وروح جادين تحلق في فضاء سوق ود أمجبو والبلدة القديمة, وجسده يحترق هناك في فناء تلك الكنيسة العتيقة, كانت كل أسرار الخزين تنفتح كالإلهام على فضاء ذاكرته.. فمن الأسرار الخفية للخزين, والتي أبدا لم يطلع عليها أحد سواه حتى الأطراف المباشرون لهذه الأسرار, أنه في لحظة ما بعيدة, توسطت سنوات غابرة في انصرام الزمان, وبينما كان الخزين يسكن وحده في هذه البلدة التي لم تكن وقتها مأهولة, بسبب ما حل بها وبسكانها القدماء من أسلافه من دمار على مر العصور. فقد بدأ السكان يتوافدون إليها, يحيون ذكرى أسلافهم الغابرين! بعد أن شيد فيها الخزين أول كرنك عرفته في تاريخها القريب, بعدها غادر البلدة إلى دار الريح لحين من الوقت, وعندما عاد كانت برفقته امرأة فارعة,أنجب منها جدة منصورة. ماتت تلك المرأة بعد فترة قصيرة, بعد أن أنجبت له فتاة جميلة, ستكون في مقبل الأيام هي الجدة المباشرة لمنصورة. ورثت منصورة لون جدتها وقوامها الجميل،وشعرها الأسود الطويل. فضلاً عن عينيّ الخزين اللتين كعيني صقر عجوز.
لم يطلع أحد أبدا على هذا السر. بل حتى أن منصورة ووالدتها لم تكونا تعرفان, أن الخزين في الحقيقة هو جدهما! لذلك كان الخزين سعيدا جدا, وهو يراقب تلك المشاعر البطيئة المتنامية, التي تدنو حثيثا. لتصل قلب منصورة بجادين!
كان جادين يرى روحه تخرج من أعماقه.. تحلق فوق رؤوس العسس, وجموع الأهالي المتحلقين يشهدون لحظة إعدامه.. ثمة تصفيق متقطع, وزغاريد شاحبة, تمتزج في لهب النيران المشتعلة حوله..ثمة رصاصات تتلاشى في الألسنة المتطايرة.ومن بين مشاهد كل هذه المهزلة, رأى طيف الخزين يبصق في جموع الناس بإزدراء ومقت شديدين!في اللحظة نفسها كان الحاكم العام يلقي على الناس بيانه, حول الخونة والخوارج والعملاء والمرتزقة شذاذ الأفاق.. المخربين الذين سيجعل منهم أمثولة لآخر الزمان!كان الحاكم العام يلقي بخطاباته في هستيريا وهو يجوب شوارع البلدة ودروبها. وسط الهتافات العالية لحزبه الوطني.. في هذه اللحظة ذاتها.. الفارقة بين عالمين يعلنان انتقال روح جادين إلى مثواها, وميلاد روحه مرة أخرى في صانع فخار جديد.. في هذه اللحظة المحاصرة برائحة الحرائق والرماد, رأى الحاكم العام منصورة بين جموع الأهالي: عينان لامعتان, شفاه رقيقة, أنف دقيق, وشعر ممشط في جدائل كبيرة يتخللها الودع الملون!
بدت له منصورة في فستانها البسيط, ووجهها الذي لوحته الشمس, أجمل أنثى في الكون تقع عليها عيناه!. فتوقف عن إلقاء خطبته لاهث الأنفاس, وأشار إلى حرسه الخاص تجاهها.
في تلك الظهيرة, كانت منصورة التي تستعد للاقتران بجادين, قد ارتدت تلك الثياب التي كانت أجمل ثيابها, بعد أن مشطت لها أمها شعرها على ذلك النحو الذي يقلق ذكورة الرجال.
ثم جلست على بنبرها الحميم لتستمع لنبوءات أمها, التي تفرغت لحظتها لتخط الودع وتقرأ مستقبل ابنتها الوحيدة.. كانت ترى في الودع فراشة تطير في هجير الظهيرة, وتسقط محترقة.. ثم تنبعث من جديد وتحلق بعيدا بعيدا في الهواء!. فيما عدا الخزين ومنصورة, لم يكن أحد يعرف أن أمام صانع الفخار أياما معدودات, ليفارق بعدها هذا العالم الكارثي الشائه!
في اللحظة نفسها بينما كانت روح جادين تحلق عاليا إلى طمأنينتها, كانت تلك الفراشة تلحق بها. فترتعش روحه دون وجل وتهدأ.. تعانق الفراشة.. تتوحد معها, يستحيلان معا إلى بريق في اللانهاية.
