شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ...
شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ...
آمين وفيكم بارك
جزاكم الله خيرا
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
المجلد الثانى
الحلقة (21)
من صــ 381 الى صــ 387
يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ شَرًّ فِي الْعَالَمِ لَا يَخْرُجُ عَنْ قِسْمَيْنِ إمَّا أَلَمٌ وَإِمَّا سَبَبُ الْأَلَمِ وَسَبَبُ الْأَلَمِ مِثْلُ الْأَفْعَالِ السَّيِّئَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْعَذَابِ وَالْأَلَمِ الْمَوْجُودِ لَا يَكُونُ إلَّا لِنَوْعِ عَدَمٍ فَكَمَا يَكُونُ سَبَبُهُ تَفَرُّقُ الِاتِّصَالِ؛ وَتَفَرُّقُ الِاتِّصَالِ هُوَ عَدَمُ التَّأْلِيفِ وَالِاتِّصَالِ الَّذِي بَيْنَهُمَا وَهُوَ الشَّرُّ وَالْفَسَادُ.
وَأَمَّا سَبَبُ الْأَلَمِ فَقَدْ قَرَّرْت فِي " قَاعِدَةٍ كَبِيرَةٍ " أَنَّ أَصْلَ الذُّنُوبِ هُوَ عَدَمُ الْوَاجِبَاتِ لَا فِعْلَ الْمُحَرَّمَات وَأَنَّ فِعْلَ الْمُحَرَّمَاتِ إنَّمَا وَقَعَ لِعَدَمِ الْوَاجِبَاتِ فَصَارَ أَصْلُ الذُّنُوبِ عَدَمَ الْوَاجِبَاتِ وَأَصْلُ الْأَلَمِ عَدَمَ الصِّحَّةِ؛ وَلِهَذَا {كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُهُمْ فِي خُطْبَةِ الْحَاجَةِ أَنْ يَقُولُوا:
وَنَعُوذ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا} فَيَسْتَعِيذُ مِنْ شَرِّ النَّفْسِ الَّذِي نَشَأَ عَنْهَا مِنْ ذُنُوبِهَا وَخَطَايَاهَا وَيَسْتَعِيذُ مِنْ سَيِّئَاتِ الْأَعْمَالِ الَّتِي هِيَ عُقُوبَاتُهَا وَآلَامُهَا؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ: {وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا} قَدْ يُرَادُ بِهِ السَّيِّئَاتُ فِي الْأَعْمَالِ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْعُقُوبَاتُ؛ فَإِنَّ لَفْظَ السَّيِّئَاتِ فِي كِتَابِ اللَّهِ يُرَادُ بِهِ مَا يَسُوءُ الْإِنْسَانَ مِنْ الشَّرِّ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْأَعْمَالُ السَّيِّئَةُ قَالَ تَعَالَى: {إنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ}.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ شَرَّ النَّفْسِ هُوَ الْأَعْمَالُ السَّيِّئَةُ فَتَكُونُ سَيِّئَاتُ الْأَعْمَالِ هِيَ الشَّرُّ وَالْعُقُوبَاتُ الْحَاصِلَةُ بِهَا فَيَكُونُ مُسْتَعِيذًا مِنْ نَوْعَيْ السَّيِّئَاتِ: الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ وَعُقُوبَاتِهَا كَمَا فِي الِاسْتِعَاذَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا فِي الصَّلَاةِ: {أَعُوذُ بِك مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ} فَأَمَرَنَا بِالِاسْتِعَاذَ ةِ مِنْ الْعَذَابِ عَذَابِ الْآخِرَةِ وَعَذَابِ الْبَرْزَخِ وَمِنْ سَبَبِ الْعَذَابِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ وَفِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ وَذَكَرَ الْفِتْنَةَ الْخَاصَّةَ بَعْدَ الْفِتْنَةِ الْعَامَّةِ فِتْنَةِ الْمَسِيح الدَّجَّالِ فَإِنَّهَا أَعْظَمُ الْفِتَنِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {مَا مِنْ خَلْقِ آدَمَ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ فِتْنَةٍ أَعْظَمَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ}.
(الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3)
(فَصْلٌ)
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:
وَقَوْلُهُ {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} جَعَلَهُ ثَنَاءً. وَقَوْلُهُ {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} جَعَلَهُ تَمْجِيدًا. وَقَوْلُهُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} حَمْدٌ مُطْلَقٌ. فَإِنَّ " الْحَمْدَ " اسْمُ جِنْسٍ وَالْجِنْسُ لَهُ كَمِّيَّةٌ وَكَيْفِيَّةٌ؛ فَالثَّنَاءُ كَمِّيَّتُهُ. وَتَكْبِيرُهُ وَتَعْظِيمُهُ كَيْفِيَّتُهُ وَ " الْمَجْدُ " هُوَ السَّعَةُ وَالْعُلُوُّ فَهُوَ يُعَظِّمُ كَيْفِيَّتَهُ وَقَدْرَهُ وَكَمِّيَّتَهُ الْمُتَّصِلَةَ وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا وَصْفٌ لَهُ بِالْمِلْكِ. وَ " الْمِلْكُ " يَتَضَمَّنُ الْقُدْرَةَ وَفِعْلَ مَا يَشَاءُ وَ {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وَصْفٌ بِالرَّحْمَةِ الْمُتَضَمِّنَة ِ لِإِحْسَانِهِ إلَى الْعِبَادِ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ أَيْضًا وَالْخَيْرُ يَحْصُلُ بِالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ الرَّحْمَةَ.
فَإِذَا كَانَ قَدِيرًا مُرِيدًا لِلْإِحْسَانِ: حَصَلَ كُلُّ خَيْرٍ وَإِنَّمَا يَقَعُ النَّقْصُ لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ أَوْ لِعَدَمِ إرَادَةِ الْخَيْرِ " فَالرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ الْمَلِكُ " قَدْ اتَّصَفَ بِغَايَةِ إرَادَةِ الْإِحْسَانِ وَغَايَةِ الْقُدْرَةِ؛ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِهِ خَيْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
(مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)
(فَصْلٌ)
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:
وَقَوْلُهُ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} مَعَ أَنَّهُ " مَلِكُ الدُّنْيَا " لِأَنَّ يَوْمَ الدِّينِ لَا يَدَّعِي أَحَدٌ فِيهِ مُنَازَعَةً وَهُوَ الْيَوْمُ الْأَعْظَمُ فَمَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إلَّا كَمَا يَضَعُ أَحَدُكُمْ إصْبَعَهُ فِي الْيَمِّ فَلْيَنْظُرْ بِمَ يَرْجِعُ وَ " الدِّينُ " عَاقِبَةُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَقَدْ يَدُلُّ بِطَرِيقِ التَّنْبِيهِ وَبِطْرِيقِ الْعُمُومِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ: عَلَى مِلْكِ الدُّنْيَا فَيَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَرْحَمَ وَرَحْمَتُهُ وَإِحْسَانُهُ وَصْفٌ لَهُ يَحْصُلُ بِمَشِيئَتِهِ وَهُوَ مِنْ " الصِّفَاتِ الِاخْتِيَارِيّ َةِ ".
وَفِي الصَّحِيحِ " {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ الِاسْتِخَارَةَ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا كَمَا يُعَلِّمُهُمْ السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ يَقُولُ: إذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالْأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ ثُمَّ لِيَقُلْ:
اللَّهُمَّ إنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِك وَأَسْتَقْدِرُك بِقُدْرَتِك وَأَسْأَلُك مِنْ فَضْلِك الْعَظِيمِ فَإِنَّك تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ وَأَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ اللَّهُمَّ إنْ كُنْت تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ - وَيُسَمِّيهِ بِاسْمِهِ - خَيْرًا لِي فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي: فَاقْدُرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ لِي ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ؛ وَإِنْ كُنْت تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ وَاقْدُرْ لِي الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ} ".
فَسَأَلَهُ بِعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَمِنْ فَضْلِهِ وَفَضْلُهُ يَحْصُلُ بِرَحْمَتِهِ وَهَذِهِ الصِّفَاتُ هِيَ جِمَاعُ صِفَاتِ الْكَمَالِ لَكِنَّ " الْعِلْمَ " لَهُ عُمُومُ التَّعَلُّقِ: يَتَعَلَّقُ بِالْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ وَالْمَوْجُودِ وَالْمَعْدُومِ؛ وَأَمَّا " الْقُدْرَةُ " فَإِنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِالْمَخْلُوقِ؛ وَكَذَلِكَ " الْمُلْكُ " إنَّمَا يَكُونُ مُلْكًا عَلَى الْمَخْلُوقَاتِ . " فَالْفَاتِحَةُ " اشْتَمَلَتْ عَلَى الْكَمَالِ فِي " الْإِرَادَةِ " وَهُوَ الرَّحْمَةُ وَعَلَى الْكَمَالِ فِي " الْقُدْرَةِ " وَهُوَ مُلْكُ يَوْمِ الدِّينِ وَهَذَا إنَّمَا يَتِمُّ " بِالصِّفَاتِ الِاخْتِيَارِيّ َةِ " كَمَا تَقَدَّمَ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)
(فَصْلٌ: الْعِبَادَةُ)
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - بَعْدَ كَلَامٍ سَبَقَ -:
" الْعِبَادَةُ " هِيَ اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ: مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ فَالصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ وَالصِّيَامُ وَالْحَجُّ وَصِدْقُ الْحَدِيثِ وَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ؛ وَبِرُّ الْوَالِدَيْنِ وَصِلَةُ الْأَرْحَامِ وَالْوَفَاءُ بِالْعُهُودِ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ. وَالْجِهَادُ لِلْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِي نَ وَالْإِحْسَانُ إلَى الْجَارِ وَالْيَتِيمِ وَالْمِسْكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَالْمَمْلُوكِ مِنْ الْآدَمِيِّينَ وَالْبَهَائِمِ وَالدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ وَالْقِرَاءَةِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَادَةِ. وَكَذَلِكَ حُبُّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَخَشْيَةُ اللَّهِ وَالْإِنَابَةُ إلَيْهِ.
وَإِخْلَاصُ الدِّينِ لَهُ وَالصَّبْرُ لِحُكْمِهِ وَالشُّكْرُ لِنِعَمِهِ وَالرِّضَا بِقَضَائِهِ؛ وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ؛وَالرّ َجَاءُ لِرَحْمَتِهِ وَالْخَوْفُ لِعَذَابِهِ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ هِيَ مِنْ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ. وَذَلِكَ أَنَّ الْعِبَادَةَ لِلَّهِ هِيَ الْغَايَةُ الْمَحْبُوبَةُ لَهُ وَالْمَرْضِيَّة ُ لَهُ الَّتِي خَلَقَ الْخَلْقَ لَهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى:
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ} وَبِهَا أَرْسَلَ جَمِيعَ الرُّسُلِ كَمَا قَالَ نُوحٌ لِقَوْمِهِ: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرُهُ} وَكَذَلِكَ قَالَ هُودٌ وَصَالِحٌ وَشُعَيْبٌ وَغَيْرُهُمْ لِقَوْمِهِمْ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلَّا نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى:
{يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}. وَجَعَلَ ذَلِكَ لَازِمًا لِرَسُولِهِ إلَى الْمَوْتِ كَمَا قَالَ: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} وَبِذَلِكَ وَصَفَ مَلَائِكَتَهُ وَأَنْبِيَاءَهُ فَقَالَ تَعَالَى:
{وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ } {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَه ُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} وَذَمَّ الْمُسْتَكْبِرِ ينَ عَنْهَا بِقَوْلِهِ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} وَنَعَتَ صَفْوَةَ خَلْقِهِ بِالْعُبُودِيَّ ةِ لَهُ فَقَالَ تَعَالَى:
{عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} وَقَالَ: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} الْآيَاتِ. وَلَمَّا قَالَ الشَّيْطَانُ: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّ هُمْ أَجْمَعِينَ} {إلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} وَقَالَ فِي وَصْفِ الْمَلَائِكَةِ بِذَلِكَ: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} إلَى قَوْلِهِ:
{وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا} {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إدًّا} {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} {أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} {إنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا} {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} وَقَالَ تَعَالَى عَنْ الْمَسِيحِ - الَّذِي اُدُّعِيَتْ فِيهِ الْإِلَهِيَّةُ وَالنُّبُوَّةُ - {إنْ هُوَ إلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إسْرَائِيلَ} وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ فَقُولُوا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ} وَقَدْ نَعَتَهُ اللَّهُ " بِالْعُبُودِيَّ ةِ " فِي أَكْمَلِ أَحْوَالِهِ فَقَالَ فِي الْإِسْرَاءِ:
{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} وَقَالَ فِي الْإِيحَاءِ: {فَأَوْحَى إلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} وَقَالَ فِي الدَّعْوَةِ: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} وَقَالَ فِي التَّحَدِّي: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} فَالدِّينُ كُلُّهُ دَاخِلٌ فِي الْعِبَادَةِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ {أَنَّ جِبْرِيلَ لَمَّا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صُورَةِ أَعْرَابِيٍّ وَسَأَلَهُ عَنْ الْإِسْلَامِ قَالَ:
أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إنْ اسْتَطَعْت إلَيْهِ سَبِيلًا. قَالَ: فَمَا الْإِيمَانُ؟ قَالَ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ. قَالَ فَمَا الْإِحْسَانُ؟ قَالَ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّك تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاك ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ هَذَا جِبْرِيلُ جَاءَكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ} فَجَعَلَ هَذَا كُلَّهُ مِنْ الدِّينِ.
وَ " الدِّينُ " يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْخُضُوعِ وَالذُّلِّ. يُقَالُ: دِنْته فَدَانَ أَيْ: ذَلَّلْته فَذَلَّ وَيُقَالُ يَدِينُ اللَّهَ وَيَدِينُ لِلَّهِ أَيْ: يَعْبُدُ اللَّهَ وَيُطِيعُهُ وَيَخْضَعُ لَهُ فَدِينُ اللَّهِ عِبَادَتُهُ وَطَاعَتُهُ وَالْخُضُوعُ لَهُ.
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
المجلد الثانى
الحلقة (22)
من صــ 388 الى صــ 394
وَ " الْعِبَادَةُ " أَصْلُ مَعْنَاهَا الذُّلُّ أَيْضًا يُقَالُ: طَرِيقٌ مُعَبَّدٌ إذَا كَانَ مُذَلَّلًا قَدْ وَطِئَتْهُ الْأَقْدَامُ. لَكِنَّ الْعِبَادَةَ الْمَأْمُورَ بِهَا تَتَضَمَّنُ مَعْنَى الذُّلِّ وَمَعْنَى الْحُبِّ فَهِيَ تَتَضَمَّنُ غَايَةَ الذُّلِّ لِلَّهِ بِغَايَةِ الْمَحَبَّةِ لَهُ فَإِنَّ آخِرَ مَرَاتِبِ الْحُبِّ هُوَ التَّتْمِيمُ وَأَوَّلُهُ " الْعَلَاقَةُ " لِتَعَلُّقِ الْقَلْبِ بِالْمَحْبُوبِ ثُمَّ " الصَّبَابَةُ " لِانْصِبَابِ الْقَلْبِ إلَيْهِ ثُمَّ " الْغَرَامُ " وَهُوَ الْحُبُّ اللَّازِمُ لِلْقَلْبِ ثُمَّ " الْعِشْقُ " وَآخِرُهَا " التَّتْمِيمُ " يُقَالُ: تَيْمُ اللَّهِ أَيْ: عَبْدُ اللَّهِ فَالْمُتَيَّمُ الْمُعَبَّدُ لِمَحْبُوبِهِ. وَمَنْ خَضَعَ لِإِنْسَانِ مَعَ بُغْضِهِ لَهُ لَا يَكُونُ عَابِدًا لَهُ وَلَوْ أَحَبَّ شَيْئًا وَلَمْ يَخْضَعْ لَهُ لَمْ يَكُنْ عَابِدًا لَهُ كَمَا قَدْ يُحِبُّ وَلَدَهُ وَصَدِيقَهُ وَلِهَذَا لَا يَكْفِي أَحَدُهُمَا فِي عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ أَحَبَّ إلَى الْعَبْدِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَأَنْ يَكُونَ اللَّهُ أَعْظَمَ عِنْدَهُ مَنْ كُلِّ شَيْءٍ بَلْ لَا يَسْتَحِقُّ الْمَحَبَّةَ وَالذُّلَّ التَّامَّ إلَّا اللَّهُ. وَكُلُّ مَا أُحِبَّ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَحَبَّتُهُ فَاسِدَةٌ وَمَا عُظِّمَ بِغَيْرِ أَمْرِ اللَّهِ كَانَ تَعْظِيمُهُ بَاطِلًا.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوه َا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} فَجِنْسُ الْمَحَبَّةِ تَكُونُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ كَالطَّاعَةِ؛ فَإِنَّ الطَّاعَةَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ والإرضاء لله ورسوله: {والله ورسوله أحق أن يرضوه} والإيتاء لله ورسوله: {ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله}.
وأما " العبادة " وما يناسبها من التوكل؛ والخوف؛ ونحو ذلك فلا يكون إلا لله وحده كما قال تعالى: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا} إلى قوله:
{فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون} وقال تعالى: {ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون} فالإيتاء لله والرسول كقوله: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}.
وأما الحسب وهو الكافي فهو الله وحده كما قال تعالى: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل} وقال تعالى: {يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين} أي حسبك وحسب من اتبعك الله.
ومن ظن أن المعنى حسبك الله والمؤمنون معه فقد غلط غلطا فاحشا كما قد بسطناه في غير هذا الموضع وقال تعالى: {أليس الله بكاف عبده}.
و " تحرير ذلك " أن العبد يراد به " المعبد " الذي عبده الله فذلله ودبره وصرفه وبهذا الاعتبار المخلوقون كلهم عباد الله من الأبرار والفجار والمؤمنين والكفار وأهل الجنة وأهل النار؛ إذ هو ربهم كلهم ومليكهم لا يخرجون عن مشيئته وقدرته وكلماته التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر؛ فما شاء كان وإن لم يشاءوا. وما شاءوا إن لم يشأه لم يكن كما قال تعالى: {أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون}.
فهو سبحانه رب العالمين وخالقهم ورازقهم ومحييهم ومميتهم ومقلب قلوبهم ومصرف أمورهم لا رب لهم غيره ولا مالك لهم سواه ولا خالق إلا هو سواء اعترفوا بذلك أو أنكروه وسواء علموا ذلك أو جهلوه؛ لكن أهل الإيمان منهم عرفوا ذلك واعترفوا به؛ بخلاف من كان جاهلا بذلك؛ أو جاحدا له مستكبرا على ربه لا يقر ولا يخضع له؛ مع علمه بأن الله ربه وخالقه. فالمعرفة بالحق إذا كانت مع الاستكبار عن قبوله والجحد له كان عذابا على صاحبه كما قال تعالى: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين} وقال تعالى:
{الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون} وقال تعالى: {فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون}.
