تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: النظم القرآني في سورة الرعد

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Aug 2010
    المشاركات
    3,673

    Lightbulb النظم القرآني في سورة الرعد

    النظم القرآني في سورة الرعد (2)
    د. محمد بن سعد الدبل

    وإذ قد وعَدْنا بتفصيل القول في الإعجاز بالنظم، وعرض لطائفة من أقوال العلماء في ذلك، فلنتبين مفهوم "
    كلمة النظم" واستعمالها عند أصحاب اللغة وعند علماء البلاغة والأدب والمتكلمين، وبعدها نشير إلى ما ذكرنا.


    إذا تتبعنا مادة "نظم" ومشتقاتها في معاجم اللغة، وجدنا أن العرب استعملت هذه المادة في معنى التأليف وما يراد فيه؛ فقد جاء في "لسان العرب":
    1- النظم: التأليف، نَظَمه يَنظِمه نَظْمًا ونظامًا، ونظَّمه فانتظم وتنظَّم.
    2- ونظمت اللؤلؤ: أي: جمعته في السلك، والتنظيم مثله، ومنه: نَظَمت الشعر ونظَّمته، ونَظَم الأمر على المثل.
    3- وكل شيء قرنته بآخر أو ضممت بعضه إلى بعض، فقد نَظَمته.
    4- النَّظْم: المنظوم، وصفٌ بالمصدر.
    5- النظم: ما نظمته من لؤلؤ وخرز وغيرهما، واحدته: نَظمة.
    6- ونظم الحنظل: حبه في صيصائه[1].
    7- النظام: ما نظمت فيه الشيء من خيط وغيره، ونظام كل أمر مِلاكُه، والجمع: أنظمة، وأناظيم، ونُظُم.
    8- النظم: نظمك الخرز بعضه إلى بعض في نظام واحد، كذلك هو في كل شيء، حتى يقال: ليس لأمره نظام؛ أي: لا تستقيمُ طريقتُه.
    9- النظام: الخيط الذي ينظم به اللؤلؤ، وكل خيط ينظم به اللؤلؤ، فهو نظام، وجمعه: نُظم، قال الشاعر:
    مثل الفريد الذي يجري من النُّظُم[2]
    10- الانتظام: الاتساق، وفي حديث أشراط الساعة، ((وآيات تَتَابَعُ كنظامٍ بالٍ قُطِع سِلْكُه)).
    11- النظام: العقد من الجوهر والخرز وغيرهما، وسلكه وخيطه.
    12- النظام: الهديَة والسيرة، ومنه: ليس لأمرهم نظام؛ أي: ليس له هديٌ، ولا متعلق، ولا استقامة، وما زال على نظام واحد؛ أي: عادة.
    13- تناظمت الصخور: تلاصقت.
    14- والنظامان من الضب: كشيتان منظومتان من جانبي كُلْيتيه، طويلتان.
    15- ونظاما الضبة وإنظاماها: كشيتاها، وهما خيطان منتظمان بَيْضًا، يبتدَّان جانبيهامن ذنَبها إلى أذنها، ويقال: في بطنها إنظامان من بيض، وكذلك إنظاما السمكة، حُكي عن أبي زيد "أُنظومتا الضب والسمكة"، وقد نظَمت ونظَّمت وأنظمت، وهي ناظم ومُنَظِّم ومُنْظِم، وذلك حين تمتلئ من أصل ذَنَبها إلى أذنها بيضًا، ويقال: نظَّمت الضبة بيضها تنظيمًا في بطنها، ونظَمها نظْمًا، وكذلك الدجاجة أنظمت: إذا صار في بطنها بيض.
    16- والأنظمام: نفس البيض المنظم، كأنه منظوم في سلك.
    17- والإنظمام من الخرز: خيط قد نظم خرزًا، وكذلك أناظيم مكن الضبة.
    18- ويقال: جاءنا نظم من جراد، وهو الكثير.
    19- ونظام الرمل وأَنظامَتُه: ضفرته، وهي ما تعقَّد منه.
    20- ونَظَم الحبل: شَكَّه وعقده.
    21- ونظم الخوَّاص المُقل ينظمه: شكه وضفره.
    22- والنظائم: شكائك الحبل وخلله.
    23- وطعنه بالرمح فانتظمه؛ أي: اختلَّه.
    24- وانتظم ساقيه وجانبيه، كما قالوا: اختل فؤاده؛ أي: ضمها بالسنان، وقد رُوِي:
    لما انتظمتُ فؤاده بالمطرد
    قال أبو زيد: "الانتظام للجانبين، والاختلال للفؤاد والكبد"، وقال الحسن في بعض مواعظه: "يا بن آدم، عليك بنصيبك من الآخرة؛ فإنه يأتي بك على نصيبك من الدنيا، فينتظمُه لك انتظامًا، ثم يزول معك حيثما زُلْت".
    25- وانتظم الصيد: إذا طعنه أو رماه حتى يُنفِذَه، وقيل: "لا يقال انتظمه حتى يجمع رميتين بسهم أو رمح".
    26- والنظم: الثريا على التشبيه بالنظم من اللؤلؤ، قال أبو ذؤيب:
    فوَرَدْنَ والعَيُّوقُ مَقْعدَ رابئِ الضْ=ضرباء فوق النَّظم لا يتتلَّعُ
    27- والنظم أيضًا: الدَّبَران الذي يلي الثريا[3].

