بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى من والاه ... أما بعد :
أطلعت على كتاب بعنوان (مستدرك التعليل على إرواء الغليل) فعزمت على مناقشة دعوى المؤلف من خلال دراسة الأحاديث الثلاث الأول من مستدركه على الإرواء, وتبيّن عدم الدقة والميل عن الإنصاف, فالشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله يخطأ ويصيب في أحكامه رغم إمامته في هذا الفن
الحديث الأول :
حديث فضل يوم الجمعة
عن الحسين الجعفي عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن أبي الأشعث الصنعاني عن أوس بن أوس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " مِنْ أَفْضَلِ أَيَّامِكُمْ يَوْمُ الْجُمُعَةِ فِيهِ خُلِقَ آدَمُ وَفِيهِ قُبِضَ وَفِيهِ النَّفْخَةُ وَفِيهِ الصَّعْقَةُ فَأَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنْ الصَّلَاةِ فِيهِ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ . فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ تُعْرَضُ عَلَيْكَ صَلَاتُنَا وَقَدْ أَرِمْتَ يَعْنِي وَقَدْ بَلِيتَ . قَالَ : " إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ أَجْسَادَ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ " .
قال الدكتور الخليل في مستدركه : خلاصة رأي الشيخ الألباني (( الحديث صحيح , وصححه : الحاكم , والذهبي , والنووي , وابن القيم , وله أربعة شواهد , وأعله بعض المتقدمين بما لا يقدح )).انتهى
الاستدراك :
قال الدكتور الخليل : ((الحديث ضعيف , وله علة ذكرها الأئمة كالحافظ البخاري , وأبي حاتم , وأبي زرعة وغيرهم , إلا أن الشيخ الألباني لم يعط علة الحديث حقها من الدراسة , مع أن الذين أعلُّوه بها حفاظ أثبات , واكتفى بالإحالة على ما كتبه ابن القيم , وقال مع ذلك : أعلَّه بعض المتقدمين بما لا يقدح )).انتهى
العلة :
قال الدكتور الخليل : ((أن الحسين الجعفي لم يسمع من عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ( الثقة ) , بل سمع من عبد الرحمن بن يزيد ( الضعيف ) , وإنما غلط حسين الجعفي في اسم الجد)). انتهى
حجة المستدرك : احتج وفقه الله بما نقله عن بعض الأئمة وفي احتجاجه به نظر يأتي تفصيله وبيان غلطه :
1- الإمام البخاري رحمه الله :
- قال البخاري في التاريخ الكبير [1]: " عبد الرحمن بن يزيد بن تميم السلمى الشامي عن مكحول، سمع منه الوليد بن مسلم، عنده مناكير، ويقال هو الذى روى عنه أهل الكوفة أبو أسامة و حسين فقالوا : عبد الرحمن بن يزيد ابن جابر " .اهـ
- قال البخاري في التاريخ الصغير [2]: " وأما أهل الكوفة فرووا عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر وهو بن يزيد بن تميم , ليس بابن جابر وابن تميم منكر الحديث ".اهـ
- قال الترمذي في العلل الكبير [3]: " قال محمد : أهل الكوفة يروون عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر أحاديث مناكير , وإنما أرادوا عندي عن عبد الرحمن بن يزيد بن تميم وهو منكر الحديث , وهو بأحاديثه أشبه منه بأحاديث عبد الرحمن بن يزيد ابن جابر ".اهـ
2- الإمام أبو حاتم الرازي رحمه الله :
- قال أبو حاتم كما نقله ابنه رحمهما الله في كتابه العلل [4]: " عَبد الرحمن ابن يزيد بن جابر : لا أعلمُ أحداً من أهل العراق يُحدِّثُ عنه ، والذي عندي أن الذي يروي عنه أبو أسامة ، وحُسين الجُعفي ، واحدٌ ، وهو عَبد الرحمن بن يزيد بن تميم ، لأن أبا أسامة روى عن عَبد الرحمن ابن يزيد ، عن القاسم ، عن أبي أُمامة ، خمسة أحاديث أو ستة ، أحاديث منكرة ، لا يحتمل أن يُحدِّث عَبد الرحمن بن يزيد بن جابر مثله ، ولا أعلمُ أحدًا من أهل الشام روى عن ابن جابر من هذه الأحاديث شيئًا .
