تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: منهجية دراسة القرآن

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Aug 2010
    المشاركات
    3,673

    Lightbulb منهجية دراسة القرآن

    منهجية دراسة القرآن
    أ.د أحمد حسن فرحات
    إذا كان لا بد لنا في فهم الإسلام وقيمه ومفهوماته من الاعتماد على القرآن والارتكان إليه ليكون فهمنا صحيحاً ، وقيمنا متوازنة ، ومفهوماتنا سديدة ، فإن هذا الأمر يستدعي منهجية موحدة وأصولاً متفقاً عليها ، ليكون القرآن حكماً يفصل بين الناس فيما اختلفوا فيه _ كما أراده الله أن يكون _ :  ..وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ..( 1 ) .


    أما إذا اختلفنا في القرآن ، فكيف يمكن أن يكون حكماً ؟ ومن ثم فلا بد لنا من منهجية موحدة تمكننا من تحقيق هذا الهدف .

    ولكن أنى لنا ذلك مع اختلاف العقول ؟ واختلاف المشارب ؟ واختلاف الدراسات والثقافات ؟!! ..ومن الذي يملك أن يضع هذه الأصول والقواعد ؟ وكيف يمكن أن تكون وسيلة للالتزام فضلاً عن الإلزام؟ .


    إن القضية كبيرة وتحتاج إلى جهود جماعية متضافرة ، ويمكن أن يعقد لأجلها مؤتمراً و مؤتمرات، وذلك نظراً لأهميتها وما يمكن أن ينبني عليها ، فهي تستحق أن تبذل فيها الأوقات والأموال ، وأن تكد من أجلها القرائح والعقول ، لأنها تجمع علماء الأمة على أصول وقواعد لفهم كتاب الله ، بعيداً عن الزيغ واتباع الأهواء ، وبذلك تلتقي كلمة الأمة على نهج سديد وكلمة سواء. .
    .

    وريثما يتم مثل هذا المؤتمر نرى لزاما أن نطرح بعض الأفكار والملاحظات للمناقشة بحيث يمكن البناء عليها فيما بعد ، ولعلها تسهم في بيان المراد وإضاءة الطريق.


    هل القرآن حمال أوجه؟
    من الأقوال المأثورة في تراثنا: " لا يفقه الإنسان كل الفقه حتى يرى للقرآن وجوه ا".

    وقد تركت هذه الكلمة آثارها في كتب التفسير ، وكتب العقائد والفرق ، فكثيرا ما يجد القارئ لتفسير آية أقوالا عدة ، ووجوها مختلفة ، يقف حيالها حيران ، لا يدري ماذا يأخذ ، وماذا يدع ، وكذلك الآية الواحدة تستشهد بها الفرق المختلفة ، وكل منها تحملها المعنى الذي تريد ، وهي تود نصرة قولها وتأييده بآية من القرآن ليكون مقبولا عند الناس ، لا مجال للاعتراض عليه ، حتى قال بعضهم: إن القرآن قد وسع الفرق الإسلامية كلها ، نظرا لأن كل فرقة تحاول جاهدة أن تجد مستندا لما ذهبت إليه من القرآن.

