بسم الله الرحمن الرحيم
لم أكن لأتوقع أن الأخ الكريم زياني يصل به الأمر إلي التَبديع وإن كان بَاطناً دُون التصريح بذلك ولا حول ولا قوة إلا بالله ، فقاده الظَن إلي ذلك وليتَ شعري أهي مسألةٌ بنيناها من أفكارنا أم أتينا به من كيسنا ! قَال الله تَعالى : (( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ )) ، قَال الشَافعي - رحمه الله - :
لِسَانَكَ لا تَذْكُرْ بِهِ عَورَةَ امرئ ** فَكلُّكَ عَـوْرَاتٌ وَلِلنَّـاسِ أَلْسُــنُ
وَعَـينكَ إنْ أَبْـدَتْ إَلَيكَ مَعَـايِباً ** فَصُنْهَا وَقُلْ يَاعَيْنُ لِلنَّاسِ أَعْينُ
فيا أخيا إن المسألة لا يجب أن تؤخذ بعين التعصب أو أن تَرمي صاحبها بالبدعة ؟! فقد اختلف أهل الرأي مع أهل الحَديث إلا أن الإمام الحَافظ أمير المؤمنين شعبة يَقول عند موت أبو حنيفة - رحمهما الله - : (( لقد ذهب معه فقه الكوفة، تفضل الله عليه وعلينا برحمته )) فلو أنكَ يا أخي الكَريم أصلت للمسألة ذلك التأصيل وخضتَ في غامضها دُون بَاديها لكَان أهونُ عليك إذ أني لا أدري أين أخالفُ أنا في مسألة تفرد الثقة والصدوق ! ولو أنكَ يا أخي الحَبيب صنعتَ ما صَنع السَلف عند الاختلاف ما كان مقالكَ وردك عليَّ يسومه سوء الظن والشك وانظر لقول الحافظ الذهبي - رحمه الله - : (( وكان يرى القدر نسأل الله العفو؛ ومع هذا فما توقف أحد في صدقه وعدالته وحفظه، ولعل الله يعذر أمثاله ممن تلبس ببدعة يريد بها تعظيم الباري وتنزيهه وبذل وسعه، والله حكم عدل لطيف بعباده ولا يسأل عما يفعل، ثم إن الكبير من أئمة العلم إذا كثر صوابه وعلم تحريه للحق واتسع علمه وظهر ذكاؤه وعرف صلاحه وورعه واتباعه يغفر له زلله ولا نضلله ونطرحه وننسى محاسنه، نعم ولا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك )) أهـ ، فالعلم رحمٌ بين أهلهِ وإليكَ مَزيداً مِن القبس والنُور والوهج المنير مِن أدب الأئمة الأعلام وسلف الأمةِ عند الاختلاف ، قال الحافظ ابن عبد البر في جامع البيان (2/107) : (( عن العباس بن عبد العظيم العنبري قال : كنت عند أحمد بن حنبل وجاءه علي بن المديني راكبا على دابة قال : فتناظرا في الشهادة وارتفعت أصواتهما حتى خفت أن يقع بينهما جفاء وكان أحمد يرى الشهادة وعلي يأبى ويدفع فلما أراد علي الانصراف قام أحمد فأخذ بركابه )) أهـ ، جَعلنا الله تعالى وإياك ممن يسلك ذلك المسلك وينتهج هذا النهج وإن الانصاف عزيز وأهله أندر من الألماس الأزرق ، ومَن رزق الإنصاف زرق العلم والعَمل إن شاء الله فهَونك فالأمر هينٌ والاختلافُ في هذه المسألة لا يذهب شيئاً مِن العلم ولا يُفني السُنة - غفر الله لك - ! .