    وأورد الزمخشري في أساس البلاغة:
    1- نظم وانتظم: رماه بسهم وطعنه، فانتظم ساقيه أو جنبيه، قال الأفوه:
    تخلي الجماجمَ والأكفَّ سيوفُنا=ورماحُن بالطعنِ تَنْتَظِمُ الكُلَى
    2- وجاء نظم من جراد، ونظام منه: صفٌّ.
    3- ونظمت النخلة: قبِلت اللقاح، وخردلت: إذا لم تقبل.
    4- نظم، يقال: نظَمت الدر ونظَّمته، ودر منظوم ومنظَّم، وقد انتظم وتنظم وتناظم، وله نَظْم منه، ونظام، ونُظُم، ومن المجاز: نظم الكلام، وهذا نظم حسن، وانتظم كلامه وأمره.
    5- وليس لأمره نظام: إذا لم تستقِمْ طريقتُه، تقول: هذه أمور عظام، لو كان لها نظام.
    6- وهذان البيتان ينتظمهما معنى واحد.
    7- ونظمتِ الضبةُ والسمكة ونظَّمت، فهي ناظم ومنظِّم: امتلأت من البَيض، وفي بطنها إنظامان وهما الكشيتان، وأناظيم"[4].

    وفي المعجم الوسيط ورد من معاني مادة "نظم":
    1- نَظَم الأشياء: ألَّفها وضم بعضها إلى بعض.
    2- وانتظم الشيء: تألق واتَّسق.
    3- والنظام: الترتيب والاتساق.
    4- ونظم القرآن: "عبارته التي تشتمل عليها المصاحف، صيغة ولغة"[5].

    ليس فيه:
    1- المنظمة والتنظيم: تأليف أجزاء متآزرة لأداء غرض معين، أو المجموع المؤلَّف على هذا النحو.
    2- والمنظمة والتنظيم: سلوك الطرق والأسباب العلمية في إنشاء الوحدات الإدارية لمشروع ما، وتحديد الاختصاصات وتوزيعها، وربط الإمكانيات المادية والمالية والبشرية والتنسيق فيها لتنفيذ المشروعات العامة.
    3- المنظمة والتنظيم: فن يرمي إلى تنظيم المعرفة منهجيًّا على أسس منطقية.

    وأورد الفيروزآبادي في القاموس المحيط:
    1- النظم: التأليف، وضم شيء إلى شيء آخر، والمنظوم، والجماعة من الجراد، وثلاثة كواكب من الجوزاء، والثرياء، والدبران.
    2- ونظم اللؤلؤ ينظمه نظمًا ونظامًا، ونظمه: ألفه وجمعه في سلك، فانتظم وتنظم.
    3- وانتظمه بالرمح: اختله.
    4- النظام: كل خيط به اللؤلؤ ونحوه، جمعه: أنظمة، وأناظيم، ونظم.
    5- النظام: ملاك الأمر، والسيرة، والهدي والعادة.
    6- ونظاما السمكة والضب، وإنظاماهما، بالكسر، وأُنظومتاهما بالضم: خيطان منظومان بَيضًا من الذنَب إلى الأذن.
    7- الإنظام: نفس البيض المنتظم، ومن الرمل ما تعقَّد منه كنظامه، وكل خيط نُظِم خرَزًا.
    8- النظَّام: لقب إبراهيم بن سيار النظام، محمد بن عبدالجبار الشاعر الأندلسي[6].

    وفي جمهرة اللغة لابن دريد:
    1- النظم: نظمك الخرز وغيره، نظم ينظم نظمًا ونظامًا، ونظَّم تنظيمًا. 2- النظام: كل شيء منظوم.
    3- النظم: كواكب في السماء تسمى النظم، وهي من نجوم الجوزاء.
    4- ويقال: "انتظمت الصيد: إذا طعنته أو رميته حتى تنفذه، وقال بعضهم: لا يقال انتظمته حتى تجمع بين رميتين بسهم أو برمح"[7].

    وفي تهذيب اللغة للأزهري:
    1- النظم: نظمك الخرز بعضه إلى بعض في نظام واحد، كذلك هو في كل شيء، حتى يقال: ليس لأمره نظام؛ أي: لا تستقيم طريقته، حتى يقال: طعنه بالرمح فانتظم ساقيه أو جنبيه.
    2- النظامان من الضب: كشيتان من الجانبين منظومتان بَيضًا من أصل الذنب إلى دبرة الأذن، وكذلك الإنظامان يقال: في بطنها إنظامان من بيض، وكذلك إنظاما السمكة، يقال: نظَّمت فهي مُنظم، ونظَمت فهي ناظم؛ وذلك حين تمتلئ من أصل أذنها إلى ذنَبها بيضًا، وكذلك الدجاجة تنظم.
    3- ويقال: نظَّمت الضبة بيضها تنظيمًا في بطنها، ونظَمته نظمًا.
    4- الإنظام من الخرز: خيط قد نظم خرزًا، وكذلك أناظيم مَكْن الضبة.
    5- وقال الكسائي: جاءنا نظم من جراد، وهو الكثير.
    6- والجماعة: نُظم.
    7- النَّظْمة: كواكب الثريا[8].

    تلك المعاني التي استقصيناها من أهم معاجم اللغة للفحص عن مادة "نظم"، توضِّح المعنى الأصلي الذي كان العرب يستعملون فيه هذه المادة.

