(13)
باب
من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره
وقول الله تعالى:{وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس: 107].
وقول الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [العنكبوت:17]. وقول الله تعالى:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:6]. وقول الله تعالى:{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ}[النمل:62].
وروى الطبراني بإسناده: أنه كان في زمن النبي_ صلى الله عليه وسلم_ منافق يؤذي المؤمنين فقال بعضهم: فقوموا بنا نستغيث برسول الله_ صلى الله عليه وسلم_ من هذا المنافق فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" إنه لا يستغاث بي، إنما يستغاث بالله"([1]).
الشرح:
قوله:( من الشرك ) من: للتبعيض، فيدل على أن الشرك ليس مختصاً بهذا الأمر والاستغاثة: طلب الغوث، وهو إزالة الشدة.
وكلام المؤلف _رحمه الله_ ليس على إطلاقه، بل يقيد بما لا يقدر عليه المستغاث به، إما لكونه ميتاً، أو غائباً، أو يكون الشيء مما لا يقدر على إزالته إلا الله _تعالى_، فلو استغاث بميت ليدافع عنه أو بغائب أو بحي حاضر لينزل المطر فهذا كله من الشرك ولو استغاث بحي حاضر فيما يقدر عليه كان جائزاً، قال الله _تعالى_:{فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه} [القصص:15]. وإذا طلبت من أحد الغوث وهو قادر عليه، فإنه يجب عليك تصحيحاً لتوحيدك أن تعتقد أنه مجرد سبب، وأنه لا تأثير له بذاته في إزالة الشدة، لأنك ربما تعتمد عليه وتنسى خالق السبب، وهذا قادح في كمال التوحيد.
قوله: ( أو يدعو غيره ) معطوف على قوله: ( أن يستغيث)، فيكون المعنى: من الشرك أن يدعو غير الله، وذلك لأن الدعاء من العبادة، قال الله تعالى:{ وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين }[غافر:60],{ عبادتي} أي: دعائي، فسمى الله الدعاء عبادة, وقال_ صلى الله عليه وسلم_:" إن الدعاء هو العبادة "([2]).
والدعاء ينقسم إلى قسمين:
· ما يقع عبادة، وهذا صرفه لغير الله شرك، وهو المقرون بالرهبة والرغبة، والحب، والتضرع.
· ما لا يقع عبادة، فهذا لا يجوز أن يوجه إلى المخلوق، قال النبي - صلى الله عليه وسلم :"من دعاكم فأجيبوه" ([3]). وقال:" إذا دعاك فأجبه"([4]).
وعلى هذا، فمراد المؤلف بقوله: ( أو يدعو غيره ). دعاء العبادة أو دعاء المسألة فيما لا يمكن للمسؤول إجابته.
قال شيخ الإسلام_ رحمه الله_: الاستغاثة هي طلب الغوث، وهو إزالة الشدة كالاستنصار طلب النصر، والاستعانة طلب العون, وقال غيره: الفرق بين الاستغاثة والدعاء أن الاستغاثة لا تكون إلا من المكروب، والدعاء أعم من الاستغاثة؛ لأنه يكون من المكروب وغيره, فعطف الدعاء على الاستغاثة من عطف العام على الخاص. فبينهما عموم وخصوص مطلق، يجتمعان في مادة وينفرد الدعاء عنها في مادة; فكل استغاثة دعاء، وليس كل دعاء استغاثة([5]).
فالاستغاثة: طلب الغوث؛ وطلب الغوث لا يصلح إلا من الله فيما لا يقدر عليه إلا الله_ جل جلاله_ ؛ لأن الاستغاثة يمكن أن تُطلب من المخلوق فيما يقدر عليه, لكن متى تكون الاستغاثة بغير الله شركا أكبر ؟ ضبطه بعض أهل العلم بقولهم: تكون شركا أكبر ، إذا استغاث بالمخلوق فيما لا يقدر عليه ذلك المخلوق.
