قال الأخ ضرغام عيسى الجرادات:
جزاكم الله خيرا أبا فراس على طرح مثل الاستشكلات التي من شأنها تنشيط ذهن الفقهيه والمتفقه ، وتحفزهما على البحث والتمحيص ، وترسخ الحاجة إلى النظر في فقه الآثار والخلاف العالي.
وقد كنتُ استشكلتُ ما استشكلتَ إبان تحقيقي لكتاب فقهي ، وحاصل نظري في هذا الاستشكال ما كتبته مختصراً
:
1- روى ابن أبي شيبة وغيره عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «مَا اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمْرَةً إِلَّا شَهِدْتُهَا، وَمَا اعْتَمَرَ إِلَّا فِي ذِي الْقَعْدَةِ» وهذا أعلى سندا من أثر سعيد بن المسيب.
مصنف ابن أبي شيبة (3/ 160).
فعمره الثلاثة ثابتة عنه صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة.
2- أخرج البيهقي في الكبرى أن ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: إِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَانَ يَقُولُ: " أَنْ تَفْصِلُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ , وَتَجْعَلُوا الْعُمْرَةَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ أَتَمُّ لِحَجِّ أَحدِكُمْ وَأَتَمُّ لِعُمْرَتِهِ " وروى نحوه عن علي وابن مسعود رضي الله عنهم
3- وأخرج الطحاوي عَنِ ابْنِ شِهَابٍ , قَالَ: قُلْتُ لِسَالِمٍ , لِمَ نَهَى عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ الْمُتْعَةِ , وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَفَعَلَهَا النَّاسُ مَعَهُ؟ فَقَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: «إِنَّ أَتَمَّ الْعُمْرَةِ أَنْ تُفْرِدُوهَا مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ , وَالْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ , فَأَخْلِصُوا فِيهِنَّ الْحَجَّ , وَاعْتَمِرُوا فِيمَا سِوَاهُنَّ مِنَ الشُّهُورِ»
فَأَرَادَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِذَلِكَ تَمَامَ الْعُمْرَةِ , لِقَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ "} [البقرة: 196] وَذَلِكَ أَنَّ الْعُمْرَةَ الَّتِي يَتَمَتَّعُ فِيهَا الْمَرْءُ بِالْحَجِّ , لَا تَتِمُّ إِلَّا بِأَنْ يُهْدِيَ صَاحِبُهَا هَدْيًا , أَوْ يَصُومَ إِنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا , وَإِنَّ الْعُمْرَةَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ تَتِمُّ بِغَيْرِ هَدْيٍ وَلَا صِيَامٍ , فَأَرَادَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِالَّذِي أَمَرَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ , أَيْ يُزَارُ الْبَيْتُ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّتَيْنِ , وَكَرِهَ أَنْ يَتَمَتَّعَ النَّاسُ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ , فَيَلْزَمُ النَّاسَ ذَلِكَ , فَلَا يَأْتُونَ الْبَيْتَ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً فِي السَّنَةِ.
قال الطحاوي: فَأَخْبَرَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ إِنَّمَا أَمَرَ بِإِفْرَادِ الْعُمْرَةِ مِنَ الْحَجِّ , لِئَلَّا يَلْزَمَ النَّاسَ ذَلِكَ فَلَا يَأْتُونَ الْبَيْتَ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً فِي السَّنَةِ لَا لِكَرَاهَتِهِ التَّمَتُّعَ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ السُّنَّةِ.شرح معاني الآثار (2/ 147).
