بسم الله الرحمن الرحيم


في هذه المقالة سأعرض مستعينا بالله لتفسير ما استشكل على الناس في فهم هذه الآية وسأبين نوع العلاقة المقصودة في قوله تعالى ( وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء ) بإذن الله وسأركز على الإختلافات فيما قاله العلماء والمفسرون في بعض معانيها .

أولا: هذه الآية تسمى آية الوضوء والتيمم وهي تبدأ بقوله تعالى:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ۚ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا ۚ وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ۚ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَٰكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [سورة المائدة : 6]

ثانيا: هذه الآية آية محكمة الغرض والمقصد ؛ وإحكامها أن لا صلاة إلا بطهارة ولا طهارة إلا بوضؤ أو تيمم .

ثالثا: الآية الكريمة قائمة على التشديد في أمر التطهر للصلاة وسأعرض لتفسيرها كما هي كنص قرآني له مفهومه الخاص الذي وصلني على أن ارجع إلى السنة النبوية فيما يخص الآية وذلك بعد أن أوضح معنى الآية .
الآية كما قلت مشددة على التطهر للصلاة سواء بالماء أو الصعيد وهي مقسومة إلى جزئين ، ويقول جزؤها الأول :

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ۚ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُ وا ).

وهذا الجزء من الآية مخصص للتطهر بالماء عند القيام للصلاة وفيه شرح لكيفية الوضوء والتطهر من الحدث الأصغر وفيه أيضا الإغتسال بالماء للجنب .
وما يهمنا في هذا الجزء هو الإختلافات بين العلماء في تفسير هذا الجزء من الآية وقد اختلفوا في معنى القيام المقصود في بداية الآية على أقوال :

فمنهم من قال: أن القيام هنا لكل قائم للصلاة سواء من نوم أو من كل مقام فعليه أن يتوضأ عند نية الصلاة سواء كان محدثا أو طاهرا بوضوء سابق .

وقالت طائفة أخرى أن الأمر مبني على الندب زيادة في الفضل .

والحقيقة أنه لا خلاف فكلا الأمرين تشمله الآية ؛ فالآية في معناها الظاهر تقول بوجوب الوضوء عند القيام لكل صلاة ولو كان القائم للصلاة على وضوء سابق ولم يحدث وسأسمي هذا الوضوء ب ( الوضوء المجدد ) لأن فيه تجديد للوضوء في كل صلاة . وتقول الآية كاملة في معناها العام والباطن بأنه( لا صلاة إلا بطهارة ) وعليه من صلى عدة فروض بوضوء واحد فقد التزم بالطهارة المقصودة وصلاته صحيحة إن شاء الله وسأسمي هذا الوضوء ب ( الوضوء المقيد ) لأنه مقيد بالحدث ؛ وما عمله النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح حين صلى كل الفروض بوضوء واحد إنما هو نسخ ( للوضوء المجدد ) وهو ما كانوا يعملونه إذا أرادوا القيام للصلاة وهذا النسخ ليس نسخ منع أو إزالة إنما نسخ تخفيف واختيار بحيث ترك الخيار لأمته بالأخذ بأحد الخيارين فصار كلا الخيارين متاحين فمن أخذ بالوضوء المجدد فزيادة أجر وفضل ومن أخذ بالوضوء المقيد فما فارق السنة .

ويبدأ الجزء الثاني من الآية من قوله تعالى ( وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ۚ )

أولا يجب علينا أن نعرف أن هذا الجزء من الآية مخصص لرخصة التيمم والحالات التي يسمح فيها بالتيمم وكذلك شرح طريقة التيمم .

ويجب أن نعرف أن ( المرض والسفر والمجيء من الغائط وملامسة النساء ) ما هي إلا الحالات التي يباح فيها التيمم بشروطها ، وسنعرف ذلك عندما نعرف العلاقة بين المرض والسفر من جهة وبين العلاقة بين المجيء من الغائط وملامسة النساء من جهة أخرى وكذلك العلاقة بين هؤلاء جميعا ولنبدأ بالعلاقة بين المرض والسفر .

العلاقة بين ( المرض والسفر ):

المرض حالة إنسانية قليلة الحدوث للإنسان ولكنه مشقة وضرر . لاحظوا أننا نتكلم عن المرض أيام زمان حيث لا مسكنات ولا عيادات طبية ، ومع ذلك يبقى المرض هو المرض .