وقال آخرون: تكون شركا أكبر إذا استغاث بالمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله, وهاتان العبارتان مختلفتان, والأصح منهما الأخيرة؛ لأن المرء إذا استغاث بالمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله؛ وهو يعلم أن هذا لا يقدر عليه إلا الله: فهذا شرك أكبر بالله_ جل وعلا_ لأن حقيقة الأمر: أنه لا يقدر عليه إلا الله.
قوله: (أو يدعو غيره), الدعاء_ كما ذكرت لك_ هو العبادة، والدعاء نوعان: 1_ دعاء مسألة, 2_ ودعاء عبادة، ونعني بدعاء المسألة: ما كان فيه طلب وسؤال ؛ كأن يرفع يديه لله_ جل وعلا_ ويدعوه ، فهذا يسمى دعاء مسألة. وهو الذي يغلب عند عامة المسلمين في تسمية الدعاء ، فإذا قيل: دعا فلان ؛ يعني سأل ربه_ جل وعلا_.
والنوع الثاني: دعاء العبادة كما قال جل وعلا:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا }[ الجن:18 ]. يعني: لا تعبدوا مع الله أحدا أو لا تسألوا مع الله أحدا ، وكما قال النبي _صلى الله عليه وسلم_:" الدعاء هو العبادة "([6]).
ودعاء المسألة، غير دعاء العبادة فدعاء العبادة يتناول كل صنف من أصناف العبادة ؛ فمن صلى أو زكى أو صام ، ونحو ذلك فيقال: إنه دعا، لكن دعاء عبادة, قال العلماء: دعاء المسألة متضمن لدعاء العبادة ، ودعاء العبادة مستلزم لدعاء المسألة يعني: أن من سأل الله - جل وعلا - شيئا: فهو داع دعاء مسألة ، وهذا متضمن لعبادة الله لأن الدعاء أعني: دعاء المسألة: أحد أنواع العبادة فدعاء المسألة متضمن للعبادة لأن الله_ جل وعلا _ يحب من عباده أن يسألوه .
وقولنا: إن دعاء العبادة مستلزم لدعاء المسألة يعني: أن من صلى، فيلزم من إنشائه الصلاة أن يسأل الله القبول ويسأل الله الثواب فيكون دعاء المسألة متضمنا لدعاء العبادة ودعاء العبادة مستلزما لدعاء المسألة.
إذا تقرر ذلك: فاعلم أن هذا التفصيل أو هذا التقسيم: مهم جدا في فهم حجج القرآن وفي فهم الحجج التي يوردها أهل العلم ؛ لأنه قد حصل من الخرافيين والداعين إلى الشرك: أنهم يؤولون الآية التي فيها دعاء العبادة ، بدعاء المسألة، أو الآية التي في دعاء المسألة بدعاء العبادة وإذا تبين ذلك عُلم أنه لا انفكاك في الحقيقة بين دعاء المسألة ، ودعاء العبادة فهذا هو ذاك: إما بالتضمن أو باللزوم. ومعلوم أن دلالات التضمن واللزوم دلالات لغوية واضحة جاءت في القرآن وجاءت في السنة.
ثم ساق الشيخ_ رحمه الله_ بعض الأدلة على أن الدعاء والاستغاثة إنما يتوجه بهما إلى الله وحده فيما لا يقدر عليه إلا الله([7]).
