بسم الله الرحمن الرحيم

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كمل من الرجال كثير .. وما كمل من النساء إلا مريم ابنة عمران وآسية بنت مزاحم .. وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام " ( رواه البخاري ومسلم ) .. لما يتأمل الناظر لهذا الحديث يحسبه الكمال المطلق الذي دونه نقص .. فيتخيل ذلك كشأن الملائكة من الإخبات والسكينة .. إنما كل البشر يأكلون وينامون ويضحكون ويبكون ويغضبون ويرضون .. وذلك نسبي فيهم من حال لآخر حسب الظروف والأحوال وتأثر النفوس .. ولا يُعقل أن يكون بشر جاء أكمل من رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل ما له من الشمائل .. ومع ذلك كان يضحك ويبكي ويغضب ويرضى .. ككل البشر .. أحيانا يعتريه جهل بكثير من الأمور لولا أنها صحت لما صدقنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يمكن أن يجهل أمورا مما يعرفها الناس حاله كحال سائر البشر .. مر على قوم يلقحون النحل فقال : لو لم تفعلوا هذا لصلح ! .. فلم يأبروه فخرج شيصا فمر بهم فقال : ما لنخلكم ؟ قالوا : أنت قلت كذا وكذا ! .. فقال : أنتم أدرى بأمور دنياكم " ( رواه مسلم ) شيصا أي رديئا

حتى يعلم من لا يفطن أنه حتى رسول الله وهو رسول الله لم يحط بالكمال المطلق الذي يتمناه المرء من كل ذي فضل .. ودونك قصة ذي الخويصرة التميمي وقف على راس رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوزع الغنائم فقال : إتقي الله يا محمد إعدل فما عدلت ! .. فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم راسه وقال : فمن يطع الله إن عصيت ؟ ( الحديث .. رواه البخاري واللفظ لغيره ) .. لو تأملت يتبين لك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غضب لما أساء ذو الخويصرة لشخصه صلى الله عليه .. مما يدلك على أنه بشر يسوءه ما يسوء كل البشر .. ويتأذى مما يتأذى منه كل الناس .. ولا ينبغي أن يُظن أنه بلغ من الحلم ما يكذب النصارى على المسيح صلى الله عليه وسلم أنه قال : من ضربك على خدك الأيمن أدر له خدك الأيسر .. ويمثلوه في كتبهم على أنه كان يعيش في الإنسان كما يعيش الإله .. ومن ذلك ما رواه ابن العربي أن رسول الله صلى الله عليه عندما نزل منزلا قبيل معركة بدر فقال له الحباب بن المنذر : يا رسول الله .. أهو منزل أنزلكه الله لا نتأخر عنه ولا نتقدم أم هو الرأي و الحرب والمكيدة ؟ قال بل هو الرأي و الحرب والمكيدة .. قال يا رسول الله فإن هذا ليس بمنزل ! .. إمض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فنعكسر عليه .. ثم نعور ما وراءه من الآبار فنشرب ولا يشربون .. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد أشرت بالرأي ! " ( ضعفوه وزعم ابن العربي ثبوته ) .. فما دام رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يكون فيه ما يكون في كل البشر مما لولا ثبوت روايته لما صدقناه .. ولما صدقنا أن رسول الله يغضب مثل كل الناس .. وأنه يجهل مثل كل الناس .. وأنه يتعب مثل كل الناس .. وأنه تأذى ويسيل منه الدم مثل كل الناس .. بل ويُسحر ويتأذى من السحر ككل الناس .. بل ويؤثر فيه السم ويقتله .. مثل كل الناس .. إذن .. يجب أن ندرك أن الكمال الذي في حديث الباب هو كمال نسبي لا عصمة فيه من النقص البشري الذي لا بد منه .. فلو كان أحد حقه أن يُعصم من النقص لكان رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ومع ذلك كان يعاف بعض الطعام كعيافته للحم الضب كما في صحيح البخاري .. وحبه للحم الكتف من الغنم أيضا كما في صحيح البخاري .. مع أن أكثر الناس يحب لحم الظهر لا الكتف .

كثير من النساء فيهن كمال هائل .. ويفرط من يفرط فيها لنقص حظه .. وكثر من الرجال فيه كمال هائل .. وتفرط فيه لسوء حظها او وسوسة الشيطان .. يكون الرجل أو تكون المرأة كواحد في المليون .. ولكن مع ذلك ربما لم يكن هو ممن كمل عقله .. ولا تكون هي ممن كمل عقلها .. لأن النص إنما استثنى امرأتين ونفى العقل عن باقي بنات آدم .. ولما يقول رسول الله : كمل من الرجال كثير .. فإن ذلك يدخل فيه المليارات من الرجال بل ومئات المليارات من يوم الخليقة حتى بعثها .. و حديث الباب - في الموضوع - يخصص ثنتين فقط بالكمال دون غيرهن .. أهو الكمال لمن ذكرن في القرآن فقط من باب العهد الذهني ؟ أم هو نفي عام للكمال عن كل نساء التاريخ سوى هاتين ؟ .. الله أعلم .. مع أن في روايات أخرى - عند البيهقي وغيره - ذكرت مع مريم وآسيا خديجة زوج رسول الله وفاطمة بنت رسول الله .. ومع ذلك فلا يظنن أن مريم ابنة عمران كانت كالتي تمشي مغمضة العين من فرط الخشوع تجلس على السحاب و يطير بها .. بل كانت إنسانة فيها كل ما في الناس تحزن وتفرح وتغضب وترضى مثل كل الناس .. كانت قارورة ككل القوارير تتاثر ما تتأثر منها القوارير من القسوة وسوء الأدب وسوء الفعل .. ولم ينفي ذلك عنها الكمال .. الكمال النسبي البشر القاصر .. كذلك آسيا امرأة فرعون .. ولو كنت متأملا فتأمل كلام ملكة سبأ عندما جلب لها سليمان عليه السلام عرشها من سبأ إلى بيت المقدس سألها : ( أهكذا عرشك ) ؟ - وكان السؤال حكيما لبعد ما بين المكانين ! .. فرأته وعرفته ومع ذلك تحفظت و قالت ( كأنه هو ) .. وذلك من ألطف الإشارات في هذه المرأة إلى الحكمة التي ربما تندر حتى في أكمل الرجال .. إن لم يكن هذا في هذه المرأة عقلا ورويّة فما هو العقل إذن ؟ ومع ذلك لم يذكرها رسول الله من النساء اللواتي كملت عقولهن .. ولما أقول إن معنى العقل هنا هو معنى نسبي .. وليس هو الوصف المطلق .. فإن زعمي هذا عليه دليل أخاله قويا .. وهو قوله صلى الله عليه وسلم - بشأن نساءه وميل قلبه لبعضهم دون الأخريات - : " اللهم هذا قسمي فيما أملك .. فلا تؤاخذني فيما لا أملك " ( رواه أبوداود والبيهقي بإسناد صحيح ) .. مع أنه قال : " من كانت له امرأتان فمال إلى أحدهما جاء يوم القيامة وشقه مائل " ( رواه أبوداود وصححه الألباني ) .. ولأجل ذلك قال الله تعالى : ( ولن تعدلوا ولو حرصتم ) .. فدل ذلك على أن العدل المطلق الذي يستقر في بال الناس لا يطيقه أحد .. ولو استُطيع لاستطاعه رسول الله صلى الله عليه وسلم .. إنما هو عدل نسبي يملك الواحد ما يقدر من المحسوسات ولكنه لا يملك المعنويات مهما اجتهد وكابد .. وقياسا عليه فإن الكمال الذي في الحديث نسبي لا يطيق البشر أن يبلغوا فيه إلا أمورا قياسية تتفاوت بين زيادة في شئ ونقص آخر ويكمل هذا بذاك .. ولا يحق للعباد أن يطالبوا بالكمال الذي لا نقص فيه .. لأن ذلك محال لا وجود له .. يكون الشخص من أكمل الناس ولكن فيه نقائص حاله حال كل البشر .. وذلك فطرة جبلها الله في عباده .. وأبى تبارك وتعالى أن يكون الكمال المطلق لأحد غيره جل جلاله .

والله يرضى عن الجميع