الـشركات في الفقه الإسلامي
د.صالح سالم النهام
اختصاصي أول دراسات إسلامية

اعلم أن تشريع الشركات في ديننا الإسلامي جاء سدّا لحاجات الناس، وتنمية لأموالهم، وتحقيقًا لمبدأ التعاون البناء بين أفراد المجتمع.. ولا ريب أن هناك مِن الناس مَن لا يمكنه الخوض بنفسه في مجال الاتجار؛ وذلك لافتقاره لعنصر الخبرة، الأمر الذي يجعله يبحث عن شريك ذي خبرة وقدرة على العمل؛ لأنه بهذا التعاون المشترك يتحصل على المطلوب، ومن ثم تنعكس هذه الشراكة على تطوير الحركة الاقتصادية في المجتمع.


أولًا: تعريف الشركة لغةً واصطلاحًا

1- الشركة لغةً: هي الاختلاط، سواء كان بعقد أو بغير عقد، وسواء كان في الأموال أو في غيرها.
2- الشركة اصطلاحًا: لقد عرفت الشركة بتعاريف عدة، إليك منها ما جاء عن الحنفية، حيث عرفوها بأنها عبارة عن: عقد بين المتشاركين في الأصل والربح.
ثانيًا: مشروعية الشركة
لقد ثبتت مشروعية الشركة من خلال أدلة عدة، جاءت في الكتاب والسنة والإجماع.
1- القرآن الكريم:
قال سبحانه في ميراث الإخوة من الأم: {فهم شركاء الثلث} (النساء/12)، وقال- عز وجل- في قصة داود مع الخصمين: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ
} (ص:24)، والخلطاء هم الشركاء.

2- السنة النبوية:
لقد وردت فيها أحاديث عدة منها: الحديث القدسي الذي رواه نبينا الكريم- عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم- عن ربه- عز وجل- حين قال: «أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه، فإن خان خرجت من بينهما» (أخرجه أبو داود والحاكم وصحح إسناده).
وقد رأى النبي " صلى الله عليه وسلم" الناس يتعاملون بالشركة، فلم ينكر عليهم ذلك. ويدل على ذلك خبر السائب بن أبي السائب صيفي ابن عائذ المخزومي "رضي الله عنه" أنه كان شريك النبي " صلى الله عليه وسلم" قبل المبعث في التجارة، فلما جاء إليه يوم الفتح قال: «مرحبًا بأخي وشريكي، لا يداري ولا يماري (أي لا يخالف ولا ينازع)» (أخرجه الإمام أحمد: 15590).
الإجماع: لقد أجمع المسلمون على جواز الشركة في الجملة، ولكنهم اختلفوا في جواز أنواع منها.
ثالثًا: أقسام الشركة
القسم الأول: شركة الملك
وهي أن يختص اثنان فصاعدًا بشيء واحد، أو ما هو في حكمه، وهو المتعدد المختلط بحيث يتعذر تفريقه.. كالدار الواحدة، والأرض الواحدة تثبت فيهما شركة الملك، فإذا اشترى اثنان أرضًا أو دارًا كانت شركة بينهما، وأيضًا الوصية والهبة والصدقة على أكثر من واحد، فهم شركاء في الوصية والهبة والصدقة، والكيسان من الدنانير ذات الصكة الواحدة يخلطان معًا طواعيةً أو اضطرارًا، وكذلك الإردبّان من القمح يخلطان معًا طواعية أو اضطرارًا، وحكمها الجواز باتفاق الفقهاء.
أنواع شركة الملك
النوع الأول: اختيارية
وهي التي تكون بإرادة الشريكين أو الشركاء، سواء كانت بواسطة عقد أو بدونه، وسواء وقع العقد مشتركًا منذ بدايته أو طرأ الاشتراك في المال بعد العقد، ومثال ما كان بواسطة عقد مشترك منذ البداية: ما لو اشترى اثنان بضاعة يتجران فيها، وكالشراء قبول الهبة والوصية والعطية. ومثال ما كان بواسطة: عقد طرأ اشتراكه في المال بعده، كأن يقع الشراء أو قبول الهبة أو العطية من واحد، ثم يشرك معه آخر بعوض، أو بدون عوض، ومثال ما كان بدون عقد: كما لو خلط اثنان ماليهما، أو أحييا أرضًا مواتًا.
النوع الثاني: إجبارية
وهي التي تكون بدون إرادة الشريكين أو الشركاء، كما لو انفتقت الأكياس، واختلط ما فيها، مما يتعذر فصل بعضه عن بعض لتتميز أنصباؤهم؛ كبعض الحبوب، والنقود ذات السكة الواحدة، وكالمال الموروث بأكثر من واحد.
الأحكام المترتبة على شركة الملك
1- ليس لشريك الملك في نصيب شريكه شيء من التصرفات التعاقدية.. كالبيع، والإجارة، والإعارة.. وغيرها، إلا أن يكون ذلك بإذن شريكه، فإن فعل شيئًا من ذلك فلشريكه تضمينه حصته.
