الهدية

مياسة النخلاني
قاصة يمنية
«يا له من يوم مرهق»

رددها وهو يركز في الطريق الذي يزدحم في مثل هذا الوقت، فلا يذكر أنه واجه ضغط عمل كالذي عاشه اليوم، وكل ما تمناه حينها أن يرتمي على سريره ويغط في نوم عميق، ولكن كيف السبيل إلى ذلك، واليوم يوافق يوم مولد حسام، وقد وعده أن يحتفل هذا العام بيوم مولده في أكبر متنزه في المدينة ولا مجال للعودة عن هذا الوعد؟

«ليته ينسى»

رددها في أعماقه وهو يوقف سيارته، لكن ما إن ترجل عنها، حتى تبخرت أمنيته بسرعة، فقد كان حسام ينتظره على عتبة الباب، وأدرك من لهفته وهو يجري نحوه أنه لم يبارح مكانه منذ عودته من المدرسة في انتظار الاحتفال المميز الذي ظل ينتظره طويلًا.

«هل أعددت لكل شيء؟»
سألته زوجته وهي تضع أمامه طعام الغداء.
«بكل تأكيد سنذهب أولًا لشراء الكعكة، ثم نمر على محل الألعاب لشراء أجمل وأغلى هدية، وبعدها نتجه إلى المتنزه في وسط المدينة حيث تم الترتيب لكل شيء».
صمتت لبرهة قبل أن تستدرج..
«ألا تعتقد أنه من الأفضل الاحتفال في البيت، فكما تعلم الأوضاع مضطربة بشكل مقلق في الآونة الأخيرة»
لامس قلقها قلبه، فهو يدرك هذا الأمر جيدًا، ومنذ اندلاع ثورة الشباب والأمور من سيئ إلى أسوء، حتى بات الشخص يمشي في الشارع وهو ينتظر الموت يأتيه في أي لحظة، ثم ينبري أطراف النزاع ليتهم أحدهم الآخر بكونه القاتل والمخرب.
وقبل أن يجيبها بكلمة واحدة حانت منه التفاتة لحسام لتخرسه نظراته المؤنبة، فلم يجد إلا الابتسامة يطمئن بها زوجته.
لم يكف حسام عن الحديث منذ مغادرة المنزل، فقد كان لديه الكثير ليحكيه لوالده الذي انشغل عنه أخيرًا.
«البارحة وأنا عائد من المدرسة وجدت كلبًا كبيرًا يعترض طريقي، هل تدري كيف تصرفت معه؟!»
«دعني أخمن أظن أنك انسحبت من أمامه حتى لا يعضك؟»
«ما هذا الكلام يا أبي! لقد أصبحت كبيرًا بما فيه الكفاية لأدافع عن نفسي»
«حسنًا عجزت.. أخبرني أنت كيف تصرفت معه؟!»
«استجمعت كل قواي، وأمسكت بعصا غليظة للدفاع عن نفسي إذا قام بمهاجمتي، ولكن بمجرد أن رآها بيدي حتى فر من أمامي مذعورًا».
«حقًا؟!»
«ألا تصدقني؟!»
«ومن قال ذلك؟ بالطبع أصدقك فأنا أعلم أنك شجاع جدًا»
«أبي! إذا صادفك ذلك الكلب فقط أخبرني، وسترى كيف سأجعله يفر من أمامك»
«حسنًا يا بطلي الصغير سيكون ذلك بالتأكيد».
كان يعلم أن القصة صحيحة- مع فارق بسيط- فالكلب المزعوم لجاره سعيد، وهو لا يزال جروًا صغيرًا لا يؤذي قطة، وقبل أن يبدأ حسام بسرد مغامرة جديدة، كانوا قد وصلوا إلى محل للحلويات، اختاروا كعكة كبيرة، ثم توجهوا مباشرة إلى محل الألعاب حيث طلبا منه البقاء في السيارة ريثما يعودا.
«خذاني معكما».
«وكيف ستكون مفاجأة إذا شاهدتها الآن؟ لن نتأخر سنغيب دقائق فقط»
استوقفه قطار جميل، وقرر أن يشتريه.
«ألا تعتقد أن ثمنه مرتفع؟»
«ربما.. لكن حسام سيفرح به كثيرًا، فطالما تمنى أن يكون لديه قطار مثل هذا».
كانا على وشك الخروج من المحل، وهما يحملان القطار وقد غلف بطريقة جميلة. حين ارتفعت أصوات طلقات نارية في الشارع ذاته، وبلمح البصر عمت الفوضى.