    وهذا المعنى يبدو في ظاهره متعددًا، فهو يتناول الماديات والمعنويات كما مر معنا؛ إذ إن من معاني النظم عند العرب نظم اللؤلؤ في الخيط، والخيط نفسه، ومنه معنى الاتساق والائتلاف بين الأمور المعنوية؛ كقولهم: النظم: الشعر الحسن، والنظم: المنظوم، وصفٌ بالمصدر، ونظام كل أمر: ملاكه، ومنه: ليس لأمرهم نظام؛ أي: لا تستقيم طريقته.

    وأهم تلك المعاني يدور حول معنى الاتساق والائتلاف، وما ذكره أولئك اللغويون يعيد إلى الأذهان ما ذكره قدامة بن جعفر في كتابه "نقد الشعر": "عن الائتلاف بين اللفظ والمعنى، وبين اللفظ والوزن، وبين المعنى والقافية[9]"، وهذا يعيننا على رد تلك المعاني إلى المدلول الأصلي لمادة "النظم" الذي يوحيه مفهومها، وهو الاتساق والائتلاف والتناسب بين الأجزاء؛ فإن نظم اللؤلؤ في الخيط يستوجب التناسب في إحكام الصنعة؛ ليبدو العقد سليمًا في مظهره، وكذلك نظم الكلام يتطلب دقة الإحكام، ووضع كل لفظة بجانب أختها، صنيع ناظم اللؤلؤ وحائك الخيوط.

    وإذا أردنا تتبع معنى هذه المادة عند الأدباء والبلاغيين، وجدنا لهذه اللفظة معانيَ كثيرةً، بعضها يتحد مع المعنى الذي بيَّنه اللغويون، وبعضها يرمي إلى معنى آخر.

    فهي عند الجاحظ تَرِدُ مرادفة للتأليف، نلحظ ذلك المعنى في معرض حديثه عن القرآن، إذ يقول: "إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - تحدى البلغاء والخطباء والشعراء بنظمه وتأليفه".

    وعنده في بعض المقامات الأخرى ترد بمعنى "البيان والإنشاء"[10].

    وعقد أبو هلال العسكري في "الصناعتين" بابًا سماه: "حسن النظم"، بيَّن فيه معنى النظم بأنه: "التأليف والرصف والضم"، إذ يقول: "وحسن الرصف أن توضع الألفاظ في موضعها، وتمكَّن في أماكنها، ولا يستعمل فيها التقديم والتأخير، والحذف والزيادة إلا حذفًا لا يفسد الكلام، ولا يعمي المعنى، وتضم كل لفظة منها إلى شكلها، وتضاف إلى لِفْقِها، وسوء الرصف تقديم ما ينبغي تأخيره منها، وصرفها عن وجوهها، وتغيير صيغتها، ومخالفة الاستعمال في نظمها.

    ويستطرد أبو هلال في شرح معنى النظم، وأنه جودة الرصف، وحسن السبك، بضرب الأمثلة قائلاً:
    فمن سوء النظم المعاظلة، أصلها من قولهم: تعاظلت الجرادتان، إذا ركبت إحداهما الأخرى، وعاظل الرجل المرأة كذلك، ومن المعاظلة قول الفرزدق:
    تعالَ فإن عاهدتَني لا تخونُني = نكنْ مثلَ مَن يا ذئبُ يصطحبانِ

    وقوله:

    إلى مَلِك، ما أمُّه من محاربٍ=أبوه، ولا كانت كليبٌ تصاهرُهْ

    وقوله:
    وما مثلُه في الناس إلا مملَّكًا=أبو أمِّه حيٌّ أبوه يقاربُهْ

    قال: ومن الكلام المستوي النظم، الملتئم الرصف، قول بعض العرب:

    أيا شجر الخابور، ما لك مورِقًا؟=كأنك لم تجزعْ على ابن طريفِ
    فتًى لا يحبُّ الزادَ إلا من التقى=ولا المالَ إلا مِن قنًا وسيوفِ

    والمنظوم الجيد ما خرج مخرج المنثور في سلاسته وسهولته واستوائه وقلة ضروراته، من ذلك قول بعض المحدثين:
    وقوفُك تحت ظلال السيوفِ=أقرَّ الخلافةَ في دارِها
    كأنك مطَّلع في القلوبِ=إذا ما تناجتْ بأسرارِها[11]

    وأمثلة أبي هلال كافية في إيضاح ما أورده عن معنى النظم، الذي منه حُسْن السَّبْك، وجودة الرصف، والتئام أجزاء الكلام؛ فإن ما ذكره من الأبيات لا تكاد تجد فيها ما يخرجها عن النظم الحسن التأليف.

    وتجد معنى النظم عند ابن سنان الخفاجي "ت 466هـ": ضمّ الشيء إلى الشيء، وهذا يخالف ما ذكره أبو هلال عن معنى هذه المادة؛ إذ إن النظم بمعنى ضم الشيء إلى الشيء يدخل فيه كلُّ كلام منظوم خاضع لقوانين الأسلوب العربي أو غير خاضع، كما سنلاحظ ذلك عند الحديث عن معنى النظم عند عبدالقاهر الجرجاني، وتتبع قوله فيه.