2- لكل شريك في شركة الملك أن يبيع نصيبه لشريكه، أو يملِّكه لشريكه بأي وجه من أوجه التملك، كالوصية، والهبة، والعطية، والبيع.
3- ذهب الحنفية والشافعية إلى أن للشريك في شركة الملك أن يبيع نصيبه لغير شريكه في غير الضرر دون إذن شريكه، أما في حالة الضرر فلا يجوز، كأن يبيع الشريك الحصة الشائعة في البناء أو الميراث أو الثمر أو الزرع منفردًا عن الأرض، بأن شرط المشتري هدم البناء وقلع الغراس، فلا يتأتى دون هدم وقلع حصة الشريك الذي لم يبع لمكان الشيوع، وذلك ضرر لا يجوز.
4- ذهب الفقهاء إلى أنه في حضور الشريك في شركة الملك لا ينتفع شريكه الآخر إلا بإذنه؛ لأنه بدون الإذن يكون غصبًا، وأما في حالة غيبة الشريك أو موته يكون لشريكه الحاضر أن ينتفع بالمشترك انتفاعًا لا يضرُّ به.
القسم الثاني: شركة العقد
وهي ثلاثة أنواع: (شركة أموال- شركة أعمال- شركة وجوه).
النوع الأول: شركة الأموال
ما روي عن أبي المنهال أن زيد ابن الأرقم، والبراء بن عازب كانا شريكين، فاشتريا فضة بنقد ونسيئة، فبلغ الأمر النبي " صلى الله عليه وسلم" فأمرهما: «أن ما كان بنقد فأجيزوه، وما كان بنسيئة فردوه» (أخرجه أحمد والبخاري بمعناه).
المعنى العام للحديث
دل هذا الحديث على أن بيع الفضة بنسيئة لا يصح، وما كان بنقد وتقابض في المجلس فصحيح؛ لما جاء في البخاري أن رسول الله " صلى الله عليه وسلم" قال: «ما كان يدًا بيد فليس به بأس، وما كان نسيئة فلا يصح»، وهذا الحديث دليل على مشروعية الشركة في الأموال، وذلك بأن يكون رأس مالها نقودًا.
تعريف شركة الأموال
عرفها الفقهاء بأنها: عقد بين اثنين فأكثر، على أن يتجروا في رأس مال لهم، ويكون الربح بينهم بنسبة معلومة، كالنصف، أو الربع، سواء شرطوا أن يشتركوا جميعًا في كل شراء وبيع، أو شرطوا أن ينفرد كل واحد بصفقات، أو أطلقوا (أي: لم يشترطوا).
حكم شركة الأموال
اتفق الفقهاء على جواز الشركة بالدراهم والدنانير.
الأحكام المترتبة على شركة الأموال:
1- لابد أن يكون نقد كل واحد من الشركاء مثل نقد صاحبه، ثم يخلطوا ذلك؛ حتى لا يتميز، ثم يتصرفوا جميعًا، إلا أن يقيم كل واحد منهم الآخر مقام نفسه.
2- اختلف الفقهاء فيما إذا كانت الدنانير من أحدهم، والدراهم من الآخر، فذهب الحنفية والحنابلة إلى جواز الشركة، على أن تكون الدراهم من أحدهم، والدنانير من الآخر.
3- ذهب أكثر العلماء إلى أن شركة الأموال تصح وتجوز في غير النقدين من كل ما يتملك من عروض، ودنانير، ودراهم.. وغيره.
وشركة الأموال هذه تنقسم عند الحنفية إلى:
(أ) شركة المفاوضة، ويشترط فيها ما يأتي:
1- أن يتساوى الشركاء في رأس مال الشركة الشامل لكل ما للشريكين صالح للشركة.
2- يجوز للشركاء كل تصرف تجاري (تفويض) في رأس مال الشركة.
3- الربح بينهم يكون معـلومًا.
4- كفالة ما يلزم كلّا من الشريكين من دَيْن الشركة.
(ب) شركة العنان: وهذه لا يشترط فيها كل الشروط السابقة، بل أطلق كل منهم العنان لشريكه.
النوع الثاني: شركة الأعمال (الصنائع – الأبدان)
عن أبي عبيدة عن عبدالله بن مسعود- رضي الله عنهما- أنه قال: «اشتركت أنا وعمار وسعد فيما نصيب يوم بدر، فجاء سعد بأسيرين ولم أجئ أنا وعمار بشيء» (أخرجه أبو داود: 3388، والنسائي: 3947).
المعنى العام للحديث
دل هذا الحديث على مشروعية شركة الأعمال؛ وذلك بأن يتعاقد اثنان فأكثر على أن ما يحصل عليه أحدهم من غنيمة أو أسير أو سلب فهو شركة بينهم، فجاء سعد بأسيرين ولم يجئ عبدالله بن مسعود وعمار بشيء، فأشركهما في ملكيتهما.
