قال -رحمه الله -:المبحث الثانيلا ينكر تلاقي الأصوات حتى لو لم يلق أحد المتشابهين الآخر أو لم يسمعه, ولا ينكر أن التلميذ لشدة محبته لشيخه قد يتأثر به في الأداء بلا تكلف وإن كان هذا إنما يكون في ضِعَافِ التلاميذ. فانحصر البحث في القارئ يتكلف تقليد صوت قارئ آخر فأقول: الناظر في طبقات القراء, وغيرهم من العلماء, يرى في حلية بعضهم أنه كان حسن الصوت في قراءة القرآن الكريم. ومنهم: عاصم بن أبي النُّجود, كان إذا قرأ كأنما في حلقه جَلاَجِل. وأعلى من ذلك في حلية الصحابة رضي الله عنهم فهذا أبو موسى الأشعري رضي الله عنه قال له النبي صلى الله عليه وسلم لما سمع قراءته: ((لقد أُعطيت مزماراً من مزامير آل داود)) متفق عليه .
في تقليد صوت القارئ
واستمع النبي صلى الله عليه وسلم إلى قراءة سالم مولى أبي حذيفة وكان حسن الصوت. فقال: ((الحمد لله الذي جعل في أمتي مثل هذا)) رواه ابن ماجة بسند جَيِّد قاله ابن كثير في ((فضائل القرآن)).([1])
وأعلى من ذلك وأَجلُّ, قراءة نبينا ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم فقد كانت قراءته مفسرة, حرفا حرفاً, وكانت مَدَّاً, وكان صلى الله عليه وسلم يُرَجِّعُ أحياناً, وكان صلى الله عليه وسلم حسن الوجه, حسن الصوت, بل من سمات أنبياء الله ورسله: حُسن الصوت لكمال خَلْقِهم, وتمام خشيتهم لربهم. ومنها: أن أمير المؤمنين أبا بكر رضي الله عنه وصفته ابنته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لما اختاره النبي صلى الله عليه وسلم لإِمامة الناس في الصلاة قالت: ((إن أبا بكر رجل أسِيْف متى يقم مقامك رَقَّ)) أي: يتمالكه الخشوع فيجهش بالبكاء, رضي الله عنه وأرضاه. ومع هذا فإن الناظر في أخبار التحلي بهذه النعمة, التي أنعم الله بها على من شاء من عباده ((حُسْن الصوت بالقراءة)) لا يرى حرفاً واحداً في تسنن الصحابة رضي الله عنهم فمن بعدهم بمحاكاة حَسَن الصوت في صوته بالقرآن, ولو كان ذلك واقعاً لنُقل, ولو كان لصار أَوْلَى من يُحاكى في صوته, هو أفضل من قرأ القرآن, نبينا ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم . ولتواطأ على ذلك قراء الأمة, من الصحابة فمن بعدهم, وتوارثوه كافة عن كافة. وهذا العبد القانت الصحابي عبد الله بن عمر رضي الله عنهما, مع شدة تتبعه, وقوفه الأثر, وآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحاكيه في قراءته, أو في شيء من أموره الجبلِّية صلى الله عليه وسلم وهؤلاء القراء من الصحابة رضي الله عنهم وهم كُثر لا نرى عنهم حرفاً واحداً في ذلك. وعن معاوية بن قرة, عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنهم قال: ((قرأ النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة, سورة الفتح, فَرَجَّع فيها)). قال معاوية: لو شئت أن أحكي لكم قراءة النبي صلى الله عليه وسلم لفعلت. أخرجه البخاري في ((التفسير)) من ((صحيحه)) برقم / 4835, وفي مواضع أخر منه, في ((المغازي برقم / 4281)) وفي ((فضائل القرآن برقم / 5047)) وفي ((التوحيد برقم / 7540)) الحديث أخرجه جماعة منهم: مسلم, وأبو داود, والحاكم في ((الإِكليل)), وابن الجعد, وأبو عبيدة في ((فضائل القرآن)) والترمذي في ((الشمائل)) والإِسماعيلي في ((مستخرجه)).([2]) وفي رواية الترمذي: ((وقال معاوية بن قرة: لولا أن يجتمع الناس علي لأخذت لكم في ذلك الصوت, أو قال: ((اللَّحن)) انتهى. و((اللحن)) هو: الترجيع. ويدل على أن المراد الترجيع, وروده مصرحاً به في رواية البخاري في ((المغازي)) من صحيحه بلفظ: (لولا أن يجتمع الناس حولي لرجَّعت كما يرجَّع) فالمحاكاة في ((خصوص الترجيع)), فهذا يعني ((الأداء)), وفرق بين حكاية الصوت فهذا لم يقع, وبين حكاية ((الأداء والقراءة)) وهذا أمر مطلوب بأن يقرأ العبد القرآن مؤدياً له على وفق قواعد القراءة, وضوابطها الشرعية, ومن غير إخلال بغلو أو تفريط ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((من أراد أن يقرأ القرآن رطباً)) الحديث. ويدل أيضا على أن المراد ((خصوص الترجيع)) أن النبي صلى الله عليه وسلم نزلت عليه هذه الآيات, وهو على راحلته في ((غزوة الفتح)) وكان ترجيعه صلى الله عليه وسلم آآآ, ثلاث مرات .