V
المرة الأولى التي التقى فيها الخزين بتلك المرأة البدوية الجدة الكبرى لمنصورة, أدرك أن القدر سطر له مصيرا غامضا لا مفر منه!.. أخذ يحكي لها عن البلدة التي يحلم بتشييدها بين مقرن النيلين على أنقاض البلدات التي طالها الخراب والدمار عبر العصور السحيقة لتاريخ البلاد الكبيرة, فأومأت برأسها موافقة, فابتسم وهو ينتحي بها في جوف دغل من أشجار النال.. استسلما لرعبهما الذي يحفز عريه ملمس النال و رائحة قوية قوامها العرق الزنخ تقتحم رائحة النال فتمتزج بها! وتجعل لخياشيمهما ملمس أعصابهما المتحفزة. عندما أفاقا من غيبوبتهما لم يكونان يعلمان كم من الوقت قد مضى عليهما. في تلك اللحظة بالذات كانت جدة منصورة تنمو في أعماق تلك المرأة البدوية. تذكر الخزين ود طبلة كل ذلك عندما تناهى إلى مسامعه خبر مقتل جادين محترقا في فناء الكنيسة العتيقة! و..
وبعد أن تهدأ المواجد والتوجدات والمحن والإحن والعداوات والغبائن.. بعد عشرات السنوات ستغني الحكامات بوحي منصورة أخرى أغاني مشحونة بكل بذاءات العالم ضد ذلك الحاكم العام وحزبه الوطني وأحزاب البلاد الكبيرة المخنثة!
وبالتالي يسدل الظلام أستاره، و أول من ينسحب سيكون هو جادين الحفيد ومنصورة الحفيدة ذات نفسيهما!سيسيران متعانقين جادين طاعن في السن يتهادى نحيلا متعب النظرات، ومنصورة لا تزال كفتاة رشيقة القوام لم تهدها السنون, لكن فارقتها رائحة السعدة والريحان فلم تعد ترتدي إكليلها البري!
وتشيعهما نظرات العجائز, اللائي لم يعدن بائرات بل جدات لأحفاد كثر يعمرون البلاد الكبيرة.. لكنهن لا زلن يرين إكليل منصورة.. كأنه الأمس القريب! وعندما يخطر على بالهن موت جانو الكبير محترقا يشهقن كأن شهيقهن زفرات الموت! ثم يقلن خلال زفراتهن الحارة:
"كانت منصورة قديسة.. كما كان جانو.. واحسرتي!"
ذات لحظة غارقة في تهاويم الزمن سرقت منصورة جادين!.سرقت قلمه العتيق الذي أهداه إليه الخزين, و الذي كان قد ورثه عن أسلافه, الذين اشتروه من أحد حراس منزل جادين الأكبر قبل آلاف السنوات!كان قلما من شجرقنا وديان دار الريح, الذي تستوطن تحته وفي لبابه حبيبات الذهب.. كل ما يميزه أنه عتيق وعزيز على قلب جادين, فهو القلم نفسه الذي خط به كل جادين من أسلافه, أحلامهم وتهاويمهم عن البلاد الكبيرة وفيها!
فعلت منصورة ما فعلت, لأنها كانت ترغب في الاحتفاظ بروح جادين مقيمة معها طوال الوقت.. فمنصورة كانت كتومة تظن أنها تعلم كل شيء.. وفي الحقيقة لم تكن تعلم أن البشر جميعا وجادين نفسه إنما هم أقبية معتمة.. العبور من ثقوبها بقدر ما هو محفوف بالمخاطر بقدر ما هو مليء بالأسرار والمخاوف والهواجس والظنون!
Vi
كانت أم منصورة الأربعينية الناحلة. نادرا ما تضحك. ولم تكن تبكي أبدا. يبدو أن كل ما هو ضروري للبعث على الضحك والدموع قد انتهى بالنسبة لها. وعندما كانت تضحك. تأتي البسمة غامضة مبهمة, وكأن قواها لم تعد كافية لذلك.
كانت ومنصورة تعيشان بمفردهما. دون رجال في حياتهن, في قطية صغيرة, مسيجة بالطرور على مبعدة من "كرنك" الخزينفي طرف فناءالبلدة القديمة. ماتت أمها العجوز منذ زمن بعيد, دون أن تخبرها بأصلها وفصلها, بعد أن زوجتها لأول طارق على بابها, الذي لحق هو الآخر بأمها بعد أيام قلائل من زواجه منها, تاركا منصورة تنمو في أحشائها.. وهكذا وجدت منصورة وأمها نفسيهما , تعشان بمفردهما كأنهما امتداد لبعضيهما, لا تأبهان بحسب أو نسب, فقد عودتهما الحياة الحرمان من كل عزيز لديهما!