«حسام!!»
رمى بالهدية من يده، وهو يصرخ ويهرع نحو السيارة، متجاهلًا خطر الموت الذي يتربص به في تلك اللحظات، وما إن وصل حتى أحس بالأرض تزلزل من تحت قدميه، راح يحدق في حسام بذهول، فقد حينها الإحساس بكل ما حوله، وحتى بقدميه التي باتت عاجزة عن حمله، وكأن موجات عنيفة تتقاذف جسده حيث تشاء، فبات عقله عاجزًا عن تجميع خيوط المشهد المتجسد أمامه.
ولم يُعد له قدرته على التفكير إلا صرخة زوجته التي دوت في الشارع ليعقبها صمت مخيف.. كان حسام ينام على الكرسي حيث تركه وقد لطخ وجهه وصدره بدمه النازف، استجمع قواه وحمله بين ذراعيه.. أحس بالوهن يغزو جسمه، بمجرد ما أصبح بين ذراعيه.. جثا على ركبتيه، وأخذ يضمه إلى صدره وهو يبكي ويئن بحرقة.
«أ..بـ..ـي..»
خرجت من بين شفتيه الباهتتين واهية متقطعة، وكأنه ينتزع الحروف من أعماقه في حين راحت يداه تتشبثان بقوة بالشمعة المنحوتة على شكل رقم 7 التي انتقاها بنفسه لتزيين الكعكة بيوم ميلاده السابع، أعادت هذه الحروف المتقطعة الحياة لوالده فراح يلملم شتات روحه، وأسرع به إلى أقرب مستشفى.
مرت الدقائق عليه وعلى زوجته كأنها دهور طويلة، وهما ينتظران كلمة واحدة يتفوه بها أحد الأطباء لتعيد الحياة لقلبيهما، ولكن أيَّا من ذلك لم يحدث. انزوت زوجته في أحد الأركان تبكي بصمت وحرقة، في حين أسند ظهره على الجدار المقابل لغرفة العمليات وعيناه معلقتان على الباب.. في حين راحت الأحداث والأفكار تتزاحم في عقله المنهك.
«سيدتي! أرجوك طمئنيني على زوجتي وطفلي»
ردت عليه الممرضة وهي تدخل الغرفة على عجل
«لا تقلق يا سيدي ستكون بخير»
كيف يطلبون منه ألا يقلق وزوجته في تلك الغرفة لأكثر من ساعتين، فرغم لهفته التي لا توصف ليكون أبًا بعد زواج دام لأكثر من 10 سنوات دون أطفال إلا أنه لا يريد أن يفقدها.
«يااااارب»
نطق بها وهو يذرع الممر ذهابًا وإيابًا عندما فتح الباب مجددًا وخرج الطبيب وهو يبتسم له
«زوجتك بحالة جيدة»
«والطفل؟»
«إنه بخير أيضًا، هل اخترت له اسمًا»
كان قد اتفق هو وزوجته على اسم المولود سواء كان ولدًا أو بنتًا، لكنه نسي الاسم تمامًا حينها من الفرحة.
«حسام... حسام»
أخذت تبكي وهي تردد الاسم بصوت مخنوق، مسح دموعه وجلس إلى جانبها ضمها إليه وامتزجت دموعه بدموعها
«كان علينا أن نأخذه معنا»
قبل أن يجيبها خرج الطبيب من غرفة العمليات فأسرعا نحوه، حدق نحوهما بنظرات حزينة وقال وهو يهز كتفيه:
«آسف حاولت كل ما بوسعي لكن...»
أغمض عينيه وحاول التماسك في حين تهاوت زوجته بشكل كامل، لم يزد الطبيب حرفًا واحد، وقبل أن يمضي، وضع بين يديه الشمعة التي ظل حسام متشبثًا بها لآخر رمق. أخذ يحدق فيها وهو غير مصدق، فالشمعة الوحيدة في حياته تنطفئ في نفس اليوم ونفس المكان التي أوقدت فيه!!