    والنظم عند عبدالقاهر:
    نظير النسج والصياغة والبناء والوشي والتحبير، مما يوجب اعتبار الأجزاء بعضها مع بعض؛ ولذا يجيء النظم عنده بمعنى الترتيب، وترتيب الألفاظ في العبارة على حذو ترتيب معانيها في الذهن، بل النظم في حقيقته عند عبدالقاهر ترتيب للمعاني في النفس، فلا بد أن يكون الهدف من هذا الترتيب صورة وصنعة؛ إذ لا يكون ترتيب في شيء - كما يقول عبدالقاهر - حتى يكون هناك قصد إلى صورة وصنعة، وهذا القول يفضي بنا إلى تتبع فكرة النظم عند هذا العالم؛ إذ هي محور بحوثه البلاغية والنقدية، فما معناها وما مفهومها عنده؟

    زيادة على ما مر ذكره عن معنى النظم عند عبدالقاهر نلحظ أن من معانيه أيضًا "التعليق"؛ إذ يقول: "وليت شعري كيف يتصور وقوع قصد منك إلى معنى كلمة من دون أن تريد تعليقها بمعنى كلمة أخرى".

    ومعنى القصد إلى معاني الكلم أن تعلم السامع شيئًا لا يعلمه، ومعلوم أنك أيها المتكلم لست تقصد أن تعلم السامع معاني الكلم المفردة التي تكلمه بها، فلا تقول: خرج زيد؛ لتُعلِمه معنى خرج في اللغة، ومعنى زيد، كيف ومحال أن تكلمه بألفاظ لا يعرف هو معانيها كما تعرف؟ ولهذا لم يكن الفعل وحده من دون الاسم، ولا الاسم وحده من دون اسم آخر أو فعلٍ كلامًا.

    وكنت لو قلت: "خرج"، ولم تأتِ باسم، ولا قدرت فيه ضمير الشيء، أو قلت: زيد، ولم تأتِ بفعل ولا اسم، ولم تضمره في نفسك، كان ذلك صوتًا تصوته سواء"[12].



    [1] الصيصاء: حب الحنظل الذي ليس في جوفه لب؛ انظر لسان العرب، ص 51 جـ7.
    [2] النظم: جمع نظام، والنظام: الخيط الذي ينظم به اللؤلؤ؛ لسان العرب، ص 578، مادة نظم.
    [3] لسان العرب، المجلد الثاني عشر، ص 578، 579، لابن منظور، طبعة دار صادر، بيروت.
    [4] أساس البلاغة للزمخشري، ص 641، طبعة دار بيروت.
    [5] المعجم الوسيط، الجزء الثاني، ص 941.
    [6] القاموس المحيط؛ للفيروزآبادي، الجزء الرابع، ص 210، 211.
    [7] جمهرة اللغة؛ لابن دريد، الجزء الثالث، ص 125.
    [8] تهذيب اللغة؛ للأزهري، الجزء الرابع، ص 391.
    [9] انظر نقد الشعر؛ لقدامة بن جعفر ص 24، مطبعة السعادة بالقاهرة، تحقيق كامل مصطفى.
    [10] نظرية عبدالقاهر في النظم؛ للدكتور درويش الجندي، ص 23، مطبعة الرسالة.
    [11] انظر الصناعتين؛ لأبي هلال ص 167، 168، 171، 172، مطبعة الحلبي، تحقيق علي البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم.
    [12] انظر دلائل الإعجاز ص 314، 316، ونظرية عبدالقاهر في النظم؛ للدكتور درويش الجندي، ص53.

    ((إنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكْثَرُهُمْ عَلَيَّ صَلاةً))

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Aug 2010
    المشاركات
    3,673

    Lightbulb رد: النظم القرآني في سورة الرعد

    النظم القرآني في سورة الرعد (3)

    لم يَغِبْ عن الباحثين من علماء الأدب ونقاده أن الأدب يؤثر فينا باجتماع عنصريه الأصليين: اللفظ والمعنى، وإن كانت الحقيقة أن اللفظ والمعنى يمثلان تمثيلاً كاملاً ما يراد نقلُه إلى المتلقي فكرًا وعاطفة، أو انفعالاً، أو تخيلاً، أو تصويرًا؛ فهما في الحقيقة شيء واحد، لا ينفصل أحدهما عن الآخر إلا كما تفارق الروح الجسد فتتركه ميتًا لا حياة فيه، ولا يستدل على الروح إلا إذا كانت متحيزة في ذات من الذوات، أو جسد من الأجساد.

    والفائدة كلها منوطة بالجملة والتركيب، أما أجزاء هذا التركيب، فإنها لا تغني وحدها.


    ولكن مما لا شك فيه أن الكل تتكون قيمتُه بقيمة الأجزاء التي تكوَّن منها هذا الكل؛ فإن البناء لا يكون سليمًا قويًّا قادرًا على الحياة إلا بسلامة الدعائم التي أُقيمَ عليها، وسلامة اللَّبِنات التي تكوَّن منها.


    ومن هذا المنطلق تكلم أكثر علماء البلاغة في قيمة الألفاظ المفردة؛ لأن سلامة الكل تتبع سلامة الجزء، فرُبَّ لفظة غريبة أو وحشية كدَّرت عبارة طويلة، وذهبت بسماتِ الحسن والجمال الذي اجتمع في كثرتها.