والسفر حالة إنسانية أيضا قليلة الحدوث ولكن أيضا فيه مشقة ، لاحظوا أننا نتكلم عن السفر أيام زمان حيث لا سيارات ولا طائرات ، ومع ذلك يبقى السفر هو السفر .

إذن ما يربط المرض والسفر هو الضرر والمشقة وقلة الحدوث ، ويربطهما أيضا الماء وعلى النحو التالي:

ما يربط المرض بالماء هو أن المريض في الغالب لا يتقبل الماء وربما أضر به خصوصا الإغتسال .
وما يربط السفر بالماء هو أن المسافر في الغالب لا يجد الماء بسهولة .

ولنعلم أن الآية تقصد كل من يصح عليه اسم مريض ومن يصح عليه اسم مسافر ولا علاقة للآية بنوع المرض أو نوع السفر .

والآن إلى العلاقة بين المجيء من الغائط وملامسة النساء:

أما العلاقة بين ( المجيء من الغائط وملامسة النساء ) فهما كناية عن ( الإقامة والصحة ) وهما عكس الحالتين السابقتين فهناك (مرض أو سفر) وهنا ( صحة وحضر ) والأصل في ذكرهما هنا بعد المرض والسفر أولا: ككناية عن الإقامة والصحة ثانيا: إن في مدلولهما مبطلات الطهارة والوضوء وهما الحدث الأصغر والأكبر بالإضافة إلى معنى ثالث: سأذكره بعنوان نكتة لطيفة ، وهذا إعجاز بياني قرآني وهو أن تؤدي الكلمة أكثر من معنى وتخدم أكثر من غرض في نفس الوقت ، وأكثر الناس عليهما أي الإقامة والصحة . وما ينقض الوضوء والطهارة للمريض والمسافر والمقيم والصحيح هو الغائط أو خروج ( المذي ) الناتج عن الهيجان من الملامسة أو التخيل ، أو الإحتلام أو الجماع ، لاحظوا أننا نتكلم عن الغائط أيام زمان حيث لا حمامات في البيوت ولا ماء في الأنابيب .

وهنا نكتة لطيفة وإشارة خفية في قوله تعالى: ( أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء ) أقصد بأن ذكر نواقض الوضوء في القسم الخاص بالتيمم له معنى ومدلول ؛ لأن المريض والمسافر إنما يتطهران للصلاة أيضا بسبب الغائط أو ملامسة النساء ، وهذا المعنى والمدلول هو أن لا تيمم إلا بحدث أصغر أو أكبر وبناء عليه فلا تجديد في التيمم ولك أن تصلي بالتيمم الواحد ما تشاء من الفروض وبدون أن تجدد التيمم وهو ما دل عليه قوله تعالى: ( أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا ) وهو عكس الجزء السابق من الآية والذي في أحد معانيه التطهر بالماء عند كل قيام للصلاة ولو كان على طهارة سابقة كما هو واضح في الجزء الأول من تفسير الآية ( يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم . . . ) والله أعلم .

ولنا أن نعلم أن حرف العطف (( أو )) المذكور في قوله تعالى: ( أو جاء أحد منكم من الغائط ) يحمل أيضا معنى (( واو الجمع والمعية )) وليس هو بمعنى الخيار فقط وعليه يكون من معاني الآية ( وإن كنتم مرضى أو على سفر (( و )) جاء أحد منكم من الغائط ) وعليه يظهر المعنى جليا وواضحا بأن لا تيمم إلا بحدث ، وهو مثل قوله تعالى: ( من بعد وصية يوصي بها أو دين ) فحرف العطف ( أو ) هنا يحمل في أحد معانيه معنى الجمع فتكون الآية ( من بعد وصية يوصي بها (( و)) دين ) لأن الموصي قد يوصي بوصية ودين معا ، ومثله قوله تعالى: ( فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة (( أو )) ما ملكت أيمانكم ) وكان يملك الواحد منهم الزوجة وما ملكت اليمين . إذن (( أو )) هنا ليس للإختيار فقط .
وإن قيل ولماذا سبحانه وتعالى لم يقل: وجاء أحد منكم من الغائط . أي بالواو كما أسلفت ؟ .
والجواب حتى لا يضيع المفهوم الثاني والمراد بهما الصحيح والمقيم لأنه إذا عطف بالواو سينحصر معنى الآية بالمريض والمسافر فقط . وكذلك في قوله من بعد وصية يوصي بها ودين: فنجد أن العطف بالواو أفاد إلزام المحتضر بكتابة وصية ودين .وكذلك في آية ( فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ) .