فإن اعترف العبد أن الله ربه وخالقه؛ وأنه مفتقر إليه محتاج إليه عرف العبودية المتعلقة بربوبية الله وهذا العبد يسأل ربه فيتضرع إليه ويتوكل عليه لكن قد يطيع أمره؛ وقد يعصيه وقد يعبده مع ذلك؛ وقد يعبد الشيطان والأصنام. ومثل هذه العبودية لا تفرق بين أهل الجنة والنار ولا يصير بها الرجل مؤمنا. كما قال تعالى: {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} فإن المشركين كانوا يقرون أن الله خالقهم ورازقهم وهم يعبدون غيره قال تعالى: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله} وقال تعالى: {قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون} {سيقولون لله قل أفلا تذكرون} إلى قوله:
{قل فأنى تسحرون} وكثير ممن يتكلم في الحقيقة ويشهدها يشهد هذه الحقيقة وهي " الحقيقة الكونية " التي يشترك فيها وفي شهودها ومعرفتها المؤمن والكافر والبر والفاجر وإبليس معترف بهذه الحقيقة؛ وأهل النار. قال إبليس: {رب فأنظرني إلى يوم يبعثون} وقال: {رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين} وقال:
{فبعزتك لأغوينهم أجمعين} وقال: {أرأيتك هذا الذي كرمت علي} وأمثال هذا من الخطاب الذي يقر فيه بأن الله ربه وخالقه وخالق غيره؛ وكذلك أهل النار قالوا: {ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين} وقال تعالى: {ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا} فمن وقف عند هذه الحقيقة وعند شهودها ولم يقم بما أمر به من الحقيقة الدينية التي هي عبادته المتعلقة بإلهيته وطاعة أمره وأمر رسوله كان من جنس إبليس وأهل النار؛ وإن ظن مع ذلك أنه من خواص أولياء الله وأهل المعرفة والتحقيق الذين يسقط عنهم الأمر والنهي الشرعيان كان من أشر أهل الكفر والإلحاد.
ومن ظن أن الخضر وغيره سقط عنهم الأمر لمشاهدة الإرادة ونحو ذلك كان قوله هذا من شر أقوال الكافرين بالله ورسوله. حتى يدخل في " النوع الثاني " من معنى العبد وهو العبد بمعنى العابد فيكون عابدا لله لا يعبد إلا إياه؛ فيطيع أمره وأمر رسله ويوالي أولياءه المؤمنين المتقين؛ ويعادي أعداءه وهذه العبادة متعلقة بإلهيته ولهذا كان عنوان التوحيد " لا إله إلا الله " بخلاف من يقر بربوبيته ولا يعبده:
أو يعبد معه إلها آخر فالإله الذي يألهه القلب بكمال الحب والتعظيم والإجلال والإكرام والخوف والرجاء ونحو ذلك وهذه العبادة هي التي يحبها الله ويرضاها وبها وصف المصطفين من عباده وبها بعث رسله.
وأما " العبد " بمعنى المعبد سواء أقر بذلك أو أنكره: فتلك يشترك فيها المؤمن والكافر. وبالفرق بين هذين النوعين يعرف الفرق بين " الحقائق الدينية " الداخلة في عبادة الله ودينه وأمره الشرعي التي يحبها ويرضاها ويوالي أهلها ويكرمهم بجنته وبين " الحقائق الكونية " التي يشترك فيها المؤمن والكافر والبر والفاجر التي من اكتفى بها ولم يتبع الحقائق الدينية كان من أتباع إبليس اللعين والكافرين برب العالمين.
ومن اكتفى بها في بعض الأمور دون بعض أو في مقام أو حال نقص من إيمانه وولايته لله بحسب ما نقص من الحقائق الدينية. وهذا مقام عظيم فيه غلط الغالطون وكثر فيه الاشتباه على السالكين حتى زلق فيه من أكابر الشيوخ المدعين التحقيق والتوحيد والعرفان ما لا يحصيهم إلا الله الذي يعلم السر والإعلان؛ وإلى هذا أشار الشيخ " عبد القادر " رحمه الله فيما ذكر عنه فبين أن كثيرا من الرجال إذا وصلوا إلى القضاء والقدر أمسكوا إلا أنا فإني انفتحت لي فيه روزنة فنازعت أقدار الحق بالحق للحق؛ والرجل من يكون منازعا للقدر لا من يكون موافقا للقدر.
والذي ذكره الشيخ رحمه الله هو الذي أمر الله به ورسوله؛ لكن كثيرا من الرجال غلطوا فإنهم قد يشهدون ما يقدر على أحدهم من المعاصي والذنوب؛ أو ما يقدر على الناس من ذلك بل من الكفر؛ ويشهدون أن هذا جار بمشيئة الله وقضائه وقدره داخل في حكم ربوبيته ومقتضى مشيئته فيظنون الاستسلام لذلك وموافقته والرضا به ونحو ذلك دينا وطريقا وعبادة؛ فيضاهون المشركين الذين قالوا: {لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء}.
وقالوا: {أنطعم من لو يشاء الله أطعمه}. وقالوا: {لو شاء الرحمن ما عبدناهم} ولو هدوا لعلموا أن القدر أمرنا أن نرضى به ونصبر على موجبه في المصائب التي تصيبنا كالفقر والمرض والخوف قال تعالى: {ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه}. قال بعض السلف:
هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم وقال تعالى:
{ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير} {لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم}. وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
{احتج آدم وموسى فقال موسى أنت آدم الذي خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء فلماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ فقال آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه فهل وجدت ذلك مكتوبا علي قبل أن أخلق؟ قال: نعم. قال فحج آدم موسى}.
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
المجلد الثانى
الحلقة (23)
من صــ 395 الى صــ 401
وآدم عليه السلام لم يحتج على موسى بالقدر ظنا أن المذنب يحتج بالقدر فإن هذا لا يقوله مسلم ولا عاقل ولو كان هذا عذرا لكان عذرا لإبليس وقوم نوح وقوم هود وكل كافر ولا موسى لام آدم أيضا لأجل الذنب فإن آدم قد تاب إلى ربه فاجتباه وهدى ولكن لامه لأجل المصيبة التي لحقتهم بالخطيئة ولهذا قال:
فلماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ فأجابه آدم أن هذا كان مكتوبا قبل أن أخلق فكان العمل والمصيبة المترتبة عليه مقدرا وما قدر من المصائب يجب الاستسلام له فإنه من تمام الرضا بالله ربا.
وأما الذنوب فليس للعبد أن يذنب وإذا أذنب فعليه أن يستغفر ويتوب فيتوب من المعائب ويصبر على المصائب. قال تعالى: {فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك} وقال تعالى: {وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا} وقال: {وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور} وقال يوسف: {إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين}.
وكذلك ذنوب العباد يجب على العبد فيها أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر - بحسب قدرته - ويجاهد في سبيل الله الكفار والمنافقين ويوالي أولياء الله ويعادي أعداء الله ويحب في الله ويبغض في الله.
كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة} إلى قوله:
{قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده} وقال تعالى: {لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله} إلى قوله: {أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه} وقال تعالى:
{أفنجعل المسلمين كالمجرمين} وقال: {أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار} وقال تعالى: {أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون} وقال تعالى:
{وما يستوي الأعمى والبصير} {ولا الظلمات ولا النور} {ولا الظل ولا الحرور} {وما يستوي الأحياء ولا الأموات} وقال تعالى: {ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا} وقال تعالى: {ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء} إلى قوله: {بل أكثرهم لا يعلمون} {وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء} إلى قوله:
{وهو على صراط مستقيم} وقال تعالى: {لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون}.
ونظائر ذلك مما يفرق الله فيه بين أهل الحق والباطل وأهل الطاعة وأهل المعصية وأهل البر وأهل الفجور وأهل الهدى والضلال وأهل الغي والرشاد وأهل الصدق والكذب. فمن شهد " الحقيقة الكونية " دون " الدينية " سوى بين هذه الأجناس المختلفة التي فرق الله بينها غاية التفريق حتى يئول به الأمر إلى أن يسوي الله بالأصنام كما قال تعالى عنهم:
{تالله إن كنا لفي ضلال مبين} {إذ نسويكم برب العالمين} بل قد آل الأمر بهؤلاء إلى أن سووا الله بكل موجود وجعلوا ما يستحقه من العبادة والطاعة حقا لكل موجود إذ جعلوه هو وجود المخلوقات وهذا من أعظم الكفر والإلحاد برب العباد. وهؤلاء يصل بهم الكفر إلى أنهم لا يشهدون أنهم عباد لا بمعنى أنهم معبدون ولا بمعنى أنهم عابدون؛ إذ يشهدون أنفسهم هي الحق كما صرح بذلك طواغيتهم كابن عربي صاحب " الفصوص " وأمثاله من الملحدين المفترين كابن سبعين وأمثاله ويشهدون أنهم هم العابدون والمعبودون وهذا ليس بشهود لحقيقة؛ لا كونية ولا دينية؛ بل هو ضلال وعمى عن شهود الحقيقة الكونية حيث جعلوا وجود الخالق هو وجود المخلوق وجعلوا كل وصف مذموم وممدوح نعتا للخالق والمخلوق إذ وجود هذا هو وجود هذا عندهم.
وأما المؤمنون بالله ورسوله عوامهم وخواصهم الذين هم أهل الكتاب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم {إن لله أهلين من الناس قيل: من هم يا رسول الله؟ قال أهل القرآن هم أهل الله وخاصته} فهؤلاء يعلمون أن الله رب كل شيء ومليكه وخالقه وأن الخالق سبحانه مباين للمخلوق ليس هو حالا فيه ولا متحدا به ولا وجوده وجوده.
و " النصارى " كفرهم الله بأن قالوا: بالحلول والاتحاد بالمسيح خاصة فكيف من جعل ذلك عاما في كل مخلوق. ويعلمون مع ذلك أن الله أمر بطاعته وطاعة رسوله ونهى عن معصيته ومعصية رسوله وأنه لا يحب الفساد ولا يرضى لعباده الكفر وأن على الخلق أن يعبدوه فيطيعوا أمره ويستعينوا به على ذلك كما قال {إياك نعبد وإياك نستعين}.
ومن عبادته وطاعته الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - بحسب الإمكان - والجهاد في سبيله لأهل الكفر والنفاق. فيجتهدون في إقامة دينه مستعينين به دافعين مزيلين بذلك ما قدر من السيئات دافعين بذلك ما قد يخاف من ذلك كما يزيل الإنسان الجوع الحاضر بالأكل ويدفع به الجوع المستقبل وكذلك إذا آن أوان البرد دفعه باللباس وكذلك كل مطلوب يدفع به مكروه.
كما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم {يا رسول الله أرأيت أدوية نتداوى بها ورقى نسترقي بها وتقاة نتقي بها هل ترد من قدر الله شيئا؟ فقال: هي من قدر الله}.
وفي الحديث {إن الدعاء والبلاء ليلتقيان فيعتلجان بين السماء والأرض} فهذا حال المؤمنين بالله ورسوله العابدين لله وكل ذلك من العبادة. وهؤلاء الذين يشهدون " الحقيقة الكونية " وهي ربوبيته تعالى لكل شيء ويجعلون ذلك مانعا من اتباع أمره الديني الشرعي على مراتب في الضلال. فغلاتهم يجعلون ذلك مطلقا عاما فيحتجون بالقدر في كل ما يخالفون فيه الشريعة.
وقول هؤلاء شر من قول اليهود والنصارى وهو من جنس قول المشركين الذين قالوا: {سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء}. وقالوا: {لو شاء الرحمن ما عبدناهم}.
وهؤلاء من أعظم أهل الأرض تناقضا؛ بل كل من احتج بالقدر فإنه متناقض فإنه لا يمكن أن يقر كل آدمي على ما فعل؛ فلا بد إذا ظلمه ظالم أو ظلم الناس ظالم وسعى في الأرض بالفساد وأخذ يسفك دماء الناس ويستحل الفروج ويهلك الحرث والنسل ونحو ذلك من أنواع الضرر التي لا قوام للناس بها أن يدفع هذا القدر؛ وأن يعاقب الظالم بما يكف عدوان أمثاله. فيقال له إن كان القدر حجة فدع كل أحد يفعل ما يشاء بك وبغيرك وإن لم يكن حجة بطل أصل قولك: حجة.
وأصحاب هذا القول الذين يحتجون بالحقيقة الكونية لا يطردون هذا القول ولا يلتزمونه وإنما هم بحسب آرائهم وأهوائهم؛ كما قال فيهم بعض العلماء. أنت عند الطاعة قدري وعند المعصية جبري؛ أي مذهب وافق هواك تمذهبت به. ومنهم " صنف " يدعون التحقيق والمعرفة فيزعمون أن الأمر والنهي لازم لمن شهد لنفسه فعلا وأثبت له صنعا؛ أما من شهد أن أفعاله مخلوقة؛ أو أنه مجبور على ذلك؛ وأن الله هو المتصرف فيه كما تحرك سائر المتحركات؛ فإنه يرتفع عنه الأمر والنهي والوعد والوعيد. وقد يقولون: من شهد " الإرادة " سقط عنه التكليف ويزعم أحدهم أن الخضر سقط عنه التكليف لشهوده الإرادة فهؤلاء لا يفرقون بين العامة والخاصة الذين شهدوا الحقيقة الكونية فشهدوا أن الله خالق أفعال العباد وأنه يدبر جميع الكائنات وقد يفرقون بين من يعلم ذلك علما وبين من يراه شهودا فلا يسقطون التكليف عمن يؤمن بذلك ويعلمه فقط ولكن عمن يشهده فلا يرى لنفسه فعلا أصلا وهؤلاء لا يجعلون الجبر وإثبات القدر مانعا من التكليف على هذا الوجه. وقد وقع في هذا طوائف من المنتسبين إلى التحقيق والمعرفة والتوحيد. وسبب ذلك أنه ضاق نطاقهم عن كون العبد يؤمر بما يقدر عليه خلافه كما ضاق نطاق المعتزلة ونحوهم من القدرية عن ذلك.
ثم المعتزلة أثبتت الأمر والنهي الشرعيين دون القضاء والقدر الذي هو إرادة الله العامة وخلقه لأفعال العباد وهؤلاء أثبتوا القضاء والقدر ونفوا الأمر والنهي في حق من شهد القدر إذ لم يمكنهم نفي ذلك مطلقا.
وقول هؤلاء شر من قول المعتزلة؛ ولهذا لم يكن في السلف من هؤلاء أحد وهؤلاء يجعلون الأمر والنهي للمحجوبين الذين لم يشهدوا هذه الحقيقة الكونية ولهذا يجعلون من وصل إلى شهود هذه الحقيقة يسقط عنه الأمر والنهي وصار من الخاصة.
وربما تأولوا على ذلك قوله تعالى
{واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} وجعلوا اليقين هو معرفة هذه الحقيقة وقول هؤلاء كفر صريح. وإن وقع فيه طوائف لم يعلموا أنه كفر؛ فإنه قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أن الأمر والنهي لازم لكل عبد ما دام عقله حاضرا
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
المجلد الثانى
الحلقة (24)
من صــ 402 الى صــ 408
وربما تأولوا على ذلك قوله تعالى
{واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} وجعلوا اليقين هو معرفة هذه الحقيقة وقول هؤلاء كفر صريح. وإن وقع فيه طوائف لم يعلموا أنه كفر؛ فإنه قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أن الأمر والنهي لازم لكل عبد ما دام عقله حاضرا إلَى أَنْ يَمُوتَ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ لَا بِشُهُودِهِ الْقَدَرَ وَلَا بِغَيْرِ ذَلِكَ فَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ ذَلِكَ عَرَّفَهُ؛ وَبَيَّنَ لَهُ فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى اعْتِقَادِ سُقُوطِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ. وَقَدْ كَثُرَتْ مِثْلُ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ فِي الْمُسْتَأْخِرِ ينَ.
وَأَمَّا الْمُسْتَقْدِمُ ونَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْمَقَالَاتُ مَعْرُوفَةً فِيهِمْ. وَهَذِهِ الْمَقَالَاتُ هِيَ مُحَادَّةٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَمُعَادَاةٌ لَهُ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِهِ وَمُشَاقَّةٌ لَهُ؛ وَتَكْذِيبٌ لِرُسُلِهِ؛ وَمُضَادَّةٌ لَهُ فِي حُكْمِهِ وَإِنْ كَانَ مَنْ يَقُولُ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ قَدْ يَجْهَلُ ذَلِكَ وَيَعْتَقِدُ أَنَّ هَذَا الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ هُوَ طَرِيقُ الرَّسُولِ؛ وَطَرِيقُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُحَقِّقِينَ ؛ فَهُوَ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ لِاسْتِغْنَائِه ِ عَنْهَا بِمَا حَصَلَ لَهُ مِنْ الْأَحْوَالِ الْقَلْبِيَّةِ أَوْ أَنَّ الْخَمْرَ حَلَالٌ لَهُ لِكَوْنِهِ مِنْ الْخَوَاصِّ الَّذِينَ لَا يَضُرُّهُمْ شُرْبُ الْخَمْرِ؛ أَوْ أَنَّ الْفَاحِشَةَ حَلَالٌ لَهُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ كَالْبَحْرِ لَا تُكَدِّرُهُ الذُّنُوبُ؛ وَنَحْوَ ذَلِكَ.
وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَذَّبُوا الرُّسُلَ يَتَرَدَّدُونَ بَيْنَ الْبِدْعَةِ الْمُخَالِفَةِ لِشَرْعِ اللَّهِ؛ وَبَيْنَ الِاحْتِجَاجِ بِالْقَدَرِ عَلَى مُخَالَفَةِ أَمْرِ اللَّهِ؛ فَهَؤُلَاءِ الْأَصْنَافُ فيهم شبه من المشركين إما أن يبتدعوا وإما أن يحتجوا بالقدر وإما أن يجمعوا بين الأمرين. كما قال تعالى عن المشركين: {وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون} وكما قال تعالى عنهم: {سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء} وقد ذكر عن المشركين ما ابتدعوه من الدين الذي فيه تحليل الحرام والعبادة التي لم يشرعها الله بمثل قوله تعالى {وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم وأنعام حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه} إلى آخر السورة. وكذلك في سورة الأعراف في قوله: {يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة} إلى قوله {وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء} إلى قوله:
{قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد} إلى قوله: {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق} إلى قوله: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون}.
وهؤلاء قد يسمون ما أحدثوه من البدع " حقيقة " كما يسمون ما يشهدون من القدر " حقيقة ". وطريق الحقيقة عندهم هو السلوك الذي لا يتقيد صاحبه بأمر الشارع ونهيه. ولكن بما يراه ويذوقه ويجده ونحو ذلك. وهؤلاء لا يحتجون بالقدر مطلقا؛ بل عمدتهم اتباع آرائهم وأهوائهم وجعلهم لما يرونه ويهوونه حقيقة وأمرهم باتباعها دون اتباع أمر الله ورسوله نظير بدع أهل الكلام من الجهمية وغيرهم الذين يجعلون ما ابتدعوه من الأقوال المخالفة للكتاب والسنة حقائق عقلية يجب اعتقادها دون ما دلت عليه السمعيات.
ثم الكتاب والسنة إما أن يحرفوه عن مواضعه وإما أن يعرضوا عنه بالكلية فلا يتدبرونه ولا يعقلونه بل يقولون: نفوض معناه إلى الله مع اعتقادهم نقيض مدلوله. وإذا حقق على هؤلاء ما يزعمونه من العقليات المخالفة للكتاب والسنة وجدت جهليات واعتقادات فاسدة. وكذلك أولئك إذا حقق عليهم ما يزعمونه من حقائق أولياء الله المخالفة للكتاب والسنة وجدت من الأهواء التي يتبعها أعداء الله لا أولياؤه.
وأصل ضلال من ضل هو بتقديم قياسه على النص المنزل من عند الله واختياره الهوى على اتباع أمر الله فإن الذوق والوجد ونحو ذلك هو بحسب ما يحبه العبد فكل محب له ذوق ووجد بحسب محبته. فأهل الإيمان لهم من الذوق والوجد مثل ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله في الحديث الصحيح: {ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار}.
وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح {ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا}.
وأما أهل الكفر والبدع والشهوات فكل بحسبه قيل لسفيان بن عيينة: ما بال أهل الأهواء لهم محبة شديدة لأهوائهم فقال أنسيت قوله تعالى {وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم} أو نحو هذا من الكلام فعباد الأصنام يحبون آلهتهم كما قال تعالى: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله} وقال:
{فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله} وقال: {إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى} ولهذا يميل هؤلاء إلى سماع الشعر والأصوات التي تهيج المحبة المطلقة التي لا تختص بأهل الإيمان بل يشترك فيها محب الرحمن ومحب الأوثان ومحب الصلبان ومحب الأوطان ومحب الإخوان ومحب المردان ومحب النسوان.
وهؤلاء الذين يتبعون أذواقهم ومواجيدهم من غير اعتبار لذلك بالكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة. فالمخالف لما بعث به رسوله من عبادته وطاعته وطاعة رسوله لا يكون متبعا لدين شرعه الله كما قال تعالى: {ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون} {إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا} إلى قوله.
{والله ولي المتقين} بل يكون متبعا لهواه بغير هدى من الله قال تعالى: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} وهم في ذلك تارة يكونون على بدعة يسمونها حقيقة يقدمونها على ما شرعه الله وتارة يحتجون بالقدر الكوني على الشريعة كما أخبر الله به عن المشركين كما تقدم. ومن هؤلاء طائفة هم أعلاهم قدرا وهم مستمسكون بالدين في أداء الفرائض المشهورة واجتناب المحرمات المشهورة لكن يغلطون في ترك ما أمروا به من الأسباب التي هي عبادة ظانين أن العارف إذا شهد " القدر " أعرض عن ذلك مثل من يجعل التوكل منهم أو الدعاء ونحو ذلك من مقامات العامة دون الخاصة بناء على أن من شهد القدر علم أن ما قدر سيكون فلا حاجة إلى ذلك وهذا غلط عظيم. فإن الله قدر الأشياء بأسبابها كما قدر السعادة والشقاوة بأسبابها.
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم {إن الله خلق للجنة أهلا خلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم وبعمل أهل الجنة يعملون} وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم {لما أخبرهم بأن الله كتب المقادير فقالوا: يا رسول الله أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب؟ فقال: لا. اعملوا فكل ميسر لما خلق له.
أما من كان من أهل السعادة فسييسر لعمل أهل السعادة وأما من كان من أهل الشقاوة فسييسر لعمل أهل الشقاوة}.
فما أمر الله به عباده من الأسباب فهو عبادة والتوكل مقرون بالعبادة كما في قوله تعالى {فاعبده وتوكل عليه} وفي قوله: {قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب} وقول شعيب عليه السلام {عليه توكلت وإليه أنيب} ومنهم طائفة قد تترك المستحبات من الأعمال دون الواجبات فتنقص بقدر ذلك. ومنهم طائفة يغترون بما يحصل لهم من خرق عادة مثل مكاشفة؛ أو استجابة دعوة مخالفة للعادة العامة ونحو ذلك فيشتغل أحدهم عما أمر به من العبادة والشكر ونحو ذلك.
فهذه الأمور ونحوها كثيرا ما تعرض لأهل السلوك والتوجه؛ وإنما ينجو العبد منها بملازمة أمر الله الذي بعث به رسوله في كل وقت.
كما قال الزهري: كان من مضى من سلفنا يقولون: الاعتصام بالسنة نجاة. وذلك أن السنة - كما قال مالك رحمه الله - مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق. والعبادة والطاعة والاستقامة ولزوم الصراط المستقيم ونحو ذلك من الأسماء مقصودها واحد ولها أصلان:
" أحدهما " ألا يعبد إلا الله. و " الثاني " أن يعبد بما أمر وشرع لا بغير ذلك من البدع.
قال تعالى: {فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا} وقال تعالى: {بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} وقال تعالى: {ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا} فالعمل الصالح هو الإحسان وهو فعل الحسنات.
و " الحسنات " هي ما أحبه الله ورسوله وهو ما أمر به أمر إيجاب أو استحباب فما كان من البدع في الدين التي ليست مشروعة فإن الله لا يحبها ولا رسوله فلا تكون من الحسنات ولا من العمل الصالح كما أن من يعمل ما لا يجوز كالفواحش والظلم ليس من الحسنات ولا من العمل الصالح.
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
المجلد الثانى
الحلقة (25)
من صــ 409 الى صــ 415
وأما قوله. {ولا يشرك بعبادة ربه أحدا} وقوله: {أسلم وجهه لله} فهو إخلاص الدين لله وحده وكان عمر بن الخطاب يقول: اللهم اجعل عملي كله صالحا واجعله لوجهك خالصا ولا تجعل لأحد فيه شيئا. وقال الفضيل بن عياض في قوله: {ليبلوكم أيكم أحسن عملا} قال: أخلصه وأصوبه قالوا: يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه؟ قال:
إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا والخالص أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة.
فإن قيل فإذا كان جميع ما يحبه الله داخلا في اسم العبادة فلماذا عطف عليها غيرها؛ كقوله: {إياك نعبد وإياك نستعين} وقوله: {فاعبده وتوكل عليه} وقول نوح: {اعبدوا الله واتقوه وأطيعون} وكذلك قول غيره من الرسل قيل هذا له نظائر كما في قوله {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} والفحشاء من المنكر وكذلك قوله: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي} وإيتاء ذي القربى هو من العدل والإحسان كما أن الفحشاء والبغي من المنكر.
وكذلك قوله: {والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة} وإقامة الصلاة من أعظم التمسك بالكتاب. وكذلك قوله: {إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا} ودعاؤهم رغبا ورهبا من الخيرات وأمثال ذلك في القرآن كثير.
وهذا الباب يكون تارة مع كون أحدهما بعض الآخر فيعطف عليه تخصيصا له بالذكر لكونه مطلوبا بالمعنى العام والمعنى الخاص وتارة تكون دلالة الاسم تتنوع بحال الانفراد والاقتران فإذا أفرد عم وإذا قرن بغيره خص كاسم " الفقير " و " المسكين " لما أفرد أحدهما في مثل قوله: {للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله} وقوله: {فكفارته إطعام عشرة مساكين} دخل فيه الآخر.
ولما قرن بينهما في قوله: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين} صارا نوعين. وقد قيل: إن الخاص المعطوف على العام لا يدخل في العام حال الاقتران؛ بل يكون من هذا الباب. والتحقيق أن هذا ليس لازما قال تعالى: {من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال} وقال تعالى: {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم} وذكر الخاص مع العام يكون لأسباب متنوعة:
تارة لكونه له خاصية ليست لسائر أفراد العام؛ كما في نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وتارة لكون العام فيه إطلاق قد لا يفهم منه العموم كما في قوله: {هدى للمتقين} {الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون} {والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك} فقوله: يؤمنون بالغيب؛ يتناول الغيب الذي يجب الإيمان به؛ لكن فيه إجمال فليس فيه دلالة على أن من الغيب ما أنزل إليك وما أنزل من قبلك. وقد يكون المقصود أنهم يؤمنون بالمخبر به وهو الغيب وبالإخبار بالغيب وهو ما أنزل إليك وما أنزل من قبلك.
ومن هذا الباب قوله تعالى {اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة} وقوله: {والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة} و " تلاوة الكتاب " هي اتباعه كما قال ابن مسعود في قوله تعالى {الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته} قال يحللون حلاله ويحرمون حرامه ويؤمنون بمتشابهه ويعملون بمحكمه فاتباع الكتاب يتناول الصلاة وغيرها لكن خصها بالذكر لمزيتها وكذلك قوله لموسى:
{إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري} وإقامة الصلاة لذكره من أجل عبادته وكذلك قوله تعالى {اتقوا الله وقولوا قولا سديدا} وقوله {اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة} وقوله:
{اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} فإن هذه الأمور هي أيضا من تمام تقوى الله وكذلك قوله: {فاعبده وتوكل عليه} فإن التوكل والاستعانة هي من عبادة الله؛ لكن خصت بالذكر ليقصدها المتعبد بخصوصها؛ فإنها هي العون على سائر أنواع العبادة إذ هو سبحانه لا يعبد إلا بمعونته. إذا تبين هذا فكمال المخلوق في تحقيق عبوديته لله وكلما ازداد العبد تحقيقا للعبودية ازداد كماله وعلت درجته ومن توهم أن المخلوق يخرج عن العبودية بوجه من الوجوه.
أو أن الخروج عنها أكمل فهو من أجهل الخلق وأضلهم. قال تعالى: {وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون} {لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون}إلى قوله: {وهم من خشيته مشفقون} وقال تعالى: {وقالوا اتخذ الرحمن ولدا} {لقد جئتم شيئا إدا} إلى قوله: {إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا} {لقد أحصاهم وعدهم عدا} {وكلهم آتيه يوم القيامة فردا} وقال تعالى في المسيح: {إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل} وقال تعالى:
{وله من في السماوات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون} {يسبحون الليل والنهار لا يفترون} وقال تعالى: {لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا} إلى قوله {ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا} وقال تعالى: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} وقال تعالى:
{ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون} {فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون} وقال تعالى: {واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة} إلى قوله: {إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون}. وهذا ونحوه مما فيه وصف أكابر المخلوقات بالعبادة وذم من خرج عن ذلك متعدد في القرآن وقد أخبر أنه أرسل جميع الرسل بذلك.
فقال تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} وقال: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} وقال تعالى لبني إسرائيل: {يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون} {وإياي فاتقون} وقال {يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون} وقال:
{وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} وقال تعالى: {قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين} {وأمرت لأن أكون أول المسلمين} {قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم} {قل الله أعبد مخلصا له ديني} {فاعبدوا ما شئتم من دونه}.
وكل رسول من الرسل افتتح دعوته بالدعاء إلى عبادة الله كقول نوح ومن بعده عليهم السلام {اعبدوا الله ما لكم من إله غيره} وفي المسند عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له وجعل رزقي تحت ظل رمحي وجعل الذل والصغار على من خالف أمري}.
وقد بين أن عباده هم الذين ينجون من السيئات قال الشيطان: {رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين} {إلا عبادك منهم المخلصين} قال تعالى: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين} وقال: {فبعزتك لأغوينهم أجمعين} {إلا عبادك منهم المخلصين} وقال في حق يوسف: {كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين} وقال:
{سبحان الله عما يصفون} {إلا عباد الله المخلصين} وقال: {إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون} {إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون} وبها نعت كل من اصطفى من خلقه كقوله: {واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار} {إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار} {وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار} وقوله: {واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب} وقال عن سليمان:
{نعم العبد إنه أواب} وعن أيوب: {نعم العبد} وقال: {واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه} وقال نوح عليه السلام {ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا} وقال: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى} وقال: {وأنه لما قام عبد الله يدعوه} وقال: {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا} وقال {فأوحى إلى عبده ما أوحى} وقال: {عينا يشرب بها عباد الله} وقال: {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا} ومثل هذا كثير متعدد في القرآن.
(فصل: تفاضل الناس في حقيقة الإيمان)
إذا تبين ذلك: فمعلوم أن هذا الباب يتفاضلون فيه تفاضلا عظيما وهو تفاضلهم في حقيقة الإيمان وهم ينقسمون فيه: إلى عام وخاص ولهذا كانت ربوبية الرب لهم فيها عموم وخصوص. ولهذا كان الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {تعس عبد الدرهم تعس عبد الدينار تعس عبد القطيفة تعس عبد الخميصة تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش إن أعطي رضي وإن منع سخط}. فسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الدرهم وعبد الدينار وعبد القطيفة وعبد الخميصة.
وذكر ما فيه دعاء وخبر وهو قوله: {تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش} والنقش إخراج الشوكة من الرجل والمنقاش ما يخرج به الشوكة وهذه حال من إذا أصابه شر لم يخرج منه ولم يفلح لكونه تعس وانتكس فلا نال المطلوب ولا خلص من المكروه وهذه حال من عبد المال وقد وصف ذلك بأنه {إذا أعطي رضي وإذا منع سخط} كما قال تعالى:
{ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون} فرضاهم لغير الله وسخطهم لغير الله وهكذا حال من كان متعلقا برئاسة أو بصورة ونحو ذلك من أهواء نفسه إن حصل له رضي وإن لم يحصل له سخط فهذا عبد ما يهواه من ذلك وهو رقيق له إذ الرق والعبودية في الحقيقة هو رق القلب وعبوديته فما استرق القلب واستعبده فهو عبده.
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
المجلد الثانى
الحلقة (26)
من صــ 416 الى صــ 422
ولهذا يقال: العبد حر ما قنع والحر عبد ما طمع وقال القائل أطعت مطامعي فاستعبدتني ولو أني قنعت لكنت حرا ويقال: الطمع غل في العنق قيد في الرجل فإذا زال الغل من العنق زال القيد من الرجل.
ويروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: الطمع فقر واليأس غنى وإن أحدكم إذا يئس من شيء استغنى عنه. وهذا أمر يجده الإنسان من نفسه؛ فإن الأمر الذي ييأس منه لا يطلبه ولا يطمع به ولا يبق قلبه فقيرا إليه ولا إلى من يفعله وأما إذا طمع في أمر من الأمور ورجاه تعلق قلبه به فصار فقيرا إلى حصوله؛ وإلى من يظن أنه سبب في حصوله وهذا في المال والجاه والصور وغير ذلك. قال الخليل صلى الله عليه وسلم {فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون}.
فالعبد لا بد له من رزق وهو محتاج إلى ذلك فإذا طلب رزقه من الله صار عبدا لله فقيرا إليه وإن طلبه من مخلوق صار عبدا لذلك المخلوق فقيرا إليه. ولهذا كانت " مسألة المخلوق " محرمة في الأصل وإنما أبيحت للضرورة وفي النهي عنها أحاديث كثيرة في الصحاح والسنن والمسانيد كقوله صلى الله عليه وسلم {لا تزال المسألة بأحدكم حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم} وقوله: {من سأل الناس وله ما يغنيه جاءت مسألته يوم القيامة خدوشا أو خموشا أو كدوحا في وجهه} وقوله: {لا تحل المسألة إلا لذي غرم مفظع أو دمع موجع أو فقر مدقع} هذا المعنى في الصحيح.
وفيه أيضا {لأن يأخذ أحدكم حبله فيذهب فيحتطب خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه}فصل:
في " العبادات " و " الفرق بين شرعيها وبدعيها ".
فإن هذا باب كثر فيه الاضطراب كما كثر في باب الحلال والحرام، فإن أقواما استحلوا بعض ما حرمه الله وأقواما حرموا بعض ما أحل الله تعالى وكذلك أقواما أحدثوا عبادات لم يشرعها الله بل نهى عنها.
و " أصل الدين " أن الحلال ما أحله الله ورسوله والحرام ما حرمه الله ورسوله والدين ما شرعه الله ورسوله؛ ليس لأحد أن يخرج عن الصراط المستقيم الذي بعث الله به رسوله. قال الله تعالى: {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون}.
وفي حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه {عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خط خطا وخط خطوطا عن يمينه وشماله ثم قال: هذه سبيل الله وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثم قرأ: {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله}. وقد ذكر الله تعالى في سورة الأنعام والأعراف وغيرهما ما ذم به المشركين حيث حرموا ما لم يحرمه الله تعالى كالبحيرة والسائبة واستحلوا ما حرمه الله كقتل أولادهم وشرعوا دينا لم يأذن به الله فقال تعالى:
{أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} ومنه أشياء هي محرمة جعلوها عبادات كالشرك والفواحش مثل الطواف بالبيت عراة وغير ذلك. والكلام في " الحلال والحرام " له مواضع أخر. والمقصود هنا " العبادات " فنقول.
العبادات التي يتقرب بها إلى الله تعالى منها ما كان محبوبا لله ورسوله مرضيا لله ورسوله إما واجب وإما مستحب كما في الصحيح {عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى:
ما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه}. ومعلوم أن الصلاة منها فرض وهي الصلوات الخمس ومنها نافلة كقيام الليل وكذلك الصيام فيه فرض وهو صوم شهر رمضان ومنه نافلة كصيام ثلاثة أيام من كل شهر وكذلك السفر إلى المسجد الحرام فرض وإلى المسجدين الآخرين: مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وبيت المقدس - مستحب.
وكذلك الصدقة منها ما هو فرض ومنها ما هو مستحب وهو العفو كما قال تعالى: {ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو}. وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {يا ابن آدم إنك إن تنفق الفضل خير لك وإن تمسكه شر لك ولا تلام على كفاف واليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول} والفرق بين الواجب والمستحب له موضع آخر غير هذا والمقصود هنا الفرق بين ما هو مشروع سواء كان واجبا أو مستحبا وما ليس بمشروع. فالمشروع هو الذي يتقرب به إلى الله تعالى وهو سبيل الله وهو البر والطاعة والحسنات والخير والمعروف وهو طريق السالكين ومنهاج القاصدين والعابدين وهو الذي يسلكه كل من أراد الله هدايته وسلك طريق الزهد والعبادة وما يسمى بالفقر والتصوف ونحو ذلك. ولا ريب أن هذا يدخل فيه الصلوات المشروعة واجبها ومستحبها ويدخل في ذلك قيام الليل المشروع وقراءة القرآن على الوجه المشروع والأذكار والدعوات الشرعية.
وما كان من ذلك موقتا بوقت كطرفي النهار وما كان متعلقا بسبب كتحية المسجد وسجود التلاوة وصلاة الكسوف وصلاة الاستخارة وما ورد من الأذكار والأدعية الشرعية في ذلك. وهذا يدخل فيه أمور كثيرة وفي ذلك من الصفات ما يطول وصفه وكذلك يدخل فيه الصيام الشرعي كصيام نصف الدهر وثلثه أو ثلثيه أو عشره وهو صيام ثلاثة أيام من كل شهر ويدخل فيه السفر الشرعي كالسفر إلى مكة وإلى المسجدين الآخرين ويدخل فيه الجهاد على اختلاف أنواعه وأكثر الأحاديث النبوية في الصلاة والجهاد ويدخل فيه قراءة القرآن على الوجه المشروع.
و " العبادات الدينية " أصولها: الصلاة والصيام والقراءة التي جاء ذكرها في الصحيحين في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص لما أتاه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: {ألم أحدث أنك قلت لأصومن النهار ولأقومن الليل ولأقرأن القرآن في ثلاث؟ قال: بلى قال: فلا تفعل: فإنك إذا فعلت ذلك هجمت له العين ونفهت له النفس ثم أمره بصيام ثلاثة أيام من كل شهر فقال إني أطيق أكثر من ذلك فانتهى به إلى صوم يوم وفطر يوم فقال: إني أطيق أكثر من ذلك فقال:
لا أفضل من ذلك وقال: أفضل الصيام صيام داود عليه السلام كان يصوم يوما ويفطر يوما ولا يفر إذا لاقى. وأفضل القيام قيام داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه، وأمره أن يقرأ القرآن في سبع}. ولما كانت هذه العبادات هي المعروفة قال في حديث الخوارج الذي في الصحيحين:
{يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية} فذكر اجتهادهم بالصلاة والصيام والقراءة وأنهم يغلون في ذلك حتى تحقر الصحابة عبادتهم في جنب عبادة هؤلاء. وهؤلاء غلوا في العبادات بلا فقه فآل الأمر بهم إلى البدعة فقال:
{يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية. أينما وجدتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة}. فإنهم قد استحلوا دماء المسلمين وكفروا من خالفهم. وجاءت فيهم الأحاديث
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
المجلد الثانى
الحلقة (27)
من صــ 423 الى صــ 429
الصحيحة قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى صح فيهم الحديث من عشرة أوجه وقد أخرجها مسلم في صحيحه وأخرج البخاري قطعة منها. ثم هذه الأجناس الثلاثة مشروعة؛ ولكن يبقى الكلام في القدر المشروع منها، وله صنف " كتاب الاقتصاد في العبادة ".