التَعقب الرزين للمُخالفِ الحَليم
الأخ الحَبيب يَظن أني أنكر خَبر الآحاد !! ولا حول ولا قوة إلا بالله وهذا ليس بصحيح البتة وليس تَكلمنا في مسألة التفرد مِن قبل الصدوق والثقة دَليلٌ على ذلك وإنما قَال بهذا بعضُ مَن تعصب ! إن هي إلا دعوةٌ مباركة للعودة لمَنهج الأئمة المتقدمين في التَعليل والتصحيح والتضعيف ! وليس والله نبذاً لجهود أحدٍ من العالمين وليس انتقاصاً مِن بشرٍ أبداً ولا هدراً للسنة كما يتوهم الكثيرين والله المستعان يَقول الإمام الشاطبي الموافقات (1/97-99) : (( الشرطُ الثاني : أنْ يتحرى كتبَ المتقدّمين مِنْ أهلِ العلم المراد، فإنهم أقعدُ بهِ منْ غيرهِم من المتأخرين، وأصلُ ذلكَ التجربةُ والخَبَرُ: أمَّا التجربةُ فهو أمرٌ مشاهد في أيّ علمٍ كان فالمتأخرُ لا يبلغُ مِنْ الرسوخِ في علمٍ مَا مابلغه المتقدمُ، وحسبكَ منْ ذلكَ أهلُ كلّ علمٍ عمليّ أو نظريّ، فأعمالُ المتقدمين -في إصلاحِ دنياهم ودينهم- على خلافِ أعمالِ المتأخرين؛ وعلومُهم في التحقيقِ أقعدُ، فتحققُ الصحابةِ بعلوم الشريعة ليسَ كتحققِ التابعين؛ والتابعونَ ليسوا كتابعيهم؛ وهكذا إلى الآن، ومَنْ طالعَ سيرهَم وأقوالَهم وحكاياتِهم أبصرَ العَجبَ في هذا المعنى، وأما الخَبَرُ ففي الحديث "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم"...والأخبا رُ هنا كثيرةٌ، وهى تدلُ على نقصِ الدينِ والدنيا، وأعظمُ ذلكَ العلم، فهو إذا في نقصٍ بلا شك، فلذلك صارتْ كتب المتقدمين وكلامهم وسيرهم أنفع لمن أراد الأخذ بالاحتياط في العلم على أيّ نوعٍ كان، وخصوصاً علم الشريعة، الذي هو العروةُ الوثقى، والوزَر الأحمى وبالله تعالى التوفيق )) ، ويقول الحافظ الذهبي : (( جزمتُ بأنَّ المتأخرين على إياس من أن يلحقوا المتقدمين في الحفظ والمعرفة )) أهـ ، قُلت : وقد أصاب رحمه الله ولكن هل هذا يلزم أن يَكون المُتأخرين على قدرٍ مِن جهل - لا قدر الله - ! أو لا قيمةَ لما قدموا ؟! لا والله إن هذا إلا من باب المُفاضلة بين الأئمة والعُلماء والمُحدثين وليس مسلم كالبخاري ، وليس البخاري كشيخه علي بن المديني وإنما كَانوا يروا بعضهم أفضل من بعض - رضي الله عنهم - ، قَال الحافظ الثبت ابن رجب : (( وقد ابتلينا بجَهَلةٍ من النّاس يعتقدون في بعض من توسع في القول من المتأخرين أنه أعلم ممن تقدم، فمنهم من يظن في شخص أنه أعلم من كل من تقدم من الصحابة ومن بعدهم لكثرة بيانه ومقاله، ومنهم من يقول هو أعلم من الفقهاء المشهورين المتبوعين...وهذا تنقص عظيم بالسلف الصالح وإساءة ظن بهم ونسبته لهم إلى الجهل وقصور العلم )) ، وقال : (( فلا يوجد في كلام من بعدهم من حق إلاّ وهو في كلامهم موجود بأوجز لفظ وأخصر عبارة، ولا يوجد في كلام من بعدهم من باطل إلاّ وفي كلامهم ما يبين بطلانه لمن فهمه وتأمله، ويوجد في كلامهم من المعاني البديعة والمآخذ الدقيقة ما لا يهتدي إليه من بعدهم ولا يلم به، فمن لم يأخذ العلم من كلامهم فاته ذلك الخير كله مع ما يقع في كثير من الباطل متابعةً لمن تأخر عنهم )) ، ليسَ هذا والله دعوة للتقليد ، كلا بل هي دعوةٌ مباركة صادقة للاتباع والاقتداء وانزال الناس منازلهم وجَعلهم في أمكنتهم ، " والعدل في