تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
الحلقة (22)
صــ115 إلى صــ 120
فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ هَذَا جَوَابُ قَوْلِهِمْ: نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ ، جَاءُوا بِتَأْيِيدِ التَّوْرَاةِ . وَإِنَّمَا نَسَبَ الْقَتْلَ إِلَى الْمُتَأَخِّرِي نَ لِأَنَّهُمْ فِي ذَلِكَ عَلَى رَأْيِ الْمُتَقَدِّمِي نَ . [ ص: 115 ] وَتَقْتُلُونَ بِمَعْنَى: قَتَلْتُمْ ، فَوَضَعَ الْمُسْتَقْبَلَ فِي مَوْضِعِ الْمَاضِي ، لِأَنَّ الْوَهْمَ لَا يَذْهَبُ إِلَى غَيْرِهِ . وَأَنْشَدُوا فِي ذَلِكَ:
شَهِدَ الْحَطِيئَةَ حِينَ يَلْقَى رَبَّهُ أَنَّ الْوَلِيدَ أَحَقُّ بِالْعُذْرِ
وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فِيهَا قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: مَا فِي الْأَلْوَاحِ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: الْآَيَاتُ التِّسْعُ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ .
وَفِي هَاءِ "بَعْدَهُ" قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تَعُودُ إِلَى مُوسَى ، فَمَعْنَاهُ: مِنْ بَعْدِ انْطِلَاقِهِ إِلَى الْجَبَلِ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٌ . وَالثَّانِي: أَنَّهَا تَعُودُ إِلَى الْمَجِيءِ ، لِأَنَّ "جَاءَكُمْ" يَدُلُّ عَلَى الْمَجِيءِ وَفِي ذِكْرِ عِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ تَكْذِيبٌ لِقَوْلِهِمْ: نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا .
قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانُوا إِذَا نَظَرُوا إِلَى الْجَبَلِ ، قَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ، وَإِذَا نَظَرُوا إِلَى الْكِتَابِ; قَالُوا: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ أَيْ: سُقُوا حُبَّ الْعِجْلِ ، فَحَذَفَ الْمُضَافَ ، وَهُوَ الْحُبُّ ، وَأَقَامَ الْمُضَافَ إِلَيْهِ مَقَامَهُ ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [ الْبَقَرَةِ: 197 ] [أَيْ: وَقْتَ الْحَجِّ ] وَقَوْلُهُ: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ [ التَّوْبَةِ: 19 ] [أَيْ: أَجَعَلْتُمْ صَاحِبَ سِقَايَةِ الْحَاجِّ ] . وَقَوْلُهُ: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ [ يُوسُفَ: 82 ] [أَيْ: أَهْلُهُا ] وَقَوْلُهُ: إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ [ الْإِسْرَاءِ: 75 ] . أَيْ: ضِعْفُ عَذَابِ الْحَيَاةِ . وَقَوْلُهُ: لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ [ الْحَجِّ: 40 ] . أَيْ: بُيُوتُ صَلَوَاتٍ . وَقَوْلُهُ: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ [ سَبَإِ: 30 ] . أَيْ: مَكْرُكُمْ فِيهِمَا . وَقَوْلُهُ: فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ [ الْعَلَقِ: 17 ] أَيْ: أَهْلُهُ . [ ص: 116 ] وَمِنْ هَذَا قَوْلُ الشَّاعِرِ:
أُنْبِئَتُ أَنَّ النَّارَ بَعْدَكَ أُوقِدَتْ وَاسْتَبَّ بَعْدَكَ يَا كُلَيْبُ الْمَجْلِسُ
أَيْ: أَهْلُ الْمَجْلِسِ . وَقَالَ الْآَخَرُ
وَشَرُّ الْمَنَايَا مَيِّتٌ بَيْنَ أَهْلِهِ
أَيْ: وَشَرُّ الْمَنَايَا مَنِيَّةُ مَيِّتٍ بَيْنَ أَهْلِهِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ أَيْ: أَنْ تُكَذِّبُوا الْمُرْسَلِينَ ، وَتَقْتُلُوا النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ ، وَتَكْتُمُوا الْهُدَى .
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فِي "إِنْ" قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا بِمَعْنَى: الْجَحْدِ ، فَالْمَعْنَى: مَا كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إِذْ عَصَيْتُمُ اللَّهَ ، وَعَبَدْتُمُ الْعِجْلَ . وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ "إِنْ" شَرْطًا مُعَلَّقًا بِمَا قَبْلَهُ ، فَالْمَعْنَى: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ; فَبِئْسَ الْإِيمَانُ إِيمَانٌ يَأْمُرُكُمْ بِعِبَادَةِ الْعِجْلِ ، وَقَتْلُ الْأَنْبِيَاءِ ، ذَكَرَهُمَا ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ .
قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ وَلَتَجِدَنَّهُ مْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ كَانَتِ الْيَهُودُ تَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَخْلُقِ الْجَنَّةَ إِلَّا لِإِسْرَائِيلَ وَوَلَدِهِ ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآَيَةُ . وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى عِلْمِهِمْ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَادِقٌ ، أَنَّهُمْ مَا تَمَنَّوُا الْمَوْتَ ، وَأَكْبَرُ الدَّلِيلِ عَلَى صِدْقِهِ أَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَا يَتَمَنَّوْنَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ فَمَا تَمَنَّاهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ . وَالَّذِي قَدَّمَتْهُ أَيْدِيهِمْ: قَتْلُ الْأَنْبِيَاءِ وَتَكْذِيبُهُمْ ، وَتَبْدِيلُ التَّوْرَاةِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلتجدنهم) اللَّامُ: لَامُ الْقَسَمِ ، وَالنُّونُ تَوْكِيدٌ لَهُ ، وَالْمَعْنَى: وَلَتَجِدَنَّ الْيَهُودَ فِي حَالِ دُعَائِهِمْ إِلَى تَمَنِّي الْمَوْتِ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ ، وَأَحْرَصَ مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا . وَفِي "الَّذِينَ أَشْرَكُوا" قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمُ الْمَجُوسُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَابْنُ قُتَيْبَةَ ، [ ص: 117 ] وَالزَّجَّاجُ . وَالثَّانِي: مُشْرِكُو الْعَرَبِ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ فِي الْهَاءِ وَالْمِيمِ مِنْ "أَحَدِهِمْ" قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تَعُودُ عَلَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ . وَالثَّانِي: تَرْجِعُ إِلَى الْيَهُودِ ، قَالَ مُقَاتِلٌ . قَالَ الزَّجَّاجُ: وَإِنَّمَا ذَكَرَ "أَلْفَ سَنَةٍ" لِأَنَّهَا نِهَايَةٌ مَا كَانَتِ الْمَجُوسُ تَدْعُو بِهَا لِمُلُوكِهَا ، كَانَ الْمَلِكُ يَحْيَا بِأَنْ يُقَالَ: لَهُ عِشْ أَلْفَ نَيْرُوزَ ، وَأَلْفَ مَهْرَجَانَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَا هُوَ) فِيهِ قَوْلَانِ ذَكَرَهُمَا الزَّجَّاجُ ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْ أَحَدِهِمُ الَّذِي جَرَى ذِكْرُهُ ، تَقْدِيرُهُ: وَمَا أَحَدُهُمْ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ تَعْمِيرُهُ . وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ هُوَ كِنَايَةٌ عَمَّا جَرَى مِنَ التَّعْمِيرِ ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَمَا تَعْمِيرُهُ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ ، ثُمَّ جَعَلَ "أَنْ يُعَمَّرَ" مُبَيِّنًا عَنْهُ ، كَأَنَّهُ قَالَ: ذَلِكَ الشَّيْءُ الدَّنِيءُ لَيْسَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ .
قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلا الْفَاسِقُونَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَقْبَلَتِ الْيَهُودُ إِلَى النَّبِيِّ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: مَنْ يَأْتِيكَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ ، فَقَالُوا: ذَاكَ يَنْزِلُ بِالْحَرْبِ وَالْقِتَالِ ، ذَاكَ عَدُوُّنَا ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآَيَةُ وَالَّتِي تَلِيهَا .
وَفِي جِبْرِيلَ إِحْدَى عَشْرَةَ لُغَةً .
