30-10-2013 | د. البشير عصام المراكشي
فأنت ترى أن القرافي رحمه الله لا ينازع في كون أفعال النبي صلى الله عليه وسلم كلها داخلة في التشريع كلها، وإنما يبين وجه دخولها في التشريع.




خطأ الاستدلال بتقسيم القرافي لتصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم
على إلغاء تحكيم بعض الشريعة

نص السؤال :
بعض التنويريين ينقل كلام القرافي رحمه الله في تقسيم تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم إلى تصرفات بوصفه إماما وتصرفات بوصفه رسولا إلخ ، ويتخذ ذلك حجة في رد جزء من التشريع قلّ أو كثر حتى يقترب من الطرح العلماني، فكيف يمكن الرد على هذا الاستدلال باختصار؟

الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
فإن من خصائص العصر الذي نعيش فيه، الهيمنة الكاملة للعلمانية على مجالات الحياة كلها، من السياسة والاقتصاد والثقافة والفكر وغيرها.
وقد تسللت العلمانية إلى عقر دار المسلمين، وبسطت نفوذها على نفوس الناس، وتشبعت قلوبهم بها، فلم يعد بإمكان أكثرهم التخلص من أوضارها؛ مع كونهم يعلمون أنها مناقضة لدين الإسلام، مخالفة لشرع الله أشد ما تكون المخالفة.
فأما بعضهم فارتمى في أحضان العلمانية المهيمنة، جملة وتفصيلا. وأما آخرون فسلكوا مسالك التلفيق، والجمع بين النقيضين!
فصرنا نرى عجائب من الاستدلالات الشرعية، وغرائب من الاستنباطات الفقهية والأصولية. وصار بعض الناس يمارسون هواية التشبث بأدنى قشة من كلام السلف أو العلماء لتعزيز موقفهم الموافق للمبادئ العلمانية، ولو كان ذلك ينقض أصول الاستدلال، ويهدم قواعد الاستنباط.
وهذا منذر بكارثة فكرية ومنهجية خطيرة في المجال الفقهي والأصولي، في عصرنا هذا، لم يعرف لها تاريخ الأمة مثيلا!
والمثال المذكور في السؤال يدخل في هذا النوع من التلفيق والتلبيس، الذي يراد له أن يظهر بمظهر الاستدلال المنضبط. وما كل بيضاء شحمة، ولا كل سوداء تمرة، وما كل عرض للنصوص، ونقل عن العلماء، دليلا معتبرا.
وهكذا، فقد ذهب بعص الكتاب المعاصرين(1)، إلى أن تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم في القضاء والإمامة ليست من السنة التشريعية الملزمة، محتجاً بتقسيم الإمام القرافي لتصرفاته صلى الله عليه وسلم إلى أربعة أنواع: تصرفات بالرسالة، وأخرى بالفتيا، وثالثة بالحكم والقضاء، ورابعة بالإمامة.
ولا شك أن القرافي – رحمه الله – بريء من هذا المعنى المبتدع، وكلامه صريح في مراده، كما سيأتي بيانه، إن شاء الله تعالى.

***

وليعلم أولا أن الفقهاء متفقون على أن السنة تشريع كلها، أقوالا كانت أو أفعالا. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (إن جميع أقواله يستفاد منها شرع).
وجاء أن عبد الله بن عمرو كان يكتب ما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له بعض الناس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكلم في الغضب فلا تكتب كل ما تسمع، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: (اكتب.. فوالذي نفسي بيده ما خرج من بينهما إلا حق). يعني شفتيه الكريمتين.
والأفعال كذلك كلها تشريع، إلا الأفعال الْجِبِليَّة التي لا يدخل في طوع الإنسان اختيار هيئتها، أو ما دل الدليل على اختصاصه برسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولا يمنع هذا أن النبي عليه الصلاة والسلام كان في حياته يقوم بأدوار مختلفة في البيئة الاجتماعية التي كان يعيش فيها. فقد كان رب أسرة، ورئيس دولة، وقائد الجيوش، وقاضيا، ومحتسبا، ومفتيا، وإمام الصلاة.
وهو – عليه الصلاة والسلام – في كل دور من هذه الأدوار، قد كان قدوة للمسلمين، وإسوة حسنة لجميع أفراد هذه الأمة؛ يستنيرون بهديه القويم، ويسترشدون بسيرته المطهرة.
ولم نعرف في تاريخ الأمة، قائلا يزعم: أن الزوج لا يقتدي بالنبي الكريم صلى الله عليه وسلم في أحواله مع أزواجه، أو أن المفتي لا يتأسى به في مناهج الفتوى، أو أن الإمام الأعظم لا يتبعه هديه في تسيير شؤون الدولة.
حتى تجرأ بعض المعاصرين على بعض ذلك!

