تأليف وتلخيص الدكتور/ خالد الدريس:
لا يخفى على المتخصصين في العلوم الشرعية عظم عناية المحدثين بسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم وخدمتهم لها ، ومن أظهر صور تلك العناية كلامهم في نقلة الأخبار ورواتها من حيث الجرح والتعديل ، فجهودهم في ذلك واضحة لكل دارس وباحث في كتب الجرح والتعديل العامة والخاصة ، وهي بحمد لله كثيرة ومعروفة .
ومن المسائل ذات الصلة بعلم الجرح والتعديل ، التي يتعرض العلماء لها في كتب أصول الحديث : مسألة حكم رواية التائب من الكذب ، هل تقبل أم ترد ؟ ، وللعلماء فيها كلام متفرق في مواضع عدة ، ولم أر من جمع أقوالهم فيها مع التحقيق والتحرير ، فاستعنت بالمولى عز وجل على القيام بهذا الأمر .
وقد نص علماء الحديث على أن التائب من الكذب في حديث الناس وغيره من أسباب الفسق روايته مقبولة .
وإنما اختلفت آراء العلماء في مسألة أخرى هي :
هل تقبل رواية التائب من الكذب متعمداً في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إن حسنت توبته أم لا ؟ . وهذه المسألة تحديداً هي موضوع البحث.
وبهذا يعلم أن التائب من الكذب من حيث قبول روايته على قسمين :
الأول : مقبول الرواية عند العلماء ، إذا كان قد تاب من الكذب في حديث الناس .
الثاني : مختلف في قبول روايته عند العلماء ، إذا كان قد تاب من الكذب في الحديث النبوي ، وهذا هو محل بحثنا .
وقد رتبت البحث على النحو الآتي :
المبحث الأول : حكم الكذب على الرسول عليه الصلاة والسلام .
المبحث الثاني : القائلون بمنع قبول رواية التائب من الكذب في الحديث النبوي وأدلتهم .
المبحث الثالث: القائلون بقبول رواية التائب من الكذب في الحديث النبوي وأدلتهم .
المبحث الرابع : الموازنة بين المذهبين مع الترجيح .
الخاتمة .
إن أهم النتائج التي تم التوصل لها في هذا البحث ، هي :
1 - إن كلام بعض العلماء الذي استشهد به الخطيب البغدادي على مذهب القائلين بالمنع ، ليس صريحاً في المسألة بل هو في بيان عقوبة الكاذب مطلقاً من غير تقييد بالتائب من الكذب في الحديث النبوي ، وهذا يشمل ما نقله عن الثوري ، وابن المبارك ، والحميدي ، ورافع بن أشرس ، والسمعاني .
2 - إن أصرح عبارة في المسألة نقلتها كتب المصطلح لأحد علماء الحديث ، هي للإمام أحمد بن حنبل ، إلا أن في السند إليه رجلاً لم أجد له ترجمة ، ولكن النص يمكن قبوله باعتبار تداول علماء المذهب الحنبلي له في كتبهم الأصولية .
3 - إن عبارة الصيرفي يجب تقييدها في الحديث النبوي ، وليست في مطلق الكذب كما ذهب إليه بعض العلماء ، وقد ناقشت الإمام السخاوي في اعتراضه على الحافظ العراقي حول ذلك ، ورجحت ما ذهب إليه بعدة قرائن ، أحسب أنها لم تُذكر من قبل .
4 - لم أُسلم باعتراض الإمام السخاوي على الدليل الثاني من أدلة الإمام النووي ، وبينت أن ظواهر النصوص الشرعية تدل على قبول التوبة مطلقاً من دون استثناء للكاذب في الحديث النبوي .
5 - بينت أن ما استدل به الشيخ عبد الله بن يوسف الجديع نصرة منه لمذهب القائلين بالقبول ، غير مستقيم على مذهب القائلين بالمنع ولايلزمهم .
6 - حررت محل النزاع بين المذهبين تحريراً أحسب أنه دقيق .
7 - تبين لي أن القائلين بالمنع اعتمدوا على مراعاة المصلحة الدينية .
8 - تبين لي أن أقوى أدلة القائلين بالقبول وأبعدها عن الاعتراض هو دليلهم الثاني ، وقد وضحت أن العمل به لا يعارض القول بمنع قبول الرواية ، إذ لا تلازم بين قبول توبة التائب من الكذب في الحديث النبوي التي تدل عليها النصوص الشرعية ، وقبول روايته ، فتوبة التائب بينه وبين الله ، أما الرواية عنه فهي تهم الأمة بأجمعها .
9 - ترجح لي أن أدلة مذهب القائلين بالمنع أقوى ، كما أن الشروط التي وضعوها تدل على الوسطية والاعتدال .
10 - تأكد لي أن مسألة رواية التائب من الكذب في الحديث النبوي ، ليس لها وجود كبير في كتب الجرح والتعديل ، ولم أجد بعد البحث إلا أربعة من الرواة وصفوا بالكذب وذُكر عنهم أنهم تابوا ، وقد حققت القول فيهم .