القول والعمل، ومعرفة أنّ لسلفنا الصالح منهجاً فريداً متكاملاً في العلم والعمل، نابعاً من الكتاب والسنة ، وما عليه الصحابة الكرام، فكانوا بحق هم أجدر من يقتدى بهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام "(1) ، ليس الأمرُ كَما يتبين لكثيرٍ مِن الناس ومِن طلبة العلم والباحثين - وفقهم الله - والأمر أيها الفاضل الكَريم كما قال شَيخ الإسلام وبركة الزمان ابن تيمية - رحمه الله - : (( ومَنْ آتاه اللهُ علماً وإيماناً عَلِمَ أنّه لا يكون عند المتأخرين من التحقيق إلا ما هُو دونَ تحقيقِ السلفِ لا في العلم ولا في العمل )) فطَالب العلم لهُ بالحُجة والبيان ولا يُزكي نفسهُ على الأنام ولا يقبل المديح ولا الثناء ولابد أن يرضى بالحق إن جاء ولزوم أئمة السلف وخير الأعلام هو طَريق السلام وإن الإمام الحازمي حين قال لقد أحسن الإمام أحمد بترك التقليد والحث على البحث ! وليس لزوم البحث تَرك الإتباع والاقتداء وإنزال أئمة الصنعة منازلهم بل هذا في ذاك داخلٌ والحقُ ما قال الحافظ ابن رجب : (( وأمَّا مَنْ علمه غيرُ نافعٍ فليس له شغل سوى التكبر بعلمه على الناس، وإظهار فضل علمه عليهم ونسبتهم إلى الجهل، وتنقصهم ليرتفع بذلك عليهم وهذا من أقبح الخصال وأردئها، وربما نسب من كان قبله من العلماء إلى الجهل والغفلة والسهو، فيوجب له حب نفسه وحب ظهورها، وإحسان ظنه بها وإساءة ظنه بمن سلف، وأهل العلم النافع على ضد هذا يسيئون الظن بأنفسهم ويحسنون الظن بمن سلف من العلماء ويقرون بقلوبهم وأنفسهم بفضل من سلف عليهم وبعجزهم عن بلوغ مراتبهم والوصول إليها أو مقاربتها، ...وكان ابن المبارك إذا ذكر أخلاق من سلف ينشد:لا تعرضن لذكرنا في ذكرهم *** ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد )) أهـ ، وأما الذي دفعني لترك التعليق عليك وتتبع كلامكَ على سوء فهمٍ لم يكن لك فيه قصد لكلامي إلا أن رحت تتهمني باطناً والعياذُ بالله ، فحمداً لله على نعمة السنة واتباعها والكتاب أولا وأخيراً وأسأل الله أن ألقى الله على ما لقي الأوائل من الصحب الكرام والتابعين الأعلام وتابعيهم إلي دار السلام إنه ولي ذلك والقادر عليه وهذه والله مني لنفسي ولك وأسأل الله العلي العظيم أن يمن علينا وعليك بالعلم النافع .
(1) أما ما أشرت إليه في مسألة خَبر الآحاد ! فلسنا ننكر خبر الآحاد يارعاك الله إن هي إلا دعوةٌ لأتباع منهج السلف في التَعليل والتصحيح ، والصَدوق قَد يقبل خبره إن احتفت القرائن ودلت على حفظه وعدم وقوع الوهم ، ولو تابعه مَن هو مثله في المنزلة أو جاءت قرينة على أنه حفظه فذلك ليس مُنكراً ! ، وأما الثقة إن جاءت القرينة على عدم حفظه ووهمه فالأئمة في خَبره على شَك ووجس ، ويعلونه بالنكارة لتفرده وربما لمُخالفته الثقة الحافظ فالأمثل ، والثقة الضابط مقبول الحديث مطلقاً لا خِلاف وهو الضابط المبرز في العلم الحافظ ، وقُلنا أن الصَدوق إن تفرد فالأئمة يستنكرونه اللهم إلا أن تأتي قرينة على أنه حفظه فيقبلون تفرده بالخَبر وهو أولى من الثقة بالمسألة ! ، ولو أنك أوليت البحث قراءة لوجدت حُجتنا ولكني يا أخي أكاد أجزم أنك لم تقرأ والله تعالى المستعان وأسألهُ لي ولك التوفيق والسداد .