***

فما حقيقة قول القرافي رحمه الله إذن؟
يقول رحمه الله:
(وأما تصرفه صلى الله عليه وسلم بالحكم (أي: القضاء) فهو مغاير للرسالة والفتيا، لأن الفتيا والرسالة تبليغ محض واتباع صرف، والحكم إنشاء وإلزام من قبله صلى الله عليه وسلم بحسب ما نتج من الأسباب والحجاج، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه، إنما أقتطع له قطعة من نار) دل ذلك على أن القضاء يتبع الحجاج وقوة اللحن بها، فهو صلى الله عليه وسلم في هذا المقام منشئ، وفي الفتيا والرسالة متبع مبلغ. وهو في الحكم أيضا متبع لأمر الله تعالى بأن ينشئ الأحكام على وفق الحجاج والأسباب لأنه متبع في نقل ذلك الحكم عن الله تعالى..)(2).
فأنت ترى أن القرافي رحمه الله لا ينازع في كون أفعال النبي صلى الله عليه وسلم كلها داخلة في التشريع كلها، وإنما يبين وجه دخولها في التشريع.
فحين يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم حكما شرعيا بالقول، في باب من أبواب التبليغ العامة، فإنه تشريع عام، يجب اتباعه.
وحين يقضي النبي صلى الله عليه وسلم بين رجلين مثلا بقضاء معين، فالواجب على قضاة المسلمين أن يتبعوه في منهج قضائه، وطريقة استماعه لمحاجة الخصمين، والأخذ بالأسباب والبينات. لكن لا يكون الاتباع في نفس القضاء لفلان على علان، فإن ذلك إنشاء من الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، قد يتغير بسبب الحجاج، وذلك بنص الحديث.
وليس معنى ذلك أن الأحكام القضائية كلها ليست من التشريع اللازم، وأن للناس اليوم أن يستحدثوا ما يشاءون في هذا الباب، دون التزام بالأحكام الثابتة في السنة القولية والفعلية. فإن هذا لا يقوله مسلم!

وقد يسأل سائل عن ثمرة التفريق، بين هذه التصرفات المختلفة. ويجيب القرافي بقوله:
(وأما آثار هذه الحقائق في الشريعة فمختلفة، فما فعله عليه السلام بطريق الإمامة، كقسمة الغنائم، وتفريق أموال بيت المال على المصالح، وإقامة الحدود وترتيب الجيوش، وقتال البغاة وتوزيع الإقطاعات في الأراضي والمعادن، ونحو ذلك فلا يجوز لأحد الإقدام عليه إلا بإذن إمام الوقت الحاضر، لأنه عليه السلام إنما فعله بطريق الإمامة وما استبيح إلا بإذنه فكان ذلك شرعا مقررا لقوله تعالى: (فاتبعوه لعلكم تهتدون). وما فعله عليه السلام بطريق الحكم كالتمليك بالشفعة وفسوخ الأنكحة والعقود والتطليق بالإعسار والإيلاء عند تعذر الإنفاق والفيء ونحو ذلك فلا يجوز لأحد أن يقدم عليه إلا بحكم الحاكم في الوقت الخاص اقتداء به صلى الله عليه وسلم لأنه عليه السلام لم يقرر تلك الأمور إلا بالحكم، فتكون أمته بعده عليه السلام كذلك. وأما تصرفه عليه السلام بالفتيا أو الرسالة والتبليغ فذلك شرع يتقرر على الخلائق يتبع كل حكم مما بلغه إلينا عن ربه بسببه من غير اعتبار حكم حاكم ولا إذن إمام).
فثمرة التفريق هي أن الأفعال المتعلقة بالقضاء والإمامة، لا يقدم عليها إلا بإذن من أوكل إليه ذلك من قاض أو إمام؛ بخلاف الأفعال الأخرى فلا يشترط فيها ذلك. وقد ذكر القرافي في كتابه أمثلة طيبة يمكن من خلالها فهم منهجه في التفريق بين هذه التصرفات، وثمرة التفريق(3).
فأين هذه الثمرة المجمع عليها، من إلغاء بعض الشريعة، كما يريده هؤلاء الكتبة العصريون؟
وبعبارة أخرى، فمقصود القرافي: التفريق بين الأمور الخاصة بالسلطة التنفيذية والقضائية، التي لا يجوز لعامة الأفراد ممارستها إلا بعد إذن القاضي أو المسؤول صاحب السلطة؛ والأمور التي للناس الحرية في التصرف فيها دون حاجة إلى إذن خاص.
ولا يفهم أبدا من كلامه – رحمه الله - أن تصرفات الرسول في الإمامة والقضاء ليست تشريعية. إذ صفة الرسالة لا تفارق الرسول حتى في تصرفه بالإمامة أو القضاء. وتشريعه مثلا في قسمة الغنائم أو إقامة الحدود أو الأحكام القضائية لازم لمن بعده، دون خلاف.
والله أعلم.

----------------------------------------------------------------------------------------------

(1) – يحضرني منهم: محمد سليم العوا في بحث له بعنوان (السنة التشريعية وغير التشريعية)، مجلة (المسلم المعاصر)، العدد الافتتاحي الصادر في شوال 1394هـ/ نوفمبر 1974م ص 33.
(2) الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام، 23.
(3) المرجع السابق: ص 26 وما بعدها؛ وكتاب (أفعال الرسول ودلالتها على الأحكام الشرعية) لمحمد سليمان الأشقر: 1/440.