[2]
ثورة الزنج على الخلافة العباسية .. دروس الماضي والحاضر والمستقبل 2
أربعة عشر عاما ظلت فيها تلك الثورة التي اعتبرت الأخطر في تاريخ الدولة العباسية والتي تزعمها علي بن محمد فارسي الأصل المنتسب زورا وبهتانا للإمام علي بن أبي طالب مستغلا الفكرة الشيعية متعمقة الجذور في الشيعة وهي فكرة المهدي المنتظر.
وفي هذا الجزء نتناول الخطوات والمراحل التي مرت على هذه الثورة منذ نشأتها كفكرة حتى إخمادها وإعلان نهايتها على يد "الموفق أحمد"
ففي المائة العامة المسماة في التاريخ بعصر نفوذ الأتراك وقيادتهم لكل مفاصل الدولة وارتفاع شانهم فوق شأن الخلفاء أنفسهم حتى صار منصب الخليفة لا يعدو كونه منصبا شرفيا لا يخضع احد لسلطانه, في هذا العصر الذي تقلد فيه 13 خليفة عباسي مقاليد الخلافة حاول بعضهم التخلص من الأتراك فلم يستطع بل قتل بعضهم سما واغتيالا حتى لا يفكر احد منهم ثانية التخلص من هذا النفوذ الباطش القوي, في تلك الأثناء ظهر علي بن محمد كشخصية طموحة معادية للإسلام وللخلافة العباسية من منطلقي مخاصمة الدين والعروبة معا.
وافتقر علي بن محمد للجموع التي يحتاجها للقيام بثورة شاملة تهدد بالفعل الدولة العباسية ووقع اختيار على الزنج كقوة ظاهرة ومتحركة وصاحبة مظالم حقيقية وسهلة الانقياد في أسباب كثيرة ذكرت في الجزء الأول.
تشكيل البنية الأساسية للانقلاب
رغم أن علي بن محمد يتميز بصفات القيادة والقدرة على الحشد إلا انه كان يحتاج إلى قائد ميداني كوسيط بينه وبين الزنج حيث كانت عقبات اللغة وفهم النفسيات والقدرة على السيطرة والتحريك ثلاثة معوقات أمامه, فوقع اختياره على رجل منهم يتميز بقدرته على قيادتهم مع ولائه التام وانقياده المطلق لعلي بن محمد, فكان هذا الوسيط الهام الذي يعتبر الركن الثاني الأساسي في ثورة الزنج وهو الزنجي ريحان بن صالح الذي اختبار بدوره عددا من القادة معه من الزنج ليكونوا جميعا كمجلس حرب لهذه الثورة أو الانقلاب وجعلوا رئاستهم العامة وقيادتهم الفكرية للفارسي علي بن محمد.
بداية التحرك الفعلي للثورة الانقلابية
بدأ ريحان والقادة الميدانيون معه في التغلغل بين أوساط الزنج ولم يثيروا أي نوع من الشكوك حيث أنهم من الزنج الذين لم يكن العباسيون ولا الأتراك يلقون لهم بالا لا في قضاياهم ولا مشكلاتهم ولم يكن هناك تحديد أبدا لقوة عددهم أو احتساب لخطورة شأنهم إذا اجتمعوا.
وبدأت الحرب الإعلامية التحريضية في غفلة تامة من القادة والساسة وأصحاب المزارع التي يعمل بها الزنج, فاخذ القادة الميدانيون بإيغار الصور وتذكير الزنج بمظالمهم وتحديثهم عن الكثرة مظالم العرب العباسيين والأتراك وحضهم على الهرب من المزارع التي يعملون فيها مع إنشاء عدة معسكرات سميت بمعسكرات الثائرين للانضمام إليها وفشلت محاولات أصحاب المزارع للحيلولة دون هروب الزنج حتى بعد حبسهم في بيوت من الطين بلا منفذ للخروج منه, دون أن يفكر هؤلاء السادة في مناقشة مطالب الزنج وتوفير ابسط الحقوق الآدمية لهم, فكانت معالجة البدايات تماثل طبيعة التفكير العقيم في ذلك الوقت لوأد هذه الفتنة, فازدادت الرغبة في الهروب بعد ردود الأفعال الأولى.
