قياس الشبه أو قياس أكثر الأشباه, وبعضهم فرق بينهما, ووجدت كثيرًا من أئمة الأصوليين لا يفرقون بينهما
وَهُوَ:
أَنْ يَتَرَدَّدَ فَرْعٌ بَيْنَ أَصْلَيْنِ مُخْتَلِفَيِ الْحُكْمِ, وَفِيهِ شَبَهٌ بِكُلٍّ مِنْهُمَا, فَيُلْحَقُ بِأَكثَرِهِمَا شَبَهًا بِهِ ([1]).
وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يَتَرَدَّدَ الْفَرْعُ بَيْنَ أَصْلَيْنِ يُشْبِهُ أَحَدَهُمَا فِي ثَلَاثَةِ أَوْصَافٍ وَيُشْبِهُ الْآخَرَ فِي وَصْفَيْنِ, فَيُرَدُّ إِلَى أَشْبَهِ الْأَصْلَيْنِ بِهِ(
[2]).
مِثَالُهُ:
دِيَةُ الْعَبْدِ، فَهَذَا فَرْعٌ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَصْلَيْنِ مُخْتَلِفَيِ الْحُكْمِ:
الْأَصْلُ الْأَوَّلُ: دِيَةُ الْحُرِّ.
الْأَصْلُ الثَّانِي: الْقِيْمَةُ.
فَالْعَبدُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ هَذَينِ الْأصْلَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْحُرَّ فِي كَوْنِهِ إِنْسَانًا عَاقِلًا مُكَلَّفًا، يَنْكِحُ وَيُطَلِّقُ.
وَيُشْبِهُ الْمَالَ فِي كَوْنِهِ يُبَاعُ وَيُشْتَرَى، وَيُرْهَنُ وَيُوهَبُ، وَيُورَثُ.
فَأَلْحَقَهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءُ بِأَكْثَرِهِمَا شَبَهًا وَهُوَ الْمَالُ: فَإِذَا قُتِلَ الْعَبْدُ فَعَلَى الْقَاتِلِ دَفُعُ ثَمَنِهِ لِسَيِّدِهِ([3]).
قال نَجْمُ الدِّينِ الطُّوفِيُّ رحمه الله: ((وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ: تَرَدُّدُ الْعَبْدِ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْبَهِيمَةِ، فِي التَّمْلِيكِ، فَمَنْ قَالَ: يَمْلِكُ بِالتَّمْلِيكِ; قَالَ: هُوَ إِنْسَانٌ يُثَابُ وَيُعَاقَبُ وَيَنْكِحُ وَيُطَلِّقُ، وَيُكَلَّفُ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ، وَيَفْهَمُ وَيَعْقِلُ، وَهُوَ ذُو نَفْسٍ نَاطِقَةٍ، فَأَشْبَهَ الْحُرَّ.
وَمَنْ قَالَ: لَا يَمْلِكُ ; قَالَ: هُوَ حَيَوَانٌ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَرَهْنُهُ وَهِبَتُهُ وَإِجَارَتُهُ وَإِرْثُهُ؛ أَشْبَهَ الدَّابَّةَ.
وَعَلَى هَذَا خَرَجَ الْخِلَافُ فِي ضَمَانِهِ إِذَا تَلِفَ بِقِيمَتِهِ، وَإِنْ جَاوَزَتْ دِيَةَ الْحُرِّ إِلْحَاقًا لَهُ بِالْبَهِيمَةِ وَالْمَتَاعِ فِي ذَلِكَ، وَبِمَا دُونَ دِيَةِ الْحُرِّ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ تَشْبِيهًا لَهُ بِهِ، وَتَقَاعُدًا بِهِ عَنْ دَرَجَةِ الْحُرِّ.
وَكَذَا الْمَذْيُ تَرَدَّدَ بَيْنَ الْبَوْلِ وَالْمَنِيِّ، فَمَنْ حَكَمَ بِنَجَاسَتِهِ، قَالَ: هُوَ خَارِجٌ مِنَ الْفَرْجِ لَا يُخْلَقُ مِنْهُ الْوَلَدُ، وَلَا يَجِبُ بِهِ الْغُسْلُ، أَشْبَهَ الْبَوْلَ، وَمَنْ حَكَمَ بِطَهَارَتِهِ، قَالَ: هُوَ خَارِجٌ تُحَلِّلُهُ الشَّهْوَةُ، وَيَخْرُجُ أَمَامَهَا، فَأَشْبَهَ الْمَنِيَّ))([4]).
وَقِيَاسُ الشَّبَهِ مُخْتَلَفٌ فِي حُجِّيَتِهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ:
قال أبو المظفر السمعاني رحمه الله: ((وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ قِيَاسَ الشَّبَهِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ, وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَنِ ادَّعَى التَّحْقِيقَ مِنْهُمْ, وَصَارَ إِلَيْهِ الْقَاضِي أَبُو زَيْدٍ وَمَنْ تَبِعَهُ, وَذَهَبَ إِلَى هَذَا الْقَوْلَ أَيْضًا: الْقَاضِي أَبُو َبْكرٍ, وَالْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ ([5]))).
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيُّ رحمه الله: ((وَلَقَدْ قَالَ مَالِكٌ رحمه الله: "النِّكَاحُ أَشْبَهُ شَيْءٍ بِالْبُيُوعِ".
وَلَعَلَّ مَالِكًا رَحمَه الله عَنَى بِالشَّبَهِ, وَعَلَيْهِ أَيْضًا يَدُلُّ كَثِيرٌ مِنْ مَسَائِلِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فَلْيُعَوَّلُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ([6]))).
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله فِي نِسْبَتِهِ إِلَيْهِ([7]).
وَعَنْ أَحْمَدَ فِيهِ رِوَايَتَانِ:
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ رحمه الله:
((وَاخْتُلِفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ رحمه الله فِي قِيَاسِ الشَّبَهِ: فَرَوِيَ: أَنَّهُ صَحِيحٌ.
وَالْأُخْرَى: أَنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ، اخْتَارَهَا الْقَاضِي([8]))).