    ومنذ قديم وجدْنا من العلماء من تكلم في اللفظ الأدبي في حال إفراده، وجعل له صفاتٍ ومعالِمَ تتأكد بها جودتُه، ويفضل بها غيرَه من سائر الألفاظ، ومن هؤلاء الباحثين: أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (ت 255هـ) الذي صرح بمذهبه في تفضيل اللفظ، وتقدير العبارة، وغالى في هذا التفضيل، حتى لقد ذهب إلى أن "المعاني مطروحة في الطريق، يعرفها العجمي والعربي، والبدوي والقروي، وإنما الشأن في إقامة وزن الكلمة، وتخيُّر اللفظ، وسهولة المخرج، وفي صحة الطَّبع، وجودة السَّبك[1]".


    وقد اعتنق رأيَ الجاحظ كثيرٌ من علماء الأدب، منهم:
    أبو هلال العسكري (ت395هـ) إذ قال: "ليس الشأن في إيراد المعاني؛ لأن المعاني يعرفها العربي والعجمي، والقروي والبدوي، وإنما الشأن في جودة اللفظ، وصفائه وحُسنِ بهائه..."[2]، وهو بهذا ينقل رأيَ الجاحظ نقلاً يكاد يكون حرفيًّا.


    ومن هؤلاء النقاد الذين يقدرون اللفظ المفرد، ويجعلون له صفات ذاتية: قُدَامة بن جعفر (ت337هـ)، الذي يرى أن مقياس الحسن للفظ أن يكون سمحًا، سهل مخارج الحروف من مواضعها، عليه رونق الفصاحة، مع الخلوِّ من البشاعة... [3]، وممن أشاد باللفظة المفردة، وجعل لها خصائص تميزها بالحسن، وتقبح إذا فقدت تلك الخصائص: ابن سنان الخفاجي (ت466هـ)، الذي تناول كتابه: "سر الفصاحة" اللفظة المفردة من أدنى جزئياتها؛ من الصوت، والمخرج، والحرف.

    وجعل لهذه اللفظة المفردة الجيدة ثمانية أوصاف، هي:
    1- أن يكون تأليف اللفظة من حروف متباعدة المخارج.
    2- أن يكون لتأليفها في السمع حسن ومزية.
    3- أن تكون غير متوعرة ولا وحشية.
    4- وأن تكون غير ساقطة عاميةٍ.
    5- أن تكون جارية على العُرف العربي الصحيح غير شاذة.
    6- وألا تكون قد عبِّر بها عن أمرٍ آخر يُكرَه ذِكرُه.
    7- أن تكون معتدلة غيرَ كثيرة الحروف.
    8- أن تكون مصغَّرة في موضع عبِّر بها فيه عن شيء لطيف أو خفِيٍّ أو قليل، أو ما يجري مجرى ذلك[4].

    ومع أن ضياء الدين بن الأثير (ت637هـ) قد أنحى باللائمة على الخفاجي بأنه في كتابه: "سر الفصاحة" قد أكثر مما قل به مقدار كتابه من ذكر الأصوات والحروف، والكلام عليها، ومن الكلام على اللفظة المفردة وصفاتها مما لا حاجة إلى ذكره....[5]؛ مع ذلك شغل كلامُ ابن الأثير عن اللفظة المفردة، وصفات حسنها، وأسباب قبحها - جزءًا كبيرًا من أول دراسته في كتابه: "المثل السائر"، فقد نعَتَ اللفظة المفردة بكثير من الأوصاف، وجعل ألفة الكلمة وجريانها في اللغة الأدبية من الأسس التي تقوم بها الألفاظ، وتستحق المزية والتقدير، واعترف بالتفاوت بين الألفاظ التي يظن أنها من قبيل المترادف؛ فهو يقرر أن أرباب النظم والنثر من صناع الكلام غربلوا اللغة باعتبار ألفاظها، فاختاروا الحسن من الألفاظ واستعملوه، ونفوا القبيح منها فلم يستعملوه، فحُسْن اللفظة سببٌ في استعمالها دون غيرها، واستعمالُها دون غيرها سببُ ظهورها وبيانها، وذلك سبب يدعو إلى وصف اللفظة المفردة بالفصاحة؛ ولذلك يرى أن الفصيح من الألفاظ هو الحسن، ويقول: إن هذا من الأمور المحسوسة التي شاهدُها من نفسها؛ لأن الألفاظ داخلة في حيز الأصوات، فالذي يستلذه السمعُ منها ويميل إليه هو الحسن، والذي يكرهه وينفِر منه هو القبيح، ويضرب لذلك مثلاً بأن السمع يستلذ صوت البلبل من الطير وصوت الشُّحْرُور، ويميل إليهما، ويكرَه صوت الغراب وينفِر منه، كذلك يكره نهيق الحمار، ولا يجد ذلك في صهيل الفرَس.


    ويستمر ابن الأثير في الشوط إلى مداه في حسن الألفاظ المفردة وقبحها، ويرى أن لفظة "المزنة" "والديمة" حسنة يستلذها السمع، وأن لفظة "البعاق" قبيحة يكرهها السمع، وهذه اللفظات الثلاث من صفة المطر، وهي تدل على معنى واحد، ومع هذا فإنك ترى لفظتي "المزنة" و"الديمة" وما جرى مجراهما مألوفة الاستعمال، وترى لفظ "البعاق" وما جرى مجراه متروكًا لا يستعمل، وإن استعمل فإنما يستعمله جاهل بحقيقة الفصاحة، أو من كان غيرَ ذي ذوق سليم[6].


