بل مفهوم مغلوط .. ونسبة خاطئة
كنت عزمت على إغلاق باب المناقشة من جهتي فيما أطلقت عليه (الرسالة): سجال ابن تيمية؛ فلم يعد هناك ما يستحق الوقوف عنده، غير أن العدد الصادر بتاريخ 21/7/1426 جعلني أعيد النظر فيما عزمت عليه؛ فقد حمل مقالا فريدا من نوعه؛ تضمن بدعا من التأصيل وألوانا من التقعيد، عنوان المقال: هذا مفهوم السلف للعقيدة، دبجه يراع الأستاذ عبد الرحيم العمري الباحث في العقائد الإسلامية، وذكر أن ما سطره (نتيجة لدراسات مكثفة معمقة حول مفهوم السلف للعقيدة).
أبرز سمة في المقال أنه تناول قضية هي من أخطر القضايا وأكبرها -وهي قضية المعتقد في الصفات- بأطراف الأصابع، وأتى بتقعيدات لم يُسبق إليها، وشرق وغرب في التأصيل دون أن يفصح عن القواعد التي سار عليها أو الأصول التي رجع إليها، وادعى دعاوى كبارا لم يقم عليها دليلا معتبرا، لذا فإنه يحق لأي قارئ أن يرد المقال جملة؛ فإن من المتقرر أن الدعاوى الخالية من البرهان يكفي في ردها عدم التسليم بها.
يمكنني أن أوجز مضمون المقال في قضيتين: الأولى: أن الفرق الثلاث: أهل السنة -وسماها الأثرية- والأشاعرة والماتريدية جميعها تستمد اجتهادها ومذهبها من داخل الدائرة الإسلامية، وأنها جميعا معرضة للصواب والخطأ. والثانية: أنه لم يكن للسلف الصالح منهج واضح في الصفات.
أجدني مضطرا أن أستبق النتيجة وأقول: إن الأخ الكريم لم يصب في أي من النتيجتين، بل خطؤه فيهما فادح، وهذا ظاهر لكل من له عناية بهذا الموضوع الخطير، مؤملا أن يكون ما وقع منه -وفقه الله- كبوة جواد عن غير قصد، ولعل صدره أن يتسع لمناقشة ما جاء في مقاله، ويعيد النظر فيما كتبته يمينه.
أما القضية الأولى: وهي أن الأشاعرة والماتريدية يستمدون منهجهم من داخل الدائرة الإسلامية أو لا يستندون على وسادة خارج الدائرة الإسلامية -كما عبر-: فقولٌ تعوزه الدقة، والواقع شاهد بخطئه؛ والأدلة على هذا كثيرة، ولست بحاجة أن أستدل بشيء خارج عن حدود المنهج الذي اختطوه هم لأنفسهم؛ فهل القاعدة الأصيلة عندهم -والتي هي أصل البلاء- بتقديم العقل على النقل-ولا يخفاك تقرير الرازي لها في أساس التقديس، وتتابع جماعات منهم عليها قبله وبعده، كعبد القاهر البغدادي في أصول الدين، والجويني في الإرشاد، والغزالي في قانون التأويل، والإيجي في المواقف وغيرهم كثير- أقول: هل تعتقد أن هذه القاعدة مستمدة من الدائرة الإسلامية؟
وهل تقعيدهم أن النصوص الشرعية لا تفيد اليقين -كما قرره الرازي في المحصل- يتكئ على (الوسادة الإسلامية)؟
ولو تعمقت أكثر: هل دليل الأعراض وحدوث الأجسام، أو دليل التركيب، أو دليل الاختصاص -وهذه من أعمدة مذهبهم في الصفات- هل ستجد أنها مستخلصة من النصوص الشرعية أو ستجدها أدلة فلسفية بعيدة عن النصوص كل البعد؟
وأنا على استعداد -أخي الكريم- أن أتباحث معك فيما تريد من القضايا الخلافية بين أهل السنة والمتكلمين -أشاعرة وماتريدية- لنرى أي الفرقين أسعد بالنصوص، ولنرى أيهما كان حقا مستمدا مذهبه من الدائرة الإسلامية.
وأما قولك بأن الأشاعرة والماتريدية تريدان الوصول للحق وتنزيه الخالق: فلا يخفاك أن سلامة القصد لا تستلزم الوصول للحق، ثم إنك لو طرقت باب المعتزلة والجهمية لسمعت منهم الدعوى نفسها.
وأما قولك: إن دوافع الخلاف بين هذه الفرق الثلاث ومبرراته الحقيقية (تكمن في النص الإسلامي نفسه) فأقول: غفر الله لك! إن النص الإسلامي -يا هداك الله- يجمع ولا يفرق، والله تعالى أمرنا بالاعتصام بحبله وعدم التفرق فقال: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) وهذا يقتضي أنه بالأخذ بالنص يحصل الاتفاق لا الاختلاف، وتأمل قول الله تعالى: (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول) وإذا كان الرد إلى الكتاب والسنة سيزيدنا اختلافا فما الفائدة منه؟
ثم ادعى الأخ الكريم: (أن طبيعة النص الإسلامي يسمح بهذه التعددية في العقيدة)! وهذا قولٌ يضحك الثكلى، ولست أطلب منك يا أستاذ عبد الرحيم أن تستدل أو تستشهد على هذه الجملة، وإنما أريد فقط أن تصورها تصويرا يسمح للعقلاء بفهمها!
وما رأيك أخي الكريم أن أطرد تأصيلك هذا وأقول: مقتضى هذا القول: أنه إذا ادعى الفلاسفة أن نصوص المعاد لا يراد بها حقائقها فلا يمكن الإنكار عليهم؛ لأن النصوص تسمح بالتعددية! وإذا رفع الباطنية رؤوسهم وأولوا نصوص العبادات والأمر والنهي فليس لنا أن نلومهم؛ فالنصوص تقبل التعددية! وهكذا كل مبطل منحرف يمكن أن يدعي هذه الدعوى ويحرف من النصوص ما يشاء؛ فالباب مفتوح ولا يُمنع أحد من الولوج! أرأيت أخي الكريم أي هاوية سحيقة أدى إليها هذا التقعيد؟ وإلا فأجبني: أي فرق بين الموقفين؟ فإذا كان التأويل في نصوص الصفات مقبولا -كما يسلكه الأشاعرة والماتريدية- بناء على قابلية النصوص للتعدد؛ فما الذي يمنع تأويل نصوص المعاد أو الأمر والنهي بناء على الحجة نفسها؟ والمنطق السليم يقول: إما أن يُطرد الباب فتُلغى الشريعة جملةً، وإما أن يُحسم فتُحفظ الشريعة ويبقى للنصوص حرمتها، أما التذبذب أو التناقض فليس من شيم العقلاء.
ثم إني أقول ثانيا: دعني أقف مع قضية هي من أكبر القضايا الخلافية بين أهل السنة والأشاعرة والماتريدية، وهي قضية علو الله الذاتي على خلقه، حيث أثبتها أهل السنة والجماعة بناء على مئات الأدلة من الكتاب والسنة والآثار، ونفاها الأشاعرة والماتريدية؛ فهل ترى -حفظك الله- أن مصادمة النصوص وإسقاط دلالتها دفع إليه النصوص نفسها؟ هل يمكن لعاقل أن يقول هذا؟
ثم قرر الأخ الكريم أن هذه المذاهب الثلاثة معرضة للصواب والخطأ؛ فلابد من نظرة حيادية تصوب المصيب وتعذر المخطئ، وهذا القول غير صحيح؛ فليس ثمة مسألة واحدة انفرد فيها الأشاعرة والماتريدية بالصواب دون أهل السنة، بل الصواب المحض مع أهل السنة -الأثرية- وإذا كانت نظرتك الحيادية أخي قد تفتقت عن غير هذا؛ فإن البحث المنصف فيما أقول وتقول كفيل بإظهار الحق بتوفيق الله.
أما عن القضية الثانية التي اشتمل عليها المقال فأقول: لقد انفرد الأستاذ بدعوى لم يُسبق إليها البتة؛ وهي: (أن السلف الصالح لم يكن لهم مذهب واضح في الصفات)!
وبناء على تقعيد أخينا فإن عشرات الأئمة المتقدمين الذين يحكون مذهب السلف الصالح من الصحابة والتابعين وأتباعهم في الصفات كانوا يحكون عبثا، ويضربون في القول على غير هدى!
وليت شعري لأي شيء يحضنا عليه الصلاة والسلام على اتباع سبيل الصحابة في قوله: (من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي) والواقع أنه لا مذهب لهم في قضية هي من أعظم القضايا وهي الإيمان بصفات الله تعالى؟
ثم قرر الأستاذ الكريم أن (الادعاء بوجود مذهب موحد عند السلف في العقيدة مجازفة ومخاطرة)!
ثم أتى بثالثة الأثافي حين ادعى أن (موقف السلف قائم على أن هذه المسائل لا تدخل ضمن دائرة التكليف)! وهكذا فليكن البحث العلمي! وهكذا فلتكن الدراسات المكثفة المعمقة!
أي خبط هذا الذي وقعت فيه أخي؟ عن أي مصدر تصدر؟ وبأي برهان تحكم؟ ومن سبقك إلى هذا التقرير البديع الذي لم يتفوه به لا أثري ولا أشعري ولا ماتريدي؟
ولست أرى هذا الكلام يحتاج إلى مناقشة؛ فحكايته تكفي في نقضه.
ويتساءل الأستاذ الكريم: (لو قمنا فرضا بجمع كل الذي قاله السلف في مسائل الصفات؛ فهل سنصل إلى مذهب موحد واضح؟) والجواب: إي وربي، ولا تتشكك أخي ولا ترتب في هذا، ولا حاجة إلى أن تضني نفسك بالبحث والجمع؛ فقد سبقك إلى هذا أئمة أعلام قبل قرون متطاولة، وقد حوت كتب العقيدة المسندة وغير المسندة نتيجة هذا الجمع في عشرات النصوص من كلام السلف فمن بعدهم، وما عليك إلا أن تأخذ شيئا منها وتقرأه سائلا الله الهداية، لكن العجب أنك لم تقف عليها وأنت الباحث في العقائد الإسلامية! أو لعلك وقفت لكنك أصبت بداء النسيان حال كتابة المقال، ولولا خشية الإطالة لسقت لك جما طيبا من هذه النقول، وسأكتفي بنقل واحد، ولو استزدتني لزدتك! روى البيهقي في كتابه الأسماء والصفات بالسند الصحيح عن الأوزاعي أنه قال: (كنا والتابعون متوافرون نقول: إن الله تعالى ذكره فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة من الصفات) أرأيت أخي كم هو واضح منهج السلف؟
وإذا كان الأستاذ قد أصل التأصيل السابق فإنه لم يفته الاستدلال عليه، فقد استدل عليه بدليلين: الأول: ادعاء أنه قد حصل اضطراب للسلف في هذا الباب، فتارة يثبتون وتارة يؤولون، وادعى أيضا أن لديه أمثلة كثيرة، وترجى أن يفردها بمقال مستقل ابتداء بابن عباس رضي الله عنه وانتهاء بالمعاصرين.
وأقول:اربع على نفسك؛ فأما الصحابة فلن تجد عنهم تأويلا واحدا، إلا إذا استطعت أن تجد ضبا يسبح على شاطئ البحر! وإذا كنت تشير إلى ما روي عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى: (يوم يكشف عن ساق) فأفيدك بأنه لم يصح عنه، وأما بقية السلف -وهم التابعون وأتباعهم- فإن القاعدة المطردة عندهم الإثبات لا التأويل، وحصول خطأ فردي -على فرض ثبوت شيء من ذاك عن أحدهم- لا يقدح في هذا الأصل ولا يعكر عليه؛ إذ العصمة حاصلة للمجموع لا للأفراد، ويؤكد هذا: أنه لو حصل وأثبت أشعري صفة خبرية فإنه لا يعني أنه لم يعد أشعريا، ولم يكن دليلا على اضطراب منهج الأشاعرة من هذه الجهة.
أما الدليل الثاني فقوله: (لو كان للسلف مذهب موحد واضح لما جاز لمسلم أن يخالفه فضلا عن أن يخالفه جمهور غفير من المسلمين) وهذه حجة عجيبة! فإنه إذا أريد بالجواز الجواز الشرعي؛ فإن أهل السنة يقولون بهذا؛ فمخالفة منهج السلف لا تجوز ولو كثر المخالفون، وإن أريد الوقوع؛ فكم من الأمور الممنوعة شرعا والواقع فيها أمة كبيرة من المسلمين، فهل هذا يعني عدم منعها؟
ثم أتى الأخ بعد ذلك بكلمة كبيرة وهي قوله: (فهل كان صحابي مثلا يعلم أن لله يدين وأصابع وقدما وساقا ..) إلخ ما عدد من الصفات الثابتة لله تعالى على ما يليق به، وتساءل بعدها: هل كانوا يحفظون هذه الكلمات ويعتبرونها عقيدة؟ هل كانوا يدعون إليها؟ إلخ تلك التساؤلات، فيا لله العجب! كيف استطعت أخي أن تتجاسر بهذه الطريقة وتتكلم عن صفات الله العلية بهذا الأسلوب؟ وأسألك أنا فأقول: هل هذه الصفات مذكورة في الكتاب والسنة أم لا؟ فإذا كان الجواب بنعم -وهو كذلك- فلا ريب أنهم -رضي الله عنهم- كانوا يعلمونها ويحفظونها ويعتبرونها عقيدة ويدعون إليها؛ لأنها جزء من نصوص الكتاب والسنة وهم كانوا يؤمنون بالكتاب كله والسنة جميعها ويعلمونهما ويدعون إليهما، وبالتالي فإن هذه التساؤلات الفجة غير واردة، وإذا كنت تدعى خلاف ذلك فأثبت ذلك بالدليل؛ فإن المثبت في هذه القضية مستصحب للأصل فهو لا يحتاج في إثباته إلى دليل، وإنما الدليل على النافي، فهل عندك شيء يخالف هذا؟
وأسألك ثانيا: لو كانت هذه الصفات على غير حقيقتها أو لا يراد بها ظاهرها اللائق بالله: هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يسكت عن البيان وهو يحدثهم ويتلو عليهم ما يُزعم أنه لا يليق بالله؟ أليس هو أعلم الخلق بالله؟ أليس هو أفصح الخلق؟ أليس هو أحرص الناس على هدايتنا؟ إذن لماذا لم يقل يوما لأصحابه: أنتم تقرؤون آيات وتحفظون أحاديث فيها نسبة النزول والعين والوجه لله، فاحذروا أن تعتقدوا أن هذه صفات لله، إنما هذه كلمات لها تأويل يخالف ظاهرها .. فانتبهوا! ثم أين الصحابة عن تحذير التابعين وهم يرونهم قد يقعون في الضلال -بزعم المتكلمين، وحاشا إثبات الصفات أن يكون ضلالا- لماذا لم يأت عن واحد منهم التحذير والإنذار بأن لا يقع في قلوبهم أن هذه صفات لائقة بالله تعالى؟
أخي الكريم .. عد إلى نفسك وتأمل مليا فيما ذكرت لك .. وانظر في نصوص الكتاب والسنة التي امتلأت بنصوص الصفات التي تضاف لله تعالى، وسل نفسك: هل ما ورد فيها يدل على الباطل لا على الحق؟ وعليه فيجب أن يُبحث عن ضروب من التأويلات للوقوف على حقيقة المعنى؟ إذن فنصوص الوحي الشريف قد اشتملت على ما يضل الناس وليس على ما يهديهم ويبين لهم ويكون نورا مبينا.
يبدو أن الأمر يحتاج إلى وقفة إيمانية قبل النقاش الجدلي.
وفق الله الجميع لما يحب ويرضى، وهدانا صراطه المستقيم وشرح صدورنا له وثبتنا عليه.
وكتبه: صالح بن عبد العزيز السندي
طيبة الطيبة.
نشر في ملحق الرسالة بتاريخ 19/8/1426 - مع تصرف منهم فيه.