تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: خاطرات في طريق التفقه...!!

  1. Post خاطرات في طريق التفقه...!!

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
    فالحديث عن الفقه وطرائق التفقه متشعب كثير المسالك، وقد تنازعت في تقرير ذلك طوائف شتى، فمن طارق باب التقيد بمذهب إمام حتى إذا ولج داره نذر على نفسه ألا يخرج، ومن هاجر محجة الفقهاء طالبا للدليل خارج أنديتهم، وبين هاتين الطائفتين طرائق، وسأسعى في هذه الكتابة لأقترب من نظرة سواء حول هذه القضية.
    (1)
    إن مطالعة هذا التراث الفقهي الضخم وتأمل مدى تماسكه واكتمال أركانه = ليملي للناظر كيف أن الله تعالى حفظ هذا الدين بأولئك الفقهاء الذي دونوا ذلك التراث، فمذ أصل الفقهاء الأوائل أصول الاستنباط والعلماء يستنطقون نصوص الوحيين لإبراز مقاصدها واستخراج أحكامها، وقد نهض بهذا الفقه كثير من الأئمة ، غير أن الظهور كان لأربعة منهم، أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، ( ووقف التقليد في الأمصار عند هؤلاء الأربعة و درس المقلدون لمن سواهم ) [1] ، وطفق أصحاب كل مذهب يعتنون بمذهب إمامهم تأصيلا وتفريعا واستدلالا، ما سبب ثراء فقهيا يشهد بعلوه القاصي والداني، وليس ذلكم بمقدور كل أحد، ولكنه للخلص من فقهاء المذاهب، وهم وإن لم يبلغ كثير منهم مرتبة الاجتهاد التي نالها أئمتهم لكن ذلك لم يحجزهم عن توليد المسائل وإلحاق المسائل بفقه إمامهم، ويقرب ذلك أن ( الفقيه المستقل بمذهب إمام أقدر على الإلحاق بأصول المذهب الذي حواه من المجتهد في محاولته الإلحاق بأصول الشريعة،فإن الإمام المقلد المقدم بذل كنه مجهوده في الضبط ووضع الكتاب بتبويب الأبواب وتمهيد مسالك القياس والأسباب، والمجتهد الذي يبغي رد الأمر إلى أصل الشرع لا يصادف فيه من التمهيد والتقعيد ما يجده ناقل المذهب في أصل المذهب المهذب المفرع المرتب ) [2] .
    ولما كان الأمر كذلك لم تعسر عليهم المساهمة في تقييد المسائل وتسجيل الأحكام للنوازل.
    وفي سبيل ذلك ما زال أئمة كل مذهب ينصرون قول إمامهم ويقررونه بالأدلة، وربما جنح بعضهم عن القصد فآل إلى التمسك بالضعيف من مآخذ الفقه، سواء كان الضعف في الدليل نفسه أو مدلوله، ولكن الطريقة الغالبة على الفقهاء لم تكن على هذه الشاكلة، فما زال بعضهم يرد على بعض، فإما أن يرجع بعضهم عن قوله أو يقرره باعتدال وتوسط حسب اجتهاده وما ترجح لديه لا لمجرد التصلب على فقه إمامه، وأمارة ذلك تنصله في بعض المسائل إلى مذاهب أخر مما يدل على رحابة في التلقي والنظر.
    (2)
    لم يخل التاريخ بطبيعة الحال ممن تمرد على سبيل الفقهاء إفراطا أو تفريطا، فمنهم من أهدر تلك الجهود المتراكمة، ورأى أن الركون إلى تقييد الفقه من خلال تلك المدارس قعود عن مراتب الكمال، فقرر أن لكل أحد أن يستأنف الفقه ويباشر النظر في الأدلة كما سلك القوم الماضون، ولو أداه ذلك إلى مخالفتهم جميعا، وفي مقابل ذلك أقوام تصلبت مسارب أنظارهم على رسوم مذاهبهم حتى شيد أصحاب كل مذهب أمام طلابهم حواجز تحول بينهم وبين بقية المذاهب، ولكل من الطائفتين مقررات يدعمون بها مناهجهم، ويردون بها على نظرائهم، و ( أكثر الاختلاف بين الأمة الذي يورث الأهواء تجده من هذا الضرب، وهو أن يكون كل واحد من المختلفين مصيبا فيما يثبته أو في بعضه مخطئا في نفي ما عليه الآخر )[3] .