    وإذا كان هذا الاتجاه نحو تقدير اللفظة المفردة، والحكم عليها بمقتضى الحروف التي تتألف منها، وجرس أصواتها على السمع؛ أي: جعل الكلمة المفردة ذات خصائص ذاتية تجعلها حسنة أو قبيحة - إذا كان هذا يمثل رأي طائفة كبيرة من النقاد والعلماء، فإن هناك رأيًا مقابلاً لهذا الرأي، هو رأي عبدالقاهر الجرجاني (ت471هـ) الذي يصرح "بأن الكلمة المفردة لا قيمة لها قبل دخولها في التأليف، وقبل أن تصير إلى الصورة التي يفيد بها الكلامُ غرضًا من أغراضه في الإخبار، والأمر والنهي، والاستخبار، والتعجب، وتؤدي في الجملة معنى من المعاني التي لا سبيل إلى إفادتها إلا بضم كلمة إلى كلمة، وبناء لفظة على لفظة، وليس بين اللفظتين تفاضل في الدلالة حتى تكون إحداهما أدل على معناها الذي وُضعت له من الأخرى[7]".


    وليست العبرة عند عبدالقاهر باللفظ في ذاته، وإنما العبرة بالنظم، ودليل ذلك قوله: "فقد اتضح إذًا اتضاحًا لا يدع للشك مجالاً أن الألفاظ لا تتفاضل من حيث هي ألفاظ مجردة، ولا من حيث هي كلم مفردة، وأن الألفاظ تثبت لها الفضيلة وخلافها في ملائمة معنى اللفظة لمعنى التي يليها، أو ما أشبه ذلك مما ليس له تعلق بصريح اللفظ، ومما يشهد لذلك أنك ترى الكلمة تروقك وتؤنسك في موضع، ثم تراها بعينها تثقُل عليك وتُوحِشك في موضع آخر.."[8].


    ولا شك أن تعصب عبدالقاهر لفكرة النظم التي اعتنقها وشرحها في كتابيه: "أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز" على ذلك النحو الذي أشرنا إليه من الآراء الجيدة في تقدير حسن الكلام، فإننا لا نستطيع أن نجحد قيمة اللفظة في ذلك النظم، والذي هو ضم كلمة إلى كلمة، ولا نجحد أن اللفظ الجميل يزداد جمالاً بحسن موافقته لِما جاوره من الألفاظ، وهذا التجاوز هو الذي يكشف عما فيه من جمال، ويبين عن صفات الحسن الكامنة فيه، ولا نستطيع أن نُقِرَّ عبدالقاهر على كل ما ذهب إليه، وكذلك نختلف مع أولئك الذين يجعلون للألفاظ المفردة ذلك الاعتبار؛ إذ لا بد من مراعاة اللفظة المفردة بأجراسها، ومقاطع حروفها، والدقة في انتقائها، ومراعاة توافر الحسن في جميع جزئياتها، ومن ثم طريقة وضعها في الترتيب، بحيث تتلاءم مع ما قبلها وما بعدها، ولا نقلل من قيمتها على حساب النظم؛ لأن الألفاظ هي اللبنات الأولى اللاتي بهن تتكوَّن الجملة وشبه الجملة في تأدية المعنى المراد، وكذلك نعطي الجملة قيمتَها من حيث مراعاة حسن الجوار، ووضع كل جملة بجانب أختها، ونعطي المعنى قيمته؛ حيث لا غموض، ولا إبهام، ولا تعمية، ولا ألغاز.


    إذا تبين لنا المزية في النظم، وأنه لا بد من مراعاة الدعائم التي يقوم عليها وهي اللفظ مفردًا، والجملة مركبة، والمعنى مسوقًا، فلنطبق تلك المزية، ولنستظهر بعض أسرار هذا النظم وعناصره في سورة الرعد، تلك السورة التي آثرنا أن تكونَ محور الدراسة في هذا البحث، "والتي من أهدافها غرس عقيدة التوحيد في النفوس، وانتزاع ما يخالف تلك العقيدة من الضمير، والدعوة إلى العمل الصالح المكوِّن للإنسان المهذب الكامل، الناهض بالجماعة، بسَنِّ شريعة الإسلام من عند الله"[9]، وتجلية طبيعة النبوة والرسالة"، مطوفة بالقلب البشري في مجالات وآفاق وأبعاد وأعماق؛ إذ تعرض الكون كله في شتى مجالاته؛ في السموات المرفوعة بغير عمد، والأرض المبسوطة وما فيها من حركة وسكون، كل ذلك لإقرار عقيدة التوحيد في النفوس.


    وهي من أعاجيب السور القرآنية التي تأخذ في نفس واحد، وإيحاء واحد، من بدئها إلى نهايتها، تفعم النفس وتزحم الحس بالصور والظلال والمشاهد والخوالج[10]"، وهي سورة مكية غير آيتين، هما قول الله - تعالى -: ﴿ وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ﴾ [الرعد: 31]، وقوله - تعالى -: ﴿ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ﴾ [الرعد: 43]؛ فإنها مدنيتان، وعدد آياتها: خمس وأربعون، وقيل: ثلاث وأربعون، وعدد كلماتها: ثمانمائة وخمس وخمسون كلمة، وعدد حروفها: ثلاثة آلاف وخمسمائة وستة أحرف"[11].


