عقد منيعة.. وحلول بديعة!


هنادي الشيخ نجيب
كاتبة لبنانية
أعتقد أن أكثر من في الأرض معترفون بأن أوضاعنا معقدة جدًا.. لكن هل هذا الاعتراف يهدم الاقتراف؟! وهل يفيد الإقرار مع الإصرار؟!
بعض المتفائلين- ثبتهم الله- يتوقعون فائدة الاعتراف، إذا كان سيحقق فضيلة الوعي بما يدور حولنا، ويبعدنا عن السذاجة في تفسير الأحداث، ولاحتمال أنه سيدفعنا للتفكير بطريقة تعيننا على قهر التعقيد، و«حلحلة» المسائل المرعبة، وسيساعدنا في تفكيك المعادلات الصعبة.


وهنا نسأل سؤالًا: وهل يعني إذا كان الوضع معقدًا، أن يكون الحل معقدًا أيضًا؟ أم أن هناك احتمالًا أن يكون بسيطًا أو حتى في غاية البساطة؟
إن خبراء تفكيك الواقع يركزون أولًا على ما يسمى (عقدة الموقف) أو (عقدة الصراع)، وهذا التحديد يسهل الإجابة عن السؤال التالي: ما هي العقدة التي إذا تم حلها فستحل بقية العقد؟
وحتى نقرب الفكرة، سنزور قرية صغيرة من قرى الهند، لنعرف كيف يمكن أن يكون لعقدة منيعة حلول بديعة!
ففي تلك القرية، كان يعيش مزارع بسيط مع ابنته الشابة الوحيدة، التي توفيت والدتها وهي طفلة رضيعة.
استدان المزارع مبلغًا كبيرًا من المال ليحسن زراعته، وكان المدين تاجرًا عجوزًا طماعًا، لا يوفر فرصة في الضغط على المزارع ليطالبه بسداد دينه، برغم معرفته بظروف المزارع الصعبة!
لكن ذلك التاجر كان معجبًا بابنة المزارع الجميلة، ففكر أن يقدم لوالدها عرض مقايضة؛ حيث اقترح عليه أن يسامحه بالدين، إذا رضي أن يزوجه ابنته الفاتنة!
فزع الوالد من هذا العرض الخبيث، فاستدرك التاجر الماكر بأنه سيدع الفلاح وابنته ليحكم القدر في أمرهما؛ وأطلعهما على خطته «المنصفة»، والتي تقضي بإحضار كيس سميك ووضع حصتين داخله: واحدة سوداء، والثانية بيضاء، وعلى الفتاة أن تغمض عينيها، وتمد يدها
لتلتقط إحدى الحصاتين، فإن التقطت الحصاة السوداء تصبح زوجته ويتنازل عن دين أبيها، وإذا كانت الحصاة البيضاء من نصيبها فلن يتزوجها التاجر، ولكن سيتنازل عن دين أبيها، أما إذا رفضت أن تلتقط أي حصاة فسيسجن والدها...
وقف أهل القرية على ممر مفروش بالحصى، فانحنى التاجر ليلتقط حصاتين ويدسهما داخل كيس أسود في يده، لكن الفتاة انتبهت بأنه وضع في الكيس حصاتين سوداوين... تقدم التاجر نحو الفتاة وطلب منها أن تختار قدرها... ماذا عليها أن تفعل الآن؟! أترفض اختيار حصاة
فيسجن والدها؟ أم تكشف حقيقة ذلك الرجل المخادع فينتقم من أبيها؟! أم تراها يجب أن تستسلم لقدرها وتضحي بنفسها لتنقذ من أفنى حياته لأجلها؟!
لاشك أن تلك المسكينة، تمر في وضع عقدته متينة! لكنها لم تكن لترضى بنهاية حزينة، ولم تفكر بنمطية وروتينية، بل استجمعت قواها النفسية والفكرية، وأدخلت يدها في الكيس، وسحبت منه حصاة، وقبل أن يرى الجميع لونها، أوقعت نفسها على ممر الحصى، وأسقطت
الحصاة من يدها، ثم وقفت وقالت معتذرة: (يا لي من حمقاء، لقد تعثرت، لكن لا بأس، نستطيع أن ننظر داخل الكيس لمعرفة لون الحصاة التي وقعت من يدي).. وبما أن الحصاة الموجودة في الكيس سوداء، فقد استنتج أهل القرية بأن الفتاة كانت قد سحبت الحصاة البيضاء...
ذهل التاجر من صنيع الفتاة، ولم يجرؤ على فضح الأمر، وبذلك تكون الصبية قد نجت مع أبيها من وضع معقد جدًا، وبطريقة بسيطة جدًا جدًا.
نعم- قراءنا الكرام- فكم من أوضاع صعبة فككتها أدوات بسيطة، لأن التحدي الكبير ليس في إيجاد حلول متطورة لمشاكل معقدة، بل التحدي في إيجاد العقل الثائر على الواقع، المتمرد على الهزيمة، الرافض للانبطاح والاستسلام، المستشعر عظم المسؤولية مع عظم القدرة..
إنه لم يعد ينفعنا القفز في أماكننا استنكارًا لظروفنا واعتراضًا على ما يجري حولنا، وبحجة أننا لا نستطيع إجبار واقعنا على الاستجابة لرغباتنا... إن الحل أبسط مما نصور؛ نعم، الحل يتجسد في القاعدة التالية: (أصلح نفسك، وادع الآخرين)، فإن الله تعالى قد ضمن لنا
النجاة: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى) وبشرط واحد: (وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ)... رؤية سهلة لا عقد فيها؛ فالمطلوب، وبكل وضوح، تكوين المسلم «الصالح المصلح»... ولم لا؛ فإن المسلم اليوم لم يفقد المال، ولا العلم، ولا القدرات، بل يحتاج فقط إلى استعادة قلبه الحي
النابض المشرق الحنون، الذي يتحرق على خسارة الروح وضياع الضمير، أكثر مما يفكر بخسارة الاستيراد والتصدير!!!
تلك إذن تجارة لن تبور، مع العزيز الغفور، لنصلح ما أفسدت أيدينا.