وهنا نجد أن الآية استوعبت كل نواحي الحياة فبدأت بالقيام من النوم أو من أي قيام وعرجت على حالات المرض والسفر وختمت بالتمكن والإقامة والصحة فسبحان الله .

والآن إلى تفسير هذا الجزء من الآية:

وسأعود مجددا إلى بداية الآية الذي يقول: ( يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم ) وفيه نرى أن الآية تخاطب بالعموم كافة المؤمنين ؛ الصحيح والمريض والمقيم والمسافر ، الرجال والنساء وتلزمهم بالطهارة بالماء عند الصلاة ثم قسمت الآية هؤلاء المؤمنين إلى ثلاثة أقسام ( المرضى والمسافرين والأصحاء المقيمين ) وكأنه قيل: وماذا يارب لو كنا مرضى أو أثناء سفر وكيف نفعل إذا لم نجد الماء ؟ .

والآن ستبرز ثلاثة معاني لهذه التساؤلات:

المعنى الأول والظاهر من الآية بأنه لا عذر لكم للأخذ برخصة التيمم سواء كنتم مرضى أو مسافرين أو مقيمين وأصحاء ومحدثين إلا إذا لم تجدوا ماء . وهذا المعنى فيه تعسف مناف للشريعة وللسنة المشرفة ، فلو نظرنا إلى بعض الحكمة من الرخصة التي رخص الله بها للمريض والمسافر بأن يفطرا في الصيام لوجدنا أن السبب هو الحرص على عدم اجتماع مشقتين على العبد تخرجه عن حد الإعتدال فيسوء مزاجه أو يتضرر وربما ساءت أخلاقه وانعكس ذلك على تصرفاته مع الآخرين .

وإن قيل بأن الجواب في التفسير الثاني الذي يقول: بأن المريض والمسافر يقدران المشقة والضرر في حال وجود الماء فأقول هذا حشو في التفسير ولم تشر إليه الآية لا من قريب ولا من بعيد وإنما هو من باب الإفتاء ، وفيه أيضا أن المريض والمسافر قد يخطئان التقدير فيصيبهما ضرر أو هلاك وفي هذه الحال يكون غريمهما المفسر الذي فسر لهما بأن يقدرا عما يترتب عليه من المشقة والضرر حال اغتسالهما من جنابة مثلا أو من استخدام الماء خمس مرات يوميا .

ويبقى الجواب الثالث والذي فيه بأن الآية تفهم على النحو التالي:

المرض والسفر مسوغان أوليان للأخذ برخصة التيمم (( وإن وجد الماء )) وهذه رخصة من الله لكل من يطلق عليه اسم ( مريض ) أو اسم ( مسافر ) .

فمفهوم الآية الذي وصلني كما يلي: وإن كنتم مرضى أو على سفر أو لم تجدوا ماء حال الصحة أو الإقامة فتيمموا .
وفيه آيضا فائدة لمعنى التقسيم والتخصيص الذي أوردته الآية ، وبما أنه قد تم تخصيص المرضى والمسافرين بالذكر في قسم التيمم فهذا يعني أن هذا التقسيم جاء لأحد معنيين ، إما للتشديد بأنه لا رخصة للتيمم ولو كنتم مرضى أو مسافرين وقلنا هذا مستبعد ومردود بالكتاب والسنة ، من الكتاب مثل: ( ولا على المريض حرج ) و ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) ( يريد الله بكم اليسر ) ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) وغيرها وكذلك من السنة حتى أن الصحيح المقيم يستطيع أن يأخذ بهذه الرخص إن خشي الضرر وفي قصة عمرو ابن العاص كفاية حيث أم الناس وهو جنب ولم يغتسل خشية الهلكة من الماء البارد وسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بل وضحك .
إذن لم يبق إلا المعنى الثاني الذي ذكرته آنفا . والله أعلم .

الخلاصة: التيمم رخصة من الله لا نلجأ إليها إلا بأحد شرطين:

الشرط الأول أن يكون العبد في مشقة ( مرض أو سفر ) .
الشرط الثاني أن لا يتوفر الماء بسهولة وهذا في حالة الحضر والإقامة والصحة .

بمعنى آخر: للمريض والمسافر أن يأخذا برخصة التيمم وإن وجد الماء .
والمقيم الصحيح له أن يأخذ برخصة التيمم إن عدم الماء .