تَقول أخي الكَريم - غفر الله لنا ولك - : [ جزاك الله خيرا، فإن هذا ما أردت الوصول إليه، وأن الأصل هو قبول تفرد الثقة إلا أن يُطلع على حديثه علة أو شذوذ ] أهـ .
ما عَلمناهُ عَن شيوخنا أنهم لا يُنكرون تفرد الثقة ولكن ميز يا رعاك الله بين الثقة المبرز الضابط المتقن ، وبين الشيوخ وهم في الجُملة من الثقات فالأول الخطأ عليه نَادرٌ وقد يقع والثاني هو ممن يحتج بهم ولكنه في الضبط ليس كالأول والوهم واقعٌ في البشر ومستقر ولا يوجد أحد من العالمين معصومٌ من ذلك فإن تَفرد الشَيخ الثقة بالحَديث وهو خِلاف الضابط المتقن المبرز في العلم كشعبة والزهري - وقد صحح الإمام مسلم مفاريد الإمام الزهري - ! فإن مثله يقبل ومَن كان في طبقة مُتقدمة ممن عرف بالضبط والإتقان والحفظ كَمالك والزهري وشعبة وابن مهدي وسفيان وقد يخطئ وهذا على ندرته إلا أنه واقعٌ وليس بالكثير بل لا تَكاد تجده أخطئ في حَديث أو اثنين وذلك لا يضره ان تفرد بالحَديث أما ما هو دُونهم ممن عرفنا أنه ثقة وقد تفرد بحديث فينظر في حَال حَديثه وتفرده به أما وإن علمنا أن القرينة قامت على أنه حفظه أو تابعه عليه غَيره من الثقات اطمئن القَلب لتفرده وقد كان الأئمة قديما في تَوجس مِن الغَريب فمَن قال بالتَوقف في تفرد الثقة والذي في مَرتبته ليس كالثقة الضابط المتقن والمبرز في العلم ! فلم يأتي بمنكر ولم يأتي بشيءٍ مِن المُخالفة اللهم إلا أنه في ذلك سار على نهج الأئمة والأعلام المتقدمين - رضي الله عن الجميع - وبالجُملة فإن التفرد يُقبل حتى من الصدوق يا أخي إن جاءت القرينة على أن الصدوق هذا قد حفظ ما تفرد به من الحديث ، وقد يأتي الثقة برواية عمن يعرف بالحفظ والاتقان وله من التلاميذ ممن له عناية به ولا يَكاد يخرج حديث هذا الشَيخ إلا من عندهم فيتفرد الثقة بذلك الحَديث وليس عندَ أحدٍ مِن أصحاب الشَيخ أو الملازمين لهُ فإن ذلك يُدخل في القَلب الشَك والريبة ويستنكره الأئمة ، ولو أمعنت النَظر في كِتاب التَمييز للإمام مسلم لوجدته يستنكر تَفردات أئمةٍ ثقات ، وقد أوردت استنكار الإمام أبو داود لتفرد الإمام مالك بروايته وهو ما هو في الحفظ والاتقان ومُخالفة أصحاب الزهري في الحَديث ! فتَنبه يا رعاك الله .
تَقول - يا رعاك الله - : [ لكنك سرعان ما تراجعت ونسبت هذا المذهب إلى السلف فقلت :" ما كان هذا الأمر – يعني تفرد الثقة - وليد اللحظة أو وليد الفكرة أو مِن بناة أفكار أحدٍ من العالمين ، بل كان موجودا ومسطوراً في كُتب العلل والرجال كعلل ابن أبي حاتم وعلل ابن المديني .... ] أهـ .
ولا أعجب إلا مِن هذا ! فلو أنكَ نَظرت في كُتبهم وأمعنتَ الابحار فيها لما رأيتني مُخالفاً ! ولا رميتني بالتسرع والأئمة في كُتب العلل يُعلون بالتفرد أحاديثاً كثيرةً وليسَ مِنا في شيءٍ وإن هو إلا سير على خُطاهم ولسنا في ذلك ننكر السنة أبداً ولسنا أبداً ننكر جهد أحدٍ من العالمين بل واعلم أيها الفاضل الكريم أن الأحكام في الأحاديث لا تَكادها تَخرج عن مثل مَن هو في مرتبة الزهري أو يحيى بن أبي كثير أو قتادة السدوسي أو أبي إسحاق السبيعي إلا ولهم تَلاميذ أكثروا من ملازمتهم وعرفوا حديثهم وهم فيهم مِن أهل الاختصاص ! وسأضرب المثال والبيان في أصحاب بعض الأئمة الأعلام ممن يدور عليهم مدار الأسانيد والسنن والأخبار فتأمل وامعن النَظر علنا نَصل لنتيجة بإذن الله الرحمن .