    والحقيقة أن هذا القول المأثور " لا يفقه الإنسان كل الفقه حتى يرى للقرآن وجوها" يمثل نصف الحقيقة ، والنصف الآخر هو: " وحتى يستطيع أن يرجح واحدا من هذه الوجوه" . ذلك أن رؤية وجوه عدة لمعنى الآية يدل على التبحر وسعة المعرفة الأفقية ، ولكن ترجيح واحد من هذه المعاني يدل على الرسوخ في العلم والتعمق في الفهم. والقرآن نزل ليكون حكما بين الناس فيما اختلفوا فيه ، والحكم لابد أن يكون له قول واحد ليكون حجة وقابلا للتنفيذ ، أما إذا تعددت أقوال الحكم ولم يمكن الترجيح بينها فكيف يمكن أن تكون حكما. وهكذا بدلا من أن يحكم القرآن بين الناس فيما اختلفوا فيه ، يختلف الناس في فهم القرآن. وينشأ عن ذلك فرقة وخصام ومذاهب واتجاهات. على حين نجد القرآن يأمرنا بالاعتصام بحبل الله وينهانا عن التفرق: "واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا " _ آل عمران: 103 _ كما أن الرسول _ صلى الله عليه وسلم _ بين لنا المخرج حين نزول الفتن بما رواه علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قلت يا رسول الله ، ستكون فتن ، فما المخرج منها؟ قال: كتاب الله ، فيه نبأ ما قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم ، هو الفصل ليس بالهزل ، من تركه من جبار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله. وهو حبل الله المتين ، وهو الذكر الحكيم ، وهو الصراط المستقيم ، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ، ولا تختلف به الآراء ولا تلتبس به الألسن ، ولا يخلق عن كثرة الرد ، ولا تنقضي عجائبه ، ولا يشبع منه العلماء ، من قال به صدق ، ومن حكم به عدل ، ومن عمل به أجر ، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم"( 1 ).

    والشاهد في هذا الحديث قوله: قلت: يا رسول الله ، ستكون فتن فما المخرج منها؟ قال: كتاب الله. ثم قال: " وهو الصراط المستقيم ، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ، ولا تختلف به الآراء ، ولا تلتبس به الألسن...".

    كما يبين لنا القرآن الكريم أن سبب اختلاف الناس منشؤه البغي بينهم مع وجود البينات والعلم والكتاب: " كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين ءامنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم" _ البقرة: 213_ معنى الآية: " كان الناس أمة واحدة " أي على شريعة من الحق فاختلفوا ، " فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين" ، فكان أول نبي بعث نوحا ، " وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ، وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم " أي من بعد ما قامت عليهم الحجج ، وما حملهم على ذلك إلا البغي من بعضهم على بعض.
    كما ينهانا أن نتفرق ونختلف كما اختلف أهل الكتاب إذ قال: " ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم" _ آل عمران: 105 – وخاطب نبيه في شأن أهل الكتاب " إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء " – الأنعام: 159_ وبين سبب العداوة والبغضاء بينهم بقوله: " ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة..." _ المائدة : 14 _

    فتحصل من ذلك كله أن منشأ الاختلاف لا يرجع إلى أصل الكتب المنزلة ، وإنما يرجع إلى سلوك الناس تجاهها نتيجة بغيهم بينهم أو نسيانهم حظا مما ذكروا به.


    وقد بين لنا القرآن الكريم أن كونه من عند الله يقتضي عدم وجود الاختلاف فيه ، " ولو كلن من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا" _ النساء: 82 _ فدل ذلك على أن الاختلاف فيه لا يرجع إليه وإنما يرجع إلى ما عند الناس. ومن ثم لابد أن تحكم آراء الناس بالكتاب ، ولا يحكم الكتاب بآراء الناس.

    منهج صارم في التفسير:
    وللوصول إلى فهم موحد لكتاب الله لابد من التزام منهج صارم في التفسير يقوم على أمرين:
    الأمر الأول: مراعاة نظام الكلام الذي يشمل تسلسل المعاني وترابطها الوثيق ، والتناسب بين السابق واللاحق في نطاق الآيات والسور ، فتظهر بذلك وحدة القرآن الموضوعية ، وتتضح قاعدته البيانية ، ويبدو القرآن بذلك كلا موحدا ، لا تفاوت في مبانيه ، ولا اختلاف في معانيه.