([1]) «رسالة في أصول الفقه» للعكبري (71), و«شرح الأصول» لابن عثيمين (361).

[2])) «اللمع في أصول الفقه» للشيرازي (101).

[3])) انظر: «رسالة في أصول الفقه» للعكبري (71), و«المنخول» للغزالي (482), و«البحر المحيط» للزركشي (7/ 35), و«مذكرة أصول الفقه» للشنقيطي (316), و«شرح الأصول» لابن عثيمين (361).

[4])) «شرح مختصر الروضة» للطوفي (3/ 425) ط الرسالة.

[5])) « قواطع الأدلة » (2/ 165, 166).

[6])) «المحصول» لابن العربي (133, 134).

[7])) قال أبو المظفر السمعاني الشافعي رحمه الله ((قواطع الأدلة)) (2/ 165, 166): ((اعلم أن ظاهر مذهب الشافعى رحمة الله أنه حجة وقد أشار إلى الاحتجاج به في مواضع من كتبه وأقرب شئ في ذلك قوله: في إيجاب النية في الوضوء كالتيمم, طهارتان فكيف يفترقان, وتابعه أكثر الأصحاب على ذلك غير أبى إسحاق المروزى فإنه روى عنه أنه قال: ليس بحجة.
وقال الشافعى في ((أدب القاضى)): "القياس قياسان:
أحدهما: ما كان في معنى الأصل.
والآخر: أن يشبه الشيء بالشئ من أصل ويشبهه من أصل؛ ثم قال: وموضع الصواب عندنا في ذلك: أن ينظر إن أشبه أحدهما في خصلتين وأشبه الآخر في خصلة ألحقه بالذي أشبه في خصلتين".
قال بعض أصحابنا: إن قوله هذا يدل على أنه حكم بكثرة الأشباه من غير أن يجعلها على الحكم.
وقال بعضهم: إنما حكم بترجيح إحدى العلتين في الفرع بكثرة الشبه)).

[8])) «روضة الناظر وجنة المناظر» (2/ 243).
قال القاضي أبو يعلى رحمه الله: ((العدة)) (4/ 1325- 1327): ((وصورته: أن يتجاذب الحادثةَ أصلان، حاظر ومبيح، ولكل واحد من الأصلين أوصاف خمسة، والحادثة لا تجمع أوصاف واحد منهما، غير أنها بأحد الأصلين أكثر شبهًا، مثل أن كانت بالإباحة أشبه بأربعة أوصاف، وبالحظر بثلاثة أوصاف، ففي هذا روايتان:
إحداهما: ليس هذا بقياس أصلًا، والقياس ما وُجد في الفرع أوصاف الأصل بكمالها، فإذا وجد بعضها في الفرع، لم يكن قياسًا.
نص عليه أحمد رحمه الله في رواية أحمد بن الحسين بن حسان فقال: "القياس أن يقاس الشيء على الشيء, إذا كان مثله في كل أحواله، فأما إذا أشبهه في حال وخالفه في حال، فأردتَ أن تقيس عليه، فهذا خطأ، قد خالفه في بعض أحواله ووافقه في بعض، فإذا كان مثله في كل أحواله فأقبلتَ به وأدبرتَ به، فليس في نفسي منه شيء".
والرواية الثانية: أنه قياس صحيح، وتلحق الحادثة بأكثرهما، ولا يؤخَر حكمها.
وقد نبه أحمد رحمه الله على هذا في رواية حرب في يهودي قذَف يهودية يتلاعنا؟
قال: "ليس لهذا وجه؛ لأنه ليس عدلًا، واللِّعان إنما هو شهادة، وليس بعدل فتجوز شهادته".
كأنه لم ير بينهما اللِّعان.
فقد قاس اللِّعان على الشهادة في امتناعه من الكافر، مع قلة شَبَهِه بالشهادة وكثرة شَبَهِه بالأيمان.
فدلَّ هذا من قوله على جوازه مع كثرة الشَّبه)).
ثم اختار عدم صحته, فقال (4/ 1332): ((وليس بقياس صحيح على إحدى الروايتين؛ لأن معنى الأصل غير موجود بكماله في الفرع؛ فلهذا لم يكن علة)).