وقال أبي بن كعب وغيره: اقتصاد في سنة خير من اجتهاد في بدعة. والكلام في سرد الصوم وصيام الدهر سوى يومي العيدين وأيام التشريق وقيام جميع الليل هل هو مستحب؟ كما ذهب إلى ذلك طائفة من الفقهاء والصوفية والعباد، أو هو مكروه كما دلت عليه السنة وإن كان جائزا؟ لكن صوم يوم وفطر يوم أفضل وقيام ثلث الليل أفضل ولبسطه موضع آخر.
إذ المقصود هنا الكلام في أجناس عبادات غير مشروعة حدثت في المتأخرين كالخلوات فإنها تشتبه بالاعتكاف الشرعي. والاعتكاف الشرعي في المساجد كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله هو وأصحابه من العبادات الشرعية.
فصل:
وأهل " العبادات البدعية " يزين لهم الشيطان تلك العبادات ويبغض إليهم السبل الشرعية حتى يبغضهم في العلم والقرآن والحديث فلا يحبون سماع القرآن والحديث ولا ذكره وقد يبغض إليهم حتى الكتاب فلا يحبون كتابا ولا من معه كتاب ولو كان مصحفا أو حديثا؛ كما حكى النصرباذي أنهم كانوا يقولون: يدع علم الخرق ويأخذ علم الورق قال: وكنت أستر ألواحي منهم فلما كبرت احتاجوا إلى علمي. وكذلك حكى السري السقطي: أن واحدا منهم دخل عليه فلما رأى عنده محبرة وقلما خرج ولم يقعد عنده؛ ولهذا قال سهل بن عبد الله التستري: يا معشر الصوفية لا تفارقوا السواد على البياض فما فارق أحد السواد على البياض إلا تزندق.
وقال الجنيد: علمنا هذا مبني على الكتاب والسنة فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدى به في هذا الشأن. وكثير من هؤلاء ينفر ممن يذكر الشرع أو القرآن أو يكون معه كتاب أو يكتب؛ وذلك لأنهم استشعروا أن هذا الجنس فيه ما يخالف طريقهم فصارت شياطينهم تهربهم من هذا كما يهرب اليهودي والنصراني ابنه أن يسمع كلام المسلمين حتى لا يتغير اعتقاده في دينه وكما كان قوم نوح يجعلون أصابعهم في آذانهم ويستغشون ثيابهم لئلا يسمعوا كلامه ولا يروه. وقال الله تعالى عن المشركين: {وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون} وقال تعالى: {فما لهم عن التذكرة معرضين} {كأنهم حمر مستنفرة} {فرت من قسورة}.
وهم من أرغب الناس في السماع البدعي سماع المعازف. ومن أزهدهم في السماع الشرعي سماع آيات الله تعالى. وكان مما زين لهم طريقهم أن وجدوا كثيرا من المشتغلين بالعلم والكتب معرضين عن عبادة الله تعالى وسلوك سبيله إما اشتغالا بالدنيا وإما بالمعاصي وإما جهلا وتكذيبا بما يحصل لأهل التأله والعبادة فصار وجود هؤلاء مما ينفرهم وصار بين الفريقين نوع تباغض يشبه من بعض الوجوه ما بين أهل الملتين: هؤلاء يقولون ليس هؤلاء على شيء. وهؤلاء يقولون ليس هؤلاء على شيء وقد يظنون أنهم يحصل لهم بطريقهم أعظم مما يحصل في الكتب. فمنهم من يظن أنه يلقن القرآن بلا تلقين.
ويحكون أن شخصا حصل له ذلك وهذا كذب. نعم قد يكون سمع آيات الله فلما صفى نفسه تذكرها فتلاها. فإن الرياضة تصقل النفس فيذكر أشياء كان قد نسيها ويقول بعضهم أو يحكى أن بعضهم قال:
أخذوا علمهم ميتا عن ميت وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت. وهذا يقع لكن منهم من يظن أنما يلقى إليه من خطاب أو خاطر هو من الله تعالى بلا واسطة وقد يكون من الشيطان وليس عندهم فرقان يفرق بين الرحماني والشيطاني فإن الفرق الذي لا يخطئ هو القرآن والسنة فما وافق الكتاب والسنة فهو حق وما خالف ذلك فهو خطأ.
وقد قال تعالى: {ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين} {وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون} {حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين} وذكر الرحمن هو ما أنزله على رسوله قال تعالى: {وهذا ذكر مبارك أنزلناه} وقال تعالى:
{وما هو إلا ذكر للعالمين} وقال تعالى:{فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى} {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى} {قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى} وقال تعالى: {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا} {وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما} وقال تعالى:
{وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم} {صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور} وقال تعالى: {كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد} وقال تعالى: {فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون}.
(فصل: دعاء الرب بإعطاء المطلوب أولى من البخل)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
وإذا دعا العبد ربه بإعطاء المطلوب ودفع المرهوب جعل له من الإيمان بالله ومحبته ومعرفته وتوحيده ورجائه وحياة قلبه واستنارته بنور الإيمان ما قد يكون أنفع له من ذلك المطلوب إن كان عرضا من الدنيا وأما إذا طلب منه أن يعينه على ذكره وشكره وحسن عبادته وما يتبع ذلك فهنا المطلوب قد يكون أنفع من الطلب وهو الدعاء، والمطلوب الذكر والشكر وقيام العبادة على أحسن الوجوه وغير ذلك. وهذا لبسطه موضع آخر.
و (المقصود): أن القلب قد يغمره فيستولي عليه ما يريده العبد ويحبه وما يخافه ويحذره كائنا من كان؛ ولهذا قال تعالى: {بل قلوبهم في غمرة من هذا ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون} فهي فيما يغمرها عما أنذرت به فيغمرها ذلك عن ذكر الله والدار الآخرة وما فيها من النعيم والعذاب الأليم.
قال الله تعالى: {فذرهم في غمرتهم حتى حين} أي فيما يغمر قلوبهم من حب المال والبنين المانع لهم من المسارعة في الخيرات والأعمال الصالحة. وقال تعالى: {قتل الخراصون} {الذين هم في غمرة ساهون} الآيات: أي ساهون عن أمر الآخرة فهم في غمرة عنها أي فيما يغمر قلوبهم من حب الدنيا ومتاعها ساهون عن أمر الآخرة وما خلقوا له.
وهذا يشبه قوله: {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا} فالغمرة تكون من اتباع الهوى، والسهو من جنس الغفلة؛ ولهذا قال من قال: " السهو " الغفلة عن الشيء وذهاب القلب عنه وهذا جماع الشر " الغفلة " و " الشهوة " " فالغفلة " عن الله والدار الآخرة تسد باب الخير الذي هو الذكر واليقظة.
و " الشهوة " تفتح باب الشر والسهو والخوف فيبقى القلب مغمورا فيما يهواه ويخشاه غافلا عن الله رائدا غير الله ساهيا عن ذكره قد اشتغل بغير الله قد انفرط أمره قد ران حب الدنيا على قلبه كما روي في صحيح البخاري وغيره عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم تعس عبد القطيفة تعس عبد الخميصة تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش إن أعطي رضي وإن منع سخط} جعله عبد ما يرضيه وجوده، ويسخطه فقده حتى يكون عبد الدرهم، وعبد ما وصف في هذا الحديث و " القطيفة " هي التي يجلس عليها فهو خادمها كما قال بعض السلف:
البس من الثياب ما يخدمك ولا تلبس منها ما تكن أنت تخدمه وهي كالبساط الذي تجلس عليه و " الخميصة " هي التي يرتدي بها وهذا من أقل المال. وإنما نبه به النبي صلى الله عليه وسلم على ما هو أعلى منه فهو عبد لذلك: فيه أرباب متفرقون وشركاء متشاكسون.
ولهذا قال: {إن أعطي رضي وإن منع سخط}.
فما كان يرضي الإنسان حصوله، ويسخطه فقده فهو عبده إذ العبد يرضى باتصاله بهما ويسخط لفقدهما. و " المعبود الحق " الذي لا إله إلا هو إذا عبده المؤمن وأحبه حصل للمؤمن بذلك في قلبه إيمان وتوحيد ومحبة وذكر وعبادة فيرضى بذلك وإذا منع من ذلك غضب. وكذلك من أحب شيئا فلا بد أن يتصوره في قلبه، ويريد اتصاله به بحسب الإمكان.
قال الجنيد: لا يكون العبد عبدا حتى يكون مما سوى الله تعالى حرا.
وهذا مطابق لهذا الحديث فإنه لا يكون عبدا لله خالصا مخلصا دينه لله كله حتى لا يكون عبدا لما سواه ولا فيه شعبة ولا أدنى جزء من عبودية ما سوى الله فإذا كان يرضيه ويسخطه غير الله فهو عبد لذلك الغير ففيه من الشرك بقدر محبته، وعبادته لذلك الغير زيادة. قال " الفضيل بن عياض " والله ما صدق الله في عبوديته من لأحد من المخلوقين عليه ربانية. وقال زيد بن عمرو بن نفيل:
أربا واحدا أم ألف رب ... أدين إذا انقسمت الأمور
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
المجلد الثانى
الحلقة (28)
من صــ 430 الى صــ 436
روى الإمام أحمد والترمذي والطبراني من حديث أسماء بنت عميس قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {بئس العبد عبد تخيل واختال ونسي الكبير المتعال، بئس العبد عبد تجبر واعتدى ونسي الجبار الأعلى بئس العبد عبد سهى ولهى ونسي المقابر والبلى بئس العبد عبد بغى واعتدى ونسي المبدأ والمنتهى بئس العبد عبد يختل الدنيا بالدين، بئس العبد عبد يختل الدين بالشبهات، بئس العبد عبد رغب يذله ويزيله عن الحق، بئس العبد عبد طمع يقوده، بئس العبد عبد هوى يضله} قال الترمذي غريب. وفي الحديث الصحيح المتقدم ما يقويه. والله أعلم.
وكذلك أحاديث وآثار كثيرة رويت في معنى ذلك. كما قال تعالى: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله} وطالب الرئاسة - ولو بالباطل - ترضيه الكلمة التي فيها تعظيمه وإن كانت باطلا، وتغضبه الكلمة التي فيها ذمه وإن كانت حقا.
والمؤمن ترضيه كلمة الحق له وعليه، وتغضبه كلمة الباطل له وعليه؛ لأن الله تعالى يحب الحق والصدق والعدل ويبغض الكذب والظلم. فإذا قيل: الحق والصدق والعدل الذي يحبه الله أحبه وإن كان فيه مخالفة هواه. لأن هواه قد صار تبعا لما جاء به الرسول. وإذا قيل: الظلم والكذب فالله يبغضه والمؤمن يبغضه ولو وافق هواه. وكذلك طالب " المال " - ولو بالباطل - كما قال تعالى: {ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون} وهؤلاء هم الذين قال فيهم:
{تعس عبد الدينار} الحديث. فكيف إذا استولى على القلب ما هو أعظم استعبادا من الدرهم والدينار من الشهوات والأهواء والمحبوبات التي تجذب القلب عن كمال محبته لله وعبادته لما فيها من المزاحمة والشرك بالمخلوقات كيف تدفع القلب وتزيغه عن كمال محبته لربه وعبادته وخشيته لأن كل محبوب يجذب قلب محبه إليه ويزيغه عن محبة غير محبوبه، وكذلك المكروه يدفعه ويزيله ويشغله عن عبادة الله تعالى.
فصل:
إذا ظهر أن العبد وكل مخلوق فقير إلى الله محتاج إليه ليس فقيرا إلى سواه فليس هو مستغنيا بنفسه ولا بغير ربه؛ فإن ذلك الغير فقير أيضا محتاج إلى الله ومن المأثور عن أبي يزيد - رحمه الله - أنه قال: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة الغريق بالغريق.
وعن الشيخ أبي عبد الله القرشي أنه قال: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون. وهذا تقريب وإلا فهو كاستغاثة العدم بالعدم؛ فإن المستغاث به إن لم يخلق الحق فيه قوة وحولا وإلا فليس له من نفسه شيء قال سبحانه: {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} وقال تعالى: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} وقال تعالى: {وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله}.
واسم العبد يتناول معنيين. " أحدهما " بمعنى العابد كرها كما قال: {إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا} وقال: {وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها} وقال: {بديع السماوات والأرض} {كل له قانتون} وقال: {ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها}.
و " الثاني " بمعنى العابد طوعا وهو الذي يعبده ويستعينه وهذا هو المذكور في قوله: {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا} وقوله: {عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا} وقوله: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان} وقوله: {إلا عبادك منهم المخلصين} وقوله: {يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون} وقوله: {واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب} وقوله:
{فأوحى إلى عبده ما أوحى} وقوله: {نعم العبد إنه أواب} وقوله: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا} وقوله: {وأنه لما قام عبد الله يدعوه}.
وهذه العبودية قد يخلو الإنسان منها تارة وأما الأولى فوصف لازم إذا أريد بها جريان القدر عليه وتصريف الخالق له قال تعالى: {أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون} وعامة السلف على أن المراد بالاستسلام استسلامهم له بالخضوع والذل لا مجرد تصريف الرب لهم كما في قوله: {
ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها} وهذا الخضوع والذل هو أيضا لازم لكل عبد لا بد له من ذلك وإن كان قد يعرض له أحيانا الإعراض عن ربه والاستكبار فلا بد له عند التحقيق من الخضوع والذل له؛ لكن المؤمن يسلم له طوعا فيحبه ويطيع أمره والكافر إنما يخضع له عند رغبة ورهبة فإذا زال عنه ذلك أعرض عن ربه كما قال:
{وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه} وقال: {وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا}.
وفقر المخلوق وعبوديته أمر ذاتي له لا وجود له بدون ذلك والحاجة ضرورية لكل المصنوعات المخلوقات وبذلك هي أنها لخالقها وفاطرها إذ لا قيام لها بدونه وإنما يفترق الناس في شهود هذا الفقر والاضطرار وعزوبه عن قلوبهم.
و " أيضا " فالعبد يفتقر إلى الله من جهة أنه معبوده الذي يحبه حب إجلال وتعظيم فهو غاية مطلوبه ومراده ومنتهى همته ولا صلاح له إلا بهذا وأصل الحركات الحب والذي يستحق المحبة لذاته هو الله فكل من أحب مع الله شيئا فهو مشرك وحبه فساد؛ وإنما الحب الصالح النافع حب الله والحب لله والإنسان فقير إلى الله من جهة عبادته له ومن جهة استعانته به للاستسلام والانقياد لمن أنت إليه فقير وهو ربك وإلهك.
وهذا العلم والعمل أمر فطري ضروري؛ فإن النفوس تعلم فقرها إلى خالقها وتذل لمن افتقرت إليه وغناه من الصمدية التي انفرد بها فإنه {يسأله من في السماوات والأرض} وهو شهود الربوبية بالاستعانة والتوكل والدعاء والسؤال ثم هذا لا يكفيها حتى تعلم ما يصلحها من العلم والعمل وذلك هو عبادته والإنابة إليه؛ فإن العبد إنما خلق لعبادة ربه فصلاحه وكماله ولذته وفرحه وسروره في أن يعبد ربه وينيب إليه وذلك قدر زائد على مسألته والافتقار إليه؛ فإن جميع الكائنات حادثة بمشيئته قائمة بقدرته وكلمته محتاجة إليه فقيرة إليه مسلمة له طوعا وكرها فإذا شهد العبد ذلك وأسلم له وخضع فقد آمن بربوبيته ورأى حاجته وفقره إليه صار سائلا له متوكلا عليه مستعينا به إما بحاله أو بقاله بخلاف المستكبر عنه المعرض عن مسألته. ثم هذا المستعين به السائل له إما أن يسأل ما هو مأمور به أو ما هو منهي عنه أو ما هو مباح له؛ ف " الأول " حال المؤمنين السعداء الذين حالهم {إياك نعبد وإياك نستعين} و
" الثاني " حال الكفار والفساق والعصاة الذين فيهم إيمان به وإن كانوا كفارا كما قال: {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} فهم مؤمنون بربوبيته مشركون في عبادته كما {قال النبي صلى الله عليه وسلم لحصين الخزاعي:يا حصين كم تعبد؟ قال: سبعة آلهة: ستة في الأرض وواحدا في السماء قال: فمن الذي تعد لرغبتك ورهبتك؟ قال: الذي في السماء قال: أسلم حتى أعلمك كلمة ينفعك الله تعالى بها فأسلم فقال: قل: اللهم ألهمني رشدي وقني شر نفسي} رواه أحمد وغيره. ولهذا قال سبحانه وتعالى:
{وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون} أخبر سبحانه أنه قريب من عباده يجيب دعوة الداعي إذا دعاه فهذا إخبار عن ربوبيته لهم وإعطائه سؤلهم وإجابة دعائهم؛ فإنهم إذا دعوه فقد آمنوا بربوبيته لهم وإن كانوا مع ذلك كفارا من وجه آخر وفساقا أو عصاة قال تعالى: {وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا} وقال تعالى:
{وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون} ونظائره في القرآن كثيرة ثم أمرهم بأمرين فقال: {فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون} فـ " الأول " أن يطيعوه فيما أمرهم به من العبادة والاستعانة و " الثاني " الإيمان بربوبيته وألوهيته وأنه ربهم وإلههم.
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
المجلد الثانى
الحلقة (29)
من صــ 437 الى صــ 443
ولهذا قيل: إجابة الدعاء تكون عن صحة الاعتقاد وعن كمال الطاعة؛لأنه عقب آية الدعاء بقوله: {فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي} والطاعة والعبادة هي مصلحة العبد التي فيها سعادته ونجاته وأما إجابة دعائه وإعطاء سؤاله فقد يكون منفعة وقد يكون مضرة قال تعالى: {ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا} وقال تعالى:
{ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم} وقال تعالى عن المشركين: {وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم} وقال: {إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح وإن تنتهوا فهو خير لكم} وقال: {ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين} وقال:
{واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين} {ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه} الآية وقال: {فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين} {وقال النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل على أهل جابر فقال: لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير؛ فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون}.
فصل:
فالعبد كما أنه فقير إلى الله دائما في إعانته وإجابة دعوته وإعطاء سؤاله وقضاء حوائجه فهو فقير إليه في أن يعلم ما يصلحه وما هو الذي يقصده ويريده وهذا هو الأمر والنهي والشريعة وإلا فإذا قضيت حاجته التي طلبها وأرادها ولم تكن مصلحة له كان ذلك ضررا عليه وإن كان في الحال له فيه لذة ومنفعة فالاعتبار بالمنفعة الخالصة أو الراجحة وهذا قد عرفه الله عباده برسله وكتبه: علموهم وزكوهم وأمروهم بما ينفعهم ونهوهم عما يضرهم وبينوا لهم أن مطلوبهم ومقصودهم ومعبودهم يجب أن يكون هو الله وحده لا شريك له؛ كما أنه هو ربهم وخالقهم وأنهم إن تركوا عبادته أو أشركوا به غيره خسروا خسرانا مبينا وضلوا ضلالا بعيدا وكان ما أوتوه من قوة ومعرفة وجاه ومال وغير ذلك - وإن كانوا فيه فقراء إلى الله مستعينين به عليه مقرين بربوبيته - فإنه ضرر عليهم ولهم بئس المصير وسوء الدار.
