تقول الأخت السائلة في صفحة استشارات فكرية على الفيسبك : كيف يمكن التعامل مع الوساوس المتعلقة بالإلحاد والشبهات الكفرية ..؟

الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله ..
أشكر لك حرصك على السؤال عما يخص الحفاظ على الدين والثبات عليه ..والجواب على ما تفضلت به يمكن أن ينتظم في أربعة مقاصد :

الأول-الوصفة النبوية في علاج وساوس الإلحاد والشبهات :
في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : يأتي الشيطان أحدكم فيقول من خلق كذا ؟ من خلق كذا ؟ حتى يقول من خلق الله ؟! فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينتهِ
وفي رواية أخرى عنه في الصحيح : لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال هذا خلَقَ الله ُ الخلق ، فمن خلق الله ؟ فمن وجد من ذلك شيئا فليقل آمنت بالله ، وفي رواية : ورسله

-ومما يستفاد من الأحاديث :

1-إعراض النبي عليه الصلاة والسلام عن الإجابة عن السؤال الوسواسي إشارة منه إلى أن العقول تتحير في تصور ذلك ولها حدٌّ تنقطع دونه، وإدراك هذا هو : أول جرعة علاجية.. أخرج أبو نعيم في الحلية بسنده إلى الشافعي أنه قال : قال ابن عباس لرجل : (أي شيء هذا ؟ فأخبره ، قال : ثم أراه شيئا أبعد منه فقال : أي شيء هذا ؟ قال : انقطع الطرف دونه ، قال : فكما جعل لطرفك حد ينتهي إليه ، كذلك جعل لعقلك حد ينتهي إليه .) ، وهذا مما لا يخالف فيه العقلاء قاطبة..
2-التوجيه بالاستعاذة : يعني الالتجاء إلى الله جل ذكره من وسوسة الشيطان وهذا من التعلق بالطبيب الأعلى سبحانه في دفع نزغات الشياطين. كما قال تعالى (وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم )
3-الأمر بالانتهاء : علاج سلوكي نفسي ، يعني عدم الاسترسال في التفكر في ذلك لأنه لن يصل لشيء إلا القلق والضلال ..كما لو حدقت العين تريد أن ترى ما يدق عن حدها ..لن ترجع إلا بالكلال والإعياء
4-الإرشاد لقول : آمنت بالله ، أو آمنت بالله ورسله ، فيه إحالة القلب إلى ما ثبت باليقين، فلا يصح والحالة هذه العود عليه بالنقض لأجل العجز عن تصور كنه الحقيقة الأزلية التي لا يمكن تصورها أصلًا.

5-وحريٌّ بالتنبيه أن هذا الحديث يصح أن يدرج في دلائل النبوة لاشتماله على تنويه بأحد مسالك الشيطان التي لن تبرح الناس وقد غدت اليوم من أشهر ما يرفع الملاحدة عقيرتهم به في وجوه الموحدين ..ظنا منهم أنها حجة ،وما هي إلا شبهة ساقطة ، وحجتهم فيها داحضة ..



ثانيا-أن هذه الوساوس ليست مما يؤاخذ الله تعالى عليها ولله الحمد ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه : "إن الله تجاوز لي عن أمتي ما وسوست به صدورها ما لم تعمل أو تكلّم " ومعرفة ذلك مما ينبغي أن يؤول بالعبد إلى راحة نفسية واطمئنان قلبي يتجاوز به ما قد يجده من رُهاب جراء هجوم هذه الوساوس فيكون له كالحصانة من الوقوع في الاكتئاب ..
بل إن كراهية هذه الخطرات أو الوساوس التي تدهم القلب دون تحرِّ من العبد هي مما يؤجر عليه ولاشك ، وتكون مجاهدته إياها رفعة في منزلته ، يدل على ذلك ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
"جاء ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال: أو قد وجدتموه؟ قالوا: نعم، قال: ذاك صريح الإيمان"
قوله ذاك صريح الإيمان : لعله يفسره الرواية الأخرى في مسند الإمام أحمد : الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة ..والمعنى أن الشيطان لما يئس من إغواء المؤمن في الشهوات والمعاصي عمد إلى التشغيب عليه بوساوس الشبهات ..فإذا دافعها المؤمن وطردها ، كان ذلك من تخييب كيد الشيطان به ، ولا يلبث أن يجاهد المرة تلو المرة حتى يكون أرسخ توحيدًا وأصلب إيمانًا
ولهذا قال الحافظ النووي في شرحه على مسلم : (معناه أن الشيطان إنما يوسوس لمن أيس من إغوائه ، فينكد عليه بالوسوسة ؛ لعجزه عن إغوائه ، وأما الكافر : فإنه يأتيه من حيث شاء ، ولا يقتصر في حقه على الوسوسة ، بل يتلاعب به كيف أراد ، فعلى هذا معنى الحديث : سبب الوسوسة : محض الإيمان ، أو الوسوسة علامة محض الإيمان...) وأوضح منه في الدلالة على الأجر ما خرجه الشيخان عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها : أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -قال : ( ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يُشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه )


ثالثا-أن الدلائل اليقينة على صحة هذا الدين الحق:الإسلام ، فضلا عن وجود الله سبحانه وتعالى =كثيرة جدا ولابد أن تبقى حاضرة في ذهن العاقل ليفيء إليها فيدوس على مَحالّ الاشتباه بسيقان البرهان ..إذ ما ثبت بالدليل لا يسوغ أن ينتقض بشبهة ..وإلا لما بقي في الدنيا علم ولا عمل إلا كان مخروما بما يقوضه ..وحاصل هذا أن تصير الشبهة هي الأصل الصحيح ، والدليل الثابت هو القول العليل! ..وهذا يعني نقض دلالة العقل وإبطال المعارف ، واستبدال السفسطة بمنهج الاستدلال القائم على مقدمات ضرورية..
بهذا يعرف البصير أن الأمر في هذه الشبهات لا يعدو أن يكون كالذباب ، ومن طبيعته أنه كلما ذُبّ آب ، لكنه لا يلبث أن يمل أو يموت بمقاومة المؤمن على ما سلف ذكره مع الفزع إلى ذكر الله جل ثناؤه ذكرًا كثيرًا ، وزبدة القول : أن الحق إذا ثبت من طريق صحيح ، لا يهز من رسوخه وجود شبهات من طرق أخرى ، ولفهم هذا : هب أن مسافرًا من المدينة النبوية إلى بيت المقدس سلك طريقا فبلغ غايته ، قابل شخصا بعد ذلك كان أراد بيت المقدس ولكنه سلك طريقا آخر مليئا بالحيات والعقارب وأنواع المخاطر ولم يصل به إلى حيث أراد بل وصل العراق !،هل يهز من يقين الأول بصحة الطريق في التوصيل إلى الغاية أن يقول له الثاني : الطريق الذي سلكتُه فيه كذا وكذا ولا يوصل إلى المطلوب ؟ اللهم لا ، إلا أن يكون أحمق لا عقل له..(والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب * ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب)

رابعا -وقد يكون الأمر أبعد من مجرد وسواس شيطاني ، ولكن حالة اضطراب مرَضيّ تسمى "الوسواس القهري " ، وهي بحاجة لعناية طبية لتعلقها بخلل في كيماويات المخ ، فيشعر المريض معها بأنه مقهور عل شعور معين مع ما يقتضيه من سلوك بحسب نوع الوسواس ، وقد يرافقه اكتئاب ونوبات خوف وغير ذلك..ففي مثل هذه الحالات لابد من رعاية حانية من المحيطين بالمريض من الأهل والأصحاب، مع عناية طبية بحسب حِدّة الحالة ، فإن لم يتيسر ذلك فلابدّ أن يتحلى المؤمن بحلية الصبر والانشغال بالنفع المتعدي ، والترويح عن النفس بأنواع المباحات ، والخروج عن النمط الرتيب بقدر الوسع.. ولا ييأس بل يفزع إلى الشافي الذي لا شفاء إلا شفاؤه سبحانه وتعالى ، ويوطّن نفسه على ذلك إلى أن يأذن الله بالفرج ..والله المستعان وعليه التكلان.

منيب بن أحمد شراب.