ولأن سؤالي ليس عن حكم فقهي ! بقدر ماهو سؤال فكري
وما وجه التفريق عندك؟
هل تريد القول أي مقصد مشروع في العلوم هو مباح في الإسلام ؟!
"مشروع" لا تساوي "مباح" كما تقدم بيانه. المشروع قد يكون مباحا أو مستحبا أو واجبا (على الأعيان أو الكفاية).
إذا كانت إجابتك بنعم ، فأقول ( الإباحة لا تكفي ) للاستمرار والتطوير في العلم !
أكرر: التطوير في العلم ليس غاية في نفسه. فإن كان كذلك عند غيرنا، فليس هو كذلك عندنا، فما المشكلة في هذا؟
وبالأخص عند وجود نصوص نبوية تزهد في الدنيا !!
التزهيد في الدنيا لا يساوي التزهيد في العلم الدنيوي بإطلاق، وقد تقدم التفصيل فلا نكرر.
فبالضرورة نحتاج لنصوص شرعية تفيد التحفيز ألا ترى ذلك ؟!
نعم لا أرى ذلك. وقد بينت لك أن القواعد الفقهية تؤخذ منها الأحكام كالنصوص، فهل نشترط على الشارع أن يجعل لنا من أنواع الأدلة على الحكم "المطلوب" ما نرى نحن بعقولنا أنه أنسب وأحسن؟ نعوذ بالله من الاستدراك على شرع الله.
جعل تعريفها مطاطياً لا ينزع عنها صفة الذم في الإسلام !
"المطاطية" هذه في تصورك أنت ولا تلزمني.
وسؤالي لك : هل ترى علم الديكور مثلاً رفاهية لا داعي لها ام لا ؟!
ناطحات السحاب هل هي رفاهية لا داعي لها ؟!
لم أقل بذلك، ولكن لا شك أن علم الديكور يأتي في منزلة دنيا بين العلوم في ميزان شريعتنا، وإلا فحاجة الناس إليه مشروعة لا شيء فيها. أما ناطحات السحاب فليست "علما مستقلا"! ثم من الذي قال إن المبنى حتى يؤدي المطلوب منه يجب أن يكون "ناطحا للسحاب"؟ لو كان لك اطلاع على نظريات العمارة والعمران ومدارس الفكر المعماري والتخطيط لعرفت أن هذا مما ينازع فيه الخبراء والمتخصصون في تلك العلوم، والتطاول في البنيان مذموم عندنا بالنص على أي حال.
فليس بالضرورة أن يكون مباحاً يكون مندوباً إليه بل ربما العكس !
لم أفهم هذه العبارة!
والكثير من جماليات العلوم ربما تدخل تحت هذا البند فيبقى السؤال قائماً .
والله يا أخي لم أعد أدري ما السؤال من الأصل! هل سؤالك لماذا لم يأت في النصوص الشرعية ما يرغبنا في تعلم العلم الدنيوي لمجرد إشباع شهوة الاطلاع والمعرفة؟ إن كان هذا سؤالك فقد أجبت عنه فيما تقدم، ولا أعيد.
نشأة العلوم الطبيعة في المسلمين هو صحيح ، لكن لك أن تتجول في كتب العلماء لترى ماذا يقولون عن علماء الطبيعة كابن سينا والبيروني على ما أظن ! وغيرهم فهم ( بالإجمال ) مذمومون في عقيدتهم وفي فلسفتهم الفكرية ! .
كلامي في هذه الجزئية كان عن السياق الفكري الذي نشأت فيه تلك العلوم لا عن أحوال بعض رؤوسها، فمع تكفيرنا لمن ذكرت وشهادتنا عليهم بالزندقة، إلا أنه لم يقل أحد من الفقهاء من معاصريهم بنكارة ما جاؤوا به من علوم نافعة في الطب وغيره، وهذا بيت القصيد عندي. والطب من العلوم المرغّب في تعلمها بالمناسبة، لعموم الترغيب المنصوص عليه في التداوي والتطبب، ولذا فهو يأتي على رأس العلوم الدنيوية في ميزان شريعتنا، ويقاس عليه كل ما كان في مثل نفعه وفائدته. ويدخل في حكمه ومنزلته (كعلم) كل علم يخدم غاياته كعلوم الكيمياء والفيزياء والهندسة وغيرها، فلا تداوي ولا تطبب اليوم إلا بجملة كبيرة من العلوم الدنيوية التي يجب أن يلم بها طلبة الطب والصيدلة كما هو معلوم، والحاجة تقدر بقدرها (بالرجوع إلى أهل الشأن) من غير إفراط ولا تفريط. أما قولك "وغيرهم فهم بالإجمال" فلا أسلم لك بهذا الإجمال إذ يوحي بأن جميع من برعوا في العلوم الدنيوية في تاريخ المسلمين كانوا زنادقة، وهذا عدوان عظيم وتعميم باطل لا يتسع المقام لبيان بطلانه.
