قَوْلُهُ: (وَالْمُؤْمِنُو َ يَرَوْنَ حَقًّا رَبَّهُمُ)؛ فَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ يُؤْمِنُونَ وَيَعْتَقِدُونَ بِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ سَوْفَ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ رُؤْيَةً حَقِيقِيَّةً بِأَبْصَارِهِمْ ، وَلَيْسَتْ رُؤْيَةً مَجَازِيَّةً.
وَقَدْ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ النُّصُوصُ الْقُرْآنِيَّةُ ، وَالْأَحَادِيثُ النَّبَوِّيَّةُ ؛ بَلْ بَلَغَتِ النُّصُوصُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَإِثْبَاتِهَا حَدَّ التَّوَاتُرِ، وَكَمَا قَالَ النَّاظِمُ:
مِمَّا تَوَاتَرَ حَدِيثُ مَنْ كَذَبْ ... وَمَنْ بَنَى للهِ بَيْتًا وَاحْتَسَبْ
وَرُؤْيَةٌ شَفَاعَةٌ وَالْحَوْضُ ... وَمَسْحُ خُفَّيْنِ وَهَذِي بَعْضُ
وَالْكَلَامُ عَلَى مَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ يَنْدَرِجُ تَحْتَهُ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَدِلَّةُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فِي إِثْبَاتِ رُؤْيَةِ الْمُؤْمِنِينَ رَبَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ:
الدَّلِيلُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22، 23].
الدَّلِيلُ الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15].
عن الْفَضْلِ بْنِ زِيَادٍ قَالَ: ((سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ, وَبَلَغَهُ عَنْ رَجُلٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ , فَغَضِبَ غَضَبًا شَدِيدًا، ثُمَّ قَالَ: مَنْ قَالَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ فَقَدْ كَفَرَ, عَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَغَضَبُهُ, أَلَيْسَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22، 23].
وَقَالَ تَعَالَى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15].
هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ اللَّهَ تَعَالَى([1])))اهـ.
وقَالَ رَجُلٌ لِمَالِكٍ: ((يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ هَلْ يَرَى الْمُؤْمِنُونَ رَبَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: لَوْ لَمْ يَرَ الْمُؤْمِنُونَ رَبَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَمْ يُعَيِّرِ اللَّهُ الْكُفَّارَ بِالْحِجَابِ, فَقَالَ: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] ([2])))اهـ.
وقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: (({كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15].
دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ أَوْلِيَاءَهُ يَرَوْنَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَبْصَارِ وُجُوهِهِمْ([3])))اهـ.
وعن الرَّبِيعِ بْنِ سُلَيْمَانَ، قَالَ: ((حَضَرْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيَّ وَقَدْ جَاءَتْهُ رُقْعَةٌ مِنَ الصَّعِيدِ فِيهَا: مَا تَقُولُ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15].
قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَلَمَّا أَنْ حُجِبُوا هَؤُلَاءِ فِي السَّخَطِ كَانَ فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ يَرَوْنَهُ فِي الرِّضَا قَالَ الرَّبِيعُ: قُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَبِهِ تَقُولُ؟ قَالَ: نَعَمْ, وَبِهِ أَدِينُ, اللَّهَ لَوْ لَمْ يُوقِنْ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ أَنَّهُ يَرَى اللَّهَ لَمَا عَبْدَ اللَّهَ تَعَالَى([4])))اهـ.
