ابنُ عباس ينادي طلاب العلم 1/ 3

من منا لم يسمع بالحَبر البحر عبدالله بن العباس، ابنِ عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، الهاشمي، القرشي، المولود قبل الهجرة بثلاث سنين، المتوفى سنة ثمان وستين (68 هـ)؟
لقد كان ابنُ عباسٍ مدرسةً في العلمِ والعملِ، وسيرته في بدايات طلب العلم ونهاياته تنادي بلسان حالها ومقالها طلابَ العلم ليستفيدوا منها في حياتهم العلمية.
ومن الحسن - ونحن في بداية العام الدراسي - أن تبرز هذه القدوة العلمية للنشء، والتي أثْرَتْ الأُمةَ وأثّرت فيها، منذ بدأ في بثّ العلم إلى يومنا هذا، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
لم تكن صحبةُ ابن عباس للنبي صلى الله عليه وسلم طويلة، بل كانت قريباً من ثلاثين شهراً، أي نحواً من سنتين ونصف، وكان عمره حين مات صلى الله عليه وسلم قرابة ثلاث عشرة سنة - كما هو المشهور عند كثير من أهل العلم - لكن الحياة لا تقاس بطول السنوات، بل بقدر العطاء والبذل، وحُسْنِ الأثر.
إن المتأمل في سيرة ابن عباس العلمية؛ سيجد أنها تميزت بمزايا كوّنت منه شخصيةً علميةً فذّة، ومن ذلك:
أولاً: حرصُه على الطلب مبكراً، وقربُه من العلماء، وعلى رأسهم نبيه ومعلِّمه الأول صلى الله عليه وسلم، فقد حدّث ابنُ عباس قائلاً: إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الخلاء، فوضعتُ له وضوءاً، فقال: "من وضع هذا؟" فأُخبر، فقال: "اللهم فقهه في الدين"([1]).
هذا الحرص على القرب من النبي صلى الله عليه وسلم، وتلقي العلم من مصدره؛ لفتَ نظر مَن حوله، خاصةً والديه، فقررا بعثه - وهو الغلام الصغير - لينهل من علمه صلى الله عليه وسلم في أمورٍ قد لا يطّلع عليها إلا خاصة أهله.
فلما كانت ليلةَ خالتِه ميمونة - أم المؤمنين رضي الله عنها - أرسله والداه ليبيت هناك، وليقتبس من العلم النبوي مباشرة وبلا واسطة.
ولن تجد أحسن من أن تستمع لابن عباس نفسه وهو يحدثك عن تلك الليلة التي لا ينساها في حياته، حيث يقول: "بِتّ ليلةً عند خالتي ميمونة، فقام النبي صلى الله عليه وسلم من الليل، فأتى حاجتَه، ثم غسل وجهَه ويديه، ثم نام، ثم قام فأتى القِربة، فأطلق شناقها([2])، ثم توضأ وضوءا بين الوضوءين([3])، ولم يُكثِر، وقد أبلغ، ثم قام فصلى، فقمت، فتمطيت كراهية أن يَرى أني كنت أنتبه له، فتوضأت، فقام فصلى، فقمت عن يساره، فأخذ بيدي فأدارني عن يمينه، فتتامتْ صلاةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل ثلاث عشرة ركعة، ثم اضطجع فنام حتى نفخ، وكان إذا نام نفخ، فأتاه بلال فآذنه بالصلاة، فقام فصلى، ولم يتوضأ، وكان في دعائه: «اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي بصري نوراً، وفي سمعي نوراً، وعن يميني نوراً، وعن يساري نوراً، وفوقي نوراً، وتحتي نوراً، وأمامي نوراً، وخلفي نوراً، وعظم لي نوراً»([4]).
هذا وصفٌ حدّث به ابن عباس - بعد سنوات من هذه القصة التي وعاها وحفظها -، ومن عادة الصبي في مثل هذا السن أنه تغلبه عيناه، ولا يفيق إلا إن أوقظ أو استكمل حاجته من النوم! لكنه لم يفعل، بل نقل لنا صفة قيام النبي صلى الله عليه وسلم لليل، بهذا التفصيل الدقيق الذي يعزُّ نظيره.
إن حرص والدَي ابن عباس لم يكن كافياً لصناعة طالب علمٍ يعي ويفهم، بل قارَنَ ذلك حرصٌ من ابن عباس نفسه.
ويمتد هذا الحرص على العلم بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، ليأخذ منحى آخر، يوضّحه ما يلي:
ثانياً: لم تفتر همةُ ابن عباس - وهو المفجوع بوفاة معلمه الأول صلى الله عليه وسلم - بل رأى في ذلك ما يحفز همتَه للتلقي عن أكابر أصحابه، الذين لازموه ونهلوا من معينه، وعرفوا من سنته ما لم يعرفه غيرهم.
وها هو ابنُ عباسٍ يصوّر لنا هذا الحرص من خلال هذا الموقف الذي وقع له مع شابٍ من شباب الأنصار، فيقول: «لما توفي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، قلت لرجل من الأنصار: يا فلان! هلمّ فلنسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فإنهم اليوم كثير! فقال: واعجباً لك يا ابن عباس! أترى الناس يحتاجون إليك، وفي الناس مِن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مَن ترى؟ فتركت ذلك، وأقبلتُ على المسألة، فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتيه وهو قائل، فأتوسد ردائي على بابه، فتسفي الريحُ على وجهي التراب، فيخرج، فيراني، فيقول: يا ابن عم رسول الله! ما جاء بك؟ ألا أرسلتَ إلي فآتيك؟ فأقول: لا، أنا أحق أن آتيك. فأسأله عن الحديث». قال: «فبقي الرجل حتى رآني وقد اجتمع الناسُ علَي، فقال: «كان هذا الفتى أعقل مني» ([5]).
سترى - يا طالب العلم - في طريقك ألواناً من العقبات، منها: كسالى الطلبة، الذين يثبطون ويخذّلون من حيث لا يشعرون، وسيقولون لك: أتظن أن الناس بحاجة لعلمك وفي الناس فلانٌ وفلانٌ من العلماء؟! فدعهم - كما فعل ابن عباس - وامض لطريقك، فيوشك أن تطول بك وبه حياة، حتى يقول - بلسان حاله أو مقاله -: هذا الفتى أعقل مني! وربما جلس عندك طالباً يتعلم منك.
وللحديث صلةٌ إن شاء الله.


ـــــــــــــــ ــــ
([1]) البخاري ح(143).
([2]) قال النووي: "الشناق: هو الخيط الذي تربط به في الوتد، قاله أبو عبيدة، وقيل: الوكاء".
([3]) أي: وضوءاً خفيفاً.
([4]) مسلم ح(763) .
([5]) سنن الدارمي، رقم(590) .