لكن لا شك كلما كان سقفه مرفوع
كان ذلك أدعى لاتقانه وإبهارنا بذاك الشيء مهما كان !
"كلما كان سقفه مرفوعاً" = هذا تعبير لا ينضبط، وفيه تعميم لا أسلم به. تقدم بيان أن ما لا يقوم الواجب إلا به فهو واجب، وما لا يقوم المندوب إلا به فهو مندوب، يعني في شريعتنا ما قد يجعل الإبداع واجبا، فما المطلوب فوق ذلك؟ المطلوب أن نأتي بنصوص تزكي "الإبداع" مطلقا بغض النظر عن مقصده ومادته؟ هذا خطل ما كان ليليق بعاقل أصلا، دع عنك أن يأتي منصوصا عليه في شريعة الإسلام!
والإنسان بطبعه تواق للمعرفة ! فقد يكون هناك بعثة علمية فقط لدراسة سلوك
حيوان ما! دون وجود مقصد مشروع سوى المعرفة !
والله يا أخي الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى! فمن نوى المعرفة لمجرد المعرفة فقد أشبع شهوة في نفسه ولا أجر له في الآخرة، لأن الله لم يأمرنا بتعلم ظاهر الحياة الدنيا لمجرد التلذذ بذلك. ولو لم يجد المسلمون فيما جاء به طالب العلم لشهوة نفسه هذا أي نفع يعتبر، فقد جاء بما استعاذ منه النبي عليه السلام (علم لا ينفع). وتقدير النافع من غير النافع من العلوم المشروعة (كعلم الحيوان مثلا) إنما يُرجع فيه إلى أهل كل علم بحسبه، فهم أدرى بما يرجى من فائدة كل مبحث من المباحث، فإما أن تكون تلك الفائدة مشروعة وإما ألا تكون كذلك. فما المشكلة عندك في تصور هذا الكلام، بارك الله فيك؟
وكما في الحديث منهومان لا يشبعان وذكر منهما طالب علم لا يشبع ! وهذا الحديث وان قصد طلب العلم الشرعي لكن بقية العلوم تدخل في نهمة الإنسان وتوقه .
لو كان طالب العلم الدنيوي منهوما لمجرد إشباع شهوة المعرفة كما تقدم، فهو من طلاب الدنيا، ولا يؤخذ من هذا الحديث تزكية لمثله، والله أعلم.
وعلى العموم وفي المجمل يوجد الكثير الكثير من العلوم الإنسانية مما لا حصر لها في مجالات عدة ، إن قلت أن الإسلام فيها أصله على الإباحة ! قد يقول قائل ليس كل مباح مرٌغب فيه ! وبالأخص أن هذه العلوم تصب في رفاهية الإنسان في أكثر من شكل ! أضف إلى ذلك وجود نصوص شرعية تزهد في الدنيا وترغب عنها ! فما قولك ؟
أقول إنك تعمم تعميما فاسدا حين تقول "هذه العلوم تصب في رفاهية الإنسان"، والأمر ليس في تلك العلوم على صورة واحدة حتى نطلق له حكما واحدا، بل ليس هو على صورة واحدة وغرض واحد في مباحث العلم الواحد من تلك العلوم، وبعض هذه العلوم قد يدخل في حكم علوم الطب كبعض فروع علم النفس ونحوه، فهي ليست كلها على منزلة واحدة.
والذي يبدو لي، أخي الكريم، أننا قد آل بنا الكلام إلى التكرار، فإن وجدت نفسي مضطرا إلى إعادة ما سبق تحريره فسأنقطع عن المناقشة، وأرجو المعذرة من هذا، وفقني الله وإياك للرشاد.