وقوله:{وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } قال في أول الآية:{ وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ } فقوله:{ وَلَا تَدْعُ } هذا نهي ، والنهي هنا قد توجه إلى الفعل ( تدع ) وإذا كان كذلك: فإنه يعم أنواع الدعاء ، وسبق القول بأن الدعاء منه: دعاء مسألة ، ومنه دعاء عبادة ؛ والقاعدة: أن النكرة إذا جاءت في سياق النهي ، أو في سياق النفي ، أو في سياق الشرط: فإنها تعم ؛ و( تدع ) نكرة ؛ لأنه فعل مشتمل على مصدر ؛ والمصدر حَدَثٌ نكرة ؛ فهو يعم نوعي الدعاء. وهذا مراد الشيخ_ أو أحد مراداته _ من الاستدلال بهذه الآية ، فقد نهى الله_ جل وعلا_ أن يُتوجه لغير الله بدعاء المسألة ، أو بدعاء العبادة ، أو بأي نوع من أنواع العبادات فلا يصلح طلب ما يقدر عليه إلا الله: إلا منه جل وعلا ويدخل في ذلك الاستعاذة, والاستغاثة التي هي: طلب الغوث، وكذلك دعاء العبادة بأنواعه: كالصلاة والزكاة والتسبيح ،والتهليل، والسجود، وتلاوة القرآن ، والذبح والنذر وكذلك: أعمال القلوب كالتوكل ، والمحبة التي هي عبادة والرجاء الذي هو عبادة وخوف السر, فهذه العبادات كلها لا تصلح إلا لله, وهي من أنواع دعاء العبادة.
فهذه الآية دلت على النهي عن أن يتوجه أحد إلى غير الله_ جل وعلا_ بدعاء مسألة أو بدعاء عبادة وقد نُهي النبي _صلى الله عليه وسلم_ عن ذلك أعظم النهي ووجه إليه الخطاب بذلك مع أنه إمام المتقين وإمام الموحدين .
وقوله:{ مِنْ دُونِ اللَّهِ } يعني: مع الله أو: من دون الله استقلالا.
وقوله:{مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ} يعني: الذي لا ينفعك ولا يضرك و(ما) تشمل العقلاء فالعقلاء: كالملائكة والأنبياء، والرسل ، والصالحين . وغير العقلاء: كالأصنام والأحجار والأشجار، هذا من جهة الدلالة اللغوية لـ (ما).
وقوله تعالى لنبيه:{فَإِنْ فَعَلْتَ} يعني: إن دعوت من دون الله أحدا ؛ وذلك الأحد موصوف بأنه: لا ينفعك ، ولا يضرك{ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ } وهذا إذا كان في حق النبي عليه الصلاة والسلام الذي كمل الله له التوحيد أنه إذا حصل منه الشرك: فإنه يصبح ظالما ويصبح مشركا وحاشاه عليه الصلاة والسلام من ذلك: فهو تخويف عظيم لمن هو دونه ممن لم يُعصم ولم يُعط العصمة من ذلك ، من باب أولى.
فقوله:{فَإِنْ فَعَلْتَ} يعني: إن دعوت من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك:{ فَإِنَّكَ إِذًا} يعني: بسبب الدعوة {مِنَ الظَّالِمِينَ}. والظالمون جمع تصحيح للظالم ، والظالم: اسم فاعل الظلم، والظلم: المراد به هنا: الشرك كما قال جل وعلا:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}.
ثم قال:{ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ } اعلم أن غرض من يلجأ إلى غير الله أو يستغيث، أو يستعيذ بغيره: إنما هو طلب كشف الضر, وقد أبطل الله تعالى هذا التعلق الشرعي بقاعدة عامة تقطع عروق الشرك من القلب؛ حيث قال:{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ} يعني: إذا مسك الله بضر فمن يكشف الضر؟
الجواب: يكشفه من قدره ومن قضاه عليك، وهكذا كل أنواع التوجه لغير الله_ جل وعلا_ أيا كانت, ولكن ما دام أنه أذن بالتوجه إلى المخلوق فيما يقدر عليه كالتوجه إليه بطلب الغوث ، أو نحو ذلك: فإنه يكون مما رخص فيه ، والحمد لله.
