأعظم، وليس من ينيبه، وإنما تخلى الخلفاء والأئمة والملوك والرؤساء عن الإمامة، لما ركنوا إلى الدنيا؛ بل كان في القرون الأولى كان يصلي بالناس حتى الفاجر من الخلفاء، حتى الذي يشرب الخمر، حتى الذي يسفك الدماء ويقتل كالحجاج بن يوسف.
[1] - العلماء يقسّمون رواية الأعمش في أبواب التصريح بالسماع إلى أقسام:
. ما يرويه عن المكثرين الذين يكثر بالأخذ عنهم، فهؤلاء تُغتفر الروايات ما استقام المتن، ولم يكن ثمة مخالفة.
. ما يروي عن المقلين، فهذا مما يتشدد فيه العلماء ويحتاطون.
. ما يرويه عمن أكثر الأخذ منه، ولكن ثمة مخالفة أو شك في السماع. أو عدم استقامة في المتن، فهذا يُطلب فيه التصريح بالسماع كما في حديث الأعمش هنا في روايته عن أبي صالح، عن أبي هريرة، لوجود الاختلاف.