    (3)
    ليس من شك في أن تراث فقهاء الأمة قد حوى أصول المسائل التي هي قطب رحى مسائل الفقه مع ما ينزل بالمسلمين من مستجدات، ما يجعل من تنكب هذا التراث وتجاوزه مجرد عبث وتطويلا للطريق، وكم جد بعض من تطلع للنهل من معين الوحي دون التفات إلى الفقهاء فأداه ذلك إلى هجر ما اجتمعت عليه كلمة المسلمين، ولم تخل الأعصار السالفة من شواهد لذلك، ولمعالجة ذلك قال ابن رجب رحمه الله بعد كلام طويل نفيس في نقض القول بعدم وجوب الغسل على من جامع إذا لم ينزل: ( والمقصود بهذا أن هذه المسائل التي اجتمعت كلمة المسلمين عليها من زمن الصحابة، وقل المخالف فيها وندر، ولم يجسر على إظهارها لإنكار المسلمين عليه = كلها يجب على المؤمن الأخذ بما اتفق المسلمون على العمل به ظاهرا، فإن هذه الأمة لا يظهر أهل باطلها على أهل حقها، كما أنها لا تجتمع على ضلالة .. فهذه المسائل قد كفي المسلم أمرها، ولم يبق فيها إلا اتباع ما جمع عليه الخلفاء الراشدون أولي العلم والعدل والكمال، دون الاشتغال فيها بالبحث والجدال وكثرة القيل والقال، فإن هذا كله لم يكن يخفى عمن سلف، ولا يظن ذلك بهم سوى أهل الجهل والضلال ) [4] .
    لا ينبغي أن يعترض في هذا صلكن لم أعلم بهذا قائلا، ولا يمكن أن يقال إلا ما قاله السلف قبلنا، لأنهم علموا مراد الرسول قطعا ) [5] .
    (4)
    إن كثيرا من فقهاء المذاهب لم يصيروا إلى مذاهبهم لمجرد نشأتهم عليها، ولكن رجحان مذهب إمامهم كان سببا أصيلا في انتسابهم إليه، فليس لأحد أن يزايد على صدق اتباعهم للأدلة، فضلا عن جعل فقههم قسيما لما يسمى ب (فقه الدليل)!
    قال أبو إسحاق الإسفراييني: ( الصحيح الذي ذهب إليه المحققون ما ذهب إليه أصحابنا، وهو أنهم صاروا إلى مذهب الشافعي لا تقليدا له بل لما وجدوا طرقه في الاجتهاد والقياس أسد الطرق ولم يكن لهم بد من الاجتهاد سلكوا طريقه فطلبوا معرفة الأحكام بطريق الشافعي ).
    وقال أبو علي السنجي: ( اتبعنا الشافعي دون غيره، لأنا وجدنا قوله أرجح الأقوال وأعدلها، لا أنا قلدناه ) [6].
    وهذا لا يعني نفي مادة التقليد عنهم مطلقا، ​​ولكن القصد: بيان أن قدرا من الاجتهاد قد مارسه فقهاء المذاهب حين اختيارهم لمذاهب أئمتهم، وهذا يفيدنا في تبصرة بعض متعصبة المذاهب بأحوال سلفهم، كما يدلنا على جهل بعض المتفقهة حين يرون أصحاب المذاهب مجرد نسخ مكرورة دون أن يكون لهم إسهام في الحقل الفقهي، بل إن أصحاب المذاهب أنفسهم جدوا في إبداء المشكلات على مذاهبهم، وهذا يلوح لكل من كلف نفسه مطالعة مصنفاتهم، وما كان ذلك منهم إلا لعلمهم أن ذلك من أقوم الطرق لاختبار صحة أقوالهم واستقامتها، وقد يكون القصد من وراء ذلك ميسور يتمرن الفقيه علي تقعيد المسائل وإن لم يعتمد فى المسألة راجحا غير ما قرره إمام المذهب، وهذا طريق لتنمية ملكات الاجتهاد.
    يقول الجويني في النهاية: ( . حق على من يعتني بجمع المذهب أن يعتمد ما صح نقله، ويستعمل فكره في تعليله جهده، حتى يكون نظره تبعا لمنقوله، أما أن يستتبع المذهب، فهذا قصد لوضع مذهب نعم، بعد النقل يحسن إبداء الإشكال، وذكر وجوه الاحتمال في الرأي، لا ليعتقد مذهبا، ولكن لينتفع الناظر فيها بالتدرب على مسالك الفقه ) [7] .