أسند زوجته التي قرر أخذها عند أختها ليرحمها قليلًا من الألم الذي تعانيه هنا، وقبل أن يغادر وجد نفسه محاصرًا ببعض الغرباء، والكاميرا تصور المكان في حين راح شاب متأنق يطلب منه أن يسمحوا له بتصوير ابنه، وأن يقول للجميع أن الشباب الثائر هم السبب في موت ابنه وإقلاق السكينة.
أكد لهم أنه لم ير قاتل ابنه، وما يدركه الآن أن الاحتفال بعيد ميلاد ابنه لم يعد ممكنًا، ثم تركهم وغادر.
علم فيما بعد أنه ركن سيارته في الشارع الذي صادف مرور إحدى المسيرات الشبابية، ومن حيث لا يدري أحد انطلقت بعض الرصاصات الطائشة لتسلبه إحداها ابنه الوحيد.
حاول تفادي المرور بجانب السيارة العابقة بأنفاس حسام الأخيرة ودمائه التي لا تزال حرارتها تصهر قلبه وروحه وتدميها من الداخل.
وما إن وصل إلى بيت أخت زوجته حتى صار للحزن طعم أكثر مرارة، تركهما تواسيان بعضهما البعض، وقفل عائدًا إلى المستشفى لاستكمال الإجراءات، ورغم أن التاكسي كان بانتظاره لكنه أشار إليه أن يمضي، فقد أحس برغبة جارفة لتنفس بعض الهواء قبل أن يلقي بالوداع الأخير على ابنه.
أخذ يمشي دون هدف تنحدر منه دموع صامته ويقاوم صرخة يضيق بها صدره.
ليته استمع لنصيحة زوجته واحتفل بهذا اليوم في المنزل، ليته استجاب لتوسلات حسام وأخذه معه إلى المحل، وليت إحدى تلك الرصاصات الطائشة قد اخترقت قلبه وأراحته من تجرع هذه المرارة والحسرة.
سرعان ما عاد التعب يطرق جسده بمعاول شديدة تفقده القدرة على الاستمرار في السير.. تلفت حوله علّه يجد مكانًا يرمي فيه بقايا جسده المنهك، ولحسن حظه وجد مقهى بالقرب منه سحب أطراف كرسي وجلس عليه بأنفاس متقطعة وروح كسيرة
كل ما كان يتمناه حينها شربة ماء يبلل بها ريقه فراحت عيناه تبحث عن أحد العاملين لمساعدته، وما إن وقعت عيناه على التلفاز المعلق في الداخل حتى هب من مكانه كمن قرصته أفعى سامة.. ظل يحدق في المشهد الذي ينقل لقاءات مباشرة من موقع الحدث وهو غير مصدق لما تراه عيناه.
اقترب أكثر حتى صار أمامه مباشرة، طلب منه أحدهم أن يبتعد ليتمكنوا من المشاهدة فأسكته بإشارة من يده ليصمت.
نعم فهذه سيارته المهشم زجاجها والدماء متناثرة عليه، طفله الوحيد مسجى على الفراش دون حراك ونفس الشاب المتأنق و...
يا إلهي والدا الطفل يبكيان ابنهما، ويكيلان بالسب والشتم على من سلباهما فلذة كبدهما ويوزعان الاتهامات هنا وهناك على من تسبب في قتله، وتسبب في تلك الفوضى كلها، ولكن...
إن كان هذا المشهد مباشرًا، وهو يقف هنا، وزوجته منهارة تمامًا عند أختها فمن يكونا؟!
تضايق منه أحد الحضور فاقترب منه طالبًا إليه التحرك بعيدًا، أبعد يده التي ربتت على كتفه بقوه، والتفت إليه بعينين دامعتين وبصوت انتزعه من داخله انتزاعًا
«هذا ابني...»
صمت للحظات وكأنه يبحث عن شيء يقوله
«سرقوه مني حيًا وهاهم يسرقوه ميتًا»
وبلمح البصر تحول انتباه الجميع من التحديق في الشاشة والتفوا حول الرجل.. الكل يريد أن يفهم ما يحدث بالضبط
«ماذا تعني؟»
«لا أدري حقيقة.. لا أدري لكنه ابني أقسم إنه ابني، وهذا دمه لا يزال عالقًا في قميصي».
كان يتحدث وهو يمسك بقميصه وينتقل بين الحضور والتلفاز بنظراته كالمحموم.