لكن مع ذلك كانت أم منصورة أشد ما تخشاه, أن تفارق الحياة دون أن تترك لابنتها سندا, لذا وفي تلك الصبيحة البعيدة, عندما همس الخزين في أذنها, بأن جادين أفصح عن رغبته في الاقتران بابنتها, لم تتمكن من إخفاء فرحتها, فملأت فضاءات البلدة القديمة بالزغاريد!
كان جادين قد تقدم لخطبتها وهو يعرف خاتمته جيدا,ورغم أنه لم يخبرهما إلا أنهما كانتا تعرفان..لم يكن جزعا ولا منصورة كذلك, لكن كان الخزين بين آن وآخر تتغشاه غيمات من أسى شفيف, تمطر على الراكوبة أمام كرنكه الذي يبتل ترابه بالدموع!
فيشعر بأنه ليس كما ظل يظن في نفسه:يمتلك زمام الأمور.. كان مجرد ترقب انتقال صانع الفخار إلى عالم آخر غير هذا العالم, يفجر في نفسه كل مكامن ضعفه. لذا كان عندما يخرج إلى مريديه أثناء هذا الترقب المميت, كان يتعمد أن يحكي لهم حكايا طويلة لا أول لها ولا آخر, عن الموت والحياة والعالم الآخر, الخالي من الهواجس والظنون!
بل أخذ يتعمد لدى الجلوس إلى حواريه, أن يكون عراقيه وسرواله الطويل نظيفاعلى غير عادته, فكانوا يشعرون بأن ثمة شيء فيه متغير على غير العادة, لكن لم يجرؤ أحدهم على النبس ببنت شفة, إلى أن دهموه بالخبر الذي ظل يترقبه لوقت طويل:
."أحرق العسس صانع الفخار في فناء الكنيسة"
حاول إضفاء شيء من السكينة على روحه. حاول وقف التآكل الذي كان خبر الموت يشعله ليستشرى في جسمه المهدود, كالطوابي العتيقة على ضفتي النهر! لحظتها بدا لهم وجهه خاليا من تلك التعابير التي ألفوها فيه. كانت عيناه مثبتتين كجمرتين منطفئتين في رمادهما, بدا لهم كمن يحمل أثقالا يئن تحت وطأتها. وكانت كل حكاياته عن الموت لحظتها تطوف فوق رؤوسهم, التي بلبلتها الصدمة. لكن دون ذلك الصوت العميق الريان بالحنين والذكريات.
"كان صانع الفخار الأكبر يسبق عصره بمئات السنوات, وقد ورث عنه جادين هذه الموهبة!"..
فهو من اخترع لغة التشفير ورموز تقنيات فك الشفرة, ورسم تصاميم أولية للأجهزة الداخلية للجسم البشري, أظهرت الخواص التي يتحدث عنها علماء هذا الزمان؟!.
حكاية صانع الفخار إذن, سيطرت على فضاءات وعوالم "جادين جانو", وشكلت حياته على النحو الذي قاد لأن يموت محترقا, في قطية نائية عند أطراف إحدى قرى دار الريح كحفيده جادين!
ولد صانع الفخار الحفيد في السنة ذاتها التي فاض فيها نيل دار صباح, وهطلت الأمطار الغزيرة. فتقطعت بالناس السبل, وتهدمت بيوتهم. وانتشرت كل أنواع الأوبئة والأمراض المجهولة, التي لم تكن تلبث أن تصيب أحدهم حتى يفارق الحياة!
مثل كل أقرانه من أبناء البلاد الكبيرة, مضى في طفولته إلى خلوة الخزين, ينهل على يديه علوم الأولين والآخرين.. وهكذا تحددت هوية صانع الفخار في مجتمعه المحلي, حيث تعلم لغته المحلية. إلى جانب اللغة العامة السائدة في البلاد الكبيرة! تعليمه في الخلوة على يد الخزين, فتح عقله على عوالم واسعة خارج حدود هذا المجتمع المحلي المحدود الذي نشأ فيه.
كان عقله وقادا, فيوما بعد يوم مع تنامي معارفه, يشتعل داخله صراع خفي, لا يمكن تفاديه بين عالمه المحلي والمعارف التي تمنحه لها علاقته بالخزين,وما فتحته من آفاق لا حدود. لها فكان يسرح بخياله بعيدا بعيدا عن حدود دار الريح ودار صباح والصعيد والسافل.