    ومع ذلك فإنك واجد من بعض مقلدة المذاهب من يحجر حتى تصل به الحال إلى حجب مادة النظر في الدليل بالنسبة للمتفقه، ولا يرضى منه أي اعتراض على مدلوله ما دام لم يبلغ مرتبة الاجتهاد، ولاشك أن المقلد الصرف لا يقوى على الاستنباط من أدلة الشريعة، لكن لا بد من الإقرار بأن أذهان المقلدة ليست على مرتبة واحدة من النظر، بل هي متفاوتة تفاوتا عظيما، وفي جانب الاجتهاد فإن الفقهاء أنفسهم قد بينوا أن له مراتب ولم يجعلوه منزلا واحدا، وندرة المجتهدين ليست مولدة من تضييق منصب الاجتهاد، بل هي في أصل أسبابها عائدة إلى فتور الهمم، وفي ذلك يقول ابن حمدان الحنبلي: ( ومن زمن طويل عدم المجتهد المطلق، مع أنه الآن أيسر منه في الزمن الأول، لأن الحديث والفقه قد دونا، وكذا ما يتعلق بالاجتهاد من الآيات والآثار وأصول الفقه والعربية وغير ذلك، لكن الهمم قاصرة، والرغبات فاترة، وهو فرض كفاية، قد أهملوه وملوه، ولم يعقلوه ليفعلوه ) [8].
    (5)
    ليس بسبيل أن ينشأ الطالب ابتداء على تجاوز المذهب المقرر بعرض جميع أقواله تحت النظر، بحيث تتولد لدى الطالب شكوك تنزع ثقته بأقوال مذهبه شيئا فشيئا ما يقذف به في حيرة مضنية، فإن هذا مضر ضررا بالغا له في بداية تلقيه، والوجه أن يلقن الطالب الفقه عن طريق مذهب حتى يتقن أصوله ويضبط فروعه ويقف على مآخذه، فهذا أدعى لانضباط بنائه الفقهي وتماسكه، إذ إن فروع كل مذهب قد علقت بحبال أصوله، وتلقين الطالب عدة أقوال في كل مسألة يخلط بين الحبال، وذلك بين من خلال نظرة عجلى على خريجي بعض الكليات والمعاهد الشرعية، ثم إذا ترقى الطالب جاوز به معلمه وبلغ به مرتبة أعلى، فلا بد للطالب من سلوك جادة التقليد، وغالب من ذاع صيته من أئمة الإسلام بعد استقرار المذاهب تجده قد تخرج من أحد مدارسها، ثم إذا أتقن المتفقه مذهب إمامه ولاح له بعد البحث وبلوغ الجهد أن الحق في غير مذهبه فليصر إليه، وهذا مما قرره فقهاء المذاهب قبل غيرهم، يقول ابن الصلاح الشافعي: ( من وجد من الشافعيين حديثا يخالف مذهبه نظر فإن كملت آلات الاجتهاد فيه إما مطلقا وإما من ذلك الباب أوفى تلك المسألة على ما سبق بيانه كان له الاستقلال بالعمل بذلك الحديث، وإن لم تكمل إليه ووجد في قلبه حزازة من مخالفة الحديث بعد أن بحث فلم يجد لمخالفته عنه جوابا شافيا فلينظر هل عمل بذلك الحديث إمام مستقل فإن وجد فله أن يتمذهب بمذهبه في العمل بذلك الحديث عذرا في ترك مذهب إمامه في ذلك ) [9].
    قال النووي في مقدمة المجموع: ( وهذا الذي قاله حسن متعين ).
    ويقول الذهبي: ( شأن الطالب أن يدرس أولا مصنفا في الفقه، فإذا حفظه بحثه وطالع الشروح، فإن كان ذكيا فقيه النفس ورأى حجج الأئمة فليراقب الله، وليحتط لدينه، فإن خير الدين الورع، ومن ترك الشبهات، فقد استبرأ لدينه وعرضه، والمعصوم من عصمه الله ) [10].