وكان من الدوافع الهامة للزنج للاستجابة لنداء المحرضين أنهم وعدوهم على لسان علي بن محمد بتحريرهم من العبودية وتحويلهم إلى سادة مثل العرب بل وإعطاؤهم أيضا حقا في امتلاك الأموال والمزارع, ووعدهم بما هو أكثر من ذلك بان يعمل معهم ليكون سادة الأمس من العرب والترك عبيدا لدى هؤلاء الزنج وأن يكون نساء العرب إماء لديهم لينتقموا من رجال العرب ونسائهم الذين أذلوهم وأهدروا كرامتهم.
ولمح علي بن محمد تخوفا من الزنج من الهروب من أسيادهم واللحاق به وتخوفهم من أن يغدر بهم بعد تمكنه فاخبرهم بأنه ليس من طلاب الدنيا وإنما ثار من اجل قيمة العدل والمساواة, وزاد من طمأنتهم حينما أعلن لهم وطالبهم بأن يجعلوا هناك مجموعة من الزنج تحيط به إحاطة السوار بالمعصم لتقتله عند أول لحظة يشعرون فيها منه بالغدر, فاطمأن الزنج إليها جدا ووافقوه وساروا معه منقادين إليه انقيادا تاما.
وبعد تجمع عدد من الزنج حوله وتشكل لديه ما يشبه الجيش المتحفز ادعى أنه من آل البيت من نسل الإمام علي بن أبي طالب فوافقوه دون مناقشه فاشتط بعدها واستغل جهلهم بأي أمر ديني فادعى النبوة قائلا لهم انه مرسل من عند الله لإنقاذهم فازداد لدى الزنج الأمل في نيل حقوقهم عن طريقه فكان عامل الزمن في صالحه جدا رغم حداثة تكوينه لجيشه وعدم اهتمام الخلافة بأمرهم في بادئ الأمر فتركوه حتى استفحل أمره وعظم خطره واشتد ضرره.
البصرة البداية ...
وبدا في السيطرة على مدينة البصرة وخاصة بعد أن استهانت به وبحركته الدولة فكان للزنج لقاء مع جيش ضعيف مهترئ فاستطاع علي بن محمد بمن معه من الزنج هزيمته فارتفعت معنوياتهم وانضم إليهم من كان مترددا, وعندها دخلوا البصرة افرغوا فيها كل مكنونات غضبهم بلا مراعاة لحرمة دم مسلم فقتلوا فيها ما يزيد على 300ألف مسلم بالبصرة وحدها وأسروا منها عددا هائلا من حرائر النساء المسلمات ومن الأطفال, وكان فيهم الغدر الكبير إذ نادى قائدهم إبراهيم المهلبي –أحد القادة الميدانيين- أهل البصرة عند دخوله بالأمان لأهلها فصدقوا كلمته ولم يقاوموه, فاجتمعوا في ساحة كبيرة فأمر المهلبي بقتلهم فأبادهم جميعا ولم يترك فيهم صغيرا ولا كبيرا فلم يكن يسمع في هذه الساحة إلا قول "أشهد أن لا إله إلا الله" من المقتولين بينما يتصارخ ويتضاحك الزنج بكل هستيرية, وامتد القتل لعدة أيام في البصرة مع حرق كل شيئ من الزرع والإنسان والحيوان والبيوت والممتلكات لتكون البصرة هي بداية هذه السنين المظلمة في تاريخ الفرقة والتخلف والضعف والهوان في الخلافة العباسية التي أنارت الدنيا عندما كانت قوية وعادلة.
ولم تكن البصرة بأفظع جرائمهم فلم تكن سوى البداية فدخلوا الكوفة في عام 260هـ وفعلوا بها ما يزيد عما فعلوه بالبصرة ثم دخلوا الأهواز فلم يختلفوا عما فعلوه بل زادوا ولم يرتووا من كثرة الدماء ولم يكفوا عن هتك أعراض الحرائر المسلمات ولا عن قتل الأطفال وأسرهم.