الفترة التي تلت مقتل صانع الفخار الحفيد, شهدت الكثير من المآسي, مثل تنامي الاحتراب القبلي وكوارث الطبيعة, والفقر المدقع الذي شمل كل أنحاء البلاد الكبيرة, بعد أن هرب الحاكم العام وبطانته كل ثروات البلاد الكبيرة, وعاثوا خرابا ودمارا!
كان ظل السلطة قد اختفى عن بنادر وحواضر وأطراف البلاد الكبيرة, و تصاعدت أعمال حرق القرى والسلب والنهب, وأصبح الأهالي البسطاء يقتلون بعضهم بعضا دون أسباب وجيهة.وكان الجميع يعلمون أن سبب هذه الفوضى العارمة, التي تضرب بأطنابها في كل شيء, هو الحاكم العام نفسه وبطانته وعسسه وجنده, فقد كانوا ضالعين من قمة رؤوسهم إلى أخامص أقدامهم, في كل ما حل ويحل بالبلاد الكبيرة, بعد أن أشعلوا فيها الفتن, وزرعوها بالعداوات والغباين والإحن!
وهكذا تأجج الصراع بموالاة الحاكم العام, لأطراف ضد أخرى. حتى بلغ انفراط عقد السلام مبلغا لم تشهده البلاد الكبيرة, طوال عصورها وتاريخها الغابر.وهكذا شهدت البلاد الكبيرة الإيذان بميلاد عهد جديد من الدم والمآسي والدموع, تمخض عن الانفصال التام للصعيد,الذي آثر الابتعاد عن جغرافيا البلاد الكبيرة الموحدة, بعد أن أعياه إيجاد مسوغات للبقاء مع هؤلاء القوم, المغضوب عليهم والضالين!
وهكذا بدأت تنتشر الحركات المسلحة الهادفة للقضاء على الاستعمار المحلي, الذي عنت به القضاء على سلطة الطوائف والحاكم العام وحزبه الوطني.
إثر ذلك تحركت قوات الحاكم العام بعدتها وعتادها, بعد أن سلحت أطرافا ضد أخرى, وأطلقت العنان لمليشياتها بالعيث فسادا في دار الريح ونهبها, وقتل وترويع الآمنين من أهلها الأبرياء, الذين دفعت بهم للسير أياما ولياليَ طويلة, عبر الحدود في رحلة تيه هي الأبشع عبر تاريخ البلاد الكبيرة!
في تاريخ البلاد الكبيرة القديم والحديث هناك الكثير من حالات الجنجويد, استخدمتهم السلطات الحاكمة في جيوشها النظامية, وكقوات صديقة. للحرب عنها بالوكالة, مجندة إياهم من شتى البقاع. فالجنجويد نجدهم في جيش إسماعيل باشا الغازي عام 1821, وفي صفوف الجيش الإنجليزي المصري في حربه ضد القوات المهدوية, وليس أدل على ذلك من صور مقتل الخليفة ود تورشين في أم دبيكرات, وهي مصحوبة بصور لجنود "سود البشرة".
ونجد الجنجويد أيضا ضمن القوات الإنجليزية الغازية لدار الريح عام 1916 وفي صور مقتل سلطانها بعد عام. وذات القوات كانت يوم مقتل السحيني عام 1921 وحديثا نجد الجنجويد ضمن مليشيات الحاكم العام, التي جندتها حكومات الجماعات والطوائف من قبل, للحرب عنها بالوكالة في الصعيد ودار الريح.
وجنجويد دار الريح الآن بهذا المعنى, هم امتداد لذلك الإرث غير الناصع,للنظم التي تعاقبت على حكم البلاد الكبيرة, حينما تلجأ السلطة في لحظات ضعفها لخلق كيانات موازية, لجيشها النظامي. للحرب عنها بالوكالة. إذن استخدم الحاكم العام في حربه المقدسة الجنجويد,ضد أهالي دار الريح البسطاء!حتى تلك اللحظة الغادرة إثر غارة مشتركة للجنجويد وجيش الحاكم العام. واعتقال جادين جانو,ذات ليلة غاب فيها القمر واشتد عواء الريح ذارا رمال الوديان في عيون البلاد الكبيرة, وتكبيله بالأغلال تمهيدا لترحيله إلى البلدة القديمة لحرقه في فناء الكنيسة العتيقة!
وهكذا بقتل جادين جانو حرقا, اختبأت الأسرار داخل شفرات رموزها, كخلفية مأساوية لأسئلة الذات والهوية في البلاد الكبيرة!..
