تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثانى
صـ 211 الى صـ 215
الحلقة (41)
وقوله تعالى : فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه من قبيل التمثيل، وإظهار الأمر في أقبح صورة ، أي بلغ من أمر ما يتعلمونه من ضروب الحيل ، وطرق الإفساد ، أن يتمكنوا به من التفريق بين أعظم مجتمع : كالمرء وزوجه .
والخلاصة : أن معنى الآية من أولها إلى آخرها هكذا : أن اليهود كذبوا القرآن [ ص: 211 ] ونبذوه وراء ظهورهم ، واعتاضوا عنه بالأقاصيص والخرافات التي يسمعونها من خبثائهم عن سليمان وملكه . وزعموا أنه كفر ، وهو لم يكفر . ولكن شياطينهم هم الذين كفروا ، وصاروا يعلمون الناس السحر ، ويدعون أنه أنزل على هاروت وماروت ، اللذين سموهما ملكين ، ولم ينزل عليهما شيء ، وإنما كانا رجلين يدعيان الصلاح لدرجة أنهما كانا يوهمان الناس أنهما لا يقصدان إلا الخير ، ويحذرانهم من الكفر . وبلغ من أمر ما يتعلمونه منهما من طرق الحيل والدهاء أنهم يفرقون به بين المجتمعين ، ويحلون به عقد المتحدين . فأنت ترى من هذا أن المقام كله للذم ، فلا يصح أن يرد فيه مدح هاروت وماروت . والذي يدل على صحة ما قلناه فيهما أن القرآن أنكر نزول أي ملك إلى الأرض ليعلم الناس شيئا من عند الله ، غير الوحي إلى الأنبياء ، ونص نصا صريحا أن الله لم يرسل إلا الإنس لتعليم بني نوعهم فقال : وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون وقال منكرا على من طلب إنزال الملك : وقالوا لولا أنـزل عليه ملك ولو أنـزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون وقال في سورة الفرقان : وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنـزل إليه ملك فيكون معه نذيرا -إلى قوله- فضلوا فلا يستطيعون سبيلا
وللقصاص في هاروت وماروت أحاديث عجيبة . فزعموا أنهما كانا ملكين من الملائكة ، وأنهما لما نظرا إلى ما يصنع أهل الأرض من المعاصي ، أنكرا ذلك وأكبراه ودعوا على أهل الأرض . فأوحى الله تعالى إليهما : إني لو ابتليتكما بما ابتليت به بني آدم من الشهوات لعصيتماني ، فقالا : يا رب ، لو ابتليتنا لم نفعل ، فجربنا . فأهبطهما إلى الأرض ، وابتلاهما الله بشهوات [ ص: 212 ] بني آدم ، فمكثا في بلدة كانت فيها فاجرة تسمى "الزهرة" فدعواها إلى الفاحشة وواقعاها بعد أن شربا الخمر ، وقتلا النفس وسجدا للصنم. وعلماها الاسم الأعظم ، الذي كانا به يعرجان إلى السماء ، فتكلمت المرأة بذلك الاسم ، وعرجت إلى السماء ، فمسخها الله تعالى ، وصيرها هذا الكوكب المسمى بالزهرة . ثم إن الله تعالى عرف هاروت وماروت قبيح ما فيه وقعا ، ثم خيرهما بين عذاب الآخرة آجلا ، وبين عذاب الدنيا عاجلا ، فاختارا عذاب الدنيا ، فجعلهما ببابل منكوسين في بئر إلى يوم القيامة ، وهما يعلمان الناس السحر ، ويدعوان إليه ، ولا يراهما أحد إلا من ذهب إلى ذلك الموضع لتعلم السحر خاصة .
وهذه القصة من اختلاق اليهود وتقولاتهم . ولم يقل بها القرآن قط ، وإنما ذكرها التلمود ، كما يعلم من مراجعة "مدارس يدكوت" في الإصحاح الثالث والثلاثين ، وجاراه جهلة القصاص من المسلمين ، فأخذوها منه .
قال الرازي في تفسيره : إن القصة التي ذكروها باطلة من وجوه :
أحدها : أنهم ذكروا في القصة أن الله تعالى قال لهما (أي لهاروت وماروت) : لو ابتليتكما بما ابتليت به بني آدم لعصيتماني ، فقالا : لو فعلت ذلك بنا يا رب لما عصيناك ، وهذا منهم تكذيب لله تعالى ، وتجهيل له ، وذلك من صريح الكفر .
وثانيها : أنهما خيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، وذلك فاسد ، بل كان الأولى أن يخيرا بين التوبة وبين العذاب ، والله تعالى خير بينهما من أشرك به طول عمره ، وبالغ في إيذاء أنبيائه .
وثالثهما : أن من أعجب الأمور قولهم : إنهما يعلمان السحر ، في حال كونهما معذبين ويدعوان إليه ، وهما يعاقبان .
وهكذا ، الإمام أبو مسلم احتج على بطلان نزول السحر عليهما أيضا بوجوه:
الأول : أن السحر لو كان نازلا عليهما لكان منزله هو الله ، وذلك غير جائز ; لأن السحر كفر وعبث لا يليق بالله تعالى إنزال ذلك .
[ ص: 213 ] الثاني : أن قوله : ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر يدل على أن تعليم السحر كفر . فلو ثبت في الملائكة أنهم يعلمون السحر لزمهم الكفر . وذلك باطل .