    وليس بالضرورة أن يعزو المتفقه نفسه حينئذ إلى مراتب الاجتهاد، ولكنه بمنزلة المستفتي حين يتلمس الأعلم من المفتين، يقول ابن تيمية: ( أكثر من عنده تمييز من المتوسطين إذا نظر في مسائل النزاع، وتأمل ما استدل به الفريقان بتأمل حسن ونظر تام، ترجح عنده أحد القولين، ولكن قد يشق عليه الاكتفاء بنظره، فالواجب على مثل هذا أن يتبع قولا ترجح عنده من غير دعوى منه للاجتهاد، بل هو بمنزلة المجتهد في أعيان المفتين والأئمة، وإذا ترجح عنده أن أحدهم أعلم قلده ) [11] .
    (6)
    كثير من مناهضي التمذهب يلهجون ب (تجزؤ الاجتهاد) وأن القول بجوازه هو القول المحقق، ليصلوا من خلال ذلك إلا تمكين المتفقه من تسجيل رأي له في آحاد المسائل الفقهية، ولا شك أن للقول بتجزؤ الاجتهاد وجها، لكن بشرط صحة الفهم لمادة هذا التجزؤ، ليحسن بعد ذلك إيقاعه في القضية محل النظر.
    يأتي الطالب في ابتداء تفقهه قبل أن تتخلق في ذهنيته العلمية عمد مباحث اللغة والأصول، يأتي لمسائل الطهارات مسألة مسألة وقد نذر ألا يفارقها إلا وقد أدار على لسانه لفظة (الراجح) مرات ومرات بغية الوصول للقول الأسد في كل مسألة، لأن ذلك مما افترضه الله عليه .
    هذه همة فتية تستحق التشجيع، لكن لا بد من إلزامها حاق موضعها، فأن يقرأ الطالب في المسألة بحثا، أو يستوفي قول ابن تيمية فيه، لا يعني أن اجتهاده قد تكامل، إذ لا يتم اجتهاده حتى تكون له آلة تسعفه لمناقشة ذاك البحث، تسعفه لفحص دلائل شيخ الإسلام، ودون تحقق هذه الآلة لا يصدق عليه أنه مجتهد جزئي، بل هو مقلد تسربل باجتهاد غيره، غير أنه تفرد بتسجيل لفظة الراجح في ذيل تقريره.
    ولدفع هذا التقليد المغلف يبين ابن الزملكاني حقيقة القول المحقق في مسألة (تجزؤ الاجتهاد) فيقول: ( ما كان من الشروط كليا، كقوة الاستنباط ومعرفة مجاري الكلام وما يقبل من الأدلة وما يرد ونحوه = فلا بد من استجماعه بالنسبة إلى كل دليل ومدلول، فلا تتجزأ تلك الأهلية.
    وما كان خاصا بمسألة أو مسائل أو باب فإذا استجمعه الإنسان بالنسبة إلى ذلك الباب أو تلك المسألة أو المسائل مع الأهلية كان فرضه في ذلك الجزء الاجتهاد دون التقليد ) [12] .
    فقوله: (فلا تتجزأ تلك الأهلية) بيان أن مسألة تجزؤ الاجتهاد تبحث قدرا زائدا عن (ما كان من الشروط كليا) فإنه ما كان ذلك شأنه كعمد مسائل الأصول التي مثل لها ب (ما يقبل من الأدلة وما يرد) وكعمد مسائل اللغة التي بينها بقوله : (معرفة مجاري الكلام) .. فإن ذلك (لا بد من استجماعه إلى كل دليل ومدلول).
    (7)
    ثم إن المتفقه لابد أن يكون له من تصور مسائل الفقه عامة ما يؤهله للنظر في الآحاد، فعماية أن يأتي الطالب ليحقق القول في مسألة زكاة الحلي مثلا ولم تنضبط في عقله المسائل الرئيسة من كتاب الزكاة، والتي بها يتحصل على فقه مقاصد هذا الباب التي حقق بها الفقهاء الأوعية الزكوية وضبطوها، أو أن يأتي ليبحث مسألة في شروط البيع وهو لا يحسن أن يسمي سبعة أبواب من كتاب المعاملات، ولا يفرق بين عقود المعاوضات والتبرعات.
    هذا النظر الآحادي مضلة للفهم، ولذا كان ضبط الفقه على جادة مذهب وتحصيل عظم مسائله على وفق أصوله مرحلة سابقة على الموازنة بين الأقوال وتقليب الأدلة والدلالات.
    فأول مدارج التفقه: (إحكام تصور المسائل) قبل النظر في الأدلة، والخلافات بين المذاهب تأتي أخيرا في مرحلة ثالثة أو رابعة.
