الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده..
أما بعد..
فصورة القضية تتلخص في إيراد أورده الأشاعرة المتأخرون على أهل السنة السلفيين،وكان مفاده: كيف تزعمون أنكم على الحق ونحن معنا قرينة لائحة متضحة على أن الحق معنا وهي: أننا أكثر الأمة..
فغالب علماء الأمة ، المفسرون والمحدثون والفقهاء واللغويون والأصوليون =أشاعرة وماتريدية..
وهذه قرينة ظاهرة ليس معكم مثلها..ولو كنتم على الحق لكنتم أكثر الأمة..
فكان أن رد عليهم أهل السنة بجواب صورته:
(( ليس الرأيُ ما ذهبت إليه، من أن جمهورَ الأمةِ من الأشعرية وانظر حولك في محيطك الذي تعيش فيه، هل عوام الأمة يعرفون الأشعري والماتريدي، وماذا يقولون في علو الله تبارك وتعالى على عرشه، وماذا يعتقد العوام في ((الإسراء والمعراج))، حتى مَنْ يقول منهم إن الله في كل مكان فإذا باحثته لم يكن يريد إلا السلطان والعلم والجبروت وما أشبه ذلك من المعاني الصحيحة ولم يُرِدْ أحدٌ منهم الحلولَ أو الاتحادَ قط، ولا خطر بقلب أحدهم ((لا خارجَ العالم ولا داخلَهُ)) وكذلك قُلْ في أفعال العباد، فكل العوام يثبتون عموم الإرادة والخلق، فكل شيء بإرادة الله وخلقه، ويثبتون مع ذلك اكتسابَ العبدِ لأفعاله، فالله خالقٌ مريدٌ حقيقةً، والعبدُ فاعلٌ حقيقةً ولا تَنافِىَ في شيء من ذلك عندهم ولا يناقضون بين هذا وهذا، ولا يقولون بجبرٍ أو كسبٍ أو نحو ذلك، كما لا يتوقف أحد من العوام عن إثبات شيء من صفات الله تعالى على ما يليق به، لا يمنعه ((حلول حوادث)) ولا ((حوادث لا أول لها)) عن ذلك، وسَلْ يا دكتور عمر أيَّ عاميٍّ هل ربُّنا سبحانه يُوصَفُ برحمةٍ ورضا وغضب، أم المراد ((إرادة الثواب وإرادة العقاب)) وأن الرحمة خور والغضب غليان... الخ من التأويلات الأشعرية الغريبة البعيدة.
فكل هؤلاء ليسوا من الأشاعرة، وإثباتهم ليس متلقىً عن أحد بل بفطرتهم النقية التي لم تتلوث بترهات علم الكلام الذي غرسه المتكلمون ومنهم الأشاعرة، وهؤلاء هم جمهور الأمة قبل ((القرن السابع)) وبعده)).
هذا مثال على الرد ولم أر ممن حاولوا الرد على إيراد الأشاعرة من خرج عن هذا النسق في الرد..
الآن نلاحظ أن أهل السنة لما حاولوا الرد على هذا الإيراد =فزعوا إلى ذكر العوام وأنهم على الفطرة وعقيدة العجائز،ولا شك أن العوام هم دائماً أكثر الأمة...وفرحوا بردهم هذا وركنوا إليه وصارت الحجة تُقلب على الأشاعرة فيقال: بل نحن أهل السنة أكثر الأمة....

والآن نبدأ التعليق على ما تقدم مضمنين هذا التعليق الرأي الذي نرتضيه في هذه المسألة...

1- هذا الولوع بالكثرة والحرص على وصف المذهب بها وجعلها قرينة على إصابة الحق = لا ينبغي أبداً وفيه غفلة عن النصوص الكثيرة الموضحة والمبينة أن أهل الحق قلة دائماً :
والله يقول: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ}
والله يقول: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}
والله يقول: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ}
والله يقول: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}
والله يقول: {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورً}
والداخلون النار أكثر بكثير من أهل الجنة....
والمحصلون لأعلى رتب الأعمال القلبية والجوارحية السابقون السابقون أقل بكثير من غيرهم..
والقائمون على نصرة الحق إلى قيام الساعة طائفة قليلة .....
والفرقة الناجية واحدة من ثلاثة وسبعين فرقة....
والسؤال الذي يبرز بعد كل هذا : لم هذا الولوع بالكثرة والانتساب إليها (؟؟؟)
2- هذه المسألة أكثر منها ومن ذكرها الأشاعرة المعاصرون وجابههم بهذا الرد أهل السنة المعاصرون...وإلا فالكلام فيها قديم تجد له أصولاً سابقة.
3- الذي في كلام السلف : الجماعة ما كان على الحق ولو كنت وحدك...ولم يك عندهم هذا الولوع بالكثرة....غاية الأمر أن يعددوا العلماء المنتسبين لأهل السنة أما الوصف بالكثرة في الأمة فلا..وشيخ الإسلام وتلاميذه كانوا وحدهم في خضم هائل من المخالفين ؛ورأينا في كلامهم كثرة الحديث عن الغربة والاغتراب ولم نر حديث الكثرة هذا،والإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب كان وحده في قاموس من المخالفين الشانئين ولم نر منه ذاك الولوع بالاستكثار...بل ذكر أن الاحتجاج بالكثرة من سيما أهل الجاهلية...والشي الألباني كان كدوحة الخير في صحراء قاحلة من الأعداء والمناوئين فلم نر منه هذا الولوع بالاستكثار بل لعلي رأيت في كلامه وكلام الإمام المجدد التمدح بالقلة وأنها شعار أهل الحق..
فلم جارى أولئك الباحثون تلك الشبهة الأشعرية وحاولو الركض في مضمار التكثر البغيض هذا(؟؟؟؟)
وإذاً فهبنا قلنا الأشاعرة أكثر الأمة ..
فكان ماذا (؟؟)
وهل يُعدُ هذا مدحاً إلا على سنن أهل الجاهلية المتمدحين بالكثرة(؟؟!)

