عناصر الموضوع:
- تعريفه.
- لماذا الحديث عن التوازن.
- مميزات التوازن.
- أساس وجود التوازن.
- ما يعين على اكتسابه وتحصيله.
تعريفـــه:
التوازن: ليس هو فقط قولَ الصواب ولا فعلَه، ولا هو الاقتصار على الحق وترك الباطل.
التوازن أوسع من ذلك وأسمح:
إنه فقط: عدم التطرف في الصواب والخطأ، إنه عدم الغلو في الخير والشر، إنه عدم الحِـدّية (بلوغ أقصى الحدود) في اليمين أو الشمال.
إنه فقط: القدرة على عدم الانسياق الجارف لضغوط الواقع، والقدرة على مقاومة ردات الفعل لكي لا تكون في ردتها مساوية للفعل الذي تُضاده في القوة والمقدار، والقدرة على ضبط النفس وانفعالاتها بواجبات العقل ومقتضيات الرأي، والقدرة على سقي العقل من ساقية المشاعر، وترطيبه بندى العواطف، لكي لا يجف ويتشقق بدونها، فيكون صاحبه بجفافه العاطفي بلا عواطف.. ولا عقل، فالعقل البشري لا يكتمل بغير مشاعر.
التوازن هو: أن تحرص أن يكون خطؤك غير بعيد عن الصواب، وعصيانك ليس تمردا على الشرع، وأن يكون رأيك سائغا قابلا للاختلاف، وأن يكون حبك ليس شغفا وكرهك ليس تلفا: (أحبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضك يوما ما، وأبغض بغيضك يوما ما، عسى أن يكون حبيبك يوما ما).
ومع التوازن: لا يمكن أن تكون يوما شآميا ويوما يمانيا، ولا يوما متزمتا متشددا ويوما ملحدا لا دينيا، ويوما تكفيريا ويوما تحكم بإيمان اليهود والنصارى، ويوما ثَوْرَجِيًّا تدعو للثورة ويوما ملكيا أكثر من الملك.. حكوميا أكثر من الحكومة.
إذن ما هو التوازن: هو الاعتدال في الصواب والخطأ: في الرأي والمشاعر، في نتاج العقل ومخرجات العاطفة، في نوازع التفس وجواذب الروح.
التوازن يقوم على محاولة إدراك ضعف النفس البشرية، وعلى قصور العقل الإنساني. فلا يُطمعك التوازنُ أن تكون مصيبا في كل شيء، وإن سعيت في كل شيء للصواب، فسعيك للصواب لا يلزم منه أن تكون قد وصلت إليه.. هذا ما يقوله لك التوازن!
فبالتوازن تخطئ وتصيب، فهو ليس عاصما من الخطأ، لكنه عاصم من تطرفك في الخطأ، ومن الاغترار بالصواب.
التوازن يعتمد على النظر للأطراف كلها، وأن تستحضر المشهد كاملا بتناقضاته، قبل اتخاذك الرأي.
إذن ما هو التوازن؟
هو: حالةٌ (أو مَلَكةٌ) تحمي صاحبها من التطرف في الرأي والفعل، وتقربه من الحق والصواب، فإن لم يصبه، لم يبتعد عنه.
لماذا الحديث عن التوازن:
(1) الإنسان خطّاء، فلا عاصم له من الخطأ (إلا بتأييد رباني خارق للعادة، كما في عصمة الأنبياء)، ولذلك فلا خوف عليه من الوقوع في مطلق الخطأ. ولكن الخوف عليه من الغلو في الخطأ: إكثارا أو فُحشًا. وهذا ما يحميه التوازنُ منه.
وقد قال تعالى في التحذير من الغلو {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ}. فالآية وإن كانت نهيا لأهل الكتاب، فهي نهيٌ لهذه الأمة أيضًا؛ لأنه خطاب الله إليهم في شرعنا؛ ولأننا اُخبرنا بأننا سنتبع سَنن من كان قبلنا (اليهود والنصارى) حَذْوَ القُذّة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلناه! فتكون هذه الآية مع هذا الإخبار بأننا سوف نتبعهم من باب: (إياكِ أعني واسمعي يا جارة)! لأننا سنقع في نحو ذلك الغلو، إن لم نكن قد وقعنا فيه.
(2) أنه أسهل تحصيلا من معرفة الحق بالتعيين ومن فعل الصواب، ولذلك فهو في متناول الجميع، في حالاتهم السوية. ولذلك فسوف يكون فقدانه خسارة كبيرة، بلا عذرٍ يحميك من الندم واللوم.