وهذا هو الذي تعلق به الأمر الديني الشرعي والإرادة الدينية الشرعية كما تعلق بالأول الأمر الكوني القدري والإرادة الكونية القدرية.
والله سبحانه قد أنعم على المؤمنين بالإعانة والهداية؛ فإنه بين لهم هداهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب وأعانهم على اتباع ذلك علما وعملا كما من عليهم وعلى سائر الخلق بأن خلقهم ورزقهم وعافاهم ومن على أكثر الخلق بأن عرفهم ربوبيته لهم وحاجتهم إليه وأعطاهم سؤلهم وأجاب دعاءهم قال تعالى: {يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن} فكل أهل السموات والأرض يسألونه فصارت الدرجات أربعة.
" قوم " لم يعبدوه ولم يستعينوه وقد خلقهم ورزقهم وعافاهم. و " قوم " استعانوه فأعانهم ولم يعبدوه.
و " قوم " طلبوا عبادته وطاعته ولم يستعينوه ولم يتوكلوا عليه. و " الصنف الرابع " الذين عبدوه واستعانوه فأعانهم على عبادته وطاعته وهؤلاء هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقد بين سبحانه ما خص به المؤمنين في قوله: {حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون}. والحمد لله رب العالمين وصلى الله على أفضل المرسلين محمد وآله وصحبه أجمعين.
(فصل في أن العبد كلما كان أذل لله وأعظم افتقارا إليه وخضوعا له: كان أقرب إليه، وأعز له، وأعظم لقدره)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
والعبد كلما كان أذل لله وأعظم افتقارا إليه وخضوعا له: كان أقرب إليه، وأعز له، وأعظم لقدره، فأسعد الخلق: أعظمهم عبودية لله. وأما المخلوق فكما قيل: احتج إلى من شئت تكن أسيره، واستغن عمن شئت تكن نظيره، وأحسن إلى من شئت تكن أميره، ولقد صدق القائل:
بين التذلل والتدلل نقطة ... في رفعها تتحير الأفهام
ذاك التذلل شرك ... فافهم يا فتى بالخلف (1)
فأعظم ما يكون العبد قدرا وحرمة عند الخلق: إذا لم يحتج إليهم بوجه من الوجوه، فإن أحسنت إليهم مع الاستغناء عنهم: كنت أعظم ما يكون عندهم، ومتى احتجت إليهم - ولو في شربة ماء - نقص قدرك عندهم بقدر حاجتك إليهم، وهذا من حكمة الله ورحمته، ليكون الدين كله لله، ولا يشرك به شيء. ولهذا قال حاتم الأصم، لما سئل فيم السلامة من الناس؟ قال:
أن يكون شيؤك لهم مبذولا وتكون من شيئهم آيسا، لكن إن كنت معوضا لهم عن ذلك وكانوا محتاجين، فإن تعادلت الحاجتان تساويتم كالمتبايعين ليس لأحدهما فضل على الآخر وإن كانوا إليك أحوج خضعوا لك. فالرب سبحانه: أكرم ما تكون عليه أحوج ما تكون إليه. وأفقر ما تكون إليه. والخلق: أهون ما يكون عليهم أحوج ما يكون إليهم، لأنهم كلهم محتاجون في أنفسهم، فهم لا يعلمون حوائجك، ولا يهتدون إلى مصلحتك، بل هم جهلة بمصالح أنفسهم، فكيف يهتدون إلى مصلحة غيرهم فإنهم لا يقدرون عليها، ولا يريدون من جهة أنفسهم، فلا علم ولا قدرة ولا إرادة.
والرب تعالى يعلم مصالحك ويقدر عليها، ويريدها رحمة منه وفضلا، وذلك صفته من جهة نفسه، لا شيء آخر جعله مريدا راحما، بل رحمته من لوازم نفسه، فإنه كتب على نفسه الرحمة، ورحمته وسعت كل شيء، والخلق كلهم محتاجون، لا يفعلون شيئا إلا لحاجتهم ومصلحتهم، وهذا هو الواجب عليهم والحكمة، ولا ينبغي لهم إلا ذلك، لكن السعيد منهم الذي يعمل لمصلحته التي هي مصلحة، لا لما يظنه مصلحة وليس كذلك. فهم ثلاثة أصناف: ظالم. وعادل. ومحسن.
فالظالم: الذي يأخذ منك مالا أو نفعا ولا يعطيك عوضه، أو ينفع نفسه بضررك.
والعادل: المكافئ. كالبايع لا لك ولا عليك كل به يقوم الوجود، وكل منهما محتاج إلى صاحبه كالزوجين والمتبايعين والشريكين. والمحسن الذي يحسن لا لعوض يناله منك. فهذا إنما عمل لحاجته ومصلحته، وهو انتفاعه بالإحسان، وما يحصل له بذلك مما تحبه نفسه من الأجر، أو طلب مدح - الخلق وتعظيمهم، أو التقرب إليك، إلى غير ذلك.
وبكل حال: ما أحسن إليك إلا لما يرجو من الانتفاع. وسائر الخلق إنما يكرمونك ويعظمونك لحاجتهم إليك، وانتفاعهم بك، إما بطريق المعاوضة؛ لأن كل واحد من المتبايعين والمتشاركين والزوجين محتاج إلى الآخر، والسيد محتاج إلى مماليكه وهم محتاجون إليه، والملوك محتاجون إلى الجند والجند محتاجون إليهم، وعلى هذا بني أمر العالم، وأما بطريق الإحسان منك إليهم.
فأقرباؤك وأصدقاؤك وغيرهم إذا أكرموك لنفسك، فهم إنما يحبونك ويكرمونك لما يحصل لهم بنفسك من الكرامة، فلو قد وليت ولوا عنك وتركوك فهم في الحقيقة إنما يحبون أنفسهم، وأغراضهم. فهؤلاء كلهم من الملوك إلى من دونهم تجد أحدهم سيدا مطاعا وهو في الحقيقة عبد مطيع وإذا أوذي أحدهم بسبب سيده أو من يطيعه تغير الأمر بحسب الأحوال، ومتى كنت محتاجا إليهم نقص الحب والإكرام والتعظيم بحسب ذلك وإن قضوا حاجتك.
والرب تعالى: يمتنع أن يكون المخلوق الآخرين له أو متفضلا عليه؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول إذا رفعت مائدته: {الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه غير مكفي ولا مكفور ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا} رواه البخاري من حديث أبي أمامة بل ولا يزال الله هو المنعم المتفضل على العبد وحده لا شريك له في ذلك؛ بل ما بالخلق كلهم من نعمة فمن الله؛ وسعادة العبد في كمال افتقاره إلى الله، واحتياجه إليه، وأن يشهد ذلك ويعرفه ويتصف معه بموجبه، أي بموجب علمه ذلك. فإن الإنسان قد يفتقر ولا يعلم مثل أن يذهب ماله ولا يعلم، بل يظنه باقيا فإذا علم بذهابه صار له حال آخر، فكذلك الخلق كلهم فقراء إلى الله، لكن أهل الكفر والنفاق في جهل بهذا وغفلة عنه وإعراض عن تذكره والعمل به، والمؤمن يقر بذلك ويعمل بموجب إقراره، وهؤلاء هم عباد الله.
(فصل في أن العبادة والاستعانة لله وحده لا شريك له)
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
فأما العبادة والاستعانة فلله وحده لا شريك له كما قال: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا} {إياك نعبد وإياك نستعين}. {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء} وقد جمع بينهما في مواضع كقوله: {فاعبده وتوكل عليه}.
وقوله: {وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده}. وقوله: {عليه توكلت وإليه أنيب}. وكذلك التوكل كما قال: {وعلى الله فليتوكل المتوكلون} وقال: {قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون} وقال: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل}.
__________
Q (1) هكذا بالأصل
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
المجلد الثانى
الحلقة (30)
من صــ 444 الى صــ 450
والدعاء لله وحده سواء كان دعاء العبادة أو دعاء المسألة والاستعانة كما قال تعالى: {وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا} {وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا} {قل إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحدا} وقال تعالى: {فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون} وقال: {فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين} وقال: {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه}.
وذم الذين يدعون الملائكة والأنبياء وغيرهم فقال:
{قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا} روي عن ابن مسعود: أن قوما كانوا يدعون الملائكة والمسيح وعزيرا فقال الله: هؤلاء الذين تدعونهم يخافون الله ويرجونه ويتقربون إليه كما تخافونه أنتم وترجونه وتتقربون إليه.
وقال تعالى: {وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه} وقال: {أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله}؟ وقال: {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون}. وتوحيد الله وإخلاص الدين له في عبادته واستعانته في القرآن: كثير جدا بل هو قلب الإيمان وأول الإسلام وآخره.
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم {أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله} وقال: {إني لأعلم كلمة لا يقولها عند الموت أحد إلا وجد روحه لها روحا} وقال: {من كان آخر كلامه لا إله إلا الله: وجبت له الجنة} وهو قلب الدين والإيمان.
وسائر الأعمال كالجوارح له. وقول النبي صلى الله عليه وسلم {إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله: فهجرته إلى الله ورسوله. ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها: فهجرته إلى ما هاجر إليه} فبين بهذا أن النية عمل القلب وهي أصل العمل.
وإخلاص الدين لله وعبادة الله وحده ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به هو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله. ولهذا أنكرنا على الشيخ يحيى الصرصري: ما يقوله في قصائده في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم من الاستغاثة به مثل قوله: بك أستغيث وأستعين وأستنجد. ونحو ذلك.
وكذلك ما يفعله كثير من الناس من استنجاد الصالحين والمتشبهين بهم والاستعانة بهم أحياء وأمواتا فإني أنكرت ذلك في مجالس عامة وخاصة وبينت للناس التوحيد ونفع الله بذلك ما شاء الله من الخاصة والعامة. وهو دين الإسلام العام الذي بعث الله به جميع الرسل. كما قال تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} وقال: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} وقال: {واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون} وقال:
{يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم} {وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون} وقال: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه} وقال: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}. {وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل: يا معاذ أتدري ما حق الله على عباده؟ قلت الله ورسوله أعلم.
قال: حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا. أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ أن لا يعذبهم} وقال لابن عباس: {إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله}.
ويدخل في العبادة الخشية والإنابة والإسلام والتوبة كما قال تعالى: {الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله} وقال: {فلا تخشوا الناس واخشون} وقال: {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله}وقال الخليل: {ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون} {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون}. وقال: {ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم} إلى قوله: {أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين} {وإياي فاتقون} وقال: {ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه} وقال نوح: {أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون}.
فجعل العبادة والتقوى لله وجعل له أن يطاع. كما قال تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله}. وكذلك قالت الرسل مثل نوح وهود وصالح وشعيب ولوط وغيرهم: {فاتقوا الله وأطيعون} فجعلوا التقوى لله وجعلوا لهم أن يطاعوا. وكذلك في مواضع كثيرة جدا من القرآن: {اتقوا الله} {اتقوا الله}. {ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله}. وكذلك. . . (1) وقال: {عليه توكلت وإليه أنيب} وقال: {وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له} وقال عن إبراهيم: {إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين}.
وقالت بلقيس: {إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين} وقال: {ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا} وقال: {بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه} وقال: {وتوبوا إلى الله جميعا} {ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا} وقال: {فتوبوا إلى بارئكم} {توبوا إلى الله توبة نصوحا} والاستغفار: {استغفروا ربكم إنه كان غفارا}{وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه}.
والاسترزاق والاستنصار كما في صلاة الاستسقاء والقنوت على الأعداء قال: {فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له} وقال: {إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون} والاستغاثة كما قال: {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم} والاستجارة كما قال: {قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون} {سيقولون لله قل فأنى تسحرون} والاستعاذة كما قال: {قل أعوذ برب الفلق} و {قل أعوذ برب الناس} وقال:
{وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين} {وأعوذ بك رب أن يحضرون}. وقال: {فإذا قرأت القرآن} الآية. وتفويض الأمر كما قال مؤمن آل فرعون: {وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد}. وفي الحديث المتفق عليه في الدعاء الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم أن يقال عند المنام: " اللهم إني أسلمت نفسي إليك ووجهت وجهي إليك وفوضت أمري إليك وألجأت ظهري إليك ".
وقال: {وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع} وقال: {الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع} فالولي الذي يتولى أمرك كله والشفيع الذي يكون شافعا فيه أي عونا فليس للعبد دون الله من ولي يستقل ولا ظهير معين وقال: {وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله} وقال: {ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده}وقال:
{أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون} {قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والأرض} وقال: {قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير}. {ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له}.
وقال: {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} وقال: {وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى}.
فالعبادة والاستعانة وما يدخل في ذلك من الدعاء والاستغاثة والخشية والرجاء والإنابة والتوكل والتوبة والاستغفار كل هذا لله وحده لا شريك له فالعبادة متعلقة بألوهيته والاستعانة متعلقة بربوبيته والله رب العالمين لا إله إلا هو ولا رب لنا غيره لا ملك ولا نبي ولا غيره بل أكبر الكبائر الإشراك بالله وأن تجعل له ندا وهو خلقك والشرك أن تجعل لغيره شركا أي نصيبا في عبادتك وتوكلك واستعانتك كما قال من قال:
{ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} وكما قال تعالى: {وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء} وكما قال: {أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون} وكما قال: {ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع}.
وأصناف العبادات: الصلاة بأجزائها مجتمعة وكذلك أجزاؤها التي هي عبادة بنفسها من السجود والركوع والتسبيح والدعاء والقراءة والقيام لا يصلح إلا لله وحده. ولا يجوز أن يتنفل على طريق العبادة إلا لله وحده لا لشمس ولا لقمر
__________
[تعليق معد الكتاب للشاملة]
(1) بياض في الأصل
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
المجلد الثانى
الحلقة (31)
من صــ 451 الى صــ 457
ولا لملك ولا لنبي ولا صالح ولا لقبر نبي ولا صالح هذا في جميع ملل الأنبياء وقد ذكر ذلك في شريعتنا حتى نهي أن يتنفل على وجه التحية والإكرام للمخلوقات ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم معاذا أن يسجد له.
وقال: {لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها}. ونهى عن الانحناء في التحية ونهاهم أن يقوموا خلفه في الصلاة وهو قاعد. وكذلك الزكاة العامة من الصدقات كلها والخاصة لا يتصدق إلا لله كما قال تعالى: {وما لأحد عنده من نعمة تجزى} {إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى} وقال:
{إنما نطعمكم لوجه الله} وقال: {ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم} وقال: {وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون} فلا يجوز فعل ذلك على طريق الدين لا لملك ولا لشمس ولا لقمر ولا لنبي ولا لصالح كما يفعل بعض السؤال والمعظمين كرامة لفلان وفلان يقسمون بأشياء: إما من الأنبياء وإما من الصحابة وإما من الصالحين كما يقال: بكر وعلي ونور الدين أرسلان والشيخ عدي والشيخ جاليد.
وكذلك الحج لا يحج إلا إلى بيت الله فلا يطاف إلا به ولا يحلق الرأس إلا به ولا يوقف إلا بفنائه لا يفعل ذلك بنبي ولا صالح ولا بقبر نبي ولا صالح ولا بوثن وكذلك الصيام لا يصام عبادة إلا لله فلا يصام لأجل الكواكب والشمس والقمر ولا لقبور الأنبياء والصالحين ونحو ذلك.
وهذا كله تفصيل الشهادتين اللتين هما أصل الدين: شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدا عبده ورسوله والإله من يستحق إن يؤلهه العباد ويدخل فيه حبه وخوفه فما كان من توابع الألوهية فهو حق محض لله وما كان من أمور الرسالة فهو حق الرسول.
ولما كان أصل الدين الشهادتين: كانت هذه الأمة الشهداء ولها وصف الشهادة. والقسيسون لهم العبادة بلا شهادة ولهذا قالوا: {ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين} ولهذا كان المحققون على أن الشهادتين أول واجبات الدين كما عليه خلص أهل السنة وذكره منصور السمعاني والشيخ عبد القادر وغيرهما وجعله أصل الشرك وغيروا بذلك ملة التوحيد التي هي أصل الدين كما فعله قدماء المتفلسفة الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله.
ومن أسباب ذلك: الخروج عن الشريعة الخاصة التي بعث الله بها محمدا صلى الله عليه وسلم إلى القدر المشترك الذي فيه مشابهة الصابئين أو النصارى أو اليهود وهو القياس الفاسد المشابه لقياس الذين قالوا: {إنما البيع مثل الربا} فيريدون أن يجعلوا السماع جنسا واحدا والملة جنسا واحدا ولا يميزون بين مشروعه ومبتدعه ولا بين المأمور به والمنهي عنه. فالسماع الشرعي الديني سماع كتاب الله وتزيين الصوت به وتحبيره كما قال صلى الله عليه وسلم {زينوا القرآن بأصواتكم} وقال أبو موسى: لو علمت أنك تستمع لحبرته لك تحبيرا. والصور والأزواج والسراري التي أباحها الله تعالى.
والعبادة: عبادة الله وحده لا شريك له {في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال} {رجال}. وهذا المعنى يقرر قاعدة اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم. وينهى أن يشبه الأمر الديني الشرعي بالطبيعي البدعي لما بينهما من القدر المشترك كالصوت الحسن ليس هو وحده مشروعا حتى ينضم إليه القدر المميز كحروف القرآن فيصير المجموع من المشترك والمميز هو الدين النافع.
وقال - رحمه الله -:
فصل: في ألا يسأل العبد إلا الله
قال الله تعالى: {فإذا فرغت فانصب} {وإلى ربك فارغب} قال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس: {إذا سألت فاسأل الله. وإذا استعنت فاستعن بالله}. وفي الترمذي: {ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى شسع نعله إذا انقطع فإنه إن لم ييسره لم يتيسر} وفي الصحيح أنه قال لعدي بن مالك والرهط الذين بايعهم معه: {لا تسألوا الناس شيئا} فإن سوط أحدهم يسقط من يده: فلا يقول لأحد ناولني إياه وفي الصحيح في حديث السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب:
{هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون} والاسترقاء طلب الرقية وهو نوع من السؤال. وأحاديث النهي عن مسألة الناس الأموال كثيرة كقوله: {لا تحل المسألة إلا لثلاثة} وقوله: {لأن يأخذ أحدكم حبله} الحديث وقوله {لا تزال المسألة بأحدهم}. وقوله: {من سأل الناس وله ما يغنيه}.
وأمثال ذلك. وقوله: {من نزلت به فاقة فأنزلها بالناس: لم تسد فاقته} الحديث. فأما سؤال ما يسوغ مثله من العلم:
فليس من هذا الباب لأن المخبر لا ينقص الجواب من علمه بل يزداد بالجواب والسائل محتاج إلى ذلك قال صلى الله عليه وسلم {هلا سألوا إذ لم يعلموا؟ فإن شفاء العي السؤال} ولكن من المسائل ما ينهى عنه. كما قال تعالى: {لا تسألوا عن أشياء} الآية. وكنهيه عن أغلوطات المسائل ونحو ذلك.