لكن مع ذلك.. هنا وهناك كان شبح صانع الفخار, يظهر للأطفال الرضع وهم يمصون حلمات أثداء أمهاتهم, فيبتسمون في دعة وحبور, والحليب يتسايل من بين شفاههم الرقيقة.
ظل جادين جانو طيلة حياة معلمه الخزين ود طبلة- ينصت باهتمام لكل حكاياته عن "صانع الفخارالأكبر" الذي ولد في اللحظة ذاتها,التي بدأت فيها الممالك المسيحية, تتكون على أنقاض العالم القديم للبلاد الكبيرة, بوصول أول بعثة أُرسلت من القسطنطينية إلى بلاد النوبة, برئاسة قس يُدعي "جوليان" عام 543م، بمساندة الإمبراطورة "ثيودورا", فمكث " جوليان ", ونجح في نشر المسيحية بين النوبيين, والتي كانت أساسا قد أوجدت لنفسها قاعدة في البلدة القديمة قبل عدة قرون. ثم خلف "جوليان" "لونجينس" في عام 569م، والذي قضى فترة سبعة سنوات, وهو يعمل بين النوباطيين, ثم سافر إلى الصعيد عام 580م.
وقتها كانت مملكتا "النوباطيين" و"علوة" تؤمنان بمذهب اليعاقبة، بينما كان أهل "المغرة" يدينون بالمذهب الملكانيّ. وعندما اتحدت مملكتا النوباطيين والمغرة فيما بين عامي 650- 710م وصارتا مملكة واحدة, مكًن اتحادهما من قيام مقاومة قوية ضد غارات العرب من ناحية, وإنهاء الصراع السياسي الديني والطائفي من ناحية أُخري, مما ساعد على التطور الثقافي.
إذن كان ميلاد من سيعرف ب"صانع الفخار" في كل مرة يولد فيها,تكون هذه المرة بمثابة لحظة فارقة من منعطفات تاريخ سهل البلاد الكبيرة,بما تحمله روحه من روح ذلك العصر, بلحظاته المتحفزة بالعبقرية والجنون..
لحظات تمثل عالما بكامله, بقدر ما انطوى على الأسرار الباطنية والسحر والدجل والشعوذة, وجرائم واحتيالات السياسيين الأفاقين, وأرباب السوابق, حفل بفنون المعمار وهندسة الزراعة, ونمو الثروة الحيوانية والغابية.. و.. ويقال أن صانع الفخار الأكبر هو من أعطى طريق الملح ودرب الأربعين اسميهما؟!
فدرب الأربعين الذي يبدأ من الفاشر, على تخوم الصحراء الكبرى في دار الريح, وينتهي عند إمبابة في صحراء الجيزة, في الجوار أسفل النهر، توضح خرائط صانع الفخار, العديد من المواقع على امتداده, خصوصا أن للطريق نفسه متدادا آخرا, يبدأ من الفاشر, ويتوغل غربا ليصل دار الريح, بممالك الجوار القديمة, حيث منبع الريح عند تخوم الأطلسي.
إذن كان الطريق "درب الأربعين" يتكئ على صحرائه,بين عالمين يقفان عند شفاه الشمس, وهي تبتسم من وراء البحر الملون, وهي تنهي ابتسامتها عند الأطلسي وتغيب.
في تسفاره عبر هذا الطريق من الفاشر إلى أمبابة, حسب الأيام والليالي فوجدها أربعين يوما وليلة, فأطلق عليه اسم "درب الأربعين", ومنذها سار بصيت الطريق الركبان والحداة, حتى تناهى عبر التاريخ إلى جادين جانو, الآن.. وهو يكابد ما يكابد, من أحلام.
كان تاريخ "درب الأربعين" إذن - على حسب خرائط ومخطوطات صانع الفخار, التي حصل جادين جانو على بعضها -بطرق غاية في السرية والتكتم- منذ منتصف القرن الأول قبل الميلاد. فرضته ضرورات فك العزلة, والتواصل بين شعوب سهل البلاد الكبيرة والجوار.
أشار صانع الفخار في مخطوطاته إلى طرق أخرى, ظلت تربط شعوب سهل البلاد الكبيرة الواسع, بالعالم. وهي الطريق الذي يربط بين دار الريح والممالك المنتشرة, في حوض تشاد ويمر بكبكابية, ومنها الى كردفان وسنار وشندي والبحر الملون.