(3) أن فقدان التوازن خطير على الفرد والمجتمع:
أما الفرد: فيُـفْقِدُه الاستقرار النفسي والأُسَري والوظيفي، فكثيرا ما يؤدي عدم التوازن إلى تقلبات فكرية جذرية ومتطرفة في أفكار وحياة الشخص! وليس من السهل على النفس أن تكون مرة في أقصى التطرف الديني مرة (مثلا)، ثم في أقصى التطرف اللاديني مرة = إن هذا التناقض قد يُفقد المرء ثقته بنفسه، خاصة مع تكرار هذا التنقّل. فإن لم يحدث له هذا التنقل والاختلاف المتناقض، وإن استقر على تطرف واحد: فهذا سيجعله حيًّا في حالة عداء مع من حوله، كارها للمحيطين به، ممن لا يوافقونه رأيه المتطرف.
كما أن عدم التوازن يُفقد المرءَ النظرةَ الشموليةَ العادلةَ، مما يجعله ظالما في تصوراته وأحكامه، فيفسد عليه ظلمُه الواقعَ المحيطَ به والمؤثِّـرَ فيه.
وفقدان النظر الشمولي الذي ينتج عن عدم التوازن يُعسِّر طريق الإبداع في الخير والإصلاح والنفع العام؛ لأنه نظرٌ قاصر ضيق الأُفق!
أما المجتمع الذي يشيع فيه عدم التوازن: فهو مجتمع منقسم، يشيع فيه الاحتقان الفكري، وتنتشر فيه التصنيفات الإقصائية: المذهبية، والعقائدية، والحزبية، ويكون فيه عدمُ التسامح هو الصفة السائدة. حتى في الأسرة الواحدة، فضلا عن الوطن الواحد! فهو نذيرُ شؤمٍ بالتشرذم، وبتفكك المجتمع، وباحتراب فكري، يؤذن باحتراب حقيقي يجزئ المجزَّأ، ويُضعف الأمة، ويُسلط عدوها عليها.
والمجتمع الذي يضعف فيه التوازن الفكري يكون مجتمعا غيرَ حُرّ، فهو أسير صُوَرِ تطرفاته المتعدّدة. والمجتمع الذي يفقد حريته فقدْ فقدَ إنسانيته!
(4) أن فقدان التوازن تَطوّرَ في العالم العربي بعامة، وفي بلادنا على وجه الخصوص، حتى أصبح ظاهرة، بل أصبح يُظن أنه هو الحالة الغالبة! في الأسرة الواحدة، وبين الأخوة الأشقاء، فضلا عن زملاء الدراسة والعمل، فضلا عن أبناء الوطن الواحد! حتى أصبحت لا تلقى إلا محبا غاليا، أو مبغضا غاليا، ولا تكاد ترى من لا يحب ولا يبغض؛ إلا من لا يعرفك، ومن لم يستطع تصنيفك.. ربما؛ لأن عدم القدرة على تصنيفك تكون مرات سببا لاتهامك بالتلوّن والتذبذب والنفاق!!!
مميزات التوازن:
1- أنه يحميك من الغلو.
2- يقربك من الصواب، حتى تواقعه كثيرا.
3- يسهل عليك الرجوع للصواب إذا أخطأته؛ لأنك لست بعيدا عنه.
4- يجعلك منصفا بين طرفي الرأي، ولذلك فهو أولى بالعدل وأقرب للتقوى.
5- لا تندم على خطأٍ، ندمَك في التطرف؛ لأن الندم في الخطأ القريب ليس كالندم على الخطأ البعيد.
6- يُـحصِّنُك من التقلبات الجذرية والأطوار المتباينة والحالات المتناقضة.
7- يسهل عليك فهم الجميع وأن ترى جوانب الخير والصواب عندهم.
8- هو أولى بالانفتاح على المختلِف، لفحص ما لديه من صوابٍ ليؤخذ، وما لديه من خطأ فيُنبذ. وهو أبعد عن الانغلاق: الذي يمنع من التفاعل الإيجابي مع الواقع والحياة والأمم والحضارات.
9- هو ركيزة التسامح والقدرة على التعايش مع المخالفين.
10- هو سبب في عدم إثقال النفس بعداوات تكسر الظهر وتكدر الخاطر.
أساس وجود التوازن:
إن التوازن الفكري ليس مَردُّه إلى العلم فقط، وإن كان عمق العلم وحقيقتُه مما يعين على تحصيل التوازن، لكنه ليس شرطا لتحصيله. فرب جاهلٍ متوازنٌ فكريا، ورب عالم متطرفٌ فكريا. ونحن نشاهد أناسا ليس لديهم ثقافة واسعة ولكنهم متوازنون، وأناسا لديهم ثقافةٌ جِدُّ واسعةٍ وهم في غاية الحِدّيّة والتطرف.