[1] الإمام الزهري مُحمد بن شهاب الزهري - رحمه الله ورضي عنه - .
(( مَالكٌ ، ويونس ، وابن عيينة ، وعقيل ، ومعمر ، وابن أبي ذئب )) وهؤلاء طائفةٌ وجُملة من أصحاب الإمام الزهري وقد اختلف في تقديم أثبتهم وأحفظهم لحديث الزهري إلا أن الإمام أبي داود السجستاني أعلَّ للإمام مالك ما تفرد بهِ مِن حديث مُخالفاً جُل أصحاب الإمام الزهري قَال في حَديث إنفرد به الإمام مالك - رضوان الله عليه - عن عروة وعمرة في السنن عق الحَديث (2468) : (( ولم يتابع أحد مالك على عروة عن عمرة )) ونحا نحو الإمام أبو داود الترمذي - رضي الله عن الجميع - ، فقد قامت القرينة على أن مالكاً - رضي الله عنه - حَدث بالحَديث فذكر فيه عَمرة والحُفاظ دُون ذكر عمرة فتَبين على جلالته وعلمه وإتقانه وحفظه وضبطه - رضي الله عنه - أن الأكثر لهم الصواب في الرواية دُون ذكر عمرة في حديث الزهري - رضي الله عنهم -.
فالسؤال لو انفرد من هو في الصدق والسَلامة عَن الإمام الزهري ماليس عند هؤلاء المذكورين أليس هذا مِن أكبر الأدلة على أن في تَفرده نَكارةٌ ! إذ كيف يمكن أن يكون هذا الخَبر عند مَن ليس صاحب عنايةً بالإمام الزهري كمالك ويونس وابن أبي ذئب ؟! ألا يحق لنا أن نقول أن تفرد هذا الثقة الشَيخ فيه شيء ؟! وهذا مما يجب التَنبه لهُ .
[مسألة]مَن تَفرد وهو ضابطٌ متقنٌ مبرز في العلم ! .
الإمام الزهري قال الإمام مسلم ونظرت في حَديث الزهري فوجدته يروي نحو تسعين حَديثاً لا يشاركه فيه أحد وهي بأسانيد جياد ، وهذا من هو في مثل مرتبة الإمام الزهري - رحمه الله - فتفرده بالحَديث على ضبطه واتقانه وإمامته فإن هذا يقبله أئمة الحَديث ، كذا شعبة أمير المؤمنين في الحَديث لو تفرد بالحَديث فإن تفرده يقبل ولكن لو أخطأ وهو ممن كان يخطئ بالأسماء ولا يضره ذلك فإن الأئمة قد يستنكرون ما قد ينفرد به شعبة لو دلت القرينة على أنه وهم ، ومثله لا تَكاد تجده يُخطئ في حَديث واحد كذا يحيى بن أبي كثير ، وثابت البناني ، والأعمش إلا أن يَكون قد دلسه ، وهشام بن عروة ، والثوري ، وابن جريج إلا أن يكون قد دلسه واسقط فيه ضعيفاً ، فمن هو في مرتبة هؤلاء في الضبط والاتقان والحفظ المبرزين من الأعلام ممن هو على شاكلتهم - رضي الله عنهم - فتفرد أمثالهم لا تَكاد تجد أحداً منِ العالمين يرد تفردهم ! بل إن مَن هو دُونهم فقد ينفرد بالحَديث ويقع الوهم في حديثه والخطأ وهذا إن تَبين بالقرائن كان لأهل العلم فيه نظر خاص وليس كل تفرد ثقة يرد وليس كل تفرد صدوق يرد يا أخي الحبيب فتنبه .
