مع ابن تيمية مرة أخرى.
مما يتفق عليه العقلاء أن الجدال العقيم وكثرة القيل والقال ليست شيئا مرغوبا فيه، ومن هذا المنطلق جاء التوجيه النبوي الكريم بترك الجدال ولو كان المرء يعتقد صواب نفسه؛ ولأجل هذا فليس لي رغبة في إطالة حبل النقاش حول شيخ الإسلام ابن تيمية وما قيل عنه.
لقد كتبت مقالا ناقشت فيه الدكتور (قيس آل الشيخ مبارك) حول تجاوزات وقعت منه تتعلق بهذا العالم الفذ وبغيره. ومن المعلوم أن الدفاع عن ابن تيمية أو غيره من العلماء الأجلاء واجب شرعي، ولا يمكن أن يمر لمزهم أو غمزهم لدى طلاب العلم مرور الكرام.
وأجد الفرصة سانحة لأن أقول بكل ثقة: إن التقريرات العقدية لابن تيمية رحمه الله ليس فيها ما هو جديد على عقيدة السلف الصالح أهل القرون المفضلة، ومن يشكك في صحة ذلك فليتفضل ببيان قاعدة واحدة قررها ليس عليها السلف الصالح ولم يتقدمه فيها أحد.
لقد كتبت ذاك المقال رغبة في نصح الكاتب ونصح القراء وكلي أمل أن يراجع الدكتور نفسه ويعلن تراجعه عما وقع فيه، ولكن لله الأمر من قبل ومن بعد.
لم تنته قصة النقاش عن ابن تيمية عند هذا الحد؛ فقد وقفت على تعقيبين على مقالي، أحدهما للأستاذ سعد الحربي، والآخر للأستاذ عبد الله بن فراج الشريف.
ولما طالعت الردين رأيت أن من اللازم التعقيب عليهما، مع أني كاره لذلك، لكن لابد مما ليس منه بد، وآمل أن تتسع صدورهما لذلك، وسأبدا بالتعليق على أكثر المقالين أدبا، وهو مقال الأستاذ سعد الحربي:
أولا: أقول للأخ الفاضل: أنا حين قلت عن الدكتور إنه قد تكلم في غير فنه لا أريد التخصص الأكاديمي وإنما العناية العلمية؛ فإنه قد اتضح لي من مقال الدكتور أن عنايته بدراسة عقيدة السلف متواضعة لقرائن قامت عندي ومنها عده نواقض الإسلام غامضة دقيقة الشبه ... وأيضا ظهر لي أن عنايته بكتب شيخ الإسلام ليست بتلك وإلا لما رماه بأن كثيرا من أحكامه على عقائد مخالفيه لا تقوم على دليل، ولك أن تعلم أن قولي هذا هو من باب إحسان الظن بالدكتور، وأن خطأه ناشئ عن عدم التمكن في هذا الفن لا عن شيء آخر.
وأما تعليقك فيما يتعلق بي وأنه ينبغي أن أكون أيضا متكلما في غير فني لكوني متخصصا في أصول الفقه: فقد أشرت سابقا أن التخصص الأكاديمي ليس عندي معيارا في التخصص العلمي، ثم أحب أن ألفت نظرك الكريم إلى أني قد انتقلت إلى قسم العقيدة في مرحلة الدكتوراه.
ثانيا: إنني أستغرب من الأخ الفاضل إيراده كلاما منقولا عن رسالة زغل العلم المنسوبة للذهبي وأن به قد نلت بغيتي ولم يطل انتظاري، ويبدو أنه يعلق على قولي في المقال السابق: (لقد ادعى الدكتور أن من الناس من بالغ حتى وصل إلى حد أنه يرى أن الخطأ لا يجري على ابن تيمية وأن الحكم الذي يختاره أشبه بمحل النزاع. وأجزم أنني لو طالبت الدكتور بذكر نموذج واحد ممن ينطبق عليهم هذا الوصف فسيطول انتظاري دون أن أنال بغيتي) وما نقله عن الذهبي لا علاقة له فيما نحن فيه؛ فإن بغيتي لم تحصل حتى الآن؛ فأين في هذا المنقول أن من الناس من يرى أن ابن تيمية لا يجري عليه الخطأ؟ أو أن ما اختاره أشبه بالنص في محل النزاع؟ هذا أمر وأمر آخر: أن كلام الدكتور هو عن الواقع والشاهد الذي يعيشه لا الماضي، وهذا الذي علقت عليه، وارجع إن شئت إلى المقال وتأمل كلام الدكتور، وحتى يحصل ذلك فسأنتظر وأظن أنه سيطول انتظاري دون أن أنال بغيتي.