وأما سؤاله لغيره أن يدعو له: فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: {لا تنسنا من دعائك} وقال: {إذا سمعتم المؤذن: فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإنه من صلى علي مرة صلى الله عليه عشرا ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد فمن سأل الله لي الوسيلة حلت له شفاعتي يوم القيامة} وقد يقال في هذا: هو طلب من الأمة الدعاء له لأنهم إذا دعوا له حصل لهم من الأجر أكثر مما لو كان الدعاء لأنفسهم كما قال للذي قال:
أجعل صلاتي كلها عليك؟ فقال: {إذا يكفيك الله ما أهمك من أمر دنياك وآخرتك} فطلبه منهم الدعاء له لمصلحتهم كسائر أمره إياهم بما أمر به وذلك لما في ذلك من المصلحة لهم فإنه قد صح عنه أنه قال: {ما من رجل يدعو لأخيه بظهر الغيب بدعوة: إلا وكل الله به ملكا كلما دعا دعوة قال الملك الموكل به: آمين ولك مثله}.
وقال شيخ الإسلام - رحمه الله -:
فصل:
العبادات مبناها على الشرع والاتباع لا على الهوى والابتداع فإن الإسلام مبني على أصلين: أحدهما: أن نعبد الله وحده لا شريك له. والثاني: أن نعبده بما شرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم لا نعبده بالأهواء والبدع قال الله تعالى: {ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون} {إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا} الآية. وقال تعالى: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله}.
فليس لأحد أن يعبد الله إلا بما شرعه رسوله صلى الله عليه وسلم من واجب ومستحب لا يعبده بالأمور المبتدعة كما ثبت في السنن من حديث العرباض بن سارية " قال " الترمذي ": حديث حسن صحيح. وفي مسلم " أنه كان يقول في خطبته: {خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة}.
وليس لأحد أن يعبد إلا الله وحده فلا يصلي إلا لله ولا يصوم إلا لله ولا يحج إلا بيت الله ولا يتوكل إلا على الله ولا يخاف إلا الله ولا ينذر إلا لله ولا يحلف إلا بالله. وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت}. وفي السنن:
{من حلف بغير الله فقد أشرك} وعن ابن مسعود " لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقا " لأن الحلف بغير الله شرك والحلف بالله توحيد. وتوحيد معه كذب خير من شرك معه صدق ولهذا كان غاية الكذب أن يعدل بالشرك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم {عدلت شهادة الزور الإشراك بالله مرتين أو ثلاثا} وقرأ قوله تعالى {ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق} وإذا كان الحالف بغير الله قد أشرك فكيف الناذر لغير الله؟. والنذر أعظم من الحلف ولهذا لو نذر لغير الله فلا يجب الوفاء به باتفاق المسلمين. مثل أن ينذر لغير الله صلاة أو صوما أو حجا أو عمرة أو صدقة.
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
المجلد الثانى
الحلقة (32)
من صــ 458 الى صــ 464
ولو حلف ليفعلن شيئا لم يجب عليه أن يفعله قيل يجوز له أن يكفر عن اليمين ولا يفعل المحلوف عليه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم {من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه} وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن النذر وقال:
{إنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل} فإذا كان النذر لا يأتي بخير فكيف بالنذر للمخلوق ولكن النذر لله يجب الوفاء به إذا كان في طاعة وإذا كان معصية لم يجز الوفاء باتفاق العلماء وإنما تنازعوا هل فيه بدل أو كفارة يمين أم لا؟ لما رواه البخاري في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه}.
فمن ظن أن النذر للمخلوقين يجلب له منفعة أو يدفع عنه مضرة فهو من الضالين كالذين يظنون أن عبادة المخلوقين تجلب لهم منفعة أو تدفع عنهم مضرة. وهؤلاء المشركون قد تتمثل لهم الشياطين وقد تخاطبهم بكلام وقد تحمل أحدهم في الهواء وقد تخبره ببعض الأمور الغائبة وقد تأتيه بنفقة أو طعام أو كسوة أو غير ذلك كما جرى مثل ذلك لعباد الأصنام من العرب وغير العرب وهذا كثير موجود في هذا الزمان وغير هذا الزمان للضالين المبتدعين المخالفين للكتاب والسنة إما بعبادة غير الله وإما بعبادة لم يشرعها الله.
وهؤلاء إذا أظهر أحدهم شيئا خارقا للعادة لم يخرج عن أن يكون حالا شيطانيا أو حالا بهتانيا فخواصهم تقترن بهم الشياطين كما يقع لبعض العقلاء منهم وقد يحصل ذلك لغير هؤلاء لكن لا تقترن بهم الشياطين إلا مع نوع من البدعة إما كفر وإما فسق وإما جهل بالشرع.
فإن الشيطان قصده إغواء بحسب قدرته فإن قدر على أن يجعلهم كفارا جعلهم كفارا وإن لم يقدر إلا على جعلهم فساقا أو عصاة وإن لم يقدر إلا على نقص عملهم ودينهم ببدعة يرتكبونها يخالفون بها الشريعة التي بعث الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم فينتفع منهم بذلك.
ولهذا قال الأئمة: لو رأيتم الرجل يطير في الهواء أو يمشي على الماء فلا تغتروا به حتى تنظروا وقوفه عند الأمر والنهي ولهذا يوجد كثير من الناس يطير في الهواء وتكون الشياطين هي التي تحمله لا يكون من كرامات أولياء الله المتقين. ومن هؤلاء:
من يحمله الشيطان إلى عرفات فيقف مع الناس ثم يحمله فيرده إلى مدينته تلك الليلة ويظن هذا الجاهل أن هذا من أولياء الله ولا يعرف أنه يجب عليه أن يتوب من هذا وإن اعتقد أن هذا طاعة وقربة إليه فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل لأن الحج الذي أمر الله به ورسوله لا بد فيه من الإحرام والوقوف بعرفة ولا بد فيه من أن يطوف بعد ذلك طواف الإفاضة فإنه ركن لا يتم الحج إلا به بل عليه أن يقف بمزدلفة ويرمي الجمار ويطوف للوداع وعليه اجتناب المحظورات والإحرام من الميقات. إلى غير ذلك من واجبات الحج.
وهؤلاء الضالون الذين يضلهم الشيطان يحملهم في الهواء يحمل أحدهم بثيابه فيقف بعرفة ويرجع من تلك الليلة. حتى يرى في اليوم الواحد ببلده ويرى بعرفة. ومنهم من يتصور الشيطان بصورته ويقف بعرفة فيراه من يعرفه واقفا فيظن أنه ذلك الرجل وقف بعرفة. فإذا قال له ذلك الشيخ أنا لم أذهب العام إلى عرفة ظن أنه ملك خلق على صورة ذلك الشيخ وإنما هو شيطان تمثل على صورته ومثل هذا وأمثاله يقع كثيرا وهي أحوال شيطانية قال تعالى:
{ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين}. وذكر الرحمن هو الذكر الذي أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} وقال تعالى: {فإما يأتينكم مني هدى} - إلى قوله - {كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى} ونسيانها هو ترك الإيمان والعمل بها وإن حفظ حروفها قال ابن عباس: " تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة " وقرأ هذه الآية. فمن اتبع ما بعث الله به رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم من الكتاب والحكمة هداه الله وأسعده ومن أعرض عن ذلك ضل وشقي وأضله الشيطان وأشقاه. فالأحوال الرحمانية وكرامات أوليائه المتقين يكون سببه الإيمان فإن هذه حال أوليائه.
قال تعالى: {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون} {الذين آمنوا وكانوا يتقون} وتكون نعمة لله على عبده المؤمن في دينه ودنياه فتكون الحجة في الدين والحاجة في الدنيا للمؤمنين مثلما كانت معجزات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كانت الحجة في الدين والحاجة للمسلمين مثل البركة التي تحصل في الطعام والشراب كنبع الماء من بين أصابعه ومثل نزول المطر بالاستسقاء ومثل قهر الكفار وشفاء المريض بالدعاء ومثل الأخبار الصادقة والنافعة بما غاب عن الحاضرين وأخبار الأنبياء لا تكذب قط.
وأما أصحاب الأحوال الشيطانية فهم من جنس الكهان يكذبون تارة ويصدقون أخرى ولا بد في أعمالهم من مخالفة للأمر. قال تعالى: {هل أنبئكم على من تنزل الشياطين} {تنزل على كل أفاك أثيم} الآيتين. ولهذا يوجد الواحد من هؤلاء ملابسا الخبائث من النجاسات والأقذار
التي تحبها الشياطين ومرتكبا للفواحش أو ظالما للناس في أنفسهم وأموالهم وغير ذلك. والله تعالى قد حرم: {الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله} الآية. وأولياء الله هم الذين يتبعون رضاه بفعل المأمور وترك المحظور والصبر على المقدور وهذه جملة لها بسط طويل لا يتسع له هذا المكان. والله أعلم.
(اهدنا الصراط المستقيم (6) صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين (7)
وقال الشيخ - رحمه الله -:
فصل: في الصراط المستقيم: في " الزهد " و " العبادة " و " الورع " في ترك المحرمات والشهوات و " الاقتصاد " في العبادة. وأن لزوم السنة هو يحفظ من شر النفس والشيطان بدون الطرق المبتدعة فإن أصحابها لا بد أن يقعوا في الآصار والأغلال وإن كانوا متأولين فلا بد لهم من اتباع الهوى؛ ولهذا سمي أصحاب البدع أصحاب الأهواء؛ فإن طريق السنة علم وعدل وهدى؛ وفي البدعة جهل وظلم وفيها اتباع الظن وما تهوى الأنفس. و " الرسول " ما ضل وما غوى و " الضلال " مقرون بالغي؛ فكل غاو ضال؛ والرشد ضد الغي والهدى ضد الضلال وهو مجانبة طريق الفجار، وأهل البدع كما كان السلف ينهون عنهما.
قال تعالى: {فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا}.
و " الغي " في الأصل: مصدر غوى يغوي غيا؛ كما يقال: لوى يلوي ليا. وهو ضد الرشد كما قال تعالى: {وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا}.
و " الرشد " العمل الذي ينفع صاحبه والغي العمل الذي يضر صاحبه فعمل الخير رشد وعمل الشر غي؛ ولهذا قالت الجن: {وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا} فقابلوا بين الشر وبين الرشد وقال في آخر السورة: {قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا} ومنه " الرشيد " الذي يسلم إليه ماله. وهو الذي يصرف ماله فيما ينفع لا فيما يضر. وقال الشيطان: {لأغوينهم أجمعين} {إلا عبادك منهم المخلصين} وهو أن يأمرهم بالشر الذي يضرهم فيطيعونه كما قال تعالى: {وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي} وقال:
{وبرزت الجحيم للغاوين} إلى أن قال: {فكبكبوا فيها هم والغاوون} {وجنود إبليس أجمعون} وقال: {قال الذين حق عليهم القول ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا} وقال: {ما ضل صاحبكم وما غوى}.
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
المجلد الثانى
الحلقة (33)
من صــ 465 الى صــ 471
ثم إن " الغي " إذا كان اسما لعمل الشر الذي يضر صاحبه فإن عاقبة العمل أيضا تسمى غيا كما أن عاقبة الخير تسمى رشدا كما يسمى عاقبة الشر شرا وعاقبة الخير خيرا؛ وعاقبة الحسنات حسنات؛ وعاقبة السيئات سيئات.
" فالحسنات والسيئات " في كتاب الله يراد بها أعمال الخير، وأعمال الشر كما يراد بها النعم والمصائب والجزاء من جنس العمل فمن عمل خيرا وحسنات لقي خيرا وحسنات ومن عمل شرا وسيئات لقي شرا وسيئات.
كذلك من عمل غيا لقي غيا وترك الصلاة، واتباع الشهوات غي يلقى صاحبه غيا. فلهذا قال الزمخشري: كل شر عند العرب غي وكل خير رشاد. كما قيل: فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره ومن يغو لا يعدم على الغي لائما وقال الزجاج: جزاؤه غي؛ لقوله: {يلق أثاما} أي مجازاة آثام. وفي الحديث المأثور: {إن غيا واد في جهنم تستعيذ منه أوديتها} وهذا تعبير عن ملاقاة الشر.
وقال سبحانه: {أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات} فإن الصلاة فيها إرادة وجه الله. كما قال تعالى: {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه} أي يصلون صلاة الفجر والعصر. والداعي يقصد ربه ويريده فتكون القلوب في هذه الأشياء مريدة لربها محبة له.
واتباع الشهوات هو اتباع ما تشتهيه النفس؛ فإن " الشهوات " جمع شهوة والشهوة هي في الأصل: مصدر ويسمى المشتهى شهوة. تسمية للمفعول باسم المصدر.
قال تعالى {ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما} فجعل التوبة في مقابلة اتباع الشهوات فإنه يريد أن يتوب علينا: أي فالله يحب لنا ذلك ويرضاه ويأمر به {ويريد الذين يتبعون الشهوات} وهم الغاوون {أن تميلوا ميلا عظيما} يعدل بكم عن الصراط المستقيم إلى اتباع الشهوات عدولا عظيما فإن أصل " الميل " العدول فلا بد منه للذين يتبعون الشهوات كما قال صلى الله عليه وسلم {استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن} رواه أحمد وابن ماجه من حديث ثوبان. فأخبر أنا لا نطيق الاستقامة أو ثوابها إذا استقمنا.
وقال {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة} فقوله: {كل الميل} أي يريد نهاية الميل يريد الزيغ عن الطريق والعدول عن سواء الصراط إلى نهاية الشر؛ بل إذا بليت بذلك فتوسط وعد إلى الطريق بالتوبة. كما في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم {ميل المؤمن كميل الفرس في آخيته يحول ثم يرجع إلى آخيته. كذلك المؤمن يحول ثم يرجع إلى ربه} قال تعالى: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين} إلى قوله: {ونعم أجر العاملين} فلم يقل لا يظلمون ولا يذنبون.
بل قال: {إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم} أي بذنب آخر غير الفاحشة؛ فعطف العام على الخاص. كما قال موسى: {رب إني ظلمت نفسي} وقالت بلقيس: {رب إني ظلمت نفسي} وقال تعالى عموما عن أهل القرى المهلكة: {وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم} فظلموا أنفسهم بارتكابهم ما نهوا عنه؛ وبعصيانهم لأنبيائهم؛ وبتركهم التوبة إلى ربهم. وقوله تعالى {ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم} ولهذا قال: {والله يريد أن يتوب عليكم} ثم قال: {يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا}. قال مجاهد وغيره: يتبعون الشهوات الزنا وقال ابن زيد: هم أهل الباطل.
وقال السدي: هم اليهود والنصارى والجميع حق؛ فإنهم قد يتبعون الشهوات مع الكفر وقد يكون مع الاعتراف بأنها معصية. ثم ذكر أنه {وخلق الإنسان ضعيفا} وسياق الكلام يدل على أنه ضعيف عن ترك الشهوات فلا بد له من شهوة مباحة يستغني بها عن المحرمة؛ ولهذا قال طاووس ومقاتل: ضعيف في قلة الصبر عن النساء. وقال الزجاج وابن كيسان: ضعيف العزم عن قهر الهوى. وقيل: ضعيف في أصل الخلقة؛ لأنه خلق من ماء مهين، يروى ذلك عن الحسن لكن لا بد أن يوجد مع ذلك أنه ضعيف عن الصبر ليناسب ما ذكر في الآية فإنه قال: {يريد الله أن يخفف عنكم} وهو تسهيل التكليف بأن يبيح لكم ما تحتاجون إليه ولا تصبروا عنه. كما أباح نكاح الفتيات؛ وقد قال قبل ذلك {لمن خشي العنت منكم وأن تصبروا خير لكم والله غفور رحيم}.
فهو سبحانه مع إباحته نكاح الإماء عند عدم الطول وخشية العنت قال: {وأن تصبروا خير لكم} فدل ذلك على أنه يمكن الصبر مع خشية العنت وأنه ليس النكاح كإباحة الميتة عند المخمصة فإن ذلك لا يمكن الصبر عنه. وكذلك من أباح " الاستمناء " عند الضرورة فالصبر عن الاستمناء أفضل.
فقد روي عن ابن عباس: أن نكاح الإماء خير منه وهو خير من الزنا فإذا كان الصبر عن نكاح الإماء أفضل فعن الاستمناء بطريق الأولى أفضل. لا سيما وكثير من العلماء أو أكثرهم يجزمون بتحريمه مطلقا وهو أحد الأقوال في مذهب أحمد. واختاره ابن عقيل في المفردات، والمشهور عنه - يعني عن أحمد - أنه محرم إلا إذا خشي العنت. والثالث أنه مكروه إلا إذا خشي العنت. فإذا كان الله قد قال في نكاح الإماء: {وأن تصبروا خير لكم} ففيه أولى.
وذلك يدل على أن الصبر عن كليهما ممكن. فإذا كان قد أباح ما يمكن الصبر عنه فذلك لتسهيل التكليف كما قال تعالى: {يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا}.
قال شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية - رحمه الله تعالى -:
فصل:
وإنما فرض عليه من الدعاء الراتب الذي يتكرر بتكرر الصلوات بل الركعات فرضها ونفلها هو الدعاء الذي تتضمنه أم القرآن وهو قوله تعالى {اهدنا الصراط المستقيم} {صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} لأن كل عبد فهو مضطر دائما إلى مقصود هذا الدعاء وهو هداية الصراط المستقيم فإنه لا نجاة من العذاب إلا بهذه الهداية ولا وصول إلى السعادة إلا به فمن فاته هذا الهدى: فهو إما من المغضوب عليهم أو من الضالين.
وهذا الاهتداء لا يحصل إلا بهدى الله: {من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا} وهذه الآية مما يبين به فساد مذهب القدرية الذين يزعمون أن العبد لا يفتقر في حصول هذا الاهتداء.
بل كل عبد عندهم فمعه ما يحصل به الطاعة والمعصية لا فرق عندهم بين المؤمن والكافر ولم يخص الله المؤمن عندهم بهدى حصل به الاهتداء والكلام عليهم مبسوط في موضع آخر. والمقصود هنا أن كل عبد فهو مفتقر دائما إلى حصول هذه الهداية وأما سؤال من يقول: فقد هداهم إلى الإيمان فلا حاجة إلى الهدى.
وجواب من يجيب بأن المطلوب دوام الهدى. فكلام من لم يعرف حال الإنسان وما أمر به؛ فإن الصراط المستقيم حقيقته: أن تفعل كل وقت ما أمرت به في ذلك الوقت من علم وعمل ولا تفعل ما نهيت عنه وإلى أن يحصل له إرادة جازمة لفعل المأمور وكراهة جازمة لترك المحذور.
وهذا العلم المفصل والإرادة المفصلة لا يتصور أن يحصل للعبد في وقت واحد بل كل وقت يحتاج أن يجعل الله في قلبه من العلوم والإرادات ما يهدى به في ذلك الوقت.
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
المجلد الثانى
الحلقة (34)
من صــ 472 الى صــ 478
نعم حصل له هدى مجمل بأن القرآن حق ودين الإسلام حق والرسول حق ونحو ذلك ولكن هذا الهدى المجمل لا يغنيه إن لم يحصل هدى مفصل في كل ما يأتيه ويذره من الجزئيات التي يحار في كثير منها أكثر عقول الخلق ويغلب الهوى والشهوات أكثر الخلق لغلبة الشبهات والشهوات على النفوس.