المهم أن لا نترك الصلاة تحت أي مبرر لأن الغاية هي الصلاة ، والوضؤ والتيمم ما هما إلا الوسيلة لتأدية تلك الغاية ونجد أنه سبحانه وتعالى عطف بحرف الفاء بقوله تعالى: (( فلم تجدوا ماء )) ولم يقل (( ولم تجدوا ماء )) فأفاد العطف بالفاء التعقيب والسرعة أي بمجرد أن لا تجد الماء وكنت محدثا فتيمم ولا تضيع الوقت بالبحث عن الماء خشية أن يفوت الوقت أو يترتب عن البحث وجلب الماء مشقة و عليه أيضا فقد أفاد حرف العطف بالفاء بأن ليس هناك حكم سابق بالبحث عن الماء للأخذ برخصة التيمم بخلاف لو عطف بحرف الواو الذي يوهم بأن هناك حكم سابق للبحث عن الماء أولا ؛ كما في آية الدين حيث قال تعالى: ( وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة ) فنجد هنا أنه عطف بالواو بقوله: ( ولم تجدوا كاتبا ) ولم يقل ( فلم تجدوا كاتبا ) لأن هناك حكم سابق بالأخذ بكاتب في بداية آية الدين ،
( يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه ، وليكتب بينكم كاتب بالعدل ).
والله أعلم بالصواب .

وإن قيل والقيد الموجود في الآية ( فلم تجدوا ماء ) ما حكمه ؟ .

فأقول هذا القيد أو الشرط يخص الأصحاء المقيمين لأن المرض والسفر خرجا مخرج الشرط ، ولنضرب لذلك مثلا ولله المثل الأعلى: فلو قلت مخاطبا الناس:
أيها الناس: أقتلوا المحتلين لبلادكم ، سواء كنتم عبيدا أو مستضعفين أو رجالا أحرارا فإن لم تجدوا سلاحا ، فثوروا عليهم.
فسنجد أن العبيد في الغالب لا يجدون السلاح والمستضعفين من النساء والأطفال في الغالب لا يحسنون استخدام السلاح وعليه فالمخاطبون هنا بكلمة " فإن لم تجدوا سلاحا " هم الرجال الأحرار .

ولكي أؤكد على أن المريض والمسافر لهما أن يأخذا برخصة التيمم وإن شرط وجود الماء لا يخصهم إلا من قبيل الندب لنفترض بأن الآية قائمة على التشديد وكان معناها على الصيغة التالية: أيها الناس عليكم بالوضوء عند كل صلاة ولو كنتم مرضى أو مسافرين ولم تجدوا ماء فتيمموا ، فهنا نرى بأن المقيم والصحيح قد دخلا في نفس الحكم بمعنى أن الصحيح والمقيم عليهم نفس الحكم وهو التيمم إن لم يجدوا الماء لأنه إذا كان لا عذر للمريض والمسافر للأخذ برخصة التيمم بوجود الماء فمن باب أولى أن الصحيح المرتاح لا عذر له بالتيمم إلا إذا لم يجد الماء ؛ وبما أن الخطاب للكل فلا معنى لأن نكرر نفس الحكم ثانية للصحيح المرتاح لأن يتيمم هو أيضا إذا لم يجد الماء لأن الحكم قد شمله سابقا عندما خاطبنا الكل ؛ بخلاف لو كان معنى الآية قائم على الترخيص للمريض والمسافر بأن يتيمما ولو وجد الماء ، بمعنى لو كان معنى الآية على الصيغة التالية: أيها الناس عليكم بالوضوء عند كل صلاة وإن كنتم مرضى أو مسافرين فتيمموا فمن الطبيعي أن يوجد تساؤل يفضي إلى حكم يبين كيف يتصرف الصحيح المقيم إذا لم يجد الماء وهنا يتضح جواب تساؤل بعض المفسرين وهو قولهم: لماذا تساوى الصحيح المقيم مع المرضى والمسافرين في الحكم طالما حكمهم واحد والقيد راجع الكل ؟ هذا على حسب تفسيرهم بأن شرط أو قيد (عدم جود الماء ) يعم الكل ، لأنهم عند هذه النقطة احتاروا فلجؤا للتبرير والقول: إذا كان المرض مهلك وهناك خشية من الضرر أو المشقة فلا ضير أن يتيمم المريض والمسافر بوجود الماء فأدخلوا في الآية ما ليس فيها مع أن هذه الرخص وكما أسلفنا تؤخذ من آيات أخرى ومن السنة وهي للكل بما فيهم الصحيح .