الثالث : كما لا يجوز في الأنبياء أن يبعثوا لتعليم السحر ، فكذلك في الملائكة بطريق الأولى .
الرابع : إن السحر لا ينضاف إلا إلى الكفرة والفسقة والشياطين المردة ، وكيف يضاف إلى الله ما ينهى عنه ويتوعد عليه بالعقاب ؟ وهل السحر إلا الباطل المموه ؟ وقد جرت عادة الله بإبطاله ، كما قال في قصة موسى عليه السلام : ما جئتم به السحر إن الله سيبطله انتهى .
وقد ساق الرازي ما ارتآه أبو مسلم في تفسير هذه الآية . ولم نشأ نقله لبعده عن الصواب . وهكذا ما ذكره الإمام ابن حزم في كتابه (الفصل) في بحث (عصمة الملائكة) ففيه تكلف وتمحل غريب ، كما يعلم بمراجعتهما .
وللراغب الأصفهاني احتمالات في تصحيح القصة ، وتجويزات عجيبة تنبو عن الحق الصراح الذي آثرنا نقله أولا عن بعض المحققين . والله أعلم .
واعلم أن لفظ السحر ، في عرف الشرع ، مختص بكل أمر يخفى سببه ، ويتخيل على غير حقيقته ، ويجري مجرى التمويه والخداع ، ومتى أطلق ولم يقيد ، أفاد ذم فاعله ، قال تعالى سحروا أعين الناس يعني موهوا عليهم حتى ظنوا أن حبالهم وعصيهم تسعى . وقد [ ص: 214 ] يستعمل مقيدا فيما يمدح ويحمد ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن أهتم : « إن من البيان لسحرا » ، لأن صاحبه يوضح الشيء المشكل ، ويكشف عن حقيقته بحسن بيانه ، وبليغ عبارته . وبالجملة، فالسحر المطلق إنما هو تخييل بشعوذة صارفة للأبصار ، أو تمتمة مزخرفة عائقة للأسماع ، فلا يغير حقائق الأشياء ، ولا ينقل الصور . وقوله تعالى : وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله قال الراغب : الإذن قد يقال في الإعلام بالرخصة ، ويقال للعلم ، ومنه آذنته بكذا ، ويقال للأمر الحتم . وينبغي أن يعلم أن الإذن في الشيء من الله تعالى ضربان :
أحدهما : الإذن لقاصد الفعل في مباشرته . نحو قولك : أذن الله لك أن تصل الرحم .
والثاني : الإذن في تسخير الشيء على وجه تسخير السم في قتله من يتناوله ، والترياق في تخليصه من أذيته . فإذن الله تعالى في وقوع التسخير وتأثيره من القبيل الثاني ، وذلك هو المشار إليه بالقضاء ، وعلى هذا يقال : "الأشياء كلها بإذن الله وقضائه" . ولا يقال : الأشياء كلها بأمره ورضاه . وقوله تعالى "ويتعلمون ما يضرهم" إرشاد إلى أن ليس في تعلم السحر إلا المضرة ، لما فيه من التلبيس والتمويه ، وإيهام الباطل حقا ، والتوصل به إلى المفاسد والشرور . وقوله سبحانه "ولا ينفعهم" صرح به إيذانا بأنه ليس من الأمور المشوبة بالنفع والضرر ، بل هو شر بحت ، وضرر محض . وقوله تعالى "ولقد علموا" أي اليهود الذي حكيت ضلالاتهم . وقوله "لمن اشتراه" أي استبدل ما تتلو الشياطين بكتاب الله ، والحق الذي أنزله . وقوله "ما له في الآخرة من خلاق" أي نصيب ، لإقباله على التمويه والكذب ، واستعمال [ ص: 215 ] ذلك في اكتساب حطام الدنيا وتمتعاتها . وفيه إشارة إلى أن اختيارهم للسحر، ليس من جهلهم بضرره ، بل أتوا ما أتوا عن علم بعاقبته السوأى .
وقوله تعالى : ولبئس ما شروا به أنفسهم أي ما باعوا به حظهم الأخروي ، حتى كأنهم أتلفوا أنفسهم ، وإنما نفى عنهم العلم بقوله "لو كانوا يعلمون" مع إثباته لهم على سبيل التوكيد القسمي بقوله "ولقد علموا"- لأن معناه لو كانوا يعملون بعلمهم . فجعلهم غير عالمين ، لعدم عملهم بموجب علمهم . ولما بين سبحانه ما عليهم فيما ارتكبوا من المضار أتبعه ما في الإعراض عنه من المنافع فقال :
القول في تأويل قوله تعالى :
[103 ] ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون
"ولو أنهم آمنوا" أي بما دعوا إليه من القرآن الحكيم "واتقوا" أي ما يؤثمهم ، ومنه السحر والتمويه وقوله "لمثوبة من عند الله خير" جواب "لو" ، وأصله : لأثيبوا مثوبة من عند الله خيرا مما شروا به أنفسهم . فحذف الفعل وغير السبك إلى ما عليه النظم الكريم ، دلالة على ثبات المثوبة لهم والجزم بخيريتها ، وحذف المفضل عليه إجلالا للمفضل من أن ينسب إليه ، وقوله تعالى "لو كانوا يعلمون" أي أن ثواب الله خير . وإنما نسبوا إلى الجهل لعدم العمل بموجب العلم .