والإنسان خلق ظلوما جهولا. فالأصل فيه عدم العلم وميله إلى ما يهواه من الشر فيحتاج دائما إلى علم مفصل يزول به جهله وعدل في محبته وبغضه ورضاه وغضبه وفعله وتركه وإعطائه ومنعه وكل ما يقوله ويعمله يحتاج فيه إلى عدل ينافي ظلمه فإن لم يمن الله عليه بالعلم المفصل والعدل المفصل كان فيه من الجهل والظلم ما يخرج به عن الصراط المستقيم.
وقد قال الله تعالى لنبيه بعد صلح الحديبية وبيعة الرضوان: {إنا فتحنا لك فتحا مبينا} {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما} {وينصرك الله نصرا عزيزا} فأخبر أنه فعل هذا؛ ليهديه صراطا مستقيما فإذا كان هذا حاله فكيف بحال غيره.
والصراط المستقيم قد فسر بالقرآن والإسلام وطريق العبودية فكل هذا حق فهو موصوف بهذا وبغيره فحاجته إلى هذه الهداية ضرورية في سعادته ونجاته بخلاف الحاجة إلى الرزق والنصر فإن الله يرزقه فإذا انقطع رزقه مات والموت لا بد منه فإن كان من أهل الهداية كان سعيدا بعد الموت وكان الموت موصلا له إلى السعادة الدائمة الأبدية فيكون رحمة في حقه.
وكذلك النصر إذا قدر أنه قهر وغلب حتى قتل فإذا كان من أهل الهداية والاستقامة مات شهيدا وكان القتل من تمام نعمة الله عليه فتبين أن حاجة العباد إلى الهدى أعظم من حاجتهم إلى الرزق والنصر بل لا نسبة بينهما؛ فلهذا كان هذا الدعاء هو المفروض عليهم.
وأيضا فإن هذا الدعاء يتضمن الرزق والنصر. لأنه إذا هدي الصراط المستقيم كان من المتقين {ومن يتق الله يجعل له مخرجا} {ويرزقه من حيث لا يحتسب} وكان من المتوكلين {ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره} وكان ممن ينصر الله ورسوله ومن ينصر الله ينصره الله وكان من جند الله وجند الله هم الغالبون. فالهدى التام يتضمن حصول أعظم ما يحصل به الرزق والنصر.
فتبين أن هذا الدعاء هو الجامع لكل مطلوب يحصل به كل منفعة ويندفع به كل مضرة فلهذا فرض على العبد. وهذا مما يبين أن غير الفاتحة لا يقوم مقامها أصلا وأن فضلها على غيرها من الكلام أعظم من فضل الركوع والسجود على سائر أفعال الخضوع فإذا تعينت الأفعال فهذا أولى. والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
فصل:
والعبد مضطر دائما إلى أن يهديه الله الصراط المستقيم فهو مضطر إلى مقصود هذا الدعاء؛ فإنه لا نجاة من العذاب ولا وصول إلى السعادة إلا بهذه الهداية فمن فاته فهو إما من المغضوب عليهم وإما من الضالين وهذا الهدى لا يحصل إلا بهدى الله وهذه الآية مما يبين فساد مذهب القدرية.
وأما سؤال من يقول فقد هداهم فلا حاجة بهم إلى السؤال وجواب من أجابه بأن المطلوب دوامها كلام من لم يعرف حقيقة الأسباب وما أمر الله به؛ فإن الصراط المستقيم أن يفعل العبد في كل وقت ما أمر به في ذلك الوقت من علم وعمل ولا يفعل ما نهي عنه وهذا يحتاج في كل وقت إلى أن يعلم ويعمل ما أمر به في ذلك الوقت وما نهي عنه وإلى أن يحصل له إرادة جازمة لفعل المأمور وكراهة جازمة لترك المحظور فهذا العلم المفصل والإرادة المفصلة لا يتصور أن تحصل للعبد في وقت واحد بل كل وقت يحتاج إلى أن يجعل الله في قلبه من العلوم والإرادات ما يهتدي به في ذلك الصراط المستقيم.
نعم حصل له هدى مجمل بأن القرآن حق والرسول حق ودين الإسلام حق وذلك حق؛ ولكن هذا المجمل لا يغنيه إن لم يحصل له هدى مفصل في كل ما يأتيه ويذره من الجزئيات التي يحار فيها أكثر عقول الخلق ويغلب الهوى والشهوات أكثر عقولهم لغلبة الشهوات والشبهات عليهم.
والإنسان خلق ظلوما جهولا فالأصل فيه عدم العلم وميله إلى ما يهواه من الشر فيحتاج دائما إلى علم مفصل يزول به جهله وعدل في محبته وبغضه ورضاه وغضبه وفعله وتركه وإعطائه ومنعه وأكله وشربه ونومه ويقظته فكل ما يقوله ويعمله يحتاج فيه إلى علم ينافي جهله وعدل ينافي ظلمه فإن لم يمن الله عليه بالعلم المفصل والعدل المفصل كان فيه من الجهل والظلم ما يخرج به عن الصراط المستقيم وقد قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بعد صلح الحديبية وبيعة الرضوان: {إنا فتحنا لك فتحا مبينا} إلى قوله تعالى:
{ويهديك صراطا مستقيما} فإذا كان هذه حاله في آخر حياته أو قريبا منها فكيف حال غيره.
والصراط المستقيم قد فسر بالقرآن وبالإسلام وطريق العبودية وكل هذا حق.
فهو موصوف بهذا وبغيره فـ " القرآن " مشتمل على مهمات وأمور دقيقة ونواه وأخبار وقصص وغير ذلك إن لم يهد الله العبد إليها فهو جاهل بها ضال عنها وكذلك " الإسلام " وما اشتمل عليه من المكارم والطاعات والخصال المحمودة وكذلك " العبادة وما اشتملت عليه ".
فحاجة العبد إلى سؤال هذه الهداية ضرورية في سعادته ونجاته وفلاحه؛ بخلاف حاجته إلى الرزق والنصر فإن الله يرزقه فإذا انقطع رزقه مات والموت لا بد منه فإذا كان من أهل الهدى به كان سعيدا قبل الموت وبعده وكان الموت موصلا إلى السعادة الأبدية وكذلك النصر إذا قدر أنه غلب حتى قتل فإنه يموت شهيدا وكان القتل من تمام النعمة فتبين أن الحاجة إلى الهدى أعظم من الحاجة إلى النصر والرزق؛
بل لا نسبة بينهما؛ لأنه إذا هدي كان من المتقين {ومن يتق الله يجعل له مخرجا} {ويرزقه من حيث لا يحتسب} وكان ممن ينصر الله ورسوله ومن نصر الله نصره الله وكان من جند الله وهم الغالبون؛ ولهذا كان هذا الدعاء هو المفروض.
و" أيضا " فإنه يتضمن الرزق والنصر؛ لأنه إذا هدي ثم أمر وهدى غيره بقوله وفعله ورؤيته فالهدى التام أعظم ما يحصل به الرزق والنصر فتبين أن هذا الدعاء جامع لكل مطلوب وهذا مما يبين لك أن غير الفاتحة لا يقوم مقامها وأن فضلها على غيرها من الكلام أعظم من فضل الركوع والسجود على سائر أفعال الخضوع فإذا تعينت الأفعال فهذا القول أولى والله أعلم. وصلى الله على نبيه محمد وسلم تسليما كثيرا.
(فصل: المؤمن قد هدي إلى الصراط المستقيم فأي فائدة في طلب الهدى)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
وقال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - كلهم يخاف النفاق على نفسه وعن علي - أو حذيفة - رضي الله عنهما ما - قال: القلوب " أربعة ". قلب أجرد فيه سراج يزهر فذلك قلب المؤمن وقلب أغلف فذاك قلب الكافر وقلب منكوس.
فذاك قلب المنافق وقلب فيه مادتان: مادة تمده الإيمان ومادة تمده النفاق فأولئك قوم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا. وإذا عرف هذا علم أن كل عبد ينتفع بما ذكر الله في الإيمان من مدح شعب الإيمان وذم شعب الكفر وهذا كما يقول بعضهم في قوله: {اهدنا الصراط المستقيم}.
فيقولون المؤمن قد هدي إلى الصراط المستقيم فأي فائدة في طلب الهدى ثم يجيب بعضهم بأن المراد ثبتنا على الهدى كما تقول العرب للنائم: نم حتى آتيك أو يقول بعضهم ألزم قلوبنا الهدى فحذف الملزوم ويقول بعضهم زدني هدى وإنما يوردون هذا السؤال لعدم تصورهم الصراط المستقيم الذي يطلب العبد الهداية إليه؛ فإن المراد به العمل بما أمر الله به وترك ما نهى الله عنه في جميع الأمور.
والإنسان وإن كان أقر بأن محمدا رسول الله وأن القرآن حق على سبيل الإجمال فأكثر ما يحتاج إليه من العلم بما ينفعه ويضره وما أمر به وما نهى عنه في تفاصيل الأمور وجزئياتها لم يعرفه وما عرفه فكثير منه لم يعمل بعلمه ولو قدر أنه بلغه كل أمر ونهي في القرآن والسنة فالقرآن والسنة إنما تذكر فيهما الأمور العامة الكلية لا يمكن غير ذلك لا تذكر ما يخص به كل عبد ولهذا أمر الإنسان في مثل ذلك بسؤال الهدى إلى الصراط المستقيم.
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
المجلد الثانى
الحلقة (35)
من صــ 479 الى صــ 485
والهدى إلى الصراط المستقيم يتناول هذا كله يتناول التعريف بما جاء به الرسول مفصلا ويتناول التعريف بما يدخل في أوامره الكليات ويتناول إلهام العمل بعلمه فإن مجرد العلم بالحق لا يحصل به الاهتداء إن لم يعمل بعلمه ولهذا قال لنبيه بعد صلح الحديبية:
{إنا فتحنا لك فتحا مبينا} {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما} وقال في حق موسى وهارون: {وآتيناهما الكتاب المستبين} {وهديناهما الصراط المستقيم} والمسلمون قد تنازعوا فيما شاء الله من الأمور الخبرية والعلمية الاعتقادية والعملية مع أنهم كلهم متفقون على أن محمدا حق والقرآن حق فلو حصل لكل منهم الهدى إلى الصراط المستقيم فيما اختلفوا فيه لم يختلفوا ثم الذين علموا ما أمر الله به أكثرهم يعصونه ولا يحتذون حذوه فلو هدوا إلى الصراط المستقيم في تلك الأعمال لفعلوا ما أمروا به وتركوا ما نهوا عنه والذين هداهم الله من هذه الأمة حتى صاروا من أولياء الله المتقين كان من أعظم أسباب ذلك دعاؤهم الله بهذا الدعاء في كل صلاة مع علمهم بحاجتهم وفاقتهم إلى الله دائما في أن يهديهم الصراط المستقيم.
فبدوام هذا الدعاء والافتقار صاروا من أولياء الله المتقين. قال سهل بن عبد الله التستري ليس بين العبد وبين ربه طريق أقرب إليه من الافتقار وما حصل فيه الهدى في الماضي فهو محتاج إلى حصول الهدى فيه في المستقبل وهذا حقيقة قول من يقول: ثبتنا واهدنا لزوم الصراط.
وقول من قال: زدنا هدى يتناول ما تقدم؛ لكن هذا كله هدى منه في المستقبل إلى الصراط المستقيم؛ فإن العمل في المستقبل بالعلم لم يحصل بعد ولا يكون مهتديا حتى يعمل في المستقبل بالعلم وقد لا يحصل العلم في المستقبل بل يزول عن القلب وإن حصل فقد لا يحصل العمل فالناس كلهم مضطرون إلى هذا الدعاء؛ ولهذا فرضه الله عليهم في كل صلاة فليسوا إلى شيء من الدعاء أحوج منهم إليه وإذا حصل الهدى إلى الصراط المستقيم حصل النصر والرزق وسائر ما تطلب النفوس من السعادة والله أعلم.
(فصل قد يكون النزاع اللفظي مع اتحاد المعنى لا تنوعه)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
وقد يكون النزاع اللفظي مع اتحاد المعنى لا تنوعه وكثير من تنازع الأمة في دينهم هو من هذا الباب في الأصول والفروع والقرآن والحديث وغير ذلك.
مثال التنوع الذي ليس فيه نزاع لفظي أن يقول أحدهما: الصراط المستقيم هو الإسلام. ويقول الآخر: هو السنة والجماعة. ويقول الآخر: هو القرآن.
ويقول الآخر: هو طريق العبودية. فإن هذا تنوع في الأسماء والصفات التي يبين بها الصراط المستقيم بمنزلة أسماء الله وأسماء رسوله وكتابه وليس بينها تضاد لا في اللفظ ولا في المعنى.
وكذلك إذا قال بعضهم في السابق والمقتصد والظالم أقوالا يذكر فيها كل قوم نوعا من المسلمين ويكون الاسم متناولا للجميع من غير منافاة. ومثال التنوع الذي فيه نزاع لفظي لأجل اشتراك اللفظ - كما قيل: أكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء -
تنازع قوم في أن محمدا رأى ربه في الدنيا أو في الآخرة؟ فقال قوم: رآه في الدنيا لأنه رآه قبل الموت وقال آخرون: بل في الآخرة لأنه رآه وهو فوق السموات ولم يره وهو في الأرض.
والتحقيق أن لفظ الآخرة يراد به الحياة الدنيا والحياة الآخرة ويراد به الدار الدنيا والدار الآخرة؛ ومحمد رأى ربه في الحياة الدنيا في الدار الآخرة.
وكذلك كثير ممن يتنازعون في أن الله في السماء أو ليس في السماء فالمثبتة تطلق القول بأن الله في السماء كما جاءت به النصوص ودلت عليه بمعنى أنه فوق السموات على عرشه بائن من خلقه وآخرون ينفون القول بأن الله في السماء ومقصودهم أن السماء لا تحويه ولا تحصره ولا تحمله ولا تقله ولا ريب أن هذا المعنى صحيح أيضا فإن الله لا تحصره مخلوقاته بل وسع كرسيه السموات والأرض؛ والكرسي في العرش كحلقة ملقاة بأرض فلاة وكذلك ليس هو مفتقرا إلى غيره محتاجا إليه بل هو الغني عن خلقه الحي القيوم الصمد فليس بين المعنيين تضاد ولكن هؤلاء أخطئوا في نفي اللفظ الذي جاء به الكتاب والسنة وفي توهم أن إطلاقه دال على معنى فاسد. وقد يعذر بعضهم إذا رأى من أطلق هذا اللفظ وأراد به أن السماء تقله أو تظله وإذا أخطأ من عنى هذا المعنى فقد أصاب وأما الأول فقد أصاب في اللفظ لإطلاقه ما جاء به النص وفي المعنى الذي تقدم لأنه المعنى الحق الذي دل عليه النص لكن قد يخطئ بعضهم في تكفير من يطلق اللفظ الثاني إذا كان مقصوده المعنى الصحيح فإن من عنى المعنى الصحيح لم يكفر بإطلاق لفظ وإن كان مسيئا أو فاعلا أمرا محرما وأما من فسر قوله:
إنه ليس في السماء بمعنى أنه ليس فوق العرش وإنما فوق السموات عدم محض فهؤلاء هم الجهمية الضلال المخالفون لإجماع الأنبياء ولفطرة العقلاء.
وقال شيخ الإسلام - رحمه الله -:
فصل:
قال الله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم} {صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين}. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون}.
وكتاب الله يدل على ذلك في مواضع مثل قوله تعالى {قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه} وقوله: {فباءوا بغضب على غضب} وقوله: {فباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة}.
وقال في النصارى: {قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل}.
وقال: {يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه} وقال تعالى: {وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون} {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون}.
وقال تعالى: {ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون} {ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون} وقال تعالى: {قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا} {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا}.
ولما أمرنا الله سبحانه: أن نسأله في كل صلاة أن يهدينا الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين المغايرين للمغضوب عليهم وللضالين كان ذلك ما يبين أن العبد يخاف عليه أن ينحرف إلى هذين الطريقين وقد وقع ذلك كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: {لتسلكن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال: فمن}؟ وهو حديث صحيح.
وكان السلف يرون أن من انحرف من العلماء عن الصراط المستقيم: ففيه شبه من اليهود ومن انحرف من العباد: ففيه شبه من النصارى كما يرى في أحوال منحرفة أهل العلم: من تحريف الكلم عن مواضعه وقسوة القلوب والبخل بالعلم والكبر وأمر الناس بالبر ونسيان أنفسهم وغير ذلك.
وكما يرى في منحرفة أهل العبادة والأحوال من الغلو في الأنبياء الصالحين والابتداع في العبادات والرهبانية والصور والأصوات.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم {لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله} ولهذا حقق الله له نعت العبودية في أرفع مقاماته حيث قال: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا}. وقال تعالى: {فأوحى إلى عبده ما أوحى}. وقال تعالى: {وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا}.
ولهذا يشرع في التشهد وفي سائر الخطب المشروعة كخطب الجمع والأعياد وخطب الحاجات عند النكاح وغيره أن نقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحقق عبوديته لئلا تقع الأمة فيما وقعت فيه النصارى في المسيح من دعوى الألوهية حتى قال له رجل: ما شاء الله وشئت. فقال: " أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده ".
وقال أيضا لأصحابه: {لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد بل قولوا ما شاء الله ثم شاء محمد} وقال: {لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني}. وقال: {اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد} وقال: {إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك}.
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
المجلد الثانى
الحلقة (36)
من صــ 486 الى صــ 492
والغلو في الأمة وقع في طائفتين: طائفة من ضلال الشيعة الذين يعتقدون في الأنبياء والأئمة من أهل البيت الألوهية وطائفة من جهال المتصوفة يعتقدون نحو ذلك في الأنبياء والصالحين فمن توهم في نبينا أو غيره من الأنبياء شيئا من الألوهية والربوبية فهو من جنس النصارى وإنما حقوق الأنبياء ما جاء به الكتاب والسنة عنهم.
قال تعالى في خطابه لبني إسرائيل: {وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار} والتعزير: النصر والتوقير والتأييد.
وقال تعالى: {إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا} {لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه} فهذا في حق الرسول ثم قال في حق الله تعالى: {وتسبحوه بكرة وأصيلا} وقال تعالى {ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون} {الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون}.
وقال تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم}. {قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين}.
وقال تعالى: {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما}. وقال تعالى: {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا}.
وذكر طاعة الرسول في أكثر من ثلاثين موضعا من القرآن وقال: {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم} وقال تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} وقال تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} وقال تعالى:
{إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون} {ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون} فجعل الطاعة لله والرسول وجعل الخشية والتقوى لله وحده. كما قال: {فإياي فارهبون}. وقال: {وإياي فاتقون} وقال: {فلا تخشوا الناس واخشون}.
وقال: {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم} وقال تعالى: {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا} وقال تعالى: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم}. وقال صلى الله عليه وسلم {لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين. وقال له عمر: والله يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل أحد إلا من نفسي فقال: لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك فقال: فأنت أحب إلي من نفسي قال:
الآن يا عمر}. فقد بين الله في كتابه حقوق الرسول من الطاعة له ومحبته وتعزيره وتوقيره ونصره وتحكيمه والرضى بحكمه والتسليم له واتباعه والصلاة والتسليم عليه وتقديمه على النفس والأهل والمال ورد ما يتنازع فيه إليه وغير ذلك من الحقوق.
وأخبر أن طاعته طاعته فقال: {من يطع الرسول فقد أطاع الله} ومبايعته مبايعته فقال: {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله} وقرن بين اسمه واسمه في المحبة فقال: {أحب إليكم من الله ورسوله}.