أما سوء فهمك ايها الحبيب الغالي لاستدلالي بموقف حصل للفاروق عمر بن الخطاب ليس ذنباً تُلقيه على كاهلي إذ أن الفاروق - رضي الله عنه - لم يرد خبره إنما طَلب له المتابعة على إمامته وضبطه والأصل أنه صحابيٌ جليل ومثلهم في الإتقان والضبط والحفظ والغيرة على السنة ماليس لأحد من العالمين إلا أن الدِلالة في المَوقف على أن المسألة إن كنا تكلمنا فيها فلا يلزم أن يرد بها كُل تفرد لثقة ! وهذا والله ما قلنا به ولا أتى على ألستنا فتنبه.
قُلتَ - سامحك الله - : [ لقد ردّ أهل السنة كثيرا على هذه الاستدلالات التي يذكرها الجهمية والمعتزلة في توقف بعض الصحابة وبينوا بالدلائل أن عمر وغيره من الصحابة وأهل السنة كان الأصل فيهم قبول ما يتفرد به الثقات ما لم تكن المخالفة ، وهو نفس الشيء الذي حدث لعمر مع غيره، حيث روى الصحابي الآخر شيئا خالف بعض ما رآه وسمعه عمر من النبي عليه السلام فاعتقد بأن الآخر وهم كما مثلت لك بقصة ذي اليدين فتأمل .وقد ذكر أهل السنة عن عمر وعائشة وغيرهما قبول التفردات عن غيرهم إذا لم يروهم خالفوا شيئا ] أهـ .
يا أخي - يرحمني الله وإياك - مَن قال أنا نرد تفرد الثقة مطلقاً ! ليس الأمر صحيحاً بل إن تَفرد الصدوق مقبول إن قامت القرينة على أن مثله حفظ الحَديث كأن يتابعه عليه أحد أو أن تجد للحَديث ما يقوي حَديث الصَدوق ! وأما استدلالك بالجهمية والمعتزلة !! فإنا أشد نكيراً لهم في هذا الباب فليس مَن تكلم في مثل هذه المسائل يريد بها رد الحَديث مطلقاً بل إن مَراتب الرواة تَختلف بين (( الثقة الضابط المبرز )) و (( الشَيخ الثقة )) و (( الصدوق )) ، ولا يخفاك أن مراتب الثقات عند أهل الجَرح والتَعديل تَختلف فليس الثقة الضابط المتقن كالثقة وليس قولهم ثقة حجة كقولهم ثقة نفع الله بك ، فمَن كان في المرتبة الأولى مقبولٌ تفرده بلا خلاف ولا يرده أحد من العالمين ، وأما الشَيخ الثقة فإن إنفرد برواية الحَديث فإن أئمة الحَديث يطلبون لهُ متابعة في روايته أو لأحد أصحاب الشَيخ أما وإن كان له أصل وكان الحَديث الذي انفرد به أصلٌ من الأصول دَل ذلك على أن تفرده ليس مُنكرا ونحنُ لا ننكر أن الثقة المُتقن يقبل ما انفرد به ! .
وتَنبه لكَلماتنا : (( ليس كُل تَفرد للثقة منكر وليس كُل تفرد للصدوق منكر )) .
قُلت - غفر الله لنا ولك - : [ وأقول : أجمع السلف على وجوب قبول تفرد الآحاد من مقبول الحديث مطلقا ، من غير هذا التفريق الذي تنقله ، وقد رددت عليه بأدلة كثيرة في بحثي المذكور،ولتعلم أنه لم يقل احد من السلف برد أو التوقف أو التعليل بتفرد الثقة مطلقا لذاته أحد من السلف إلا ابن رجب الحنبلي رحمه الله، وقد خالف في ذلك إجماع السلف ] أهـ.