تعريف شركة الأعمال
عرفها الفقهاء: بأن يتعاقد اثنان فأكثر على أن يتقبلوا نوعًا معينًا من العمل، أو غير معين، وأن تكون الأجرة بينهم بنسبة معلومة، كالصباغة، والبناء، والنجارة، أو كل ما يتقبل، ولابد من التعاقد قبل التقبل، وتسمى شركة الأبدان، وشركة الصنائع، وشركة العنان، وشركة المفاوضة.
< حكم شركة الأعمال:
ذهب جمهور العلماء من الحنفية والمالكية والحنابلة إلى جوازها، وقد اشترط الإمام مالك اتحاد الصيغة، أما الشافعية فعندهم باطلة؛ لأن كل واحد منهم متميز ببدنه ومنافعه فيختص بالفوائد.
< الأحكام المترتبة على شركة الأعمال:
1- قابلية التصرف المتعاقد عليه للوكالة؛ ليتحقق مقصود الشركة وهو الاشتراك في الربح؛ لأن كل واحد من الشريكين وكيل عن صاحبه في نصف ما تصرف فيه، وأصيل في نصفه الآخر، والمتصرف عن الغير لا يتصرف إلا بولاية، أو وكالة، فلابد من أهلية كل شريك للتوكيل والتوكل.
2 - أن يكون الربح معلومًا بالنسبة؛ كالنصف أو الربع، فإذا تم العقد على أن يكون للشريك حصة من الربح من غير بيان المقدار فالعقد فاسد؛ لأن الربح مقصود الشركة فتفسد بجهالته.
3 - أن يكون محلها عملًا؛ لأن العمل هو رأس المال في هذه الشركة، فإذا لم يكن من أحد الشريكين عمل لم تصح الشركة، ولكن يكفي لتحقق هذا العمل أن يتعاقدا على التقبل، سواء أجعل التقبل لكليهما أو لأحدهما عمليًّا، وإن كان لآخر نظريًا.. فإذا تقبل العمل أحد الشريكين بعد قيام الشركة وقام به وحده، كأن تقبَّل الثوب للخياطة وقطَّعه وخاطه، فالأجرة بينه وبين وشريكه مناصفةً، إن كانت الشركة مفاوضةً، وعلى ما اتفقا إن كانت عنانًا.
4- أن يكون العمل المشترك فيه يمكن استحقاقه بعقد الأجرة، كالصباغة، والحدادة، والنجارة، أما ما لا يستحق بعقد الإجارة فلا تصح فيه الشركة، كالنياحة على الميت، والأغاني الخليعة.
النوع الثالث: شركة الوجوه (شركة المفاليس - شركة الذمم)
< عرفها الفقهاء القائلون بجوازها أن يشترك اثنان أو أكثر ممن ليس لهم رأس مال، على أن يشتروا بالنسيئة أو بأجل، ثم يبيعوا ما يشترونه، على أن يكون الربح بينهم بنسبة ضمانهم للثمن، ويقال لها: «شركة الوجوه أو المفاليس»؛ وذلك لعدم رأس المال، أو «شركة الذمم»؛ وذلك لعدم دفع ما يشترون به، بل يبقى الثمن في ذمتهم إلى حين البيع.
حكم شركة الوجوه
أ - يرى الحنفية والحنابلة جوازها بسبب:
1- إجماع الناس على التعامل بشركة الوجوه في سائر الأمصار من غير إنكار عليهم، وقد قال الرسول " صلى الله عليه وسلم" :«لا تجتمع أمتي على ضلالة» (جامع بيان العلم وفضله لابن عبدالبر: 1/759)، (والكنى والأسماء للدولابي: 2/515).
2- شركة الوجوه تشتمل على الوكالة والكفالة، فكل شريك وكيل وكفيل عن غيره من الشركاء، وكل من الوكالة والكفالة جائزة، والقاعدة تقول: إن المشتمل على الجائز جائز.
3- شركة الوجوه تنطوي على عمل من الأعمال من جانب الشركاء، وهذا جائز أن تتفق عليه الشركة.
(ب) ويرى المالكية والشافعية بطلانها للآتي:
1- أنها من باب: تَحمَّل عني، وأتحمَّل عنك، وهذا ضمان بجعل، وهو غير جائز.
2- باطلة عند المالكية لأن فيها شبهة السلف الذي يأتي بمنفعة والكفالة المأجورة.
3- باطلة عند الشافعية لأجل عدم وجود المال الذي يقدمه الشركاء، والذي يتحقق به الملك المشترك والخلط.
الأحكام المترتبة على شركة الوجوه
1- لابد أن يكون الربح بين الشريكين بنسبة ضمانهما للثمن.
2- إذا شرط لأحد الشريكين في الربح أكثر أو أقل ما عليه الضمان، فهو شرط باطل، وهو مذهب كل من الحنفية والحنابلة.
3- إن الربح في شركة الوجوه على حسب ما اتفقا عليه؛ لأن الشريكين في شركة الوجوه يتجران، والتجارة عمل يتفاوت كيفًا، كما يتفاوت كمّا.
الحنفية والشافعية أجازوا بيع الشريك في شركة الملك نصيبه لغير شريكه