وفي الأذى فقال: {إن الذين يؤذون الله ورسوله} وفي الطاعة والمعصية فقال: {ومن يطع الله ورسوله}. {ومن يعص الله ورسوله} وفي الرضا فقال: {والله ورسوله أحق أن يرضوه} فهذا ونحوه هو الذي يستحقه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي.
(فصل: المستكبر عن الحق يبتلى بالانقياد للباطل)
قال شيخ الإسلام - رحمه الله -:
(فصل:
قد ذكرت فيما تقدم من القواعد: أن " الإسلام " الذي هو دين الله الذي أنزل به كتبه؛ وأرسل به رسله؛ وهو أن يسلم العبد لله رب العالمين؛ فيستسلم لله وحده لا شريك له ويكون سالما له بحيث يكون متألها له غير متأله لما سواه كما بينته أفضل الكلام ورأس الإسلام: وهو شهادة أن لا إله إلا الله.
وله ضدان: الكبر والشرك ولهذا روي {أن نوحا عليه السلام أمر بنيه بلا إله إلا الله وسبحان الله ونهاهم عن الكبر والشرك} في حديث قد ذكرته في غير هذا الموضع فإن المستكبر عن عبادة الله لا يعبده فلا يكون مستسلما له والذي يعبده ويعبد غيره يكون مشركا به فلا يكون سالما له بل يكون له فيه شرك.
ولفظ " الإسلام " يتضمن الاستسلام والسلامة التي هي الإخلاص وقد علم أن الرسل جميعهم بعثوا بالإسلام العام المتضمن لذلك كما قال تعالى: {يحكم بها النبيون الذين أسلموا} وقال موسى:
{إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين} وقال تعالى: {بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه} وقال الخليل لما قال له ربه: {أسلم قال أسلمت لرب العالمين} {ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب} - أيضا وصى بها بنيه - {يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون}وقال يوسف: {توفني مسلما} ونظائره كثيرة.
وعلم أن إبراهيم الخليل هو إمام الحنفاء المسلمين بعده كما جعله أمة وإماما وجاءت الرسل من ذريته بذلك فابتدعت اليهود والنصارى ما ابتدعوه مما خرج بهم عن دين الله الذي أمروا به وهو الإسلام العام ولهذا أمرنا أن نقول: {اهدنا الصراط المستقيم} {صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
{اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون} وكل من هاتين الأمتين خرجت عن الإسلام وغلب عليها أحد ضديه فاليهود يغلب عليهم الكبر ويقل فيهم الشرك والنصارى يغلب عليهم الشرك ويقل فيهم الكبر. وقد بين الله ذلك في كتابه فقال في اليهود: {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله}.
وهذا هو أصل الإسلام. إلى قوله: {وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون}.
وهذا اللفظ الذي هو لفظ الاستفهام؛ هو إنكار لذلك عليهم. وذم لهم عليه وإنما يذمون على ما فعلوه فعلم أنهم كانوا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم استكبروا فيقتلون فريقا من الأنبياء ويكذبون فريقا؛ وهذا حال المستكبر الذي لا يقبل ما لا يهواه؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد فسر الكبر في الحديث الصحيح بأنه بطر الحق وغمط الناس ففي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود.
قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم {لا يدخل النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان ولا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر فقال رجل: يا رسول الله الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا أفمن الكبر ذاك؟ فقال: لا إن الله جميل يحب الجمال ولكن الكبر بطر الحق وغمط الناس} وبطر الحق جحده ودفعه وغمط الناس احتقارهم وازدراؤهم. وكذلك ذكر الله " الكبر " في قوله بعد أن قال: {وكتبنا له في الألواح من كل شيء} إلى أن قال: {سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا}.
وهذا حال الذي لا يعمل بعلمه بل يتبع هواه وهو الغاوي كما قال: {واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين} {ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه} الآية وهذا مثل علماء السوء وقد قال لما رجع موسى إليهم:
{ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون} فالذين يرهبون ربهم؛ خلاف الذين يتبعون أهواءهم كما قال تعالى: {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى} {فإن الجنة هي المأوى}.
فأولئك المستكبرون المتبعون أهواءهم مصروفون عن آيات الله لا يعلمون ولا يفهمون لما تركوا العمل بما علموه استكبارا واتباعا لأهوائهم عوقبوا بأن منعوا الفهم والعلم؛ فإن العلم حرب للمتعالي كما أن السيل حرب للمكان العالي والذين يرهبون ربهم عملوا بما علموه فأتاهم الله علما ورحمة إذ من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم ولهذا لما وصف الله النصارى: {بأن منهم قسيسين ورهبانا}.
والرهبان: من الرهبنة {وأنهم لا يستكبرون} كانوا بذلك أقرب مودة إلى الذين آمنوا. كما قال: {لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون}.
فلما كان فيهم رهبة وعدم كبر كانوا أقرب إلى الهدى فقال في حق المسلمين منهم: {وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين}.
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
المجلد الثانى
الحلقة (37)
من صــ 493 الى صــ 499
قال ابن عباس: مع محمد وأمته وهم الأمة الشهداء فإن النصارى لهم قصد وعبادة وليس لهم علم وشهادة؛ ولهذا فإن كان اليهود شرا منهم؛ بأنهم أكثر كبرا وأقل رهبة وأعظم قسوة فإن النصارى شر منهم فإنهم أعظم ضلالا وأكثر شركا وأبعد عن تحريم ما حرم الله ورسوله.
وقد وصفهم الله بالشرك الذي ابتدعوه كما وصف اليهود بالكبر الذي هووه فقال تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} وقال تعالى: {وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق} إلى قوله: {أن اعبدوا الله ربي وربكم} الآية وقد ذكر الله قولهم إن الله هو المسيح ابن مريم وإن الله ثالث ثلاثة وقولهم: اتخذ الله ولدا؛ في مواضع من كتابه وبين عظيم فريتهم وشتمهم لله وقولهم " الإد " الذي:
{تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا} ولهذا يدعوهم في غير موضع إلى ألا يعبدوا إلا إلها واحدا كقوله: {يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق}إلى قوله:
{ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد} إلى قوله {لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا} وهذا لأن المشركين بمخلوق من البشر أو غيرهم يصيرون هم مشركون.
ويصير الذي أشركوا به من الإنس والجن مستكبرا كما قال: {وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا} فأخبر الله أن عباده لا يستكبرون عن عبادته وإن أشرك بهم المشركون. وكذلك قال تعالى: {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد} إلى قوله: {ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة} الآية وقال تعالى: {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة} فأخبر أنه أمرهم بالتوحيد ونهاهم عن أن يشركوا به أو بغيره كما فعلوه.
ولما كان أصل دين اليهود الكبر عاقبهم بالذلة: {ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا}. ولما كان أصل دين النصارى الإشراك لتعديد الطرق إلى الله أضلهم عنه؛ فعوقب كل من الأمتين على ما اجترمه بنقيض قصده {وما ربك بظلام للعبيد}. كما جاء في الحديث: {يحشر الجبارون والمتكبرون يوم القيامة في صور الذر يطؤهم الناس بأرجلهم}.
وكما في الحديث عن عمر بن الخطاب موقوفا ومرفوعا: {ما من أحد إلا في رأسه حكمة فإن تواضع قيل له: انتعش نعشك الله وإن رفع رأسه قيل له: انتكس نكسك الله}. وقال سبحانه وتعالى: {إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} وقال تعالى:
{بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين} {ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين} {وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم}.
ولهذا استوجبوا الغضب والمقت. والنصارى لما دخلوا في البدع: أضلهم عن سبيل الله فضلوا عن سبيل الله وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل وهم إنما ابتدعوها ليتقربوا بها إليه ويعبدوه فأبعدتهم عنه وأضلتهم عنه وصاروا يعبدون غيره.
فتدبر هذا والله تعالى يهدينا صراطه المستقيم صراط الذين أنعم عليهم غير المغضوب عليهم والضالين. وقد وصف بعض اليهود بالشرك في قوله: {وقالت اليهود عزير ابن الله} وفي قوله: {قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت} ففي اليهود من عبد الأصنام وعبد البشر؛ وذلك أن المستكبر عن الحق يبتلى بالانقياد للباطل فيكون المستكبر مشركا كما ذكر الله عن فرعون وقومه: أنهم كانوا مع استكبارهم وجحودهم مشركين فقال عن مؤمن آل فرعون:
{ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار} {تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار} {لا جرم أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة}. وقال: {ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات} الآية.
وقال يوسف الصديق لهم: {يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار} {ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون} وقد قال تعالى:{وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون}.
فإن قيل: كيف يكون قوم فرعون مشركين؟ وقد أخبر الله عن فرعون أنه جحد الخالق فقال: {وما رب العالمين} وقال: {ما علمت لكم من إله غيري} وقال: {أنا ربكم الأعلى} وقال عن قومه: {فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين} {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا} والإشراك لا يكون إلا من مقر بالله وإلا فالجاحد له لم يشرك به.
قيل: لم يذكر الله جحود الصانع إلا عن فرعون موسى وأما الذين كانوا في زمن يوسف فالقرآن يدل على أنهم كانوا مقرين بالله وهم مشركون به ولهذا كان خطاب يوسف للملك وللعزيز ولهم:
يتضمن الإقرار بوجود الصانع كقوله: {أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار} {ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة} إلى قوله {إن ربي بكيدهن عليم} {وأن الله لا يهدي كيد الخائنين} إلى قوله: {إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم} وقد قال مؤمن آل - حم - {ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا} فهذا يقتضي: أن أولئك الذين بعث إليهم يوسف كانوا يقرون بالله.
ولهذا كان إخوة يوسف يخاطبونه قبل أن يعرفوا أنه يوسف ويظنونه من آل فرعون بخطاب يقتضي الإقرار بالصانع كقولهم: {تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين} وقال لهم: {أنتم شر مكانا والله أعلم بما تصفون} وقال: {معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده} وقالوا له:
{يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين} وذلك أن فرعون الذي كان في زمن يوسف أكرم أبويه وأهل بيته لما قدموا إكراما عظيما مع علمه بدينهم واستقراء أحوال الناس يدل على ذلك.
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (38)
من صــ 1 الى صــ 7
فإن جحود الصانع لم يكن دينا غالبا على أمة من الأمم قط وإنما كان دين الكفار الخارجين عن الرسالة هو الإشراك وإنما كان يجحد الصانع بعض الناس وأولئك كان علماؤهم من الفلاسفة الصابئة المشركين الذين يعظمون الهياكل والكواكب والأصنام والأخبار المروية من نقل أخبارهم وسيرهم كلها تدل على ذلك؛ ولكن فرعون موسى:
{فاستخف قومه فأطاعوه} وهو الذي قال لهم - دون الفراعنة المتقدمين -؛ {ما علمت لكم من إله غيري} ثم قال لهم بعد ذلك: {أنا ربكم الأعلى} {فأخذه الله نكال الآخرة والأولى} نكال الكلمة الأولى.
ونكال الكلمة الأخيرة وكان فرعون في الباطن عارفا بوجود الصانع وإنما استكبر كإبليس وأنكر وجوده ولهذا قال له موسى: {لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر} فلما أنكر الصانع وكانت له آلهة يعبدها بقي على عبادتها ولم يصفه الله تعالى بالشرك وإنما وصفه بجحود الصانع وعبادة آلهة أخرى.
والمنكر للصانع منهم مستكبر كثيرا ما يعبد آلهة؛ ولا يعبد الله قط؛ فإنه يقول: هذا العالم واجب الوجود بنفسه. وبعض أجزائه مؤثر في بعض ويقول إنما انتفع بعبادة الكواكب والأصنام ونحو ذلك ولهذا كان باطن قول هؤلاء الاتحادية المنتسبة إلى الإسلام هو قول فرعون.
وكنت أبين أنه مذهبهم وأبين أنه حقيقة مذهب فرعون حتى حدثني الثقة: عن بعض طواغيتهم أنه قال: نحن على قول فرعون؛ ولهذا يعظمون فرعون في كتبهم تعظيما كثيرا. فإنهم لم يجعلوا ثم صانعا للعالم خلق العالم ولا أثبتوا ربا مدبرا للمخلوقات وإنما جعلوا نفس الطبيعة هي الصانع ولهذا جوزوا عبادة كل شيء وقالوا من عبده فقد عبد الله ولا يتصور عندهم أن يعبد غير الله فما من شيء يعبد إلا وهو الله وهذه الكائنات عندهم أجزاؤه أو صفاته كأجزاء الإنسان أو صفاته فهؤلاء إذا عبدوا الكائنات فلم يعبدوها لتقربهم إلى الله زلفى؛ لكن لأنها عندهم هي الله أو مجلى من مجاليه أو بعض من أبعاضه أو صفة من صفاته أو تعين من تعيناته وهؤلاء يعبدون ما يعبده فرعون وغيره من المشركين لكن فرعون لا يقول:
هي الله ولا تقربنا إلى الله والمشركون يقولون: هي شفعاؤنا وتقربنا إلى الله وهؤلاء يقولون هي الله كما تقدم وأولئك أكفر من حيث اعترفوا بأنهم عبدوا غير الله أو جحدوه؛ وهؤلاء أوسع ضلالا من حيث جوزوا عبادة كل شيء وزعموا أنه هو الله وأن العابد هو المعبود وإن كانوا إنما قصدوا عبادة الله.
وإذا كان أولئك كانوا مشركين كما وصفوا بذلك. وفرعون موسى هو الذي جحد الصانع وكان يعبد الآلهة ولم يصفه الله بالشرك. فمعلوم أن المشركين قد يحبون آلهتهم كما يحبون الله أو تزيد محبتهم لهم على محبتهم لله؛ ولهذا: يشتمون الله إذا شتمت آلهتهم. كما قال تعالى: {ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم}.
فقوم فرعون قد يكونون أعرضوا عن الله بالكلية بعد أن كانوا مشركين به واستجابوا لفرعون في قوله: {أنا ربكم الأعلى} و {ما علمت لكم من إله غيري}. ولهذا لما خاطبهم المؤمن ذكر الأمرين فقال:
{تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم} فذكر الكفر به الذي قد يتناول جحوده وذكر الإشراك به أيضا؛ فكان كلامه متناولا للمقالتين والحالين جميعا. فقد تبين: أن المستكبر يصير مشركا إما بعبادة آلهة أخرى مع استكباره عن عبادة الله لكن تسمية هذا شركا نظير من امتنع مع استكباره عن إخلاص الدين لله كما قال تعالى:
{إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون} {ويقولون أئنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون} فهؤلاء مستكبرون مشركون؛ وإنما استكبارهم عن إخلاص الدين لله فالمستكبر الذي لا يقر بالله في الظاهر كفرعون أعظم كفرا منهم وإبليس الذي يأمر بهذا كله ويحبه ويستكبر عن عبادة ربه وطاعته أعظم كفرا من هؤلاء وإن كان عالما بوجود الله وعظمته كما أن فرعون كان أيضا عالما بوجود الله. وإذا كانت البدع والمعاصي شعبة من الكفر وكانت مشتقة من شعبه.
كما أن الطاعات كلها شعبة من شعب الإيمان ومشتقة منه وقد علم أن الذي يعرف الحق ولا يتبعه غاو يشبه اليهود؛ وأن الذي يعبد الله من غير علم وشرع: هو ضال يشبه النصارى؛ كما كان يقول من يقول من السلف: من فسد من العلماء ففيه شبه من اليهود؛ ومن فسد من العباد ففيه شبه من النصارى.
فعلى المسلم أن يحذر من هذين الشبهين الفاسدين؛ من حال قوم فيهم استكبار وقسوة عن العبادة والتأله؛ وقد أوتوا نصيبا من الكتاب وحظا من العلم؛ وقوم فيهم عبادة وتأله بإشراك بالله وضلال عن سبيل الله ووحيه وشرعه وقد جعل في قلوبهم رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها وهذا كثير منتشر في الناس؛ والشبه تقل تارة وتكثر أخرى؛ فأما المستكبرون المتألهون لغير الله الذين لا يعبدون الله. وإنما يعبدون غيره للانتفاع به؛ فهؤلاء يشبهون فرعون.
[فصل: رد دعوى النصارى أنهم هم الذين أنعم الله عليهم]
ثم قالوا: مع الأمر له في فاتحة الكتاب أن يسأل الهداية إلى الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين، فإنه عنى بقوله: المنعم عليهم والمغضوب عليهم والضالين الثلاث أمم الذين كانوا في عصره، وهم: النصارى، واليهود وعباد الأصنام، ولم يكن في زمانه غير هؤلاء الثلاث أمم.
فالمنعم عليهم نحن النصارى والمغضوب عليهم فلا - يشك أنهم - اليهود، الذين غضب الله عليهم في كتب التوراة والأنبياء وهذا الكتاب، والضالين فهم عباد الأصنام الذين ضلوا عن الله، فهذا أمر واضح بين ظاهر عند كل أحد، ولا سيما عند ذوي العقول والمعرفة والصراط: هو المذهب، أي الطريق، وهذه اللفظة رومية، لأن الطريق بالرومية اسطراطا.
والجواب:
أما قولهم: المنعم عليهم نحن النصارى، فمن العجائب التي تدل على فرط جهل صاحبها، وأعجب من ذلك قولهم إن هذا شيء بين واضح عند كل أحد، لا سيما عند ذوي العقل والمعرفة، فيا سبحان الله!
ألم يعرف العام والخاص علما ضروريا لا تمكن المنازعة فيه من دين محمد - صلى الله عليه وسلم -، ودين أمته الذي تلقوه عنه من تكفير النصارى وتجهيلهم وتضليلهم واستحلال جهادهم وسبي حريمهم وأخذ أموالهم، ما يناقض كل المناقضة أن يكون محمد وأمته في كل صلاة يقولون: اللهم اهدنا صراط النصارى.
وهل ينسب محمدا - صلى الله عليه وسلم - وأمته إلى أنهم في كل صلاة يطلبون من الله أن يهديهم صراط النصارى إلا من هو من أكذب الكذابين وأعظم الخلق افتراء ووقاحة وجهلا وضلالا؟
ولو كانوا يسألون الله هداية طريق النصارى، لدخلوا في دين النصارى، ولم يكفروهم ويقاتلوهم، ويضعوا عليهم الجزية التي يؤدونها عن يد وهم صاغرون، ولم يشهدوا عليهم بأنهم من أهل النار، وأمته أخذوا ذلك جميعه عنه منقولا عنه بالنقل المتواتر بإجماعهم، لم يبتدعوا ذلك، كما ابتدعت النصارى من العقائد والشرائع ما لم يأذن به الله، فلا يلام المسلمون في اتباعهم لرسول الله الذي جاء بالبينات والهدى.
ومحمد - صلى الله عليه وسلم - إن كان رسولا صادقا، فقد كفر النصارى، وأمر بجهادهم، وتبرأ منهم ومن دينهم، وإن كان كاذبا لم يقبل شيء مما نقله عن الله عز وجل.
وقد تقدم غير مرة قوله - تعالى -:
{لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة} [المائدة: 73].
{لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم} [المائدة: 17].
{وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون} [التوبة: 30] (30) {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} [التوبة: 31].
فمن يقول عن النصارى مثل هذه الأقوال هل يأمر أمته في كل صلاة أن يقولوا: اهدنا طريقهم؟
ثم يقال: أي شيء في الآية مما يدل على أن قوله: صراط الذين أنعمت عليهم، هم النصارى.
وإنما المنعم عليهم هم الذين ذكرهم الله في قوله - تعالى -:
{ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا} [النساء: 69].