وكان لابد من ظهور نتائج سياسية سريعة لهذا المستوى من الحركة الانقلابية من إضعاف شديد للدولة العباسية فطمع الروم في شمالها فازدادت إغاراتهم عليها وسلبهم للأراضي المسلمة وانفصل الطولونيون بمصر وصاروا يحاربون الدولة العباسية من الجنوب فتشتت الدولة العباسية بين أمرين كلاهما مرهق عليها في ظل ضعف شديد واضح وافتراق داخلي بغيض, فلم تكن لهم القوة على محاربة الحركة الانقلابية المتمردة من الزنج ولا من هجمات الروم في الشمال ولا الطولونيين في الجنوب.
تمكن الزنج في دولتهم داخل الخلافة
وبعد عدد من المعارك المستمرة التي كانت الغلبة في اغلبيها للزنج قامت دولة مستقلة للزنج داخل الدولة الإسلامية بعد أن اجتمع لهم من الجند ما لا ينتهي العد والحصر إليه, وامتد سلطانهم ليشمل مناطق كثيرة مثل "البحرين والكوفة والبصرة والأهواز والقادسية وواسط والمنصورة والمنيعة وعبدان وأغلب سواد العراق وأقاموا عاصمة لهم سموها "المختارة" وصارت لهم دولة منيعة متماسكة قوية ربما تزيد عن قوة الدولة العباسية كاملة, وفشلت الخلافة العباسية وقادة جندها الأتراك أن يقاوموا هذه الدولة التي زرعت وسطهم والتي تزداد قوة بمرور الزمن والتي تنتصر عليهم في اغلب المعارك حتى خشي العباسيون والأتراك الاقتراب منها أو التحرش بجنودها الذين استباحوا من المسلمين كل شيئ والتي زادت مدة مكثها قرابة 14عاما وقتل فيها من المسلمين ما يزيد عن نصف مليون مسلم ومسلمة وهتكت فيها أعراض الآلاف من حرائر المسلمات في مشهد بشعة لم تحدث للمسلمين على مر عصورهم إلا في فترات قليلة كان العدو فيها غير مسلم ولم تحدث أبدا ممن ينتسبون ولو بالزور والبهتان لدين الإسلام.
خطوات الحل والعلاج وبداية الانفراجة ..
حاول العباسيون حل هذه المعضلة كثيرا باتخاذ نفس الحلول في كل مرة والتي يثبت فشلها في كل مرة, فليست النائحة المستأجرة كالنائحة الثكلى أبدا, ففي كل مرة يجرد العباسيون جيشا مهزوما بفرقته ومهزوما بضعفه الداخلي ومهزوما بقيادة التي تحب الحياة على الاستشهاد في سبيل الله والتي لا تمتلك الولاء الكافي ولا الرغبة الحقيقية في قمع هؤلاء وإنهاء تلك الأزمة.
وكان أهم عناصر ضعف المسلمين الأبدي والأزلي هو الفرقة والاختلاف, وما من هزيمة تأتي إلا بسبب هذه الفرقة وما من نصر يلوح بعد إذن الله سبحانه إلا بعد تجميع للقلوب بداية والاستعانة بعد الله سبحانه بالمخلصين من أبناء الأمة الذين لا يريدون سوى إعلاء الراية ونشر كلمة الحق.
ولقد بلغ الزنج من المهابة والخوف الشديد الذي يقترب من الرعب في قلوب المسلمين في تلك الفترة, وظن معظمهم أن القضاء على الزنج بات من المستحيلات, ولكن سرعان ما لاحت بشائر النصر حينما أرسل الخليفة "المعتمد على الله" في طلب أخيه "الموفق أحمد" الذي كان معزولا مبعدا بأمر من الأتراك.
وكانت بداية الحل بتولية الموفق احمد قيادة الجيش والطلب المباشر منه بان يسخر كل إمكانيات الدولة العباسية للقضاء على هذا الانقلاب الداخلي وعلى اقتطاع جزء من الدولة العباسية بدولة معادية محاربة.