4- إدخال العوام في هذا التعداد والاستقواء بهم خطأ ظاهر...خطأ من جهة أصول المناظرة والاستدلال فالأشاعرة يتكلمون عن العلماء ولأمة في كلامهم هم العلماء فهم معيار الأمة وهم الذين ينعقد بهم الإجماع ويحصل بخلافهم الخلاف..فإدخال العوام حيدة ظاهرة....
وإدخال العوام خطأ في نفس الأمر فالعوام ليسوا معياراً تُقاس به الأمة،والعامي إن وافق الحق فليس ذلك عن استدلال-في الغالب- ولذا يسهل إدارته عما هو عليه من الرأي من أقرب طريق...بل لو شئنا أن نقيس الأمور بميزانها الصحيح لقلنا : إن الغالب على العوام عدم الخلو من الاعتقاد الفاسد ولو في وجه من الوجوه فخرجوا بذلك عن أن يكونوا من أهل السنة الخلص...فالعامي حين يصيب أو حين يخطئ فهو لا يرتكز في صوابه وخطأه على علم وحجة وإنما هو التقليد والجهل لا غير...
4- كلام الأشاعرة صحيح في أن المنتسبين لمذهبهم كثر أما أنهم أكثر الأمة عبر الألف وخمسمائة عام.. فباطل وتزيد محض.
5- ثم الأشاعرة ليسوا أكثر الأمة ولا حتى إذا جعلنا العلماء هم الميزان...وبرهان ذلك فيما يلي:
1- منذ وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى عام تحول الأشعري إلى طريقة ابن كلاب زهاء أربعة قرون ،ليس فيها أشعري ولا مذهب أشعري ...والقول بإن هذه القرون كانت على طريقة الأشعري لأنها هي الحق =هو استدلال بمحل النزاع فالسلفيون يدعون نفس الدعوى...فخرجت هذه القرون الأربعة عن أن يستدل بها على الكثرة..
2- من القرن الرابع الهجري إلى الآن وبلاد الهند ودول الاتحاد السوفيتي كلها على مذهب الماتريدية وليس هو مذهب الأشاعرة ومجرد الاختلاف في الأصول وفي النسبة يمنع جعلهم والأشاعرة واحداً...فخرج هذا الفصيل بأكمله عن أن يستدل به على الكثرة...
3- مذهب الأشاعرة منذ أبي الحسن وحتى ما قبل الرازي شئ ومذهب الأشاعرة بعد الرازي شئ آخر....والخلاف بين المذهبين يشق الصف الأشعري ويمنع وصفه بأنه مذهب واحد ...ولذلك كان أهل الفطنة من الأشاعرة المتكلمين عن الكثرة يُركزون على القرن السابع فما بعده...
4- كان المذهب الأشعري من القرن الرابع للسابع موجوداً.هذا صحيح..أما أنه هو الأكثر فلا وكلا بل لعل القرنين الرابع والخامس شهدا سيطرة وانتشاراً كاملين للحنابلة السلفيين ....
5- وإذاً فالوجود الحقيقي الذي يمكن وصفه بالكثرة للأشاعرة هو وجودهم بعد القرن السابع...وقد ألمحنا إلى مفارقة طريقتهم لطريقة الأشعري وأتباعه الأول: الاسفراييني والباقلاني...
6- الآن علماء الأشاعرة من القرن السابع إلى الثالث عشر من هم (؟؟؟)
من هم في أنفسهم (؟؟)
ومن هم قياساً إلى القرون السابقة(؟؟؟)
أما العدد فهم أقل عدداً ولا شك....فالخير في تناقص والإقبال في تناقص ...ونهمة الناس للعلم وفراغهم له وجمعهم أنفسهم له في القرون السابقة كان أكثر وأكبر...
أما الفضل فهم أقل فضلاً ولا شك....
أما الاجتهاد...فعلما ما بعد القرن السابع –بشهادتهم على أنفسهم-ليس فيهم مجتهد واحد ؛فباب الاجتهاد مغلق ،والفقه تبع لإمام تقليداً ودوراناً،والاعت قاد تبع لإمام تقليداً ودوراناً،والسلو ك تبع لإمام تقليداً ودوراناً...
أما النظر الحر،والاستدلال الخالص،والاجتها د غير المتقيد بمذهب وإمام فلم يك موجوداًَ...
فبأي شئ صار أولئك علماء الأمة الذين تُقاس بهم الكثرة والغلبة (؟؟؟)
دع عنك أن علماء ما بعد القرن السابع متنازعون في مسائل الاعتقاد بين سلفي وأشعري وخارجي ومعتزلي وإباضي ومرجئي...فوصف إحدى طوائفهم بالجمهور متعذر...نعم قد يصح هذا الوصف في مكان دون آخر أما كحكم عام على التاريخ الإسلامي أو حتى على حقبة واسعة منه=فهذا تعميم غير مرضي..
وخلاصة القول:
1- ليس الأشاعرة هم الأكثر ولا نحتاج في تعضيد هذا لأكثر مما ذكر...
2- ليس أهل السنة هم الأكثر عبر القرون السابقة كلهاوالبراهين على تلك والتي قبلها واحدة ،وإدخال العوام في هذا ليس بحسن.
3- التمدح بالكثرة خطأ ظاهر،والأدلة ظاهرة في أن أهل الحق والفرقة الناجية والطائفة المنصورة يكونون أقل من غيرهم.فلم الولوع بالكثرة على هذا النحو العجيب...وفي المعتز بالكثرة المعير بالقلة شبه من القائل: { إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ}.
وأختم بهذا النص الشريف.....الذي يُظهر لك أن علماء السلف لم يردوا تلك الشبهة الأشعرية بأن يجاروهم في دعوى الكثرة...وإنما ردوا عليهم بسنن القرآن...
قال ابن قدامة في كتابه: ((المناظرة في القرآن)):
((ومن العجب [ أن ] أهل البدع يستدلون على كونهم أهل الحق بكثرتهم وكثرة أموالهم وجاههم وظهورهم . ويستدلون على بطلان السنة بقلة أهلها وغربتهم وضعفهم .
[ فصل مهم في الرد على ما ادعوه ]
فيجعلون ما جعله النبي صلى الله عليه وسلم دليل الحق وعلامة السنة دليلاً على الباطل ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا بقلة أهل الحق في آخر الزمان وغربتهم وظهور أهل البدع وكثرتهم .
ولكنهم سلكوا سبيل الأمم في استدلالهم على أنبيائهم وأصحاب أنبيائهم بكثرة أموالهم وأولادهم وضعف أهل الحق ، فقال قوم نوح له { ما نراك إلا بشراً مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين } وقال قوم صالح فيما أخبرنا الله عنهم بقوله {قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحاً مرسل من ربه قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون * قال الذين استكبروا إنا بالذي أمنتم به كافرون } وقال قوم نبينا صلى الله عليه وسلم { وقالوا نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذبين } وقال الله عز وجل { وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا } { وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيراً ما سبقونا إليه } ونسوا قول الله عز وجل { وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع } وقوله سبحانه { واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا } وقوله سبحانه { واضرب لهم مثلاً رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب ......} وقوله سبحانه { ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجهاً منهم } وقوله تعالى { ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة ... } إلى قوله تعالى { وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين } .

وقد كان قيصر ملك الروم وهو كافر أهدى منهم ، فإنه حين بلغه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم سأل عنه أبا سفيان فقال : يتعبه ضعفاء الناس أو أقوياؤهم ؟ فقال بل ضعفاؤهم فكان مما استدل به على أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إنهم أتباع الرسل في كل عصر وزمان .

وفي الآثار : أن موسى عليه السلام لما كلمه ربه تعالى قال له : يا موسى لا يغرنكما زينة فرعون هولا ما متع به فإنني لو شئت أن أريكما [ زينة ] أن مقدرته تعجز عن أقل مما أوتيتما لفعلت ولكنني أظن بكما عن ذلك وأزويه عنكما وكذلك أفعل بأوليائي وقديماً ما خرت لهم أني لأذوهم عن الدنيا كما يذود الراعي الشفيق إبله عن مبارك العرة ، وإني لأجبنهم سلوتها ونعيمها كما يجنب الراعي الشفيق غنمه عن مراتع الهلكة وما ذلك لهوانهم علي ولكن ليستكملوا نصيبهم من الآخرة سالماً موفراً لم تكله الدنيا ولم يطعه الهوى .[ صحيح من قول وهب بن منبه ]

وقد روي عن عمر ـ رضي الله عنه ـ :
" إنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم مشربة له فرفع رأسه في البيت فلم يرى فيه إلا أهبة ثلاثة ، والنبي صلى الله عليه وسلم متكئ على رمال حصير ، ما بينه وبينه شيء قد اثر في جنبه فقلت يا رسول الله وأنت على هذه الحال وفارس والروم وهم لا يعبدون الله لهم الدنيا ، فجلس النبي صلى الله عليه وسلم محمراً وجهه ثم قال : " أفي شك أنت يا ابن الخطاب ، أما أرضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة " [ حديث صحيح ]
هذا معنى الخبر .
ثبتنا الله وإياكم على الإسلام والسنة ، وجنبنا الكفر والبدعة ، وحبب إلينا الإيمان وزبنه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان وجعلنا من الراشدين)).