كما أن التوازن الفكري ليس خاصا بالمؤمن، فقد يكون لدى الكافر توازنٌ، فيما فكّر فيه وحرص فيه على معرفة الحق (لا في كل شيء)؛ وإن كان رسوخ الإيمان مما يعين على تحصيل التوازن: بإضاءة الحق الإيماني في نفس المؤمن، وبالتوفيق الرباني الذي يجعله الله تعالى من صنوف ثواب الإيمان {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا}.
إن شرط التوازن الفكري أمران: العقل، والأناة.
وهما الصفتان اللتان ذكرهما النبي صلى الله عليه وسلم في وصف أشج عبد القيس (المنذر بن عائذ)، عندما قال له:«إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة»، والحلم هنا هو العقل، والأناة هي الهدوءُ والتَّرَوِّي وتَرْكُ العجلة.
والمقصود بالعقل: العقل الفطري (الذي خُلقنا عليه)، وهو القدرة الجيدة على التفكير، وهي صفة متوفرة في عامة العقلاء، ولا تنحصر في العباقرة وشديدي الذكاء. لولا أن العقل كثيرا ما يتشوه بأمور تشيع أو يشيع بعضها في مجتمع أكثر من مجتمع آخر، من مثل:
- التعصب للعرق أو الوطن أو الدين أو المذهب أو الطائفة أو الحزب.
- والجمود التقليد.
- واتباع هوى النفس وحظوظها.
- والجبن الفكري (الإمعية)، فيخشى مخالفة أفكار الناس ومواقفهم، فيتبعهم في الخير والشر.
وأما المقصود بالأناة: فهي ترك العجلة، والتروّي، وطول التأمل (كما سبق).
فغالبا ما تكون العجلة في اتخاذ الرأي سببا في تَـبَـنِّي الرأيِ المتطرف! بسبب أن العجلة لا تتيح للعقل استيعاب النظر لأطراف القضية، ولا تسمح له بجمع كل أسباب اكتمال التصور الصحيح عنها.
مُكْسِباتُ التوازن ومُـحَصِّلاتُه (ما يعين على اكتسابه وتحصيله):
(1) التجرد في البحث عن الحق:
ومما يعين على التجرد:
- التفكير الحر، يقول تعالى {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ}، ويقول سبحانه {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِم مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى}.
- والإنصاف من النفس، ويعلمنا الله تعالى الإنصاف من النفس في قوله تعالى {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. فيذكّر الله تعالى المؤمنين أوّلًا بنعمة الانتصار يوم بدر، حتى لا يكون ما أصابهم من البلاء يوم أُحد سببا لكفران النعمة والجزع على القضاء والقدر {قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا}. ثم يذكرهم ثانيًا بواجب إنصاف النفس من النفس أيضًا في هذا المصاب، وأنه كان مصابًا بسبب مخالفتهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بنزول الرماة من جبلهم: {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ}.
- والتواضع في ادعاء رؤية الحق، بالتفريق بين ظنياته ويقينياته، ونظرياته وحقائقه. لقد أصبحنا لا نكاد نسمع إلا يقينيات! ولا نجد إلا الأيمان المغلظة على الآراء! ولا تقف إلا على مواقف الولاء والبراء في ظنيات لا تستحق شيئا من ذلك كله!
- حب الحق وتقديمه على النفس وعلى الناس أجمعين، ليكون الحقُّ في مقاصدِ النفس وتَوَجُّهِها ومُراداتِها هو (العَلمَ الشامخَ الـمُـفَـضَّلَ على الآباء والمشايخ).
ومما يعين على حب الحق هذا الحب الواجب له: أن تكون متيقّنا من أن الحقَّ غلَّاب (لا يغلبه شيء)، هذه هي صفتُه وخاصيتُه الثابتة التي لن تتبدّل ولن تزول، ولو اجتمعت عليه وضدّه كل قوى الخَلق؛ فالحق هو الخالق سبحانه، ولا يغلب الخلقُ خالقَهم!! وقد أقام الحقُّ سبحانه السموات والأرض على الحق، فلن يكون الباطل إلا زاهقا مدموغا في ملكوت الحق!!
فمن تَـخَلّفَ عن صَفِّ الحق، فقد رضي لنفسه أن يكون في صفوف الفارّين المنهزمين؛ فماذا سيستفيد من نصر غير الحق؟!