وهنا قد يسأل سائل السؤال التالي: إذا كان تفسير الآية على هذا الذي تقوله فلماذا تُرك شرط عدم وجود الماء بحيث يبدو وكأنه يشمل الكل ؟
والجواب: أولا: الآية بهذه الصيغة إعجاز بياني قرآني . وثانيا: والله أعلم بأن الآية أحكمت بهذا الشكل لكي لا يكون أمر التيمم للمريض والمسافر قائم على الوجوب والإلزام في وجود الماء وإنما الأمر قائم على التّرخّص والإباحة وبحيث لا يُمنع المريض والمسافر من زيادة الأجر لو أرادا الوضوء والماء موجود وعليه فإن تيمما فقد أخذا بالرخصة وإن توضيا فزيادة أجر وفضل ، وكما هو شأن الآية كلها .

ثم أن هناك الحديث الذي رواه أبو داوود وابن ماجه والدار قطني وصححه ابن السكن وهو حديث جابر: أن رجلا أصابه حجر فشج رأسه ، ثم احتلم ، فسأل أصحابه: هل تجدون لي رخصة في التيمم ؟ فقالوا: لا نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء ، فاغتسل فمات . فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأخبر بذلك فقال: قتلوه قتلهم الله ، ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال ، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر أو يعصب على جرحه ثم يمسح عليه ويغسل سائر جسده . انتهى .
وفي الحديث بيان أن التيمم للمريض مقابل الوضوء فقط وإن وجد الماء ، لأنه قال: إنما كان يكفيه أن يتيمم ، والرجل اغتسل . وبدأ عليه الصلاة والسلام بالتيمم لأن التطهر من الجنابة في السنة بأن يبدأ العبد بغسل الفرج ثم يتوضأ ثم يغتسل ويبدأ بجنبه الأيمن ولا يلمس فرجه . والتيمم يجزئ عن الجنابه في حال عدم الماء . والله أعلم .

والآن إلى معنى الملامسة التي قصدته الآية والذي اختلف على معناها العلماء والمفسرون بدون داعي للإختلاف ، لاحظوا إننا نتكلم عن الملامسة أيام زمان !! طبعا هذه ما فيها شىء فالملامسة هي الملامسة في كل زمان ومكان وإنما أحببت زرع ابتسامة على وجوهكم .!

اختلف العلماء والمفسرون عن المقصود في معنى ( الملامسة أو اللمس على قراءة أو لمستم النساء ) إلى فريقين ؛ فالفريق الأول يرى في معنى الملامسة أنها ( الجماع ) وأسموها ( الملامسة الكبرى ) ويرى الفريق الثاني بأن معناها ينحصر في ( القبلة واللمس بشهوة دون الوطأ ) وأسموها ( الملامسة الصغرى ) ، واستدل الفريقان بأدلة من القرآن في معنى كلمة ( لمس أو لامس ) أو من السنة النبوية على صحة ما ذهبوا إليه .
وقد رأيت أن الخلاف لا مبرر له لأن الكلمة تحتمل المعنيين معا .
ومن يستطيع أن يجزم بأنها لا تعني المعنيين معا .

لأن في الملامسة الصغرى ما يبطل الوضوء وهو ( المذي ) وفي الملامسة الكبرى أيضا ما يبطل الوضوء وهو ( المني ) وعليه إذا أخذنا بأن المقصود بالملامسة هو الملامسة الصغرى فسيندرج معنى الملامسة الكبرى تحت معنى الملامسة الصغرى من باب تضخيم الأمر على الفعل الأصغر فما بالك بالفعل الأكبر بمعنى إننا عندما أوجبنا التطهر من الحدث الأصغر فمن باب أولى أن نتطهر للحدث الأكبر .
ولو تأملنا الآية من أولها أي من قوله تعالى: ( ياأيها الذين آمنوا ....) لوجدنا أن الآية بدأت تفصل حكم واجد الماء وبينت كيف يتوضأ ثم قالت: ( وإن كنتم جنبا فاطهروا ) أي اغتسلوا كما ورد في الآية التي في النساء وهذا الجزء من الآية خاص بواجدين الماء ، الآن يبرز السؤال التالي: لماذا عدل سبحانه وتعالى وهو يفعل ما يريد من قوله: ( وإن كنتم جنبا فاطهروا ) في قسم واجد الماء إلى قوله: ( أو لامستم النساء ) في قسم عادم الماء أي قسم التيمم ؟ بمعنى لماذا لم يقل: أو كنتم جنبا فلم تجدوا ماء فتيمموا ؛ مع إن كلمة الجنب شاملة لجميع أنواع الجنب كالمحتلم والمستمني والمجامع ؟ إذن هذا العدول يدل بأن كلمة الملامسة هنا تدل على أن المقصود بالملامسة هو كلا نوعي الملامسة الصغرى والكبرى وعليه فمن احتاط لنفسه وأخذ المعنى بأن المقصود هو الملامسة الصغرى فزيادة أجر وفضل ومن أخذها بمعنى الملامسة الكبرى فما فارق السنة وكما هو شأن الآية كلها .