وكان للموفق احمد حُسن قيادة عسكرية وشخصية قوية فاقت وطغت على شخصية أخيه المعتمد –وربما كان هذا احد أهم أسباب إبعاد الموفق احمد ونفيه– فنظم الجيش واستبدل قياداته بقيادات أخرى ذات ولاء وهمة وغيرة على الإسلام.
وحانت ساعة الجد
لم يقبل الموفق احمد أن يرسل للزنج جيشا بقيادة احد أمرائه بل سار بنفسه على راس جيش ليواجه الزنج مما ضاعف من قوة وعزيمة جيشه, فهجم على مدينة تتبع الزنج وتخضع لسلطانهم تسمى"بالمنيعة", فباغتهم بعد أن ركنوا إلى الراحة والدعة بعد سنين من مهاجمة المسلمين والاطمئنان إلى قوتهم وضعف العباسيين, فقتل منهم خلقا كثيرا وأسر منهم أكثر وغنِم من أموالا طائلة كانوا قد كدسوها من جرائمهم تجاه المسلمين, لكنه وجد داخل المنيعة خمسة آلاف امرأة مسلمة من حرائر المسلمين كانت تحت تصرف الزنج كخدم وإماء, فكانت فرحة المسلمين بتحرير هؤلاء المسلمات أعظم من القتل والأسر والمال, وانضم الكثيرون لجيش الموفق احمد بعد أن ارتفعت حالتهم المعنوية بتحقيق أول انتصار على الزنج في خلال مسيرتهم الطويلة من الآلام.
ثم حدث نفس الشئ في مدينة تسمى بالمنصورة التي دخلها الموفق احمد بعد قتال أشد من سابقتها بعد أن سمع الزنج بما حدث في المنيعة فقاتل الموفق بها سليمان بن جامع احد أهم قادة الزنج وتمكن منها بعد معاناة وشدة لوجود خمسة أسوار لها, وحدثت نفس المفاجأة السارة بأن تم إنقاذ عشرة آلاف امرأة مسلمة في هذه المدينة, فارتفعت المعنويات أكثر وازدادت الشعور بإمكانية التخلص من تلك الفتنة الشديدة.
واجتمع مع الموفق قرابة الخمسين ألف مسلم وساروا معا إلى آخر واهم معاقل الزنج وهي العاصمة المختارة, فحاصرها ونزل على مقربة منها وبنى مدينة جديدة سماها بالموفقية نسبة إليه وأرسل إلى علي بن محمد بالتسليم والرجوع إلى الحق والتوبة ويعطيهم الأمان رغم كل جرائمهم لكن علي بن محمد رفض الرد عليه مطلقا مستهينا به, وحاصرها الموفق مدة حتى أرغمها على التسليم فدخلها الموفق ولكنه فوجئ بهروب مسعر هذه الفتنة علي بن محمد فأرسل خلفه سرايا للبحث عنه, فما هي إلا أيام قلائل حتى استطاعوا القبض عليه وقتله والعودة برأسه إلى المختارة ليضعوا راس الفتنة رأي علي بن محمد بين يدي الموفق احمد وليصدر بعدها بيانا بانتهاء الاضطرابات والفوضى التي عرفت بثورة الزنج إلى غير رجعة بعد سنين عصيبة عجاف استمرت أكثر من 14 سنة, ثم دعا أصحاب المزارع والبيوت وسكان هذه المناطق للعودة إلى بيوتهم وضياعهم وممتلكاتهم ليعود ويستتب الأمر مرة أخرى وتعود الخلافة العباسية بعد محاولة الانقلاب هذه أقوى مما كانت عن ذي قبل.
تلك على عجالة أهم أحداث ثورة الزنج التي لابد وألا تمر علينا في هذه الأيام دون توقف مع دروسها وعبرها في المرحلتين معا, مرحلة اشتعال الفتنة وتلتها الانكسارات, ومرحلة بداية التصحيح وتلتها الانتصارات, والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.