4- وقال البيهقي عقب ذكره الأثر السابق عن عمر رضي الله عنه "فَاشْتَدَّ الْأَئِمَّةُ فِي التَّمَتُّعِ حَتَّى رَأَى النَّاسُ أَنَّ الْأَئِمَّةَ يَرَوْنَ ذَلِكَ حَرَامًا , وَلَعَمْرِي مَا رَأَى ذَلِكَ الْأَئِمَّةُ حَرَامًا وَلَكِنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَمَرَ بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي ذَلِكَ؛ احْتِسَابًا لِلْخَيْرِ"السنن الكبرى للبيهقي (5/ 29)
5- اخرج الطحاوي وغيره عن ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: «لَأَنْ أَعْتَمِرَ فِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ , أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَمِرَ فِي الْعَشْرِ الْبَوَاقِي» وهذا الأثر يبين أنه ليس كل الصحابة كانوا يرون ما نقله ابن سيرين عنهم .شرح معاني الآثار (2/ 148).
6- عَنْ سَالِمٍ , قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ يُفْتِي بِالَّذِي أَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الرُّخْصَةِ فِي التَّمَتُّعِ , وَسَنَّ فِيهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَيَقُولُ نَاسٌ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ: كَيْفَ تُخَالِفُ أَبَاكَ , وَقَدْ نَهَى عَنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ لَهُمْ عَبْدُ اللهِ: " وَيْلَكُمْ أَلَا تَتَّقُونَ اللهَ؟ , أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ نَهَى عَنْ ذَلِكَ يَبْتَغِي فِيهِ الْخَيْرَ , وَيَلْتَمِسُ فِيهِ تَمَامَ الْعُمْرَةِ , فَلِمَ تُحَرِّمُونَ وَقَدْ أَحَلَّهُ اللهُ , وَعَمِلَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ ,أَفَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَقُّ أَنْ تَتَّبِعُوا سُنَّتَهُ أَوْ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؟ , إِنَّ عُمَرَ لَمْ يَقُلْ لَكَ: إِنَّ عُمْرَةً فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ حَرَامٌ , وَلَكِنَّهُ قَالَ: إِنَّ أَتَمَّ الْعُمْرَةِ أَنْ تُفْرِدُوهَا مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ "السنن الكبرى للبيهقي (5/ 30).
7- وأخرج البيهقي أن عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: " أَنَهَيْتَ عَنِ الْمُتْعَةِ؟ , قَالَ: لَا , وَلَكِنِّي أَرَدْتُ كَثْرَةَ زِيَارَةِ الْبَيْتِ , قَالَ: فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: مَنْ أَفْرَدَ الْحَجَّ فَحَسَنٌ , وَمَنْ تَمَتَّعَ فَقَدْ أَخَذَ بِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "السنن الكبرى للبيهقي (5/ 31)
وملخص ما نقلته آنفا
* أن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه بالأحاديث الصحيحة اعتماره في ذي القعدة كما أخبرت عائشة رضي الله عنه وغيرها
*أنه ثبت عن الصحابة خلاف ما نقل ابن سيرين عنهم من اعتمارهم في أشهر الحج واستحبابهم لذلك كما روي عن ابن عمر .
فيكون ابن سيرين قال هنا بمبلغ علمه .
* أو قال بما اشتهر عن جمهورهم من استحبابهم إفراد الحج ليبقى البيت مزاراً لا ينقطع الناس عنه في غير أشهر الحج . وهذا واضح مما قاله عمر لعلي رضي الله عنهما وما نقله ابن عمر عن أبيه في ذلك.(أَفَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَقُّ أَنْ تَتَّبِعُوا سُنَّتَهُ أَوْ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؟ , إِنَّ عُمَرَ لَمْ يَقُلْ لَكَ: إِنَّ عُمْرَةً فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ حَرَامٌ , وَلَكِنَّهُ قَالَ: إِنَّ أَتَمَّ الْعُمْرَةِ أَنْ تُفْرِدُوهَا مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ).
* وعليه فيكون ما نقله ابن سيرين عنهم اجتهاد منهم بناءً على مصلحة رأوها ليبقى البيت مزارا على مدار العام. وهي لا تعارض ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من اعتماره في ذي القعدة، فلم ينقل عن أحد منهم القول بالحرمة.
هذا والله تعالى أعلم.