    وكان من واجبنا في هذه الدراسة المتخصصة لهذه السورة الكريمة أن نلم ببديع نظمها، وعجيب تركيبها، ومحكم فواصلها، ورائع صورها، لولا أن تتبُّع ذلك كله واستقراءَه لفظًا لفظًا وتركيبًا تركيبًا وفاصلة وفاصلة وصورة صورة من الآمال البعيدة عن طوق البشر؛ إذ إنه لا تكفي فيها الإشارات السريعة، أو اللمحات الخاطفة، ولكنها تحتاج إلى النظرة العميقة، والفحص الدقيق عن كل حرف من الحروف، أو صورة من الصور؛ ولذلك يجد الباحث نفسه مضطرًّا إلى أن يجتزئ بالقليل ليدل على الكثير، وكما قيل: "حسبك من القلادة ما أحاط بالعنق".


    ولذا سنتعرض لخصائص نظم تلك الألفاظ والحروف في طائفة من آيات السورة الكريمة،
    متفحصين كيف التحمت لَبِنات هذه الآيات؟ انتظم من مجموعها ذلك العِقدُ الفريد في أجمل صورة حية كل ذرة في خليتها، وكل خلية في عضوها، وكل عضو في جهازه، حتى يبرز اللفظ وقد أخذ مكانه المقسوم وَفْق خط مرسوم.


    [1] انظر الحيوان للجاحظ ص 444، الطبعة الأولى 1287هـ، تحقيق فوزي عطوي، مطبعة شركة الكتاب اللبناني، بيروت.
    [2] انظر الصناعتين لأبي هلال العسكري ص 63، 64، الطبعة الثانية، تحقيق علي البجاوي، ومحمد أبو الفضل إبراهيم، مطبعة الحلبي.
    [3] انظر قدامة بن جعفر والنقد الأدبي؛ للدكتور بدوي طبانة ص 193، الطبعة الثالثة، 1389هـ، الحديثة.
    [4] انظر ذلك مفصلاً في البيان العربي؛ للدكتور بدوي طبانة ص194، 206، الطبعة الرابعة، المطبعة الفنية الحديثة 1388هـ.
    [5] انظر ذلك مفصلاً في البيان العربي؛ للدكتور بدوي طبانة ص 194، 206، الطبعة الرابعة، المطبعة الفنية الحديثة، 1388هـ.
    [6] المصدر السابق ص 273.
    [7] انظر دلائل الإعجاز لعبدالقاهر الجرجاني ص 35، التأثير محمد رشيد رضا.
    [8] انظر دلائل الإعجاز لعبدالقاهر ص 33، طبعة المراغي.
    [9] انظر من بلاغة القرآن لأحمد أحمد بدوي ص 230، الطبعة الثانية، مطبعة نهضة مصر.
    [11] انظر تنوير المقباس من تفسير ابن عباس لأبي طاهر محمد بن يعقوب الاسترابادي.
    ((إنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكْثَرُهُمْ عَلَيَّ صَلاةً))

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Aug 2010
    المشاركات
    3,673

    Lightbulb رد: النظم القرآني في سورة الرعد

    النظم القرآني في سورة الرعد (4)

    عناصر النظم القرآني في السورة:
    إن دراسة أي نص قرآني تتطلب الوقوف عند لبناته الأولى التي هي المفردات، لتبين مدى الإصابة في اختيارها، ومدى تمكُّنها في موضعها من جملتها، وقوة ربطها بأخواتها، "وكلما ازداد الدارس تعمقًا في فهم النص القرآني واستجلائه لا بد أن يقف أمام جلال القرآن الكريم؛ ليدرك معه: لماذا أعيا العربَ وهم أصحاب اللَّسَن والبيان عن الإتيان بسورة من مثله؟!

    والآن لنتتبع الآيات من قوله - تعالى -: ﴿ المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الرعد: 1]، إلى قوله - تعالى -: ﴿ وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ ﴾ [الرعد: 4] الآية".

    ولنقف أمام جلال تلك الألفاظ وروعتها، ولنلحظ أن أول ما يطالعنا في بدايتها تلك الفاتحة العجيبة ﴿ المر ﴾ التي لم يَزِدْ أن قال العلماء عنها وعن غيرها من فواتح السور بمثلها: إنها سرُّ هذا القرآن، وهي مما استأثر اللهُ بعمله.

    وحول فواتح السور ذكروا:
    أن جملتها عشرة أنواع من الكلام، منها: "الثناء على الله سبحانه"؛ كما في سورة الكهف: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ﴾ [الكهف: 1] والأنعام، وغيرهما مما ابتدِئ بهذا النوع، ومنها الاستفتاح "بالنداء"؛ كـ: "يا أيها المزمل، ويا أيها المدثر"، والاستفتاح بالجمل الخبرية: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ ﴾ [الأنفال: 1]، ﴿ بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ ﴾ [التوبة: 1]، ﴿ أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ ﴾ [النحل: 1]، ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [المؤمنون: 1]، والاستفتاح بالقسم: ﴿ وَالصَّافَّاتِ صَفًّا ﴾ [الصافات: 1]، ﴿ وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا ﴾ [الذاريات: 1]، ﴿ وَالطُّورِ ﴾ [الطور: 1]، ﴿ وَالنَّجْمِ ﴾ [النجم: 1]، والاستفتاح بحروف الهجاء؛ كما في سورة البقرة وآل عمران، والقصص، والنمل، ومريم، والرعد، وغيرهن، إلى آخر ما ذكروه عن جملة هذه الأنواع، وأحصوه"، ولم يكتفِ بعضهم بالقول عن حروف الهجاء: إنها سر هذا القرآن، أو هي مما استأثر الله بعلمه، بل كثُر حديثهم عنها، وهذه طائفة من الأقوال التي ذكروها، قالوا: "إن الحروف المقطعة في أوائل السور بمثابة أدوات التنبيه، والغرض من استعمال هذه الحروف إثارةُ انتباه السامع إلى ما يراد إلقاؤه إليه.