    يقول الجويني: ( موقعنا متوافق من يريد الاعتناء بالمذهب ميسور يفهم ما قيل ، ويتثبت في النقل، ثم يحيط بالمشكلات، ويستمسك بها في نصرة قول على قول )[13].
    (8)
    ما ملخص الرأي لمريد التفقه؟
    الذي أحب التنبيه إليه هنا أن كثيرا ممن يتصدر للإجابة عن هذا السؤال يتدرع بإرهاب لفظي يقلق طالب الفقه ويدفعه دفعا غاليا لأحد المسارات، فالمنتسب لفقه أحد المذاهب يجعل من الصدوف عن التمذهب - حسب ما يرسمه - مفتتح الانحرافات الفقهية، والمنتسب لما يسميه فقه الدليل يجعل من البعد عن مختاره نكوصا عن الوحي الذي أنزله الله على نبيه، وليس الحق عند هذا ولا ذاك.
    ولم أرد بما مضى أن أصل بالقارئ إلى أن يتقلد مذهبا من المذاهب في ابتداء طلبه - وإن كان هذا هو الطريق المحكم في ذلك والذي جرت عليه الأمة مذ استقرت مذاهب الفقهاء - بل الذي أريد الإشارة إليه هنا أنه لابد من نظر قاصد في الترقي الفقهي، سواء التزم مذهبا في ابتداء طلبه، أو جرى على مختار شيخه.
    وهذا الترقي جار في كل الفنون، فكما لا يطالب المبتدئ في النحو بتحقيق الخلاف بين المدرسة البصرية والكوفية والبغدادية في آحاد المسائل، فيسار به على سنن واحدة في ابتداء طلبه للنحو، فكذلك في الأصول، والفقه، وغيرها من الفنون.
    فالطالب يتفقه ابتداء ليدرك ويتصور وتترسم مادة الفقه في ذهنه، لا ليفتي ويوازن بين أقوال الائمة، وفرض القول هنا في مسائل الاجتهاد التي تتجاذبها أنظار الفقهاء.
    ومن هذا التقرير كان فقهاء كل بلدة يوصون بدراسة المذهب الجاري في بلدهم، والحال أن الحق واحد، غير أنهم لعلمهم بأن ابتداء نظر الطالب ليس في تحقيق راجح ومرجوح، كان هناك اتساع في رسم مسارات النظر، وتعددا في التوجيه الأولي له.
    (9)
    لابد من الفتك بهذا الفصل الجائر بين الفقه المذهبي وفقه الدليل، لأن فقه الدليل هذا وجدناه فقها ألبانيا في قطر، وعثيمينيا في ثان، وشوكانيا في ثالث، ولم نره فقها متعاليا عن مقررات فقيه من الفقهاء.
    فقه الدليل هو ما تغياه فقهاء المذاهب، وعليه بنوا مذاهبهم، فإن قيل: ما الفرق بينهم وبين ما يدعيه غيرهم، ولماذا كان لفقههم خاصة لم تنله المدارس الأخرى؟ فيقال:
    خاصة الفقه المذهبي أن له أصولا توزن بها فروعه، وبلغت صرامته المنهجية أن لم يكن لكل المنتسبين له امتيازات موحدة، بل ثمة مراتب وطبقات ينال بها كل فقيه مذهبي محلا لائقا بطبقة فقهه ومدى نظره.
    خاصة الفقه المذهبي (الحنفي - المالكي - الشافعي - الحنبلي) أن له كتبا محررة، عني بها أصحاب كل مذهب، وتصدوا لشرحها والاستدلال لها، وتعاقب عليها طبقاتهم، ووضعت لكل مرحلة كتب تليق بطلابها، فهي مدارس في التفقه يترقى فيها الطالب شيئا فشيئا إلى أن ينال منصب الاجتهاد، هذا التمرحل المذهبي والتعاقب التحريري جعل المذاهب الأربعة أدق ضبطا وأقوم فقها من فقه اختياري منتزع من كتب عالم معين لم تقصد لوضع أصول في فقهها.
    خاصة الفقه المذهبي أن فيه غناء فروعيا، فجمهور مسائل الفقه قد تكلم عليها أصحاب المذاهب، وحرروا دلائلها، بخلاف المدارس الأخرى التي لم تحظ برعاية فائقة كرعاية أصحاب المذاهب، ما جعلها تعاني من فاقة فروعية حادة.
    هذه خاطرات حاولت بها وزن النظر في هذا الباب، وعلى الله قصد السبيل ..