(2) شمول النظرة: باحتواء النظر على حد السواء للأطراف المتباينة والآراء المتضادة (فضلا عن المختلفة): ومن آلياته الاستماع للأطراف كلها، والقراءة لهم، واستشارتهم = بفهم وتمييز. فعدم الاستماع من الصواد عن التوازن، ولذلك كانت هذه نصيحة فاقدي التوازن: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ}، وهذه هي سنتهم: {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا}.
ومما يعين على شمول النظر: محاولة اتساع النظر لطرفيه المتقابلين، ليدرك محلَّ التوازن فيه، ووسطيةَ الفضيلة بين رَذِيلتَيها.
يقول تعالى في التنبيه على ذلك: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً}، ويقول سبحانه{وَالَّذِ نَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا}.
ومن صور شمول النظرة:
- قوله صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص لما أراد الوصية بماله كله للفقراء: «الثلث والثلث كثير؛ إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أُجرت، حتى ما تجعل في في امرأتك».
فلو لم يرد هذا الحديث وأمثاله من نصوص الوحي الداعية للتوازن في سعة النظرة، وسمع الناس عن رجل أراد الوصية بكل ماله صدقةً للفقراء، فنصحه أحد الناس بعدم فعل ذلك مراعاةً لحق أهله وذريته، لوجدتَ من يصف هذا الناصح بأنه من الصادّين عن فعل الخير! ومن قطاع الطريق عن الخير!!
- ومن صور اتساع النظر قوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنّ َ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا}، وفي السياق نفسه يقول صلى الله عليه وسلم: «لا يَفْرِك مؤمنٌ مؤمنةً: إن كَرِهَ منها خُلُقًا، رَضِيَ منها آخر»، ومعنى لا يفرك: أي لا يُبغض.
- «عن عبد اللّهِ بن عمْرٍو، قال: زوجني أبي امْرأَةً من قُريْشٍ، فلما دخَلَتْ علَىَّ، جعَلْتُ لاَ أنْحَاشُ لها، ممَّا بي منَ الْقُوّةِ على الْعبَادَةِ منَ الصّوْمِ والصَّلاَةِ، فجَاءَ عمْرُو بن الْعاصِ إلى كَنَّتهِ، حتى دخل عليها، فقال لها: كيْفَ وجَدْتِ بعْلَكِ؟ قالت: خيْرَ الرّجَالِ أو كخَيْرِ الْبُعُولةِ من رجُلٍ، لم يُفَتّشْ لنا كنَفاً، ولم يَعْرفْ لنا فرَاشاً.
فأَقْبَلَ علَىَّ فعذمني وعضني بلِسَانِهِ، فقال: أنْكَحْتُكَ امْرأَةً من قُريْشٍ ذاتَ حسَبٍ، فعَضَلْتَهَا.. وفَعَلْتَ.. وفَعَلْتَ؟!!
فانْطلَقَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فشكاني.
فأَرْسَلَ إلِىَّ النبي صلى الله عليه وسلم، فأَتَيْتُهُ، فقال لي: أتَصُومُ النّهَارَ؟ قلت: نعم، قال: وتَقُومُ اللّيْلَ؟ قلت: نعم. قال: لكني أصُومُ وَأُفْطرُ، وأصلي وأَنَامُ، وأَمَسُّ النّسَاءَ، فمَنْ رَغبَ عن سنتي، فلَيْسَ مني.
قال: اقرأ القُرْآنَ في كل شَهرٍ، قلت: إني أجدني أَقوَى من ذلك، قال: فَاقرَأْهُ في كل عَشرَةِ أيَّامٍ، قلت: إني أجدني أَقوَى من ذلك، قال: فَاقرَأْهُ في كل ثلاَثٍ.
ثمَّ قال: صمْ في كل شَهرٍ ثلاَثَةَ أيَّامٍ، قلت: إني أَقوَى من ذلك، قال: فلم يزَلْ يرفعني، حتى قال: صمْ يَوماً وَأَفطِرْ يَوماً، فإنه أفْضَلُ الصِّيامِ، وهو صِيامُ أخي داوُدَ صلى الله عليه وسلم.
ثمَّ قال صلى الله عليه وسلم: فإن لِكلِّ عابِدٍ شِرّةٌ، ولِكُلِّ شِرةٍ فتْرَةٌ، فإما إلى سُنّةٍ، وإما إلى بِدْعةٍ، فمَنْ كانت فتْرَتُهُ إلى سُنّةٍ: فقَدِ اهتدي، ومَنْ كانت فتْرَتُهُ إلى غيْرِ ذلك: فقَدْ هلَكَ.