بعد مئات السنوات سيصبح هذا الطريق, هو الشريان الحيوي الذي يربط دار الريح كلها,بمنبع الريح على تخوم الأطلسي, كما يربطها بالأراضي المقدسة خلف البحر الملون في دار صباح.
فعبرهذا الطريق يمضي الحجيج من "كانم وبرنو" من ممالك دار الريح العريقة,في طريقهم الى الحجاز. حجيج كثيرون تتقطع ببعضهم السبل بين الأهل والأوطان, وبعضهم يطيب له المقام اختيارا, وآخرون يتم ترغيبهم من سلاطين دار الريح الأقوياء, لتعليم الناس, فيقيمون ويصبحون فيما بعد أحد المكونات الأساسية لشعوب سهل البلاد الكبيرة الواسع.
ثمة طريق آخر يربط دار الريح بطرابلس وتونس, يوليه صانع الفخار أهمية خاصة, لا تقل عن أهمية درب الأربعين. تعود أهميته للاهتمام المتزايد لدى سلاطين دار الريح الأقوياء, بالحصول على الأسلحة من شمال أفريقيا, لتأمين مملكتهم, التي برزت على نحو مباغت من أعماق "جبل مرة",لتمثل منارة تلقي بضؤها على دار صباح ودار الريح الكبيرة حتى تخوم الأطلسي.
وهو أيضا لا يقل أهمية في مخطوطات صانع الفخار, عن الطريق الذي يربط فاشر السلطان بأسيوط في منحدر النهر "درب الأربعين".
كانت كل هذه الطرق, تحمل في داخلها عوالم صغيرة متحركة, تتمثل في مجتمع القوافل, المنظم تنظيما دقيقا, لا يخلو في إدارته من تراتبيه, تعني بكل شيء, حتى جوانب الأمن تجاه هجمات قطاع الطرق, ولصوص الصحراء والجنجويد.
حركة مجتمعات القوافل وأنشطتها لا تهدأ, منذ نقطة البداية حتى نقطة النهاية.
بعد مئات السنوات في محطات هذا الدرب, عثر الكشاف "جاك رينولد" على مخطوطات مهمة لصانع الفخار. أدى فك شفرات رموزها, لاكتشاف أن "وادي هور" في دار الريح هو نهر قديم بطول 1000 كلم ينبع من هضبة جبل مرة, ويلاقي النيل بالقرب من "دنقلا العجوز".وأنه كان يستخدم أيضا (نهر هور) لربط دار الريح بدنقلا العجوز.
اهتمام سلاطين دار الريح الأقوياء المتعاظم بكل هذه الطرق, وخاصة درب الأربعين وطريق الملح, ترتب عليه التجهيزات الكبيرة التي تجري على طول هذه الطرق, من حفر الآبار وصيانتها, وإقامة الحبوس لتأديب قطاع الطرق, وإقامة الربط لعابري السبيل والحجاج فيما بعد.
وربما السبب الأساسي لهذا الإهتمام, هو أن السلاطين وجيوشهم, كانوا هم الممولين الأساسيين للقوافل, وكما أن الطريق "درب الأربعين"ارتبط في وجداناتهم بأحداث دينية هامة عبر السنوات, آخرها تلك الكساوي التي كان يبعثها أولئك السلاطين الى خدام الحرمين الشريفين وأهل الحجاز الفقراء والمعدمين!.
وباستثناء المعلومات التي أوردها صانع الفخار, لم يهتم أحد عبر العصور بإعطاء أي نوع من المعلومات, التي تميط اللثام عن هذه الطرق, سوى ما تم تناقله شفاهيا وغذاه الخيال الشعبي.
Vii
خدم صانع الفخار كمهندس للقصر الملكي في علوة, وكمهندس زراعي في المغرة, وكمهندس طرق في سوبا, وتنقل في أرجاء البلاد الكبيرة, متتبعا صوى الساري وعلامات الطريق, التي تفضي بطريق الملح إلى تخوم ممالك الساحل. أو تقود درب الأربعين عبر منعرجات اللوى إلى منحدر النهر.
وبحسب "الخزين طبلة" أن صانع الفخار ولد في "جبال كتري" في قلب البلاد الكبيرة, وتعلم على يد "الفقرا الرحل" وعمل في طفولته مزارعا بالأجرة في "حلالات وقرى دار الريح", وعندما اشتد عوده ارتحل إلى دار صباح. فكان له ما كان في قصور الممالك النوبية.
كتاباته ومخطوطاته كتبت بلغة الفور والنوبية القديمة,الممزوج ين في لغات الصعيد ودار صباح, ما جعل هذا المزيج اللغوي المحير من الرموز, عصيا على البوح بكل مكنونات, ما يريد صانع الفخار أن يقول؟!