وقوله في هذه الآية:{بِضُرٍّ}ن رة جاءت في سياق الشرط فتعم جميع أنواع الضر: سواء أكان ضرا في الدين ،أم كان ضرا في الدنيا، يعني: كان ضرا في الدنيا من جهة الأبدان، أو من جهة الأموال أو من جهة الأولاد أو من جهة الأعراض، ونحو ذلك إذًا: فمعنى قوله:{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ } أي بأي نوع من أنواع الضر:{فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} أي: الذي يكشف الضر في الحقيقة: هو الله_ جل وعلا_ لا يكشف البلوى إلا هو سبحانه وتعالى، وإذا كان المخلوق يقدر على ذلك الكشف: فإنما هو من جهة أنه سبب فالله هو الذي جعله سببا يقدر على أن يكشف بإذن الله_ جل وعلا_ وإلا فالكاشف حقيقة هو الله_ جل وعلا_ والمخلوق ولو كان يقدر فإنما قدر بإقدار الله له إذ هو سبب من الأسباب.
فالحاصل: أن الكاشف على الحقيقة هو الله وحده، وإذا تبين ذلك: ظهر لك وجه استدلال المصنف بهذه الآية ومناسبة الآية للترجمة، من عدة جهات كما ذكرنا.
ثم أورد الشيخ _ رحمه الله_ قوله تعالى:{ فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ } [ العنكبوت:17]. ليبين أن الاستغاثة والدعاء هما من أعظم أسباب الحياة ؛ فمن لم يكن عنده رزق فإنه يوشك على الهلاك؛ ولهذا ذكر الإمام هذه الآية التي فيها النص على توحيد جهة طلب الرزق ؛ لأن معظم حال المستغيثين إنما هي لطلب الرزق.
ثم قال وقوله:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الأحقاف:5]. دلالة الآية ظاهرة في أنها واردة في سياق الدعاء لأن الله تعالى قال:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ} فهي ظاهرة في أن ثَمَّ داعيا وثم مدعوا ، وذاك المدعو : غير الله_ جل وعلا_.
ووجه الدلالة من الآية: أن الله تعالى وصف كل من يدعو من دون الله بأنه في غاية الضلال ومنتهى الغواية، وأنه لا أحد أضل منه، والدليل على أنه أراد الأموات ولم يرد الأصنام والأحجار والأشجار أنه قال:{مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} فجعل غاية المنع من الإجابة إلى يوم القيامة, وهذه في الأموات؛ لأن الميت إذا كان يوم القيامة: نشر وصار يسمع وربما أجاب طلب من طلبه لأنه يكون في ذلك المقام حيا وربما كان قادرا([8]).
وقوله:{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ}.أي : هل يجيب المضطرب الذي أقلقته الكروب وتعسر عليه المطلوب واضطر للخلاص مما هو فيه إلا الله وحده؟ ومن يكشف السوء أي: البلاء والشر والنقمة إلا الله وحده؟ ومن يجعلكم خلفاء الأرض يمكنكم منها ويمد لكم بالرزق ويوصل إليكم نعمه وتكونون خلفاء من قبلكم كما أنه سيميتكم ويأتي بقوم بعدكم أإله مع الله يفعل هذه الأفعال؟ لا أحد يفعل مع الله شيئا من ذلك حتى بإقراركم أيها المشركون، ولهذا كانوا إذا مسهم الضر دعوا الله مخلصين له الدين لعلمهم أنه وحده المقتدر على دفعه وإزالته:{قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ} أي: قليل تذكركم وتدبركم للأمور التي إذا تذكرتموها ادَّكرتم ورجعتم إلى الهدى، ولكن الغفلة والإعراض شامل لكم فلذلك ما ارعويتم ولا اهتديتم([9]).
قوله: ( أنه كان في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- منافق يؤذي المؤمنين فقال بعضهم: فقوموا بنا نستغيث برسول الله -صلى الله عليه وسلم- من هذا المنافق فقال النبي _صلى الله عليه وسلم_: إنه لا يستغاث بي، إنما يستغاث بالله ).