    الأمر الثاني: اعتبار تفسير القرآن بالقرآن أصلا في بيان معاني الكلمات القرآنية ، واعتبار أسلوب القرآن قاعدة حاكمة في اختيار المعاني وترجيح بعضها على بعض ، وذلك لأن تفسير القرآن بالقرآن تفسير صاحب الكلام لكلامه ، ولا يمكن أن يقدم عليه أي تفسير مهما كان.ومثل هذا المنهج الصارم لا يمكن الوصول فيه إلى نتائج قاطعة حاسمة إلا إذا أخذ مأخذ الجد في التطبيق ، وهو يتطلب تعمقا في الفهم ، وتدقيقا في النظر ، وصبرا على التأمل الطويل ، والتدبر الواعي. ولكن الثمرة لذلك كله فهم صحيح لكتاب الله ، بعيد عن التكلف والتعسف ، و تصحيح للأخطاء المتوارثة ، ونظرات جديدة تدفع بالمسلمين خطوات واسعة إلى الأمام ، و تكون منطلقا لنهضة إسلامية حقيقية ، حيث تؤدي إلى توحيد الفهم الذي يجمع المسلمين على صعيد واحد وكلمة سواء، وبذلك يكون القرآن ، كما أراده الله أن يكون حاكما بين الناس فيما اختلفوا فيه ، فلا يقدمون بين يديه آراءهم ، ولا يحملونه مالا يحتمل ، وإنما يستلهمون مراده ، وينتهون إلى حيث ينتهي بهم.

    وهذا الكلام الوجيز في المنهج يحتاج إلى شرح وتوضيح لا يتسع له المجال هنا ، وسنكتفي في هذه العجالة بضرب بعض الأمثلة الدالة عليه:
    - قوله تعالى: " فويل للمصلين. الذين هم عن صلاتهم ساهون " .

    - ذكر الخطابي في رسالته عن إعجاز القرآن عن مالك بن دينار قال: جمعنا الحسن لعرض المصاحف أنا وأبا العالية الرياحي ونصر بن عاصم الليثي وعاصما الجحدري فقال رجل: يا أبا العالية قوله تعالى في كتابه: " فويل للمصلين الذ ين هم عن صلاتهم ساهون "

    - ما هذا السهو؟ قال:الذي لا يدري عن كم ينصرف ، عن شفع أو عن وتر.

    فقال الحسن: مه يا أبا العالية ، ليس هذا بل الذين سهوا عن ميقاتهم حتى تفوتهم.

    قال الحسن:ألا ترى قوله عز وجل: " عن صلاتهم "....


    ويعلق على ذلك الخطابي بقوله: " وإنما أتي أبو العالية في هذا حيث لم يفرق بين حرف " عن " و " في " فتنبه له الحسن فقال: ألا ترى قوله " عن صلاتهم " يريد أن السهو الذي هو الغلط في العدد ، إنما هو يعرض في الصلاة بعد ملابستها ، فلو كان هذا المراد لقيل: في صلاتهم ساهون. فلما قال " عن صلاتهم " دل على أن المراد به الذهاب عن الوقت ( 1 )!!!

    وهذا الكلام الذي يقوله الحسن إنما قاله لأنه لم يتنبه لسياق الآية " فويل للمصلين. الذين هم عن صلاتهم ساهون " ذلك أن التوعد في الآية إنما هو " للمصلين..." أي المتلبسين بالصلاة ، وهم قد سهوا عن حقيقتها وخشوعها ، وبالتالي فلا تترتب على مثل هذه الصلاة آثارها العملية السلوكية ، بدلالة قوله:" الذين هم يراؤون ويمنعون الماعون " فهذه الصلاة قصد بها المراءاة ، ومن ثم فليس فيها معنى الإخلاص لله ، والخشوع بين يديه ، ومن ثم فصاحبها يمنع الماعون، ولا يسعى إلى فعل الخير ، وهذا المنكر من المراءاة ومنع الماعون لم تحل مثل هذه الصلاة دون وقوعه ، على حين الصلاة الحقيقية تمنع فعل ذلك: " وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر" .

    فإذا أضفنا إلى ذلك أن أول السورة: " أرأيت الذي يكذب بالدين. فذلك الذي يدع اليتيم. ولا يحض على طعام المسكين... " عرفنا أن هذه الأوصاف إنما تنطبق على المنافقين.