(قال مجاهد راوي هذا الحديث) فكَانَ عبد اللّهِ بن عمْرٍو حيْثُ ضعُفَ وكَبُرَ يصُومُ الأيَّامَ كذَلِكَ، يصِلُ بعْضَهَا إلى بعْضٍ لِيتَقَوَّى بِذلِكَ، ثمَّ يفْطِرُ بعْدَ تلْكَ الأيَّامِ. وكان يقْرَأُ في كل حزْبِهِ كذَلِكَ، يزِيدُ أحْيَاناً ويَنْقُصُ أحْيَاناً، غير أنه يوفي الْعدَدَ: إما في سبْعٍ، وإما في ثلاَثٍ.
ثمَّ كان يقول بعْدَ ذلك: لأنْ أكُونَ قبِلْتُ رُخْصةَ رسول اللّهِ صلى الله عليه وسلم أحَبُّ الي مِمّا عدَلَ بهِ أو عدَلَ، لكني فارَقْتُهُ على أمْرٍ، أكْرَهُ أنْ أُخالِفَهُ إلى غيْرِهِ».
وفي لفظ آخر من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «لِكُلِّ عَمَلٍ شِرَّةٌ، وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةٌ. فَإِنْ كَانَ صَاحِبُهَا سَادًّا وَقَارِبًا: فَارْجُوهُ، وَإِنْ أُشِيرَ إِلَيْهِ بِالأَصَابِعِ فَلا تَعُدُّوهُ».
ومن الحِكَم التي تدل عليها أصول الشرع القول المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم (مما لم يثبت عنه): «إن هذا الدين متين، فأوغل فيه برفق، ولا تُبغِّض إلى نفسك عبادة الله؛ فإن المنبت لا أرضا قطع، ولا ظهرا أبقى».
- وعن أبي جُحَيفَةَ قال: «آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلْمَانَ وأَبِي الدّرْدَاءِ، فزَارَ سلْمَانُ أبَا الدّرْدَاءِ، فرَأَى أمَّ الدّرْدَاءِ مُتبَذِّلَةً، فقال لها: ما شأْنُكِ؟! قالت: أخُوكَ أبو الدّرْدَاءِ ليس له حاجَةٌ في الدُّنْيا.
فجَاءَ أبو الدّرْدَاءِ، فصَنَعَ سلمانُ له طعَامًا، فقال: كلْ، قال: فإِنِّي صائِمٌ، قال سلمانُ: ما أنا بآكِلٍ حتى تأْكُلَ، قال: فأَكَلَ. فلما كان اللّيْلُ ذهَبَ أبو الدّرْدَاءِ يقُومُ، فقال سلمان: نمْ، فنَامَ، ثمَّ ذهَبَ يقُومُ، فقال: نمْ. فلما كان من آخرِ اللّيْلِ، قال سلْمَانُ: قمْ الآنَ، فصَلَّيَا.
فقال له سلْمَانُ: إنَّ لِربِّكَ علَيْكَ حقًّا، ولِنَفْسِكَ علَيْكَ حقًّا، ولِأَهْلِكَ علَيْكَ حقًّا، فأَعْطِ كلَّ ذي حقٍّ حقَّهُ.
فأَتَى أبو الدرداء النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدَقَ سلْمَانُ».
(3) عدم الانجرار وراء الأحكام النمطية، أو الآراء السابقة ومن الرؤية المصطبغة بلون النظارة السوداء!
(4) الخروج من أسر الضغوط بالشجاعة والتلذذ بالنضال من أجل المبدأ والحق:
- كضغوط الإلف والعادة: من العادات القبلية والشعبية، ومن الإلف العلمي للرأي السائد {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ}.
- وكضغوط المجتمع وسلطة الجمهور.
- وكالضغوط السياسية.
- وكالضغوط المنسوبة للدين، وللمذهب، وللطائفة.
(5) تحكيم العقل وتقديمه على العاطفة: يقول تعالى في هذا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}.
(6) محاسبة النفس دائما، واتهامها في اتباع هواها: فالنفس التي تحاسب نفسها هي نفس المؤمن الحقِّ التي أقسم بها الله تعالى تعظيما لها وتشريفا وتكريما {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ}. والآية من وجه آخر تُظهر جانبًا آخر للتوازن، ألا وهو النظر إلى فضيلة الندم على الذنب والتقصير وإلى عبادة لوم النفس على الأخطاء، ولم تلتفت إلى الوقوع في الذنوب والخطايا، ما دامت مشفوعة بالندم وتأنيب الضمير.
وفي التحذير من اتباع هوى النفس يقول تعالى {فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُوا}، وقال تعالى {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ}.
والله أعلم.