بانتقاله من دار الريح, التي تعتمد في حياتها, على مياه جوف الأرض و المطر, إلى دار صباح التي يشكل النيل شريانها.. وأمام رهبة هذا النيل, ابتدع صانع الفخار, طرق الري الفيضي والحوضي.
"كان صانع الفخار يمتاز بخيال واسع وأصابع ماهرة".
عندما شعر من حوله في القصور,بتنامي نفوذه, أخذوا يدبرون المكائد للقضاء عليه!
فوقتها كانت بطانة الحاكم العام قد فرغت لتوها من التخطيط لفرض سلطتها وتكريسها لأطول وقت ممكن. باستخدام الأفكار والأهداف السياسية النابعة من عقائد الناس, وتوظيفها لخدمة الحاكم العام. فقد كانت هذه البطانة تعتقد أن عقائد الأهالي ليست مجرد عقائد فحسب, إذ هي أيضا نظام سياسي واجتماعي وقانوني واقتصادي, يصلح لصياغة البلاد الكبيرة كدولة إلهية! تستمد حياتها وسلطانها على الناس مباشرةمن الإله الذي يحكم العالم!
وكان أن حدث أن قام بعض العسس المتطرفين, بمحاولة قتل أحد زعماء الجوار, وحرق مركزا تجاريا ضخما عند تخوم الأطلسي الرهيب, منذها وقد توجهت الأنظار والاهتمامات إلى ميليشيات الحاكم العام وحزبه الوطني, لدراسة أفكاره وتحديد مدى خطورتها, على أمن واستقرار البلاد الكبيرة والجنس البشري بعامة.
وهكذا أخذ العالم يعقد المؤتمرات تلو المؤتمرات, للوصول إلى نتائج بهذا الشأن.
كان صانع الفخار الحفيد يرى أنه لايوجد فرق بين أفكار هذا الحزب وعقائد الأهالي, فعقائدهم هي نفسها ما عبرت عنه بطانة الحاكم العام في حزبها, وهكذا لم تعد المشكلة في الأفكار التي يحملها حزب الحاكم العام بحد ذاتها بل في مصدرها وطبيعتها, التي تهدد حياة الناس! إذ لم يكن صانع الفخار يرى فرقا بين هذه العقائد وتجلياتها ومظاهرها وممارساتها العملية في خطابات الحاكم العام. لذا لم يكن يرى أن من الخطل الفصل بين أفكار هذا الحزب والعقائد التي يؤمن بها الناس! كطريقة وأسلوب للحياة محتشد بالنواهي والأوامر.
كان صانع الفخار يدرك أن هذه العقائد تخرج عن حدود خصوصيتها لدى تأويل حزب الحاكم العام لها, بما يخدم أغراض السلطة وأهدافها,ويؤمن لها وجودا شرعيا هي بحاجة إليه. ولذلك كان يرى الأمور بطريقة مختلفة, إذ يعتقد أن إيمان البعض أو إلحادهم هو شيء يخصهم وحدهم وفقا لقناعاتهم الفردية. وذلك أن القناعات لا يمكن حسمها بقرارات السلطة. وهكذا طور مفهوما للحرية والاختيار شاع كثيرا في أنحاء البلاد الكبيرة, وعجل بتآمر بطانة الحاكم العام عليه!
وكان صانع الفخار عندما ينظر لكل هذه الطوائف التي أنشأتها بطانة الحاكم العام,يدرك أن البلاد الكبيرة كوطن تمضي إلى حتفها وتحل الطائفة محل هذا الوطن, الذي هي نقيضه! كانت الطائفية بمرور الوقت قد سادت, وتوارى سهل البلاد الكبيرة– الوطن..وتفشى القمع والفقر في كل تفاصيل الحياة, منذ أن تلاشت الفروقات بين عقيدة الناس وممارسات الحاكم العام.. لم تعد البلاد الكبيرة "كوطن" تحتمل هيمنة الطوائف, التي تنذر بتهديد وتبديد كل ما هو جميل.