(كان رجل) لم يذكر اسمه هنا، وورد أنه عبد الله بن أبي، رأس المنافقين, منافق النفاق هو: إظهار الخير وإبطان الشر، وهو نوعان: نفاق اعتقادي، ونفاق عملي, والنفاق الاعتقادي كفر أكبر، وصاحبه في الدرك الأسفل من النار، ومعناه: أن يُظهر الإيمان ويُبطن الكفر. وسبب النفاق: أنه لما اعتزّ الإسلام بعد هجرة الرسول_ صلى الله عليه وسلم_ صار هناك أُناس يريدون العيش مع المسلمين، ولكنهم لن يستطيعوا أن يعيشوا بين المسلمين إلاَّ إذا أظهروا الإسلام، وهم لا يريدون الإسلام ولا يحبُّون الإسلام، فلجأوا إلى حيلة النفاق، وهي: أن يُظهروا الإسلام من أجل أن يعيشوا مع المسلمين، ويبقوا في قرارة نفوسهم على الكفر. فسموا بالمنافقين، هذا هو النفاق الاعتقادي.
وأما النفاق العملي فمعناه: أن بعض المسلمين الذين عقيدتهم سليمة ومؤمنون بالله، لكنهم يتصفون ببعض صفات المنافقين، مثل: الكذب في الحديث، والغدر في العهد، وإخلاف الوعد، قال _صلى الله عليه وسلم_:" آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان". هذا نفاق عملي، صاحبه مؤمن، ولكن فيه خَصْلَة من خصال المنافقين، وهي خطيرة جدًّا، ربما أنها تؤول إلى النفاق الأكبر إذا لم يتب منها.
(يؤذي المؤمنين) بمعنى: أنه يضايق المسلمين بكلامه وبتصرّفاته، يسخر من المسلمين، يتلّمس معايب المسلمين، ينال من الرسول _صلى الله عليه وسلم_ وينال من المؤمنين، ويتتبّع العثرات. فدلّ على أن إيذاء المسلمين من النفاق.
قوله:( فقال بعضهم) لم يسمّ القائل، وقد ورد في بعض الروايات أنه أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
قوله:( قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم) يعني: نستجير به، ونحتمي به ( من هذا المنافق). ليردعه عنا ويكفّه عنا. والنبي _صلى الله عليه وسلم_ استنكر هذه اللفظة، فقال:" إنه لا يستغاث بي، وإنما يُستغاث بالله عزّ وجلّ". مع أن الرسول_ صلى الله عليه وسلم_ قادراً على أن يَرْدَع هذا المنافق؟، وأن يُغيث المسلمين من شرّه؟ بلى، هذا من الاستغاثة الجائزة، لأنه استغاثة بالرسول_ صلى الله عليه وسلم_ فيما يقدر عليه، لكن الرسول تأدُّباً مع الله _سبحانه وتعالى_، وتعليماً للمسلمين أن يتركوا الألفاظ التي فيها سوء أدب مع الله عزّ وجلّ، وإن كانت جائزة في الأصل، فقال:" إنه لا يُستغاث بي".
وهذا من باب التعليم وسدّ الذرائع لئلا يُتَطَرَّق من الاستغاثة الجائزة إلى الاستغاثة الممنوعة، فالرسول _صلى الله عليه وسلم_ منع من شيء جائز خوفاً أن يُفضي إلى شيء غير جائز، مثل ما منع من الصلاة عند القبور، والدعاء عند القبور، وإن كان المصلي والداعي لا يدعو إلاَّ الله، ولا يصلِّي إلاَّ لله، لكن هذا وسيلة من وسائل الشرك، كذلك هنا؛ فالرسول أنكر هذه اللفظة سدًّا للذرائع، وتعليماُ للمسلمين، أن يتجنّبوا الألفاظ غير اللائقة.
فإذا كان الرسول أنكر الاستغاثة به فيما يقدر عليه، فكيف بالاستغاثة به فيما لا يقدر عليه إلاَّ الله سبحانه وتعالى؟، وكيف بالاستغاثة بالأموات؟ هذا أشد إنكاراً.