ومن باب الفائدة أقول: إن رسالة زغل العلم في ثبوتها عن الذهبي نظر كبير، ويمكن لأخي الأستاذ سعد أن يراجع ما سطره الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة في كتابه: ظلمات أبي رية ص 309 ، ففيه أوجه علمية قوية تفيد عدم صحة نسبة الرسالة إليه.
ثالثا: قال الأستاذ سعد: (ذكرتَ يا شيخنا أنك لم تجد عبارة (الجسرة على العلماء في الدرر الكامنة) ووصفت قوله بالمجازفة واتهام لشيخ الإسلام بالفرية الكبرى، واعتبرت هذه العبارة سقطة مرفوضة وزلة مردودة وعبث علمي ورمي للأحكام بلا دليل ولا برهان، فأتيتك يا شيخي بما هو أعظم من الجسرة) وأقول لأخي الكريم: هون عليك، ودونك كلمتي فقارنها بما ذكرتَ: (ويبلغ الدكتور الذروة في المجازفة حين يتهم هذا الإمام الجليل بفرية كبرى وهي ما تضمنه قوله: ( ومن يقرأ لابن تيمية رحمه الله يرى عنده جسرة على تخطئة العلماء الكبار كما قال الحافظ ابن حجر وعلى تصنيفهم وعلى الحكم على عقائدهم والكثير منها ]كذا[ عموميات لا تقوم على دليل) وليت شعري بأي ميزان وزن الدكتور أحكام شيخ الإسلام حتى وصل إلى أن كثيرا من أحكامه في عقائد من نقدهم عموميات لا دليل عليها! ولعمري إنها لسقطة مرفوضة ...) فتأمل يا رعاك الله لتعلم أن كلامي منصرف إلى الجملة الثانية وهي حكمه لا حكم ابن حجر -إن صح- وهو أن أحكامه لا تقوم على دليل، وأما الجملة الأولى وهي الجسرة فهي منسوبة لابن حجر، وقد علقت عليها قبل ذلك ولم أقل إنها فرية، وإنما نقلتُ العبارة ههنا كاملة حتى تفهم، هذا أولا؛ وثانيا: علقتُ على كلام ابن حجر بأني لم أقف عليه ولكن على فرض ثبوته فإن هذا لا عيب فيه على شيخ الإسلام لأنه مؤهل لذلك. وثالثا: ما نقلتَه عن الدرر الذي يبدو من سياق الكلام أنه للأقشهري وليس للطوفي، ثم إن اتهامه لشيخ الإسلام بأنه طعن في بعض الخلفاء الراشدين فهذه كبيرة منك أن تنقلها -عفا الله عنك- فهذا النقل لم يذكره أحد من المترجمين لابن تيمية البتة وهم جم غفير، ثم هو مناقض لما يقرره رحمه الله في سائر كتبه تمام المناقضة، بل مناقض للأحكام العظيمة التي حكم بها على من يطعن في أقل من الخلفاء الراشدين من الصحابة بما هو أقل مما ذُكر، وأحيلك في نقض هذه الشبهة العليلة بتنقص الصحابة إلى كتاب: دعاوى المناوئين لشيخ الإسلام ابن تيمية عرض ونقد، وكذا إلى الكتاب الحافل في ترجمته: الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية وانظر -غير مأمور- تعليق جامعي الكتاب على هذا الكلام المنقول ص 543-545، وتأمل أيضا: كتاب: شيخ الإسلام ابن تيمية لم يكن ناصبيا.
