تخيل مبعوثا إلى قرية يركب خيلا تجري به في أرض واسعة ...
و السوط معلق على خصره ينغزه كلما تحركت الخيل ...
فقابل مفترق طرق ...
الطريق الأول : إلى حديقة غناء و ثم إلى القرية التي بعث إليها ...
و الثاني : إلى غابة ظلماء ...
فاشتغل بـأكل تفاحة وجدها في طريقه ...
فإذا بالخيل تدخل تلك الغابة الظلماء ...
و إذا بفروع أشجارها تلطمه في وجهه اللطمة تلو الأخرى ...
و لا يزال يملك لنفسه أن يعود إلى الطريق الثاني المضيء و أن يعيد توجيه الخيل ...
و لا يزال نغز السوط في خاصرته و ضوء الطريق الثاني يذكرانه بمهمته ...
و لا يزال عقله يذكره أنه بعث لشيء ينبغي أن يدركه ...
و لا يزال تجرحه الفروع حتى تكاد تهلكه ...
و إذا بواد سحيق أمامه يكاد يقع فيه !
هكذا تصور مسألة القدر و الاختيار و الهداية و الإضلال ...
فبعثه إلى القرية = الغاية التي خلق من أجلها ...
السوط الذي يلازم الراكب و ينغزه = الفطرة و حوافز الخير و هداية الإرشاد ...
و الأرض الواسعة = الدنيا بما فيها ...
و الطريقان = طريق المعصية و طريق الطاعة ...
و التفاحة التي شغلته = ملهيات الدنيا و مشاغلها ...
و فروع الأشجار = تسلسل الإضلال و ما تجره المعصية من معاصي عقاباً على المعصية الأولى ...
و ندوب المعاصي و آثارها = ما يصيب القلب ...
و الهلاك الذي يخشاه من تلك الآثار و الجروح = ران القلب إن تكاثرت المعاصي ...
و أما الوادي العميق = الموت أو القيامة الكبرى ...
و الله أعطاه الخيل و السوط و هداه النجدين، فإن عاقبه و أضله فبعدله و بما اكتسبت يداه، و إن هداه فبرحمته بأن جعل له فطرة تدفعه إلى الحق و خلق له دواعي الخير .
فإن قيل : ما ذنب الراكب أن دخلت خيله الغابة الظلماء دون قصد منه - المعصية الأولى التي جرت ما خلفها - ؟
فنقول : ذنبه أن لم يرجعها الى طريق الضياء -لم يتب- ، و ذنبه أنه حين رأى الطريقين، انشغل عنهما بما هو مباح في ذاته - الثمرة - مما دل على لا مبالاته و نسيانه ما بعث من أجله - خلو قلبه من الاخلاص و طلب الخير - ، و عدم المبالاة هذا ليس مما أجبره عليه أحد أو دفعه إليه غيره - العدم ليس مخلوقا -، و استحق به أن يلام على تقصيره الذي أدخله تلك الغابة .
فإن قيل : فلم يرسله مبعوثا من يعلم أنه سينسى غاية إرساله و سيجد الغابة في وجهه حال نسيانه و انشغاله بالثمرة ؟*فنقول : لو كان باعثه لا يعلم مآله لما لمته،فكيف تلومه لكمال علمه ، أويجب عليه أن يجهل كي يكون عادلا ؟ و إنما تلومه لو كان علمه سائقا لا سابقا ، فإنما علم مسبقا ما سيقع باختيار و إرادة هذا المبعوث الذي ضل السبيل باكتساب يده .
فإن قيل : و لم يعطيه خيلا و سوطا من يعلم أنهما لن ينفعاه ؟ أولا ينبهه و يدفعه إلى الطريق الصحيح و هو قادر على ذلك ؟قيل : لا ندري و ليس من شأننا - حكمة الله يجعل هدايته فيمن يشاء - ، و لكنن لم يمنعه حقا له ، و قد كفاه ما يقيم به عليه الحجة من سوط و عقل و نور درب الحق ، فلا أحد يلام إلا المبعوث المهمل، و لم يجبره أحد على ما فعل و لم يلجأه غيره إليه، و هذا هو المطلوب ..
أرجو أن تكون تبسيطا لبعض مسائل القدر ، كتبته منذ مدة و أرجو من الأخوة نقدا بناء يفيد في زيادة نحت المثال ...