أما قَولك بالإجماع على قُبول تَفرد مقبول الحَديث مُطلقاً هذا فيه نَظر يلزمكَ التَطبيق العملي البين على هذه المسألة ، وأما التفريق فإنك لا تَكاد تَنظر في كُتب الأئمة المبرزين المتقنين إلا وكان لهم في ذلك بيانٌ وكَلام ، ولو أنك أتعبت نفسك وقرأت كَلامي في أصل البحث لأحسنت فهم المسألة ، ولمَ نَقل برد تفرد الثقات المُتقنين مُطلقاً أو التوقف فيهم بل إنا لا نرد تفرد الشَيخ الثقة مُطلقاً ! وأما إساءة فهمكَ لقول الإمام الحافظ ابن رجب الحنبلي لا يمكن أن تكون في صفك ولا في مَقام الاحتجاج لأن الحافظ ابن رجب الحنبلي - وهو أمثل من يتبع هَدي الأئمة المتقدمين ويسلك مسلكهم - لم يرد تفرد الثقة مُطلقاً وإنما تَكلم فيمن هو ثقة والتَفريق بين الثقة المتقن والثقة في كُتب الجرح والتعديل معلومٌ بين.
ثُم إن أعجب ما رأيت لك أنك تَرمي الحافظ ابن رجب الحنبلي بالخطأ وأنت لم تأتي على بينة تنقضُ ما قال ! ، ثُم أتيتَ على الحافظ الذهبي وأسقطتَ قوله في التفريق بين الثقة الضابط المتقن والثقة والصدوق في التفرد ولا عَجب إن هو إلا الانتصار لمسألة أكاد أجزم أنك لم تُحط بها ! ، ثُم لا أكاد أنفك أرى العَجب في تَعليقاتِكَ يا أخي وكأنك لم تقرأ الموضوع بل أكاد أجزم أنك لم تقرأ الموضوع فسامحك الله أسأت الكَلام فينا والحَديث إلينا ولا حول ولا قوة إلا بالله ! .
[QUOTE]لأخ الفاضل : أبو زرعة : ذكرت التعقيب الذي فهمه شيخك اليامي خطأ عن ابن القيم، وقد ذكرت لك بالدليل من كلام ابن القيم نفسه أنه يقبل مفاريد الثقات ، وينسب من ردها إلى البدعة ، والله المستعان، فراجعه وتأمله جيدا من فضلك ، ويعلم الله أني لا أحب منك أن تقع في مثل هذا الخطإ الذي فهمه هؤلاء المتأخرون عن السلف، فلا والله، كلهم مجمعون على قبول مفاريد الثقات ، وقد تتبعت كل الأدلة التي ذكرها هؤلاء وما لم يذكروها حديثا حديثا فوجدتها كلها حجة لأهل السنة عليهم ، ووالله وبالله لن يأتي هؤلاء بدليل إلا وبينت أنه حجة عليهم ، وأن السلف لا يُعلون إلا بالعلة والمخالفة والوهم ونحوها .[/QUOTE]
الأخ الكريم الفاضل زياني - يرحمك الله - أين بدع الإمام ابن القيم الجوزية - رحمه الله - مَن قال بأن تَفرد الثقة المُتقن مَقبول لا يستنكره أحد من العالمين ، وأن مَن قال بالتوقف في تفرد الثقة الشَيخ ! حتى تأتي القرينة على أنه لم يقع في حديثه الخطأ أو أنه وهم فيه ؟! كذا الصَدوق لأنهم أكثرهم خطأ ووهماً ووقوع ذلك في حديثهم جائزٌ ممكن وأما قولك بأن مقبول الحديث لو تفرد مقبول مُطلقاً هذا والله المستعان ما علمناهُ عند أحد من أئمة الحَديث الأوائل كابي داود السجستاني والطبراني في تهذيب الآثار والإمام أحمد والبرديجي والذهبي والحافظ ابن رجب وغيرهم كالإمام أبي زرعة الرازي وابي حاتم ، ليتكَ أمعنت النظر في دراستي وبحثي قبل أن تُطلق هذه المسائل التي كُلها مسطورةٌ في مبحثنا يا أخي - وفقك الله - لو تُبين مواطن هذا التتبع أكون لك من الشاكرين . والله المستعان.
[ تَنبيه ] المسألة قبل أن تُبينها وتُسهب في النقل من مبحثك علق وانقض ما قمنا بطرحه يا أخي - يرحمك الله - فجل كلامك يدور على أن السلف والخلف قبلوا التفرد مُطلقاً ! وليس لذلك وجه نفع الله بك ، حبذا لو تُمعن النظر في هذا المبحث وتُعلق عليه وتنقضه مقتبساً الأدلة التي سقتها في هذا الباب والله تعالى المستعان.