وإذا كان الرسول _صلى الله عليه وسلم_ منع من الاستغاثة الجائزة به في حياته تأدُّباً مع الله، فكيف بالاستغاثة به بعد وفاته صلى الله عليه وسلم؟، وكيف بالاستغاثة بمن هو دونه من الناس؟ هذا أمر ممنوع ومحرّم. وهذا وجه استشهاد المصنف رحمه الله بالحديث للترجمة. إذاً فقول البوصيري:يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحادث العمم
إن لم تكن في معادي آخذاً ... بيدي فضلاً وإلاّ قل يا زلّة القدم
فإن من جودك الدنيا وضرّتها ... ومن علومك علم اللّوح والقلم
أليس هذا من أكبر الشرك؟
يقول: ما ينقذ يوم القيامة إلاَّ الرسول_ صلى الله عليه وسلم_ ولا يخرج من النار إلاَّ الرسول، أين الله سبحانه وتعالى؟! ثم قال: إن الدنيا والآخرة كلها من جود الرسول _صلى الله عليه وسلم_ وعلم اللّوح المحفوظ والقلم الذي كتب في اللوح المحفوظ بأمر الله هو بعض علم الرسول، إذ الرسول يعلم الغيب.
الحاصل: أن الرسول _صلى الله عليه وسلم_ إذا كان أنكر على خواص أصحابه هذه الكلمة، وقال:" إنه لا يستغاث بي". وهذا في الدنيا، مع أنه قادر على أن يغيثهم من المنافق، فكيف يُستغاث به بعد وفاته _صلى الله عليه وسلم_، كيف يُستغاث بمن هو دونه من الأولياء والصالحين ؟، هذا أمر باطل، والاستغاثة لا تجوز إلاَّ بالله، فيكون في هذا شاهد للترجمة: (بابٌ من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعوَ غيره ). والمناسبة ظاهرة ولله الحمد والمنة، وكل هذا من أجل حماية التّوحيد، وصفاء العقيدة، والمنع من كل ما يُفضي إلى الشرك ولو على المدى البعيد.
الشرك لا يُتساهل فيه أبداً، والطُّرُق التي توصِّل إلى الشرك لا يُتساهل فيها أبداً، وأنتم تعلمون ماذا حصل في قوم نوح، وأن الشرك حصل فيهم بسبب تعليق الصور، والغلو في الصالحين، وكانوا في وقتهم لم يشركوا، ولكن صار هذا وسيلة إلى الشرك فيما بعد؛ لما مات أولئك، ونُسي العلم أو نُسخ العلم عُبدت هذه الصور، فالوسائل إذا تُسوهل فيها أدّت إلى الشرك.
فالواجب: علينا منع الشرك، ومنع وسائله، وأسبابه، وأن لا نسمح بالألفاظ الشركية، ولا بأي شيء يُفضي إلى الشرك، وعلينا أن نحذر من ذلك صيانةً للعقيدة، وحماية للتّوحيد، وإشفاقاً على المسلمين من الضلال والكفر والإلحاد، فإنه ما حصل هذا الشرك في الأمة، وما حصل هذا الضلال في الأمة إلاَّ لما تساهل الناس في أمر العقيدة، وسكت العلماء عن بيان خطر الشرك، والتحذير من أسباب الشرك، ورأوا الناس على الشرك وعبادة القبور ولم ينهوهم, هذا إذا أحسنّا بهم الظن، وقلنا: إنهم ينكرون هذا بأنفسهم، ولكن ما قاموا بواجب الأنكار، إما إذا كانوا يرون هذا جائزاً، فهذا شرك وكفر لأن من رضي به صار مثل من يفعله.
نسأل الله عزّ وجلّ أن يحفظ لنا ديننا وعقيدتنا، وأن يجعلنا من الدعاة إليه بالحكمة، والدعوة إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن([10]).