وثالثا: إن كنت يا رعاك الله تريد فتح باب كل ما نُقل من قدح عن الإمام رحمه الله فهو باب لا يغلق ويمكن أن أنقل لك أضعاف ما نقلت، فقد اتُهم -رحمه الله- بسلسلة طويلة من التهم الباطلة؛ فهل يصح منك يا هداك الله أن تنقل مثل هذه الافتراءات لتثبت أن أهل العلم قد قالوا في ابن تيمية أعظم مما قال ابن حجر؟! أتمنى منك أخي الكريم أن تتحرى الدقة والتثبت، ولا أظن أنه يعفيك من المسئولية كونك ناقلا عن ابن حجر.
رابعا: ذكر الأستاذ سعد أن لشيخ الإسلام السبق في ذكر الأطوار الثلاثة للأشعري، ونقل في هذا نقلا وأقحم فيه كلاما بين معترضتين لا يدل عليه السياق. وأقول: إن التقسيم الثلاثي لحياة الأشعري يراد به: الاعتزال، الكلابية، السنة المحضة. وكلام شيخ الإسلام الذي نقله الأستاذ لا يدل على الطور الثالث، بل تأمُل كلام شيخ الإسلام هذا وغيره يفيد أن الشيخ يرى أن الأشعري رجع من مذهب المعتزلة إلى مذهب الكلابية واستفاد من الحنابلة حين خالطهم بعد ذلك، لكن بقيت عليه بقايا اعتزال، وهذا لا يفيد أنه يثبت الطور الثالث. وأطمئن الأخ الكريم بأني لم أكتب كلامي في المقال السابق إلا بعد تتبع وتحقق وقد وقفت على ما تفضل بنقله من قبل، وإن أحب التوثق أكثر فدونه هذا الكتاب الذي تتبع موقف الإمام من كتبه ووصل إلى النتيجة التي ذكرتها، وهو كتاب: موقف ابن تيمية من الأشاعرة. وأكرر ما ذكرته سابقا بأنني لست بصدد تحقيق أصل المسألة بل في النسبة لشيخ الإسلام فحسب.
خامسا: لامني الأخ الفاضل لكوني أخرجت الأشاعرة والماتريدية من أهل السنة، مع أني لم أنص على هذا في مقالي، وإذا كان الأخ الكريم له رأي في المسألة فأنا على استعداد للمباحثة معه فيما أراد من الأبواب التي خالفوا فيها الحق، سواء منها ما كان متعلقا بالصفات أو القدر أو الإيمان أو غيرها من الأبواب، ثم بعد ذلك يُنظر هل هم مخالفون لأهل السنة أم موافقون.
ثم إن الأخ قال: (ولو تأملت يا شيخي الكريم (السندي) في كتب التفسير لرأيت أن المفسرين قد سلكوا مسلك الأشاعرة في الصفات) أهكذا يا هداك الله تطلق هذا الإطلاق! (المفسرون) سلكوا مسلك الأشاعرة، فأين من هذا الإطلاق الطبري والقصاب والبغوي وابن كثير والسعدي والشنقيطي؟ هل تراهم سلكوا مسلك الأشاعرة؟ وهذه الأسماء على سبيل التمثيل لا الحصر وهي تقابل ما أوردته، ثم هناك فرق بين من كان من الأشاعرة ومن أخطأ في تأويل أو نحوه مع كونه على طريقة السلف فهذا لا يُحشر في زمرة الأشاعرة كما لا يخفاك.
والعجيب أن الأخ أحال إلى بعض التفاسير ومنها تفسير الطبري عند قوله تعالى:(وجاء ربك والملك صفا صفا) ثم قال: (تجد أنهم أَوّلُوا المجيء بالأمر أو الثواب، كما هو مقرر في منهج الأشاعرة والماتريدية). وقد رجعت إلى تفسير الطبري عند الموضع المشار إليه فوجدته أثبت صفة المجيء ولم يؤولها، حيث قال: (وقوله: (وجاء ربك والملك صفا صفا) يقول تعالى ذكره: وإذا جاء ربك يا محمد وأملاكه صفوفا صفا بعد صف) ثم أورد جملة من الأحاديث والآثار تتضمن إثبات هذه الصفة على حقيقتها اللائقة بالله تعالى. انظر تفسيره 30/185.
فهل يرى الأخ أن هذا تأويل! هل في هذا الكلام تأويل المجيء بمجيء الأمر أو الثواب! لعل العجلة هي سبب هذا الغلطة.
ثم ثنى الأخ بأمر آخر وهو نسبة التأويل للإمام أحمد، حيث نقل عنه تأويل صفة المجيء بمجيء الثواب وذلك من رواية حنبل عنه. وإني لأعجب من الأخ كيف فاته كلام أهل العلم في هذه المسألة مع أنه معروف مشهور، والخلاصة: أن هذه الرواية لا تصح عن الإمام أحمد؛ لأنها من رواية حنبل، وهي غلط منه؛ ولعله لا يخفى الأخ الكريم تفرد حنبل وإغرابه عن الإمام كما نص على هذا الذهبي وغيره؛ ولأجل هذا غلّطه في هذه الرواية ابن شاقلا ونقل ذلك أبو يعلى، وكذا غلطه شيخ الإسلام وابن القيم، ومما يؤكد هذا أن هذه الرواية مخالفة لما هو معروف بالتواتر من مذهب الإمام أحمد، ثم هذه الرواية كما رواها حنبل جرت أثناء المحنة فأين من هم أوثق من حنبل عن نقلها كابن الإمام صالح وابنه عبد الله وتلميذه المروذي وغيرهم، وعلى فرض ثبوتها فقد حملها بعض أهل العلم أنه قالها على سبيل المناظرة لإلزام خصومه لما ألزموه بمسألة مجيء ثواب القرآن؛ فأراد إلزامهم بمذهبهم.
ولعل الأستاذ ينظر فيما كُتب في نقد هذه الرواية لا سيما كتاب: براءة الأئمة الأربعة من مسائل المتكلمين المبتدعة 378-384.
وفي ختام هذه الفقرة أوجه همسة عتاب لأخي سعد؛ وهي أنه كيف يفتح على الناس باب الشبهة هذا، ويلبس عليهم بمثل هذه الإيرادات؟ فهل يتحمل أخي مسئولية اضطراب الناس ووقوعهم في الخطأ في هذا الباب العظيم من أجل الدفاع عن الدكتور؟ لا سيما وأن ما ذكره خروج عما البحث بصدده، آمل أن يراجع الأستاذ سعد نفسه ليعلم خطأ نفسه.
سادسا: نقل الأستاذ عن السفاريني عده الأشاعرة والماتريدية من أهل السنة، فكان ماذا؟ ويمكنني أن أنقل مثلها أو أكثر -عن غير شيخ الإسلام- في وصف الأشاعرة بالابتداع والانحراف كأبي إسماعيل الهروي وابن الحنبلي وابن خويز منداد المالكي وغيرهم من أهل العلم. وإذا كان هناك طرفان متقابلان في هذه المسألة أليس الأجدر ترك مدح المادح وقدح القادح والبحث في دليل كلٍ بتجرد للوصول إلى القول المنصف؟
ثم ختم الأخ سعد تعليقه بالدعوة إلى تقليل حدة الخلاف واحترام الرأي المخالف وترك العنيف من القول، وياليته وجه مثل هذه الدعوة للدكتور قيس نظير أسلوبه الذي سلكه مع شيخ الإسلام، وأنا أشارك الأخ سعد في ضرورة الرفق في محله، وليس العنف من طبعي، لكن تجاوزات الدكتور هي التي دفعتني إلى هذا الأسلوب، والله أسأل أن يصلح أحوال الجميع.

أنتقل بعد هذا للتعقيب على مقال الأستاذ عبد الله فراج الشريف؛ ومقال الأستاذ الكريم نمط خاص ولون آخر، فيه من قلب الحقيقة والخلط العلمي و(إقصاء الرأي الآخر) قدر كبير، مع أني أقدم له العذر في ذلك؛ فلعله كتبه وقت انفعال أو كان في عجلة من أمره، ولعله لو قرأه وقت هدوء لتعجب منه كما تعجبت أنا منه.
لن أناقش كل ما جاء في المقال، ولن أعلق على الحيادية المفقودة والمفترض توفرها في مثله، ولن أتكلم عن كونه لم يشر إلى النقاط العديدة التي ناقشتها في مقال الدكتور وحصره نقدي في فقرة ضيقة فحسب بحيث لا يتصور القارئ واقع المقال على حقيقته، ولن أعقب على الوصف القاسي الذي أضفاه على ابن تيمية من أنه (أكثر) العلماء حدة في النقد وشدة على المخالف حتى في الفروع .. لن أتناول كل ذلك فهو أمر يطول، لكن سأضرب أمثلة فحسب وأتمنى من الأستاذ أن يتسع صدره لتعليقي أخذا بمبدأ (التسامح والحرية الفكرية) التي ينشدها.
ذكر الأستاذ الكريم أن لابن عساكر نقدات لشيخ الإسلام، والحق أن هذه معلومة جديدة لم أسمع بها من قبل، وياليت الأستاذ أفادنا بأمثلة لذلك، لكن مما يشكل على ما ذَكر أن ابن عساكر توفي قبل ابن تيمية بقرن من الزمان تقريبا! لعل العجلة هي سبب هذه السقطة، ولكل جواد كبوة.
ثم عطف الأستاذ بعد ذلك بذكر أن ابن حجر له في ترجمة ابن تيمية في الدرر الكامنة ما يعرفه الجميع وإن أنكره (صالح). وأتمنى من الأستاذ أن يجود بفضل علمه ويبين الذي أنكرته من كلام ابن حجر نفسه وهو معروف لدى الجميع، وأنا له في ذلك شاكر.
وأما نصيحة الذهبي لشيخه فثبوتها عن الذهبي حوله علامة استفهام كبيرة، وقد كُتبت في ذلك بعض الدراسات فياليت أن الأستاذ يطلب منها شيئا ويطالعه.
أما إطلاق وصف: (أهل السنة) على بعض من ذكر من العلماء أو الفرق فلن أعلق عليه حتى أعلم ضابط هذا الوصف عند الأستاذ الكريم.
من الأمثلة أيضا: أن الأستاذ زعم أني أدافع عن منهج التكفير والتبديع والتضليل وأني أرى أنه المنهج الأوفى! ولست أدري من أين أُتي الأستاذ؛ هل من العجلة أو قصور الفهم أو ضعف النظر؟ إن كلامي واضح تمام الوضوح في بيان أن النطق بالشهادتين ليس ظِنة خالية عن القرائن كما أوهم الدكتور، وكيف يكون ذلك وهي أصل الدين وأساس الملة، وأردفت ببيان أن الحديث يفيد أن من ثبت إسلامه بيقين لا يزول عنه بالشك، وهذا نقيض مذهب التكفير؛ فكيف أكون مقررا له؟! والعجب أن يتمنى الأستاذ أن أؤمن بما سطرته في ذاك المقال بيدي! والمقال السابق بين يدي القراء الكرام وبإمكانهم التحقق من واقع المقام.
من الأمثلة أيضا: أن الأستاذ بالغ في الحط علي لكوني وصفت الحرية الفكرية والتسامح بالمصطلحات العصرية المشبوهة، وليلاحظ أني قلت: مشبوهة وليس باطلة، ولست أدري لأي شيء اقتطع الجملة ولم يكمل قولي في وصفها: ذات المعاني الفضفاضة، فهذه التكملة توضح أني أصف مصطلحات تحتمل حقا وباطلا، ولذا أصبحت مركبا ذلولا لكل مبطل، فليس على من أراد أن يمرر باطلا من القول إلا أن يرفع لواء مثل هذه المصطلحات، حتى لقد وجد من يدعو إلى احترام أديان الكفار واعتبارها أديانا يمكن التعبد لله بها تشبثا بمثل هذه العبارات، فلعله اتضح الآن للأستاذ أني لا أنفي الحرية الفكرية أو التسامح مطلقا وإنما أدعو إلى تجنب الألفاظ المحتملة، ولنا في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا) أسوة.
من الأمثلة أيضا –والأمثلة كثيرة-: ادعاء الأستاذ الكريم أني أرى أن من لم يشرب من مشرب ابن تيمية لم يشرب باليمين وكل مشرب غير مشربه إنما هو من مشارب الهوى والضلال وأني لعلي لا أرى أحدا مؤهلا علميا لانتقاد ابن تيمية. ويكفيني من التعليق على هذا الادعاء أن أقول: سامح الله الأستاذ فإنني لم أقل هذا الكلام، ولو راجع المقال فسيجد خطأ نفسه، وسيجد أنني قررت أن مشرب السنة والأثر كاف، وأن ما سواه مشارب هوى وضلال، وهل يخالفني الأستاذ في ذلك؟
ومثال آخر: يلاحظ أن الأستاذ كرر حطه على طلاب العلم الذين (يكثرون) هذه الأيام كما وصفهم! وشدد النكير عليهم، ومن جملتهم كاتب المقال الذي يرد عليه، وكل ما ذكره -وفقه الله- كلام عائم لا يقوم على منهج علمي واضح، ولا يدلل عليه بأمثلة وبراهين، ومثل هذا الأسلوب لا يعجز أي أحد، فأربأ بالأستاذ عنه.
والمستفاد من كلام الأستاذ أن (طلاب العلم) هؤلاء أو (القوم) كما يصفهم تكمن مشكلتهم في أنهم لا يرون أحدا سوى من كان من مشربهم على الحق، ومن عداهم من المذاهب والمشارب أصحاب ضلال وبدع، وأقول للأستاذ: دعك من (صالح) ومن غيره من طلاب العلم فإنك تنسب إليهم إطلاقات لا يقولونها ولا يلتزمونها كما تذكر، لكن أجبني –تكرما- على هذا السؤال: أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بوقوع اختلاف الأمة وتفرقها إلى فرق وأن كل هذه الفرق في النار إلا واحدة وهي من كان على مثل ما هو عليه وأصحابه، وأخبر كذلك بأنه لا تزال (طائفة) من أمته على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله.
وسؤالي: هل تقر بأن الأمة اختلفت وأن (الحق) من بين هذا الاختلافات الكثيرة متحقق في طائفة من الأمة؟ إذا كنت تقر بذلك –وهذا الذي أرجوه- فهذا الجواب منك كافٍ في التعليق على ما تُقرر.
وأما كون زيد أو عمرو على هذا الحق المنشود فمسألة أخرى القاطع فيها الدليل كما تفضلت ببيان ذلك.
وأما من ادعى بأن الفرقة الفلانية ليست على الهدي السوي أو مخالفة للسنة فلا ينبغي أن يبادر بالإنكار عليه ابتداء؛ لأن المخالفة للحق واقعة لا نستطيع إنكارها كما هو منطوق الأحاديث؛ وإنما يُقدم قبل ذلك سؤال هذا المنكِر: ما دليلك؟ فإن أبانه وإلا فهو حري بالتشديد والنكير.
وإذا كان الأستاذ يرى أن ابن تيمية قد تجاوز حده في نقد فرقة معينة؛ فإن (الحرية الفكرية) التي يدعو إليها تسمح له بمناقشته مناقشة علمية هادئة رصينة، ألا يتفق معي الأستاذ الكريم أن هذا المسلك أهدى سبيلا وأقوم قيلا من رمي الكلام على عواهنه؟
أختم التعليق بالإشارة إلى أن الأستاذ قرر أن (صالحا) ليس من حقه أن يجبرنا على اتباع رأيه، ولست أدري أي نمط من أنماط الإجبار رأى الأستاذ أنني مارسته، وإذا كان يرى المناقشة وإبداء الرأي إجبارا فليسمح لي بأن أطلب منه الطلب نفسه.
أسأل الله تعلى أن يجمع القلوب على الحق ويؤلف بينها على الهدى ويرينا الحق حقا ويهدينا إليه ويثبتنا عليه، اللهم آمين.
د. صالح بن عبد العزيز سندي