    ثم إن هذه الصلاة التي لا تؤثر في سلوك صاحبها ، وجودها وعدمها سواء ، ومن ثم وصف الله الذين لا يصلون بمثل ما وصف به الذين يصلون هذه الصلاة حينما قال عن أهل النار: " ما سلككم في سقر. قالوا لم نك من المصلين. ولم نك نطعم المسكين. وكنا نخوض مع الخائضين. وكنا نكذب بيوم الدين " ( 2 ) وإذا ما أردنا تأكيدا أكثر فإننا نحتكم إلى أسلوب القرآن وبيان القرآن بالقرآن فماذا نجد:
    قال الله تعالى: " إن الإنسان خلق هلوعا. إذا مسه الشر جزوعا. وإذا مسه الخير منوعا. إلا المصلين. الذين هم على صلاتهم دائمون " ( 3 ) ...." والذين هم على صلاتهم يحافظون " ( 4 ) ويقول الله تعالى: " قد أفلح المؤمنون. الذين هم في صلاتهم خاشعون " ( 5 )....

    " والذين هم على صلاتهم يحافظون " ( 1 )ويقول أيضا: " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى....وقوموا لله قانتين " ( 2 )
    وبالنظر في الآيات السابقة وسياقاتها نرى ما يلي:_ تكرار الوصف بالصلاة في سياق سورة المعارج وفي سياق سورة المؤمنون _
    _ وصف المصلون بسورة المعارج أنهم : " أنهم على صلاتهم دائمون " كما وصفوا بسورة المؤمنون : " بأنهم في صلاتهم خاشعون "
    - أما الوصف المكرر في السورتين فقد جاء بصيغة واحدة وهو " والذين هم على صلاتهم يحافظون "

    فلو وضعنا هذه الآيات على صورة معادلة رياضية لرأينا ما يلي :
    الذين هم على صلاتهم دائمون والذين هم على صلاتهم يحافظون.


    ولما كان الطرف الثاني للآيتين واحدا " يحافظون " كان لابد للطرف الأول:" دائمون-خاشعون " أن يكون متساويا ، وهذا يعني أن المراد بـ " دائمون " أي دائمو الخشوع في صلاتهم.

    أما قوله " يحافظون " فالمراد به المحافظة على وقت الصلاة وعدم تضييعه.

    وهكذا نرى أن القرآن إذا أراد التعبير عن " وقت الصلاة " جاء بلفظ المحافظة.

    وإذا أراد التعبير عن حقيقة الصلاة جاء بلفظ " الخشوع " أو " الدوام " أو ما شابه.

    وهذا ينطبق على قوله تعالى: " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى " حيث يراد بها الوقت. أما الخشوع فقد عبر عنه بـ " القنوت " كما هو تتمة الآية: " وقوموا لله قانتين ".

    - _ وصف الإنسان في سورة المعارج بقوله: " .. وإذا مسه الخير منوعا. إلا المصلين. الذين هم على صلاتهم دائمون. الذين في أموالهم حق معلوم. للسائل والمحروم. والذين يصدقون بيوم الدين "

    - كما وصف المؤمنون الخاشعون في سورة المؤمنون بقوله: " والذين هم للزكاة فاعلون ". وهذه الصفات هي ضد الصفات الواردة في سورة الماعون: " أرأيت الذي يكذب بالدين. فذلك الذي يدع اليتيم. ولا يحض على طعام المسكين. فويل للمصلين. الذين هم عن صلاتهم ساهون. الذين هم يراؤون. ويمنعون الماعون ". فانظر إلى هذا التوافق العجيب. وصدق الله: " ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ")


    المثال الثاني قوله تعالى: " ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون. ونزعنا من كل أمة شهيدا فقلنا هاتوا برهانكم فعلموا أن الحق لله وضل عنهم ما كانوا يفترون "( 1 )

    يقول الطبري في تفسير هاتين الآيتين:
    ويوم ينادي ربك يا محمد هؤلاء المشركين فيقول لهم: " أين شركائي الذين كنتم تزعمون " أيها القوم في الدنيا أنهم شركائي؟

    وقوله: " ونزعنا من كل أمة شهيدا " : وأحضرنا من كل جماعة شهيدها وهو نبيها الذي يشهد عليها بما أجابته أمته فيما أتاهم به عن الله من الرسالة...........