    [1] مقدمة ابن خلدون (3: 6-7).

    [2] الغياثي للجويني (459) تحقيق: أ. د. عبدالعظيم الديب.

    [3] اقتضاء الصراط المستقيم (1: 145).

    [4] فتح الباري (1: 342).

    [5] مجموع الفتاوى (19: 200)

    [6] نقله النووي في مقدمة المجموع.

    [7] نهاية المطلب (3: 286).

    [8] الإنصاف للمرداوي (30: 384).

    [9] أدب المفتي والمستفتي (1: 58).

    [10] سير أعلام النبلاء (8: 90-95).

    [11] مختصر الفتاوى المصرية لابن تيمية (2: 17).

    [12] البحر المحيط (6: 210).

    [13] نهاية المطلب (13: 86).
    أبو عاصم أحمد بن سعيد بلحة.
    حسابي على الفيس:https://www.facebook.com/profile.php?id=100011072146761
    حسابي علي تويتر:
    https://twitter.com/abuasem_said80

  2. افتراضي رد: خاطرات في طريق التفقه...!!

    كتبه:
    مشاري بن سعد الشثري
    أبو عاصم أحمد بن سعيد بلحة.
    حسابي على الفيس:https://www.facebook.com/profile.php?id=100011072146761
    حسابي علي تويتر:
    https://twitter.com/abuasem_said80

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •