الوثبات العاتية في الإعلام المعربد

هي صرخة منذرة في كل أذن تسمع من أمتنا، وصيحة تحذير لأولي الأحلام والنهى، ونداء بالوعيد لكل مستغرب خؤون لأمته ولدينه أن يتقي الله ويعود إلى رشده وصوابه، ورجاء من كل من يملك أدنى طريقة لإيقاف هذا المد الجارف أن يتحرك إلى الأمام ولو خطوة، وأن يسكت هذه الفئام الضالة من قوافل الإعلام العاملة ليل نهار، تلك التي تَفُت في أعضاد الأخلاق والقيم، وتزيح الستار عما تبقى من مكنونات طاهرة عدها الإسلام سترًا وعدها اللئام حقًا مستباحًا.


لقد زادت البلوى وعمت المصيبة وأصابت بخيلها ورجلها وغبارها كل قريب وبعيد، وخرجت عن أطواق المعقول بشكل غير مسبوق، وتزايد الخطر أضعافًا مضاعفة، حتى إنه ليشكل داءً عضالًا قد يصل إلى مستوى الوباء المعجز، وكأنه ليس لنا أن نوقفه أو يكون له معنا خط رجعة إلى القيم الكريمة ومعالي الأمور ولو بعد حين.
إن الأجيال المعاصرة من هذه الأمة يراد لها من لقطاء الفكر وعبيد الغرب أن تنشأ أخلاقيًا على العري والإباحية والأفكار المسمومة عن الإسلام وثوابته ورموزه، وظاهر جدًا أن الميوعة الرخيصة تسري رويدًا رويدًا في نفوس الفتيان، وأن التمرد والسمادة تصيب عفاف البنات وطهارتهن في مقاتل مميتة.
لا يخفاكم الأمر- أهل الأخلاق والأدب- أن الجرح غائر، وأن المصيبة أشهر من أن تذكر، لكن الذي أدهشني هو أن الكثير ممن هم مسؤولون بشكل رسمي أو أدبي ساكتون كأنهم لا يدرون ما الخبر، أو كأن الأمر لا يعنيهم! وأن صوت الإصلاح ساه خافت، وكل ما سمع من الأصوات العاقلة المسلمة في هذا الميدان لايكفي لمجابهة هذا السيل العرمرم الجرار الذي يمسخ نفوس الناشئة ويحيي في نفوس المتلقين (الكبار) سفاسف الأمور.
والظن- والحال ناطقة- أن هذه الذيول العميلة التابعة لم تسمع يومًا عن خلق اسمه الحياء، ويظهر أنها أيضًا لم تصادف- بعد- من يوقفها على آثارها المدمرة، والتي هي أشد تدميرًا من القاذفات الصهيونية التي ألقيت على سماء غزة منذ حين، والعالم يتفرج من بعيد! أو أشد مما فعله التتار والصليبيون وغيرهم من أهل الإهلاك والإمعان في تدمير الأمم.
بداية بلا حياء
لقد بدأت المشكلة أول خيوط التعقيد منذ أزمان، يوم أن تطلع الشرق كله- ونحن معه- على محاكاة كل وارد من بلاد العجائب الغربية كأنه وحي طاهر ونص مقدس لا يجوز الاجتهاد فيه، وخصوصًا مع التدهور والتبعية والتخلف الذي ظهرت سماته أحقابًا متتالية، بسبب سوء فهم أحكام الدين وسقوط كثير من عواصمنا الإسلامية في أيدي من لا يحسنون ملاطمة الفتن وصد البلاء، فضلًا عن استدعائه وطلبه والتمرغ في حمأة قسوته.
لقد أرسلت البعثات العلمية أوائل القرن الثامن عشر الميلادي لتحصيل العلم، فإذا بالمبعوثين ومشايخهم مبهورين بأنماط الحياة الغربية في باريس ولندن وبرلين وغيرها.. وبدلًا من أن يكون العلم هو طلبتهم الغالية فقط، فقد جمعوا الحشف وسوء الكيل، وعادوا لأمتهم بأوصاف الحياة الغربية المخالفة بالطبع لنظم الإسلام الاجتماعية، وتلقف الذين يريدون الخروج من قمقم المألوف هذه الأفكار، وألبسوها ألف ثوب عبر مائتين من السنين مضت، وكل ذلك على حساب القيم الرصينة والأخلاق الفاضلة، أي على حساب الإسلام.
ورويدًا رويدًا كان الحياء يسقط منسوبه في النفوس شيئًا فشيئًا حتى استغل الإعلام بطفراته السريعة كل فرصة لتسريب أفكار الغزاة الثقافيين من إخوة الأوطان والدين، والذين لم يحرصوا يومًا على مصلحة الأوطان ولا رعاية مقدسات وثوابت الإسلام، وها هو المؤرخ الفني «كمال النجمي» يضع حدًا فاصلًا بين زمنين، زمن كان فيه التلميح أسلوبًا للتعبير، وآخر كان بداية التصريح مع ذيوع المعاني التي تبثها ألسنة المطربين والمطربات تلك التي دفعت البنت العربية المسلمة إلى تخطي حواجز معنوية سارت على طهرها قرونًا.
كلام بذيء بادي البذاءة ينشر على الإذاعات الرسمية وغير الرسمية، وقد كان النواة الأولى في انتشار المعاني التي زاد فيها منسوب الهبوط بشكل يستثير نظر الأعمى وسمع الأصم! في هذه الحقبة الزمنية التي نحياها، ولسنا ندري ما هي النقلة القادمة.
أما الآن فبالطبع لا يمكننا الاستشهاد بما يبثه إعلام الأغنيات التي زاد سقمها القيمي، وقد تزايدت الإذاعات المرئية والمسموعة النشطة التي تنتظم في هذا الطراز وتربح كل يوم أعدادًا لا بأس بها من الشباب والفتيات، وتزايدت معها قنوات الأفلام والمسلسلات العاملة بكل اللغات والمبثوثة من أرض عربية مسلمة وبأموال أناس مسلمين!.
ليس من الإسلام
ونبت على سطح الإعلام نبت غير كريم بلا هدف ولا مضمون، وجلس كثير منهم- وهم جهلة وإمَّعات- في منابر التوجيه المباشر منطلقين من المجلة والجريدة والفيلم والمسلسلات وحفلات الغناء الصاخبة التي تطول زمانها حتى مطلع صباح المنذرين.. وسمع الناس عن هذه الترهات والحماقات التي تتدخل في عمق المسائل الدينية بجراءة مستنكرة، كهذه المسمومة في فكرها بالحماقة وفي بدنها من كثرة الناظرين إليه، وقد أدلت بحرمة النقاب، وذلك منذ سنوات وقالت «إنه ليس من الإسلام»، وهذه المخبولة الأخرى وهي مخرجة مشهورة، تلك التي تخطت جميع الحواجز والسدود الأخلاقية لما صرحت بأنه يجب استصدار تراخيص للبغاء، حيث إنه مهنة لها أربابها من الطالبين والمطلوبات!
واليوم.. إلى أين هم ذاهبون؟ وكيف يتحركون؟ وماذ يريدون؟ وهل يتخيل العقلاء حال هذه الأمة بعد عشر سنوات من القيادة الإعلامية لهذه الطغمة الفاجرة التي تصطبغ بكل لون من الإلحاد إلى السطحية والتفاهة والسمادة، ومحاولة نسف الدين في نفوس المتلقين بكل وسيلة من السخرية والاستهزاء بالمتدينين، ورسم الصور الشوهاء المعقدة لهم، وحشر هذه النقائص النفسية مع سواها، واستغلال كل منفذ مطل على البيوت والمقاهي، حيث يقف المتابعون من خلالها على أوصاف أهل التدين بأنهم «متشددون ومغفلون ومتعالمون وضيقوا الأفق» على حين التماس المعاذير القريبة والبعيدة لمن يخوضون في بحار الخزي منذ أزمان، فالزانية لها عذر الفقر والحرمان، والمرتشي محتاج، ماذا يفعل؟! ولا ينتهي التماس المعاذير للقاتل وتاجر المخدرات وشاهد الزور وقاطع الرحم وآكل الربا، بل ويعدونهم ضحايا؟
وماذ يروم أهل الفن في طريقة الغناء التي ما أبقت في الضمائر المضمرة معنى إلا ونادت به من قريب وبعيد؟! وما أبقت- كذلك- من أجساد الغواني مخبأ إلا وكشفته؟ وتركت الزوج البائس المغبون فكريًا واجتماعيًا، والناقم على أقداره في شريكة عمره يتزلزل في جحيم الساخطين على الأقدار، وتركت الشاب الأعزب يتلوى في دركات الغريزة إن لم يكن يأوى إلى إيمان رشيد.
لقد بدأ الشيطان هجومه المبيد لكل معنى نبيل منذ أزمان على القطاع الإعلامي العالمي، وانزلق الإعلام العربي كالعادة في السنوات الأخيرة إلى هوة التقليد، والمصيبة أنه سائر في هبوطه المشهود بسرعة جنونية لن تبقي ولن تذر من الأخلاق شيئًا إذا لم يجد من يوقفه بمصدات الأخلاق، وذلك أمر صعب إن لم يكن مستحيلًا بحساب البشر إلا أن الأمل في الله ليس له حدود رغم أن بوارق الإصلاح الأخلاقي الحقيقي المنشود لا تلوح له علامات في الأفق القريب ولا البعيد.
إنا جد خائفين على أولادنا وأجيالنا القادمة من هذا الطوفان المدمر أن يحرفهم، فالهوة تزداد كل يوم اتساعًا، ومن السلامة تحصين هذه الأجيال بلقاح الأخلاق.
والله الذي لا رب غيره ليس أمامنا سبيل سواه، ألا وهو سبيل الأخلاق العاصمة بإذن الله تعالى من الضياع، فإذا كان القائد الملهم المظفر «صلاح الدين الأيوبي» قد انتهج مع الصليبيين القدامى سبيل الأخلاق وتعليمها للعامة قبل أن يصدح ويصدع بكلمة «الله أكبر» فواجب الوقت هو التحصين بالأخلاق، إنها الوحيدة التي تحمي، وهي التي أبقت هذه الأمة المسلمة بين الأمم رغم ما بها من جراح باقية على الدهور والمؤامرات الحية التي يحيكها الماكرون من كل عدو متحير متجن صباح مساء.
إن العقيدة تحمي من الكفر، والشرائع تجبر من الضلال والبلبلة والتحير، والسلوك الإسلامي أجر وتميز، ولكن الأخلاق هي العمق لهذا كله، فالصلاة على عظم قدرها أساسها في قلب المصلي أخلاق وإلا فلا صلاح له: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمنكَرِ} (العنكبوت: 45)، والصيام أساسه ليس الجوع والعطش، وإنما حسن الخلق، وكذلك الزكاة طهرة للمانح من التعالي وللقابض من الحسد {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكّيهِم بِهَا وَصَلّ عَلَيْهِمْ) (التوبة: 103)، والحج كله أخلاق وتقوى قلوب {فَلاَ رَفَثَ ولَا فُسُوقَ ولَا جِدَالَ فِي الحَجّ} (البقرة: 197).
فلننتبه في مجال التربية إلى أثر الأخلاق الدافع لهذا البلاء المتتابع من جيوش العهر والفساد، ولنلقن أجيالنا الناشئة مع حفظ القرآن والسنة وبقية علوم المدارس والمعاهد والجامعات أقساطًا وافرة من الخلق الحسن، ولنتابعهم في ذلك ونعمق معناها في نفوسهم، حتى تتفاعل العقيدة المركوزة في القلب مع هذه الأمصال الواقية، فيخرج ذلك رفضًا لسوق النخاسة الجديدة، والذي يتبارى فيه دهاقنة الإعلام العربي والعالمي وجنودهم الهائمين في لجج الهلاك.
وقفة المؤسسات التربوية
أين دور أساتذة التربية وحماة المجتمع من أئمة المساجد والدعاة والصحافيين المحترمين، بل ورعاة الكنائس إن جاز أن نوجه لهم هذا النداء، أين دور هؤلاء الصفوة؟
إن صوتهم في مجال إيقاف سيل الإعلام الجارف ليس خافتًا، بل هو مكتوم، وسبب ذلك منهم غير معلوم.. صحيح أن هناك قنوات إسلامية عاملة ونشطة ولها تأثير في المجتمعات الإسلامية ولله الحمد.
ولكنني أعود فأكرر، إن الشيطان لن يربح المعركة كلها في جولة واحدة بل في جولات، وقد انتصر في كثير منها، وليكن السؤال الحائر في عقول حاملي هم هذه الأمة: ما هو انتصاره القادم في المجال الإعلامي؟
سؤال يختصر همومًا لا تبرح بترك الفكر حتى تتلظى بها النفوس المؤمنة من جديد.
والكثير من أهل الحجا ومديري مراكز التوجيه في سبات عميق، ولابد أن يوقظهم الموت ليس غيره، ومعهم السواد الأعظم من خلق الله في ذهول وتشاغل، والزمان لا يهادن ولا ينتظر أحدًا، فالنقلة القادمة للإعلام الداعر أنه يردي المجتمع من الهداية إلى الغواية، ومن الفضيلة إلى الرذيلة ونحن شهود وسكوت.. والله مطلع على عباده.
حسين شعبان وهدان - كاتب صحفي