    وقوله: " فقلنا هاتوا برهانكم " يقول: فقلنا لأمة كل نبي منهم التي ردت نصيحته وكذ بت بما جاءها به من عند ربهم ، إذ شهد نبيها عليها بإبلاغه إياها رسالة الله " هاتوا برهانكم " يقول فقال لهم: هاتوا حجتكم على إشراككم بالله ما كنتم تشركون مع إعذار الله إليكم بالرسل وإقامته عليكم بالحجج.. "

    وقوله: " فعلموا أن الحق لله " يقول: فعلموا حينئذ أن الحجة البالغة لله عليهم ، وأن الحق لله والصدق خبره ، فأيقنوا بعذاب من الله لهم دائم.

    " وضل عنهم ما كانوا يفترون " يقول: واضمحل فذهب الذي كانوا يشركون بالله في الدنيا ، وما كانوا يتخرصون ويكذبون.....( 2)

    هذا ما قاله الطبري في هذه الآية ، وبمثل هذا القول أخذ معظم المفسرين.

    غير أن الفراهي الهندي يقول في مقدمة كتابه مفردات القرآن: " ...ثم سوء فهم الكلمة ليس بأمر هين فإنه يتجاوز إلى إساءة فهم الكلام ، وكل ما يدل عليه من العلوم والحكم ، فإن أجزاء الكلام يبين بعضها بعضا للزوم التوافق بينها. مثلا كلمة " النزع " –في سورة القصص- تبين معنى ((الشهيد)) –هناك- فسوء فهمها صرف عن معنى غيرها...( 3 ) " .


    يريد بذلك الذين فسروا " النزع " بالإحضار وما شابهه –كما ذهب إلىذلك الطبري وغيره- ، والمعروف أن أصل النزع: جذب الأشياء من مقارها بقوة " ( 1 )

    و مثل هذا الخطأ في معنى " النزع ") جعل من الممكن تفسير " الشهيد " بـ " النبي " . وبذلك اضطر المفسرون إلى التكلف في معنى الآية ، نتيجة الخطأ في معنى " النزع " ومعنى " الشهيد ".


    ولو أنهم تمسكوا بأصل المعنى " جذب الأشياء من مقارها بقوة " لعرفوا أن هذا لا يتناسب مع مقام " الشهيد " –الذي هو النبي- وأنه لابد للشهيد من معنى آخر.


    وقد بين الفراهي معنى الشهيد في كتابه " مفردات القرآن " فقال:" الشهيد " : الذي يشهد ويحضر. ويحمل على وجوه:
    1- من يشهد المشاهد العظيمة من القوم ويتكلم عن القوم ، فهو لسان القوم ، فما قال كان ذلك قول القوم ، فهو رئيسهم وهم يذعنون لما قال.... وهذا كما قال الله تعالى: " ونزعنا من كل أمة شهيدا فقلنا هاتوا برهانكم فعلموا أن الحق لله وضل عنهم ما كانوا يفترون " .


    وقد فسر الفراهي في مذكراته التي وضعها بين يدي تفسيره " الشهيد " – في الآية - بأنه إمامهم في الكفر.


    ويؤيد هذا التفسير ما جاء في سورة مريم في قوله تعالى: " ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا " ( 2 )
    حيث استعمل نفس فعل " النزع " واستعمل " الشيعة " بدل الأمة ، وبين معنى الشهيد بأنه " أشدهم على الرحمن عتيا " .