قال الحافظ ابن حجر: قال القرطبي: ((يحتمل أن يكون حكاية صوته عند هز الراحلة كما يعتري رافع صوته إذا كان ركباً, من انضغاط صوته, وتقطيعه لأجل هز المركوب, وبالله التوفيق)). انتهى. أي: فهذه واقعة عين لا عموم لها .
على أن معاوية بن قرة رضي الله عنه أراد أن يفعل لكنه لم يفعل, خشية أن يجتمع عليه الناس للاستماع.([3]) وهذا واضح الدلالة على أن محاكاة الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم في صوته غير معهودة بين الصحابة رضي الله عنهم إذ لو كانت معهودة لما خشي ذلك, وهو رضي الله عنه لم يفعل, فبقي الأمر على عدم التقليد, وأنه لم يكن من هدي الصحابة رضي الله عنهم. وفيمن بعدهم تتبعت كتب السير, والتراجم, ما أمكن فلم أر تقليد الصوت لدى القراء, عملاً موروثاً, يستعذب القارئ صوت قارئ آخر, فيقلده وهو واقف بين يدي ربه في المحراب ليحرك النفوس بصوت غيره, ويتلذذ السامعون بحسن أدائه فيه.
12- وغاية ما وقفت عليه ما في فتاوى العز بن عبد السلام. م سنة 660هـ رحمه الله تعالى ونصه ص / 120:
(مسألة: إمام بمسجد يقرأ قراءة حسنة, فسمعه إنسان فقرأ مثله محاكيا له, ولم يقصد بذلك سوى أن فلاناً يقرأ هكذا فهل هذه غيبة أم لا) الجواب: ليس ذلك بغيبة له, والله أعلم. انتهى. إذا كان الحال كذلك: فاعلم أنه في عصرنا بدت ظاهرة عجيبة, لدى بعض القراء إذ اخذوا في التقليد والمحاكاة على سبيل الإعجاب والتلذذ, وتلقنه الطلاب وهو في دَوْر التلقي, ثم سرت هذه العادة فَتَكَوَّن منها هذه الظاهرة ((ظاهرة المحاكاة والتقليد في الصوت)) كل بحسب من أعجبه صوته, فعمروا المحاريب بالتقليد, وهم وقوف بين يدي الله تعالى, يؤمون المصلين, ليحرك الإمام نفوس المأمومين بصوت غيره, ويتلذذ السامعون بِحُسن أدائه فيه, بل وصل الحال إلى أن الإمام في التراويح, قد يقلد صوتين, أو ثلاثة, وهكذا, وقد سمعت في هذا عجباً. وصدق أبو الطيب المتنبي :
وَأَسْرعُ مَفْعُولٍ فَعَلْتَ تَغَيُّراً ** تكلف شيء في طِبَاعِكَ ضِده
(1) فضائل القرآن لابن كثير ص / 115 .
(2) انظر في تخريجه: فتح الباري 8 / 583 , 13 / 512, ومسلم بشرح النووي 6 / 81 , والشمايل بشرح الدومي ص / 344 . ومختصرها للدعاس, وعنه الألباني ص / 167, 168 برقم / 273 .
(3) انظر إلى دقيق ورع الصحابة رضي الله عنهم في البعد عن مواطن الرياء, والشهرة, ووازن بين هذا وبين ما يفعله ((مجوِّدة)) عصرنا من تكلف التقليد, وازدحام الناس على سماعه .