مسألة:
أسباب استجابة الدعاء عند القبور:
وأما إجابة الدعاء، فقد يكون سببه اضطرار الداعي وصدقه وقد يكون سببه مجرد رحمة الله له، وقد يكون أمرا قضاه الله لا لأجل دعائه، وقد يكون له أسباب أخرى، وإن كانت فتنة في حق الداعي، فإنا نعلم أن الكفار قد يستجاب لهم فيسقون، وينصرون ويعانون، ويرزقون مع دعائهم عند أوثانهم وتوسلهم بها, وقد قال الله تعالى:{كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء:20]. وقال تعالى:{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن: 6]. وأسباب المقدورات فيها أمور يطول تعدادها، ليس هذا موضع تفصيلها، وإنما على الخلق اتباع ما بعث الله به المرسلين، والعلم بأن فيه خير الدنيا والآخرة. ولعلي إن شاء الله أبين بعض أسباب هذه التأثيرات في موضع آخر([11]).
فيه مسائل:
الأولى:أن عطف الدعاء على الاستغاثة من عطف العام على الخاص.
الثانية: تفسير قوله: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ}
الثالثة: أن هذا هو الشرك الأكبر.
الرابعة: أن أصلح الناس لو يفعله إرضاءً لغيره صار من الظالمين.
الخامسة: تفسير الآية التي بعدها.
السادسة: كون ذلك لا ينفع في الدنيا مع كونه كفراً.
السابعة: تفسير الآية الثالثة.
الثامنة: أن طلب الرزق لا ينبغي إلا من الله، كما أن الجنة لا تُطلب إلا منه.
التاسعة: تفسير الآية الرابعة.
العاشرة: أنه لا أضل ممن دعا غير الله.
الحادية عشرة: أنه غافل عن دعاء الداعي، لا يدري عنه.
الثانية عشرة: أن تلك الدعوة سبب لبغض المدعو للداعي وعداوته له.
الثالثة عشرة: تسمية تلك الدعوة عبادة للمدعو.
الرابعة عشرة: كفر المدْعُوِّ بتلك العبادة.
الخامسة عشرة: هي سبب كونه أضل الناس.
السادسة عشرة: تفسير الآية الخامسة.
السابعة عشرة: الأمر العجيب، وهو إقرار عبدة الأوثان أنه لا يجيب المضطر إلا الله، ولأجل هذا يدعونه في الشدائد مخلصين له الدين.
الثامنة عشرة: حماية المصطفى -صلى الله عليه وسلم- حمى التوحيد، والتأدب مع الله.
([1]) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/159) , ورجاله رجال الصحيح، غير ابن لهيعة، وهو حسن الحديث , وأخرجه أحمد (5/317 رقم22706) ولفظه:" لا يقام لي إنما يقام لله ". وقال شيخ الإسلام : في الاستغاثة (152) " وهو صالح للاعتضاد ودل على معناه الكتاب والسنة". والحديث ضعفه الشيخ ربيع في تحقيقه لكتاب التوسل والوسيلة (ص254).
([2]) مسند الإمام أحمد (4/267)، والترمذي: الدعوات/ باب الدعاء مخ العبادة، وقال: "حديث حسن صحيح" ـ، والحاكم (1/490) - وصححه ووافقه الذهبي-.
([3]) أخرجه: أحمد (2/68) , وأبو داود (3/17/1672) , والنسائي (5/28) , والحاكم (1/412) , والبيهقي (4/99) وصححه الحاكم والحافظ في "تخريج الأذكار"; كما في "الفتوحات الربانية" (5/250) .
([4]) أخرجه: مسلم في السلام, باب من حق المسلم للمسلم,( 4/1705) ; عن أبي هريرة رضي الله عنه.
([5]) انظر فتح المجيد :(ص193), والقول المفيد:(ج1_ص260).
([6]) رواه أحمد برقم: (18352) وابو داود: (1479),والترمذي: (2969) ,والنسائي: (11464) , وابن ماجه: (3828) والحاكم: (1/667) , وابن حبان: (3/172/ 890) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه والحديث صححه الألباني.
([7]) ينظر التمهيد:(ص175_ص177).
([8]) انظر التمهيد :( ص178_ص182).
([9]) تفسير العلامة السعدي (608).
([10]) إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد: (ج1_ص200_203) .
([11]) اقتضاء الصراط المستقيم: (ص431_432).