وقَالَ أَبُو صَالِحٍ كَاتِبُ اللَّيْثِ: ((أَمْلَى عَلَيَّ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ الْمَاجِشُونُ وَسَأَلْتُهُ فِيمَا أَحْدَثَتِ الْجَهْمِيَّةُ, فَقَالَ: لَمْ يَزَلْ يُمْلِي لَهُمُ الشَّيْطَانُ حَتَّى جَحَدُوا قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22، 23]، فَقَالُوا: لَا يَرَاهُ أَحَدٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَجَحَدُوا وَاللَّهِ أَفْضَلَ كَرَامَةِ اللَّهِ الَّتِي أَكْرَمَ بِهَا أَوْلِيَاءَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِهِ وَنَضْرَتِهِ إِيَّاهُمْ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ، فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَيَجْعَلَنَّ رُؤْيَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْمُخْلِصِينَ لَهُ ثَوَابًا لِيُنْضِرَ بِهَا وُجُوهَهُمْ دُونَ الْمُجْرِمِينَ، وَيَفْلِجَ بِهَا حُجَّتَهُمْ عَلَى الْجَاحِدِينَ وَشِيعَتِهِمْ، وَهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ مَحْجُوبُونَ لَا يَرَوْنَهُ كَمَا زَعَمُوا أَنَّهُ لَا يُرَى وَلَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، وَكَيْفَ لَمْ يَعْتَبِرْ – وَيْلَهُ - بِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15]، أَفَيَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ يُقْصِيهِمْ وَيُغْنِيهِمْ وَيُعَذِّبُهُمْ بِأَمْرٍ يَزْعُمُ الْفَاسِقُ أَنَّهُ وَأَوْلِيَاؤُهُ فِيهِ سَوَاءٌ([5])))اهـ.
الدَّلِيلُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]
فَقَدْ فَسَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الزِّيَادَةَ بِأَنَّهَا الرُّؤْيَةِ.
عَنْ صُهَيْبٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ نُودُوا: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، إِنَّ لَكُمْ مَوْعِدًا عِنْدَ اللهِ مَوْعِدًا لَمْ تَرَوْهُ، فَقَالُوا: وَمَا هُوَ؟ أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا وَتُزَحْزِحْنَا عَنِ النَّارِ، وَتُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ؟ قَالَ: فَيُكْشَفُ الْحِجَابُ، فَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، فَوَاللهِ مَا أَعْطَاهُمُ اللهُ شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنْهُ، ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]([6])».
الدَّلِيلُ الرَّابِعُ: عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه، قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا لَيْلَةً مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَظَرَ إِلَى القَمَرِ لَيْلَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ، فَقَالَ: «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا([7]) لَا تُضَامُونَ([8]) فِي رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لاَ تُغْلَبُوا عَلَى صَلاَةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا، فَافْعَلُوا»، ثُمَّ قَرَأَ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق: 39]([9]).
الدَّلِيلُ الْخَامِسُ: عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «جَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ، آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ، آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَمَا بَيْنَ القَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلَّا رِدَاءُ الكِبْرِ، عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ([10])».
[1])) أخرجه الآجري في ((الشريعة)) (577).
[2])) أخرجه اللالكائي (808) وابن بطه (54).
[3])) أخرجه ابن بطه في ((الإبانة)) (55).
[4])) أخرجه اللالكائي (883).
[5])) السابق (873).
[6])) صحيح: أخرجه مسلم (297)، وأحمد (18935)، والفظ له.
[7])) قال بن تيمية رحمه الله ((مجموع الفتاوى)) (3/ 47): ((فَشَبَّهَ الرُّؤْيَةَ بِالرُّؤْيَةِ وَلَمْ يُشَبِّهْ الْمَرْئِيَّ بِالْمَرْئِيِّ)) .
[8])) (لاَ تُضَامُونَ)؛ يجوز ضم التاء وفتحها؛ وهو بتشديد الميم من الضم؛ أي: لا ينضم بعضكم إلى بعض، ولا يقول: أرنيه، بل كل ينفرد برؤيته، ورُوي بتخفيف الميم؛ من الضيم، وهو الظلم، يعني: لا ينالكم ظلم بأن يرى بعضكم دون بعض، بل تستوون كلكم في رؤيته تعالى.
[9])) متفق عليه: أخرجه البخاري (4851)، ومسلم (633).
[10])) متفق عليه: أخرجه البخاري (4878)، ومسلم (180).