إِحْدَاهَا: جِبْرِيلُ ، بِكَسْرِ الْجِيمِ وَالرَّاءِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ ، وَهِيَ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ ، وَبِهَا قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ ، وَأَبُو عَمْرٍو . قَالَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ:
وَجِبْرِيلُ يَأْتِيهِ وَمِيكَالُ مَعَهُمَا مِنَ اللهِ وَحْيٌ يَشْرَحُ الصَّدْرَ مُنْزَلَ
[ ص: 118 ] وَقَالَ عِمْرَانُ بْنُ حَطَّانٍ:
وَالرُّوحُ جِبْرِيلُ فِيهِمْ لَا كَفَاءَ لَهُ وَكَانَ جِبْرِيلُ عِنْدَ اللَّهِ مَأْمُونًا
وَقَالَ حَسَّانُ:
وَجِبْرِيلُ رَسُولُ اللَّهِ فِينَا وَرُوحُ الْقُدُسِ لَيْسَ لَهُ كَفَاءُ
وَاللُّغَةُ الثَّانِيَةِ: جَبْرِيلُ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَكَسْرِ الرَّاءِ ، وَبَعْدَهَا يَاءٌ سَاكِنَةٌ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ عَلَى وَزْنِ: فَعْلِيلٍ ، وَبِهَا قَرَأَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ ، وَابْنُ كَثِيرٍ ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ . وَقَالَ الْفَرَّاءُ: لَا أَشْتَهِيهَا ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ فِعْلِيلٌ ، وَلَا أَرَى الْحَسَنَ قَرَأَهَا إِلَّا وَهُوَ صَوَابٌ ، لِأَنَّهُ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ .
وَالثَّالِثَةُ: جَبْرَئِيلُ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالرَّاءِ ، وَبَعْدَهَا هَمْزَةٌ مَكْسُورَةٌ عَلَى وَزْنِ: جَبْرَعِيلَ ، وَبِهَا قَرَأَ ، الْأَعْمَشُ ، وَحَمْزَةُ ، وَالْكِسَائِيُّ . قَالَ الْفَرَّاءُ: وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ وَقَيْسٍ ، وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ . وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هِيَ أَجْوَدُ اللُّغَاتِ ، وَقَالَ جَرِيرٌ:
عَبَدُوا الصَّلِيبَ وَكَذَّبُوا بِمُحَمَّدٍ وَبَجَبْرَئِيلَ وَكَذَّبُوا مِيكَالَا
وَالرَّابِعَةُ: جَبْرَئِلُ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالرَّاءِ وَهَمْزَةٌ بَيْنَ الرَّاءِ وَاللَّامِ ، مَكْسُورَةٌ مِنْ غَيْرِ مَدٍّ عَلَى وَزْنِ: جَبْرَعِلِ ، رَوَاهَا أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ .
وَالْخَامِسَةُ جَبْرَئِلُّ ، بِفَتْحِ الْجِيمِ وَكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ ، وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبَانَ عَنْ عَاصِمٍ ، وَيَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ .
وَالسَّادِسَةُ: جِبْرَائِيلُ ، بِهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ بَعْدَهَا يَاءٌ مَعَ الْأَلِفِ .
وَالسَّابِعَةُ: جِبْرَايِيلُ بِيَائَيْنِ بَعْدَ الْأَلِفِ أَوَّلَهُمَا مَكْسُورَةٌ .
وَالثَّامِنَةُ: جَبْرِينُ ، بِفَتْحِ الْجِيمِ وَنُونٍ مَكَانَ اللَّامِ .
وَالتَّاسِعَةُ: جِبْرِينُ ، بِكَسْرِ الْجِيمِ وَبَنُونٍ ، قَالَ الْفَرَّاءُ: هِيَ لُغَةُ بَنِي أَسَدٍ . وَقَرَأْتُ عَلَى شَيْخِنَا أَبِي مَنْصُورٍ اللُّغَوِيِّ عَنِ ابْنِ الْأَنْبَارِيِّ قَالَ: فِي جِبْرِيلَ تِسْعُ لُغَاتٍ ، فَذَكَرَهُنَّ .
[ ص: 119 ] وَذَكَرَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي كِتَابِ "الرَّدِّ عَلَى مَنْ خَالَفَ مُصْحَفَ عُثْمَانَ" جِبْرَائِلَ ، بِفَتْحِ الْجِيمِ وَإِثْبَاتٍ الْأَلِفِ مَعَ هَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ لَيْسَ بَعْدَهَا يَاءٌ . وَجَبْرَئِينُ ، بِفَتْحِ الْجِيمِ مَعَ هَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ بَعْدَهَا يَاءٌ وَنُونٌ .
فَأَمَّا مِيكَائِيلُ ، فَفِيهِ خَمْسُ لُغَاتٍ .
إِحْدَاهُنَّ: مِيكَالُ ، مِثْلُ: مِفْعَالُ بِغَيْرِ هَمْزٍ ، وَهِيَ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ ، وَبِهَا قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ .
وَالثَّانِيَةُ: مِيكَائِيلَ بِإِثْبَاتِ يَاءٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ ، مِثْلُ: مِيكَاعِيلُ ، وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ وَقَيْسٍ ، وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ ، وَبِهَا قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ ، وَحَمْزَةُ ، وَالْكِسَائِيُّ ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ .
وَالثَّالِثَةُ: مِيكَائِلُ بِهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ بَعْدَ الْأَلِفِ مِنْ غَيْرِ يَاءٍ ، مِثْلُ مِيكَاعِلُ ، وَبِهَا قَرَأَ نَافِعٌ ، وَابْنُ شَنَبُوذَ ، وَابْنُ الصَّبَاحِ ، جَمِيعًا عَنْ قُنْبُلٍ .
وَالرَّابِعَةُ: مِيكَئِلُ ، عَلَى وَزْنِ: مِيكَعِلُ ، وَبِهَا قَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ .
وَالْخَامِسَةُ: مِيكَائِينُ بِهَمْزَةٍ مَعَهَا يَاءٌ وَنُونٌ بَعْدَ الْأَلِفِ ، ذَكَرَهَا ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ .
قَالَ الْكِسَائِيُّ: جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ ، اسْمَانِ لَمْ تَكُنِ الْعَرَبُ تَعْرِفُهُمَا ، فَلَمَّا جَاءَا عَرَّبَتْهُمَا . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ ، كَقَوْلِكَ: عَبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ ، ذَهَبَ إِلَى أَنَّ "إِيلَ" اسْمُ اللَّهِ ، وَاسْمُ الْمَلِكِ ، "جَبْرَ" وَ"مِيكَا" . وَقَالَ عِكْرِمَةُ: مَعْنَى جِبْرِيلَ: عَبْدُ اللَّهِ ، وَمَعْنَى مِيكَائِيلَ: عُبَيْدُ اللهِ ، وَقَدْ دَخَلَ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ فِي الْمَلَائِكَةِ ، لَكِنَّهُ أَعَادَ ذِكْرَهُمَا لِشَرَفِهِمَا ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ [ الرَّحْمَنِ: 68 ] . وَإِنَّمَا قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ وَلَمْ يَقُلْ: لَهُمْ ، لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّهُمْ كَافِرُونَ بِهَذِهِ الْعَدَاوَةِ .
أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ [ ص: 120 ] قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا الْوَاوُ وَاوُ الْعَطْفِ ، أُدْخِلَتْ عَلَيْهَا أَلِفُ الِاسْتِفْهَامِ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: وَالْمُشَارُ إِلَيْهِمُ: الْيَهُودُ . وَقِيلَ: الْعَهْدُ الَّذِي عَاهَدُوهُ ، أَنَّهُمْ قَالُوا: وَاللَّهِ لَئِنْ خَرَجَ مُحَمَّدٌ لَنُؤْمِنَنَّ بِهِ . وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهَا الْعُهُودُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَهُمْ ، فَنَقَضُوهَا ، كَفِعْلِ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ . وَمَعْنَى نَبَذَهُ: رَفَضَهُ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَعْنِي الْيَهُودَ . وَالْكِتَابُ: التَّوْرَاةُ .
وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كِتَابَ اللَّهِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: الْقُرْآَنُ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ التَّوْرَاةُ ، لِأَنَّ الْكَافِرِينَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ نَبَذُوا التَّوْرَاةَ .
وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانَ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينُ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْـزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُون َ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُون َ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يُعَلِّمُونَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ .
فِي سَبَبِ نُزُولِهَا قَوْلَانِ .
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا لَا يَسْأَلُونَ النَّبِيَّ عَنْ شَيْءٍ مِنَ التَّوْرَاةِ إِلَّا أَجَابَهُمْ ، فَسَأَلُوهُ عَنِ السِّحْرِ وَخَاصَمُوهُ بِهِ ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآَيَةُ ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا ذُكِرَ سُلَيْمَانُ فِي الْقُرْآَنِ قَالَتْ يَهُودُ الْمَدِينَةَ: أَلَا تَعْجَبُونَ لِمُحَمَّدٍ يَزْعُمُ أَنَّ ابْنَ دَاوُدَ كَانَ نَبِيًّا؟! وَاللَّهِ مَا كَانَ إِلَّا سَاحِرًا ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآَيَةُ . قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ .
و"تَتْلُوَا" بِمَعْنَى: تَلَتْ ، وَ"عَلَى" بِمَعْنَى: فِي ، قَالَهُ الْمُبَرِّدُ . قَالَ الزَّجَّاجُ: وَقَوْلُهُ: عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ أَيْ: عَلَى عَهْدِ سُلَيْمَانَ .
وَفِي كَيْفِيَّةِ مَا تَلَتِ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ سِتَّةُ أَقْوَالٍ .