    وبناء على هذا يستقيم معنى الآية: ونزعنا من كل أمة شهيدا – إمامهم في الكفر وأشدهم عتوا - فقلنا – لهؤلاء الأئمة العتاة - : هاتوا برهانكم – على ما كنتم تزعمون لي من الشركاء - فعلموا أن الحق لله وضل عنهم ما كانوا يفترون – من الشركاء - .


    ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى: " ويوم يناديهم أين شركائي قالوا آذناك ما منا من شهيد. وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل وظنوا ما لهم من محيص " ( 3 )


    ولو أننا تتبعنا الآيات التي تنتهي بقوله تعالى: " وضل عنهم ما كانوا يفترون " لرأيناها تؤيد هذا المعنى ، مما لا يدع مجالا للشك في صحة هذا التفسير.


    أما التفسير الذي ذهب إليه معظم المفسرين ، فقد اضطروا إليه اضطرارا ، حيث ظنوا أن " الشهيد " في الآية هو كالشهيد في قوله تعالى: " فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا " ( 1 ). ولما كان قوله: " فقلنا هاتوا برهانكم " لا يتناسب مع مقام الشهيد الذي هو النبي، جعلوا الخطاب للأمم بدلا من الأنبياء ، غير أن الأمم فيها المؤمن والكافر ، وحتى يصح الخطاب لابد من تخصيصه بالكفار ، وكلها تكلفات وتجوازات.


    ولو أنهم أخذوا " النزع " على أصل معناه لعلموا أنه لا يتناسب مع مقام الأنبياء ومن ثم بحثوا عن المعنى الآخر ، والذي تكرر في عدد من الآيات ومنها قوله تعالى في سورة البقرة:
    " وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين " ( 2 )
    ونكتفي بهذين المثالين على ما أردنا شرحه وتوضيحه لأن المقام لا يسمح بأكثر من هذا.


    ومن أراد أمثلة أكثر فبإمكانه أن يرجع إلى ما كتبناه حول مفهوم " إرادة الله " و " القضاء والقدر " في افتتاحية العدد الرابع عشر من مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية الكويتية الصادرة في شهر 8/89 وما كتبناه في افتتاحية العدد الخامس عشر من نفس المجلة عن " مشيئة الله في الهداية والضلال " وما كتبناه في العدد السابع عشر عن التحقيق في معنى " الفقير " و " المسكين ".
    وغير ذلك من الدراسات في عدد من المفهومات والمصطلحات كالـ" الخلافة في الأرض ".


    و " فطرة الله التي فطر الناس عليها " و " الذين في قلوبهم مرض " و " الأمة في دلالتها العربية والقرآنية " و" تأويل ثلاث آيات متشابهات – آيات الصابئين - " و " تأويل آية الزخرف: " قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين " و تأويل آية النساء: " لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة...."


    ومن خلال هذه التجربة أرى أن هذه المنهجية تحل كثيرا من المشكلات ، وتؤصل لفهم موحد ينفي التخاصم والتشاكس ، ويؤدي إلى الائتلاف والتعاون ،وهي على كل حال بدايات تحتاج إلى إنضاج ووجهة نظر جديرة بالتأمل والمناقشة ، ولعلها تلقى قبولا وترحيبا ، ودعما وإثراء من قبل الأخوة العلماء ، والمحققين الفقهاء.

    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
    ((إنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكْثَرُهُمْ عَلَيَّ صَلاةً))

  2. افتراضي رد: منهجية دراسة القرآن

    بارك الله فيك أخي الكريم.
    أبو عاصم أحمد بن سعيد بلحة.
    حسابي على الفيس:https://www.facebook.com/profile.php?id=100011072146761
    حسابي علي تويتر:
    https://twitter.com/abuasem_said80

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Aug 2010
    المشاركات
    3,673

    افتراضي رد: منهجية دراسة القرآن

    جزاك الله خيرًا، وبارك الله فيك...
    ((إنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكْثَرُهُمْ عَلَيَّ صَلاةً))

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •