قال التنوخي :(قاطع طريق يتفلسف)
"وحدثني عبد الله بن عمر بن الحارث الواسطي السراج، المعروف بأبي أحمد الحارثي، قال: كنت مسافراً في بعض الجبال، فخرج علينا ابن سباب الكردي، فقطع علينا، وكان بزي الأمراء، لا بزي القطاع.فقربت منه لأنظر إليه وأسمع كلامه، فوجدته يدل على فهم وأدب، فداخلته فإذا برجل فاضل، يروي الشعر، ويفهم النحو، فطمعت فيه، وعملت في الحال أبياتاً مدحته بها.فقال لي: لست أعلم إن كان هذا من شعرك، ولكن اعمل لي على قافية هذا البيت ووزنه شعراً الساعة، لأعلم أنك قلته، وأنشدني بيتاً.قال: فعملت في الحال اجازة له ثلاثة أبيات.فقال لي: أي شيء أخذ منك ؟ لأرده إليك.قال: فذكرت له ما أخذ مني، وأضفت إليه قماش رفيقين كانا لي.فرد جميع ذلك، ثم أخذ من أكياس التجار التي نهبها، كيساً فيه ألف درهم، فوهبه لي.قال: فجزيته خيراً، ورددته عليه.فقال لي: لم لا تأخذه ؟ فوريت عن ذلك.فقال: أحب أن تصدقني.فقلت: وأنا آمن ؟ فقال: أنت آمن.فقلت: لأنك لا تملكه، وهو من أموال الناس الذين أخذتها منهم الساعة ظلماً، فكيف يحل لي أن آخذه ؟ فقال لي: أما قرأت ما ذكره الجاحظ في كتاب اللصوص، عن بعضهم، قال: إن هؤلاء التجار خانوا أماناتهم، ومنعوا زكاة أموالهم، فصارت أموالهم مستهلكة بها، واللصوص فقراء إليها، فإذا أخذوا أموالهم - وإن كرهوا أخذها - كان ذلك مباحاً لهم، لأن عين المال مستهلكة بالزكاة، وهؤلاء يستحقون أخذ الزكاة، بالفقر، شاء أرباب الأموال أم كرهوا.قلت: بلى، قد ذكر الجاحظ هذا، ولكن من أين يعلم إن هؤلاء ممن استهلكت أموالهم الزكاة ؟ فقال: لا عليك، أنا أحضر هؤلاء التجار الساعة، وأريك بالدليل الصحيح أن أموالهم لنا حلال.ثم قال لأصحابه: هاتوا التجار، فجاءوا.فقال لأحدهم: منذ كم أنت تتجر في هذا المال الذي قطعنا عليه ؟ قال: منذ كذا وكذا سنة.قال: فكيف كنت تخرج زكاته ؟ فتلجلج، وتكلم بكلام من لا يعرف الزكاة على حقيقتها فضلاً عن أن يخرجها.ثم دعا آخر، فقال له: إذا كان معك ثلثمائة درهم، وعشرة دنانير، وحالت عليك السنة، فكم تخرج منها للزكاة ؟ فما أحسن أن يجيب.ثم قال لآخر: إذا كان معك متاع للتجارة، ولك دين على نفسين، أحدهما مليء، والآخر معسر، ومعك دراهم، وقد حال الحول على الجميع، كيف تخرج زكاة ذلك ؟ قال: فما فهم السؤال، فضلاً عن أن يتعاطى الجواب.فصرفهم، ثم قال لي: بان لك صدق حكاية أبي عثمان الجاحظ ؟ وأن هؤلاء التجار ما زكوا قط؟ خذ الآن الكيس.قال: فأخذته، وساق القافلة لينصرف بها.فقلت: إن رأيت أيها الأمير أن تنفذ معنا من يبلغنا المأمن، كان لك الفضل.ففعل ذلك ".
[الفرج بعد الشدة
للتنوخي (4-231)].