    وإذا نظرنا في فاتحة سورة الرعد ألفينا أربعة أحرف،
    هي الألف واللام والميم والراء، ولا شك أن مثل هذا الاستعمال أكثر لفتًا للنظر، وإثارة للانتباه مما جرت العادة باستعماله؛ وذلك أن المألوف على السمع يمر دون أن يحرك في النفس ساكنًا، أو يوقظ في الفكر نائمًا، أو ينبَّهَ به غافلٌ، فإذا طرق السمعَ جديدٌ غيرُ مألوف في أساليب الكلام تحرك الساكن، وتنبَّه الغافل.

    ومن هنا فقد جاءت فاتحة سورة الرعد من تحقيق التنبيه التام بما لا مزيد عليه"، وقل مثل ذلك في السور الأخرى التي نهجت هذا المنهج من الفواتح، وذكروا أن الحروف المقطعة التي ابتدأت بها بعض السور: "بيان لإعجاز القرآن، وأن الخَلْق عاجزون عن الإتيان بمثله، مع أنه مركَّب من هذه الحروف التي يتخاطبون بها، ودليل ذلك أن السور المفتتحة بالحروف المقطعة يُذكَر فيها دائمًا الانتصارُ للقرآن الكريم، وأنه الحق الذي لا شك فيه، وأنه الكتاب المعجِز، وغيره دونَه.

    فهذه سورة البقرة افتتحت بألف، لام، ميم، وبعدهن يأتي قوله - تعالى -: ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 2]، وهذه سورة آل عمران والأعراف ويونس وهود، وهذه سورة الرعد: ألف، لام، ميم، را، وبعد تلك الحروف يأتي قولُ الله - تعالى -: ﴿ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ ﴾ [الرعد: 1] ومما نلحظه في فاتحة سورة الرعد: "أنها بدأت بحروف من جنس ما ورد فيها، وهذا البدء آية في التناسب، بل لقد ختمت حروف فاتحتِها بحروف الراء، وفي هذا تحقيقٌ للتناسب التام في جو السورة العام الذي كثيرًا ما يضطلع به هذا الحرف، كما في ذكر البرق والرعد"، "ورفع السموات بغير عمد، وبسط الأرض، وبث الثمرات، وجريان الأنهار".

    قال أحمد بن فارس:
    وأقرب القول في ذلك وأجمعه قول بعض علمائنا: إن أَولى الأمر أن نجعل هذه التأويلات كلها تأويلاً موحدًا، فيقال: إن الله افتتح السور بهذه الحروف إرادة منه الدلالة بكل حرف منها على معانٍ كثيرة، لا على معنى واحد، فتكون هذه الحروف جامعةً لأن تكون افتتاحًا للسور، وأن يكون كل واحد منها مأخوذًا من اسم من أسماء الله تعالى، وأن يكون الله - جل ثناؤه - قد وضعها هذا الموضع قسَمًا بها، وأن كل حرف منها في آجال قوم وأرزاق آخرين، وهي مع ذلك مأخوذة من صفات الله - جل وعز - في أنعامه وأفضاله ومجده، وأن الافتتاح بها سبب لأن يَستمع إلى القرآن مَن لم يكن يستمع، وأن فيها إعلامًا للعرب أن القرآن الدالَّ على صحة نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- هو بهذه الحروف، وأن عجزَهم عن الإتيان بمثله - مع نزوله بالحروف المتعالمة بينهم - دليل على كذبهم وعنادهم وجحودهم، وأن كل عدد منها إذا وقع في أول سورة، فهو اسم لتلك السورة، وهذا هو الجامع للتأويلات كلها، من غير اطراح لواحد منها، وإنما قلنا هذا لأن المعنى فيها لا يمكن استخراجه عقلاً من حيث يزول به العذر، ولأنه المرجع إلى أقاويل العلماء، ولن يجوز لأحد أن يعترض عليهم بالطعن وهم من العلم بالمكان الذي هم به، ولهم مع ذلك فضيلةُ التقدم، ومزية السبق، والله أعلم بما أراد من ذلك".

    ومن جملة ما قالوه عن فواتح السور بحروف الهجاء أنها أسماء لسورها، وهي سر القرآن، وهي مما استأثر اللهُ بعلمه، إلى أهم ما قالوه، وإن كان لا يعدو أن يكون اجتهادًا؛ ولذلك نجد أكثرهم يتحرزون عند الكلام على مدلول تلك الحروف التي بدئت بها بعض سور القرآن، فتراهم يصرون على ذكر هذه العبارة "الله أعلم بمراده بذلك"؛ تجنبًا لمزالق الاجتهاد، ومن هنا لا نؤثِرُ رأيًا على رأي مما قالوه، بل نضم أنفسنا إلى أولئك الذين بالغوا في الاحتياط فقالوا: الله أعلم بمراده.
    ((إنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكْثَرُهُمْ عَلَيَّ صَلاةً))

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •