هذه محاضرة ألقيتها منذ زمن في إحدى الدور النسائية ، وهاأنذا أفرّغها هنا رجاء ثوابها، والانتفاع بها، والخطاب فيها موجه للأخت المسلمة .
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته،

الجزء ( 1 )

عنوان اللقاء ..

( الآثار التربويةُ في وصايا لقمان ) ،
نقف - بعون الله وتوفيقه -على قضايا تربويةٍ مهمة في حياة المسلمين، وتحديدا ما يتعلق بالمرأة المسلمة ، نستلهم من هذه الوصايا الجامعةِ الدروسَ والعبر .
نتجه صوب الكتاب السماوي الجليلِ لنتزود بالإيمان والعلم والحكمة ، وقد كان معاذ بن جبل رضي الله عنه كما أخرج البخاري في صحيحه يقول : اجلس بنا نؤمن ساعة .
دعونا- أخواتي الكريمات - .. نحلِّق مع معاني هذه الوصايا القرآنية التي جاءت على لسان الرجل الصالح الحكيم .
( لقمان ) .. اسم سورة (مكية) وردت في القرآن الكريم . فيها خبر العبد الصالح الذي قيل إنه كان قاضيا على بني إسرائيل في زمان داود عليه السلام . كما نُقل عن مجاهدٍ وغيرِه . رحمهم الله .
امتن الله تعالى عليه فآتاه الحكمةَ والفهم والتعبير، فكان ينثُر دررا من القول، وفرائدَ من النصح .
ذكر ربُّنا تبارك وتعالى في كتابه وصايا هذا الرجل الصالح لابنه ؛ لتكون نِبراسا للمُتبعين، وحُقّ للمؤمنين أن يقفوا معها وقفاتٍ ووقفات .. حُقَّ لهم أن يحتفوا بهذه الوصايا العظيمة ؛ لأنها جمعت أمهات الحكم، واستلزمت مالم يُذكر منها، وكل وصية قَرن بها ما يدعو إلى فعلها إن كانت أمرا، وما يدعوا إلى تركها إن كانت نهيا.
وإن العجب ليأخذكِ حين ترين إقبال عدد غير قليل من أبنائنا على وصايا مفكري الشرق والغرب ، ويترفعون بها في المجالس، ويرون أن هذا من لوازم الثقافة والمعرفة الحديثة، وعندما تطرقُ أسماعَهم وصايا القرآنِ الكريمِ تجد منهم التثاقلَ والتباطؤ في التعاطي معها، ويذهب ذلك الحماس !!
وإنكِ حين تتأملين نَتاج هؤلاء (المفكرين) تجدين كثيرا منه وردت أصوله وفروعه في مصادر المسلمين وتراثهم!
فلم هذا الإعجابُ وتلكم الحفاوة ؟!
نعم .. لكِ أن تستفيدي من الحكمة بغض النظر عن قائلها، و( الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها ) .
لكنّ هذا شيء، والإعجاب بنتاجهم مع غض الطرف عماجاء في الكتاب والسنة وتراث المسلمين شيء آخر !
أقول :
وصايا لقمانَ ومواعظُه درس بليغ لكل مشفق على من حوله ، الوالدان في بيتهما ... المعلمة مع طالباتها ..الأخت مع أخواتها وإخوانها ، بل وكل أحد لا يستغني عن الأخذ بهذه الوصايا ..
يقول تعالى ( ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد )
لما آتى الرب جل وعلا لقمانَ الحكمة؛ وهي : العلم بالأحكام، ومعرفةُ ما فيها من الأسرار ، وهي تستلزم العلم والعمل . . أمره أن يشكره على أن جعله حكيما، وعلى أن آتاه الحكمة .. وأخبره أن شكره لنفسه، وإلا فإن الله غني عن العالمين كماقال تعالى ( إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم ).
تلاحظين - أيتها المباركة - أن هذه النعمة وهي ( الحكمة ) هي في أصلها معنوية ، فليست محسوسة ، ومع ذلك عظم الله شأنها فقال ( ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا). .
الناس اليوم يتولعون بالمتع الحسية، وقليل منهم من يحفل بالمتع المعنوية ؛ كلذة العلم والحكمة والإيمان .
إنه متى ما استطعت أختي المباركةَ أن تُولي المتع الإيمانية والعقلية اهتماما بارزا في حياتك، فإنك ستعبرين عن شخصية متفوقة ، شخصيةٍ لا تلهث كثيرا وراء الشكليات مهملةً اللبَّ والمضمون .
نعم .. ركّب الله في طبيعة المرأة حُب الزينة والاهتمام بالجمال، ولا تلام في اهتمامها بذلك، فهي جبلةٌ جبلها الله عليها، لكن أن يكون ذلك هو منتهى علمِها، وأساسُ تقييمنا لها، فتلك هي المشكلة .
المرأة في الإسلام لا تُختزل شخصيتُها في جمال الصورةِ فحسب، وإنما قبل ذلك في جمال الروح والعقلِ والأدب والخُلق.
الحكمة ..عملة نادرة ، وتشتد الحاجة لها عندما تدلهم الأمور ويخفى وجه الحقيقة حينئذ يتميز الحكماء، فيدلون الناس إلى ما يهديهم للصواب، ويجنبهم الآفات .
ليس تحصيل الحكمة بالأمر السهل، فهي بالمقام الأول عطية ربانية ، وقد تُكتسب بالمِران وخوضِ غِمار التجارب .
ولِتستشعرن - رعاكنّ اللهُ - أهميةَ الحكمة في حياتنا تأملوا في حال بيوتنا ..
البيت الذي لا يوجد فيه حكيم تجده يعيش تخبطا مُريعا، وعشوائية وفوضى .. الكل يقرر .. والكل يخطط .!!
وفي نهاية المطافِ مشاكلُ تتراكم، ومصائبُ تتعقد !


أيضا .. من الحكمة - أخواتي - أن لا نطيل الشكوى أمام أوضاعنا، وأن ننتقل من دائرة الهم إلى دائرة الاهتمام حتى نرتقي .
بدلا من أن تلعن الظلام أوقد ما تستطيع من الشموع .
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم النساء كما في حديث جابر عند الإمام مسلم .. أمرهن بالصدقة، وأخبر أنه أريَ النارَ فوجد أكثر أهلها النساء !! فقالت إحداهن يارسول الله ولم : فقال : ( تُكثرن الشَّكاة، وتكفرن العشير ).
كثرة الشكوى تُذهب السعادة، وربنا تعالى يقول (.. إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لايشكرون ) . إن مصدر شقاء الكثير من الناس اليوم أنهم يجرون وراء المفقود، وينسون شكر الموجود !
أنهم يشترطون للسعادة شروطا كثيرة، فإذا حصل كذا وكذا وكذا سعدت !
وقد وجه النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى وصفة علاجية عظيمة تقي من كفر النعم فقال صلى الله عليه وسلم : ( انظروا إلى من أسفلَ منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدرُ ألا تزدروا نعمة الله ). رواه مسلم ، وهذا في أمر الدنيا، وأما في أمر الدين والعلم فينبغي أن ننظر إلى من هو أرفعُ لنقتدي به .


من مقتضيات الحكمة أيضا أخواتي الكريمات .. أن نكون أوفياء لمن أحسن إلينا، وقد كان صلى الله عليه وسلم وفيا مع القاصي والداني ، ووفى لزوجه خديجة رضي الله عنها فكان يذكرها دائما بخير حتى بعد وفاتها، ولما قالت له أمنا السيدة عائشة رضي الله عنها وقد غارت منها : ما أكثر ما تذكرُها!! قد أبدلك الله عز وجل بها خيراً منها .
قال : ما أبدلني اللهُ عز وجل خيرا منها ؛ قد آمَنَتْ بي إذ كفر بي الناس ، وصدقتني إذ كذبني الناس ، وواستني بمالها إذ حرمني الناس ، ورزقني الله عز وجل ولدها إذ حرمني أولاد النساء . رواه الإمام أحمد .
ومن وفائه صلى الله عليه وسلم لها أنه كان يشتري الشاة فيذبحها ثم يبعث بها لصواحبِ خديجة رضي الله عنها.


ثم قال تعالى ( وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يابُني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم )
هذه أول الوصايا :
تلاحظين هنا - أختي الكريمة- أن لقمان الحكيم قام مع ابنه بدور الواعظ ؛ وفي الآية ( وهو يعظه ) والوعظ هو : القول المقرون بالترغيب والترهيب، وهذا الدور؛ أعني دور الوعظ هو أسلوب مهم في التوجيه وغرس القيم، وقد أمر الله تعالى به نبيه لدعوة المعرضين عن الحق فقال تعالى ( أولئك الذين يعلم الله مافي قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا ).
والمواعظ إذا خرجت من قلب صادق لاقت بإذن الله قبولا مباركا، وحين نعظ الآخرين فإننا نُحرِّك كوامنَ نفوسهم، ونستجيشُ عواطفهَم للخير والحق ، كما كان نبينا صلى الله عليه وسلم يتخول أصحابه بالموعظة . عند البخاري من حديث ابن مسعود.
وقبل أن نعظ الآخرين لنعظْ أنفسنا أولا، ولندقق في أخطائنا.
البعض يُسلِّط أضواءَ نقدِه دائما على الآخرين وينسى نفسه، وهذا من الخذلان ! وربنا تبارك وتعالى يقول ( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون ) .
وأيضا.. ففي هذه الآية الكريمة .. لقمان تلطف مع ابنه بمناداته بـ ( يا بُني ). تصغير ( ابن ) والتصغيرُ فيه لتنزيل المخاطب الكبير منزلة الصغير كناية عن الشفقة به والتحبب له .
والتلطف والتودد أسلوب تربوي نحن اليومَ في أمس الحاجة إليه مع الآخرين، ولا سيما إذا أردنا دعوتهم وتوجيههم .
وقد كان صلى الله عليه وسلم يصنع هذا ، وذلك مثلا لما قال لمعاذبن جبل رضي الله عنه عندما أراد أن يوصيه أَخَذَ بِيَدِهِ وَقَالَ : ( يَا مُعَاذُ ! وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ ... أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ : لَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ تَقُولُ : اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ ) رواه أبو داود (1522) قال النووي في "الأذكار" (ص/103): إسناده صحيح . وقال الحافظ ابن حجر في "بلوغ المرام" (ص/96): إسناده قوي. وصححه الألباني في "صحيح أبي داود".
وفي إحدى روايات الحديث – كما عند البخاري في "الأدب المفرد" (1/239) وصححها الألباني في "صحيح الأدب المفرد" – أن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم : ( وأنا والله أحبك ) .
هذا الفيض من المشاعر الصادقة هو البوابة لقبول التوجيه والنصح، وأما الفض الغليظ فلا يمكن أن تَجتمع حوله القلوب ، ولا أنْ تُرفرفَ حوله الأفئدة، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم، وهو النبي صلى الله عليه وسلم قد قال الله فيه وله ( ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ..) فمابالكِ بمن دونه ؟!
بيوتُ عدد منا اليوم تعيش قحطا وفقرا في المشاعر !!
وهذا ربما كان سببا دفع البعض لامتهان التسول العاطفي عبر وسائل التواصل المختلفة ، وربما قاد لنتائجَ خطيرة مدمرة .
لذا علينا أن نشيع في بيوتنا وبين أهلينا وصداقاتنا لغة الود والصفاء والصدق ، ليسود التراحم والعطف، فتهدأ النفوس.
لماذا يُسمح في بعض بيوتنا لأن ينتشر التنابز بالألقاب بين الإخوة ، فتجد أن لديهم قائمةً عريضةً بأسماء الحيوانات والجمادات ووو وكلها للاحتقار والازدراء !!
كيف نريد بعد ذلك أن نمد جسور التواصل مع من حولنا، وأن نبني الثقة فيهم .
وقد كان إمام الحنفاء؛ إبراهيمُ عليه السلام يتودد إلى أبيه داعيا إياه إلى التوحيد فيردد بأدبٍ جمٍ ( ياأبت لم تعبد مالا يسمع ولايبصر ولا يغني عنك شيئا) !!( ياأبت إني قد جاءني من العلم مالم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا)..( يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا).. ( ياأبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا).
تأملوا أخواتي في روعة هذا الخطاب الدعوي الرفيعِ عن التعالي والتكبر!
هنا .. لقمان الحكيم يعظ ابنه بأولِ المواعظِ وأهمِّها على الإطلاق، .فيقول له ( يابني لاتشرك بالله ). أمره أن يُقلع عن الشرك بالله؛ لأن النفس المعرّضة للتزكية والكمال يجب أن يُقدّم لها قبل ذلك تخليتُها عن مبادئ الفساد والضلال ، فإن إصلاح الاعتقاد أصل لإصلاح العمل . ثم علل النهي عن الشرك وعظّم أمره فقال ( إن الشرك لظلم عظيم ) نعم هو عظيم لأنه لا أفظعُ ممن سوّى المخلوق من ترابٍ بمالك الرقاب !!
ومن هذه الوصية -أخواتي في الله- نستلهم درسا في أهمية ترتيب الأولويات،فهو لم يبدأه مثلا بوصيته بالأدب مع الخلق كما في آخر الوصايا في قوله سبحانه ( ولا تُصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا..)، وإنما بدأه ببيان حق الخالق جل وعلا .. فينبغي أن نبدأ بالأهم فالمهم، ونُعطي الأمورَ قدرها ، وأيضا أن نُعنى في خطابنا باالحوار والإقناع ، فلا يكفي أن نأمر وننهى فقط، بل أن نحاور بجدارة لنصل إلى غرس القناعات .. وهذا بيّن في قول لقمان لابنه بعد أن نهاه عن الشرك علل نهيه له وهوّلَ من شأن ماحذر منه فقال ( إن الشرك لظلم عظيم ).
واليوم .. غدا وعي جمهور الناس مرتفعا، بحكم الانفتاح وانتشار العلم فلا بد أن نهتم بهذا الجانب .
ثم قال الله تعالى على لسان لقمان ( ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير ).( وإن جاهداك على أن تُشرك بي ماليس بك علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون ).
هنا بعد حق الله تعالى وهو التوحيد وصى لقمانُ ابنَه بوصيةِ الله ( ووصينا الإنسان بوالديه ..) ودائما يقرن ربنا تعالى حقه العظيمُ بحق الوالدين ؛ وذلك لعظم مكانتهما وحقهما .
ثم ذكر تعالى حال الأم تحديدا، لأنها الأعظمُ حقا ... عندما حملت في بطنها هذا الجنين تسعة أشهر، وكابدت المشاق ( حملته أمه وهنا على وهن ) ضعفا على ضعف ، لأن الحمل كلما عظُم ازدادت الأمُ ثِقَلا وضعفا . ( وفصاله ) أي : فطامه ( في عامين ) هنا الله تعالى يُذكِّر بعظيم حق الأم ليكون ذلك دافعا لدى الأبناء أن يبرَّوا بأمهاتهم وآبائهم .
ثم أمر تعالى الإنسان بالشكر مرة أخرى فقال ( أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير ) اشكر لي بالقيام بعبوديتي وأداء حقوقي، وأن لا تستعين بنعمي على معصيتي. وقال ( ولوالديك ) أي : بالإحسان إليهما كما قال تعالى ( إما يبلغن عندك الكبرَ أحدُهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ).

أبو زياد التميمي
moabt1982@gmail.com