في قيلولاته المتباعدة, كان صانع الفخار يتكئ على جذع النيمة العجوز, على مشارف البلدة المترعة بالأسى والأحزان.. يلقي برأسه إلى الخلف, ويغمض عينيه. فيتداعى إلى فضاء ذاكرته صوت الخزين يحدثه عن الطائفية واستعبادها للناس, وانتزاعها لأحلامهم من بين تلافيف أشواقهم وتطلعاتهم, لتشيد امتيازاتها الخاصة. وسلطتها وسلطانها عليهم! فالطائفية كحزب الحاكم العام, لا تأبه لخير المجتمع ورخائه, بل تتعيش من تخلف الناس وجهلهم. ولتكريس ذلك تتحالف مع كل ما من شأنه القضاء على معارضيها. الذين لا تتورع عن قتلهم معنويا وإهدار دمهم بتكفيرهم وتنفيذ الحدود فيهم.. إرهابهم ومحاربة كل ما يمكن أن يجود به العقل البشري لتنمية حياتهم! إذ ترى أن ما تطرحه مقدسا, يستمد نفوذه من قدسية العقائد, وأي اختلاف معه هو اختلاف مع المقدس نفسه! وهو ما سيهدد البلاد الكبيرة بالزوال, إذ يعصف بالمجتمع, لأنه خارج وجدان الأمة!
كان الخزين يرى أن التشريع لحياة الناس, يجب أن يكون متعدد المصادر. فحياة الناس وميولهم أوسع من أن يتم تحديدها بمصدر وحيد, يتقاصر عن شمول ما بلغه العقل البشري وحياة الأهالي من تطور!
إذن تمكنت الطائفية وحزب الحاكم العام أخيرا من تحويل إنسان البلاد الكبيرة, إلى حطام إنسان فقير معدم, وضعيف تتناهشه المجاعات وينهش بعضه البعض, فكان صانع الفخار يفكر في السبيل لتحرير الناس والبلاد الكبيرة, باسترداد روحها السليبة بسبب الاستخدام السلبي لوظيفة الدولة ومؤسساتها من قبل الذين يدعون امتلاك الحقيقة المطلقة,واحتكار المعرفة بعقائد الناس.وهم في الواقع حراس للنوايا وفقهاء للظلام! الذي يسيطرون به على العقول والحياة. فيحققون أغراضهم الدنيوية, التي تتناقض مع القيم المعلنة للعقائد.وهكذا يتم تعميم أنماط الاستغلال والاستعباد والقهر الاجتماعي كواقع لايمكن تغييره.
لذا كان صانع الفخار منشغل البال دائما, بإيجاد السبيل للارتقاء بمفهوم للقانون, ينظم حياة الناس دون أن يهيمن عليهم.. قانون يغذي التسامح المفقود ويعيد البلاد الكبيرة إلى مسارها في التاريخ.. كان يحلم ببلاد تخلو من الدم والتطرف والإنتقام.. بلاد تتقلص فيها الأنشطة الهدامة للطوائف والجماعات, و يحمي القانون شعوبها بشكل متساو.. حيث لا توتر أو اقتتال.
إذن بما تنطوي عليه منحوتاته ومخطوتاته من روح ثورية, ألهمت الحركات المسلحة في أطراف البلاد الكبيرة, كانت أفكار صانع الفخار تخيف كل الذين ارتبطوا بحزب الحاكم العام وطوائفه.فخشوا من النتائج التي تختبئ خلفها, وهي النتائج نفسها التي حفلت بها معتقداته, حول أسئلة ذات وهوية البلاد الكبيرة. فصانع الفخار كان يؤمن, بأن العقل هو الذي سيؤهلنا يوماً ما, لمعرفة الإله المهيمن على كنائس الممالك النوبية, وأي إله آخر تقترحه الديانات السابقة أو اللاحقة.
هذا الاعتداد بالعقل, دفع رجال الدين إلى مطاردته, وتدمير ما طالته أيديهم من أعماله, بغرض أن يذكر التاريخ أنهم فعلوا كذا وكذا فيشتهرون! لكن التاريخ خيب ظنهم, ولم يذكر اسم أي واحد منهم! فظلت هذه الحقبة بحد ذاتها لغزا محيرا؟!.
فعندما توفيت الملكة النوبية (الكنداكة)أصدر كبير وزرائها أمراً بمسح اسم صانع الفخار, من كل نقوش الكنائس النوبية, وتدمير معمل صانع الفخار في "سوبا" تدميرا كاملا. كما حرمت الكنيسة النوبية صانع الفخار نفسه "حرمانا كنسيا" بتهمة الهرطقة!
وهكذا عاش صانع الفخار أيامه الأخيرة مطاردا, إلى أن تم إحراقه ذات صيف قائظ, في ساحة الكنيسة الكبيرة عند ملتقى النيلين؟.. فمات وحيدا حزينا أسيانا وآسيا دون خلف أو سلف؟!
يتبع