وكذلك نرى بأن المجئ من الغائط والملامسة لم يذكرا في قسم الوضوء لانه تعالى أمر بالوضوء إذا قمنا للصلاة وعلى أي حال كنا عليها طاهرين أو غير طاهرين وهذا يرجح قول الذين قالوا بأن الوضوء يلزم كل قائم للصلاة سواء كان على طهارة سابقة أم لا ، وإنما ذكر الجنب لأن الجنب ليس حكمه الوضوء وإنما حكمه الإغتسال . والله أعلم بمراده .

يبقى معنا ما جاء بالسنة عن حديث عائشة بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل ويصلي ولا يتوضأ . أقول نعم ذلك فعل رسول الله صلاتي وسلامي عليه وفعله أو قوله لا يكون مفسرا للآية دائما فقد يكون ناسخا كما هو في آية قصر الصلاة المذكورة في نهاية هذه المقالة وكما هو هنا حيث نسخ فعله جزء من معنى الملامسة الصغرى وهو ليس نسخ لما يندرج تحتها من أحوال الجنب الأخرى وإنما هو نسخ تخفيف واختيار لأمته وليس نسخ منع وإزالة فمن أراد أن يأخذ بمعنى الملامسة الكبرى فلا مانع ومن أراد أن يحتاط لنفسه ويأخذ بمعنى الملامسة الصغرى فذلك زيادة أجر . بمعنى أن الآية كان معناها قبل فعل النبي صلى الله عليه وسلم ( وجوب الوضوء أو التيمم بمجرد الملامسة دون قيد أو شرط ) وصار من معانيها بعد فعله عليه الصلاة والسلام ( إذا أدت الملامسة إلى خروج ( مذي أو مني ) فقد وجب الوضوء أو التيمم ) .بمعنى آخر إذا لامس الرجل زوجته وكان على وضوء سابق ولم ينزل ما ينقض الطهارة أو الوضوء فلا عليه شيء وما زال طاهرا والله أعلم .

وعليه فلا خلاف والكلمة تشمل المعنيين الملامسة الصغرى والملامسة الكبرى . والله أعلم .

بقي لنا أن نذكر قول الله تعالى: ( ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون ) .

وسأبدأ بذكر الشكر وفيه أمر خفي بشكر الله تعالى بعد كل طهارة حسية ( الوضوء أو التيمم ) أو كل طهارة معنوية روحية ( الصلاة ) .
وأما قوله تعالى: ( ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ) فمعناه بأن لا تأخذوا التشديد على الطهارة على أنه للتضييق والشق عليكم ولكن خذوه من باب الطهارة والنظافة والإنعام والتفضل . والله أعلم .

ولكي أوضح معنى نسخ جزء من معنى الآية مع بقاء بعض أحكامها لنأخذ الآية التالية كمثال:

( (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا) [سورة النساء : 101]

هذه الآية معناها: ظاهر هذا الشرط أن القصر لا يجوز في السفر إلا مع الخوف من الكافرين لا مع الأمن ( أفاده الشوكاني ) . والآن لننظر كيف تغير المعنى بل وزاد فيه بعد قوله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد أن سأله عن الشرط الذي في الآية: ( صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته )؛ هذا القول من النبي صلى الله عليه وسلم فيه نسخ تخفيف ورخصة منه صلى الله عليه وسلم وكأنما قال له: خذ الرخصة على أي حال دون قيد فصار معنى الآية كالآتي:

١- يجوز قصر الصلاة في السفر خوف فتنة الكافرين . ( كما عليه الآية )
٢- يجوز قصر الصلاة في السفر مع أي خوف .
٣- يجوز قصر الصلاة في السفر وحده وبدون شروط .
٤- يجوز قصر الصلاة للمقيم حال الخوف .


يقول تعالى ( ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ) . صدق الله العظيم .

والله أعلم بمراده .