وأمّا حُسينٌ الجُعفِيُّ : فإِنّهُ روى عن عَبدِ الرّحمنِ بنِ يزِيد بنِ جابِرٍ ، عن أبِي الأشعثِ ، عن أوسِ بنِ أوسٍ ، عنِ النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي يومِ الجُمُعةِ ، أنّهُ قال : أفضلُ الأيّامِ : يومُ الجُمُعةِ ، فِيهِ الصّعقةُ ، وفِيهِ النّفخةُ وفِيهِ كذا وهُو حدِيثٌ مُنكرٌ ، لا أعلمُ أحدًا رواهُ غير حُسينٍ الجُعفِيِّ وأمّا عبدُ الرّحمنِ بنُ يزِيد بنِ تمِيمٍ فهُو ضعِيفُ الحدِيثِ ، وعبدُ الرّحمن بنُ يزِيد بنِ جابِرٍ ثِقةٌ ".اهـ
3- الخطيب البغدادي رحمه الله :
- قال الخطيب في تاريخ بغداد[5] : " روى الكوفيون أحاديث عبد الرحمن بن يزيد بن تميم , عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر , ووهموا في ذلك , فالحمل عليهم في تلك الأحاديث , ولم يكن غير ابن تميم الذي إليه أشار عمرو بن علي , وأما ابن جابر فليس في حديثه منكر والله اعلم " .اهـ
4- ذكر المستدرك هذه العلة عن أبي زرعة الرازي , وأبي داود , وابن حبان , وموسى بن هارون وأحال على شرح علل الترمذي لابن رجب وتاريخ بغداد للخطيب .
يقول أبو طارق عفا الله عنه :
الصواب أن الحديث صحيح وقد اجتمعت فيه شروط الحديث الصحيح : العدالة والضبط في رجاله , والإتصال مع انتفاء الشذوذ والعلة عن مقاله وإسناده ,وما زعم من علة قد أجاب عنها حفاظ أثبات بحجة وبرهان لا يسع الناظر إلا قبولها خلا أهل التقليد وإن ادعوا التحقيق .
واستدراك المستدرك وما احتج به من كلام الأئمة يجاب عنه من أوجه :
- الوجه الأول : يظهر للناظر في كلام الإمامين البخاري وأبي زرعة أنه مبني على ظن غالب لم يجزما به , وعلى قرائن ترددت بين الظن والظن الغالب , لذلك تراهما قد قيداه قدس الله روحهما بذكر كلٌ منهما الفاظ تفيد عدم الجزم كـ (عندي) و (يقال) و (لا أعلم) , وقد وجد من خالفهم من الأئمة , فلا يجوز حمل المخالف على مجرد إجتهاد لا جزم فيه .
[FONT=Simplified Arabic][COLOR=black]قال البخاري : " أهل الكوفة يروون عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر أحاديث مناكير , وإنما أرادوا عندي عن عبد الرحمن بن يزيد بن تميم " .
وقال أيضاً : " ويقال هو الذى روى عنه أهل الكوفة " .انتهى
قال أبو حاتم : " يقال هو الذي روى عنه أبو اسامة وحسين الجعفي وقالا هو ابن يزيد بن جابر وغلطا في نسبه " .اهـ
وقال أبو حاتم : " لا أعلمُ أحدًا من أهل العراق يُحدِّثُ عنه ، والذي عندي أن الذي يروي عنه أبو أسامة ، وحُسين الجُعفي ، واحدٌ ، وهو عَبد الرحمن بن يزيد بن تميم " .انتهى
وأما الخطيب البغدادي فإنه أطلق العبارة , في معرض دفاعه عن ابن جابر لمّا ضعّفه الفلاس , فقال ( روى الكوفيون ) ثم قيدها بأبي أسامة عندما قال (حدثت عن دعلج بن احمد قال : قال موسى بن هارون : روى أبو أسامة عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر , وكان ذاك وهماً منه رحمه الله , هو لم يلق عبد الرحمن بن يزيد بن جابر , وانما لقي عبد الرحمن بن يزيد بن تميم , فظن انه ابن جابر وابن جابر ثقة وابن تميم ضعيف).اهـ
وقد جزم السخاوي [6] أن الخطيب جنح إلى ثبوت سماع الجعفي من ابن جابر . وأما ما ذكره المستدرك عن أبي زرعة وأبي داود وابن حبان وموسى بن هارون , موهماً بأنهم قائلون بها وأن حسيناً الجعفي لم يسمع من ابن جابر وإنما سمع من ابن تميم , فما هذا إلا تشبع بما لم يعط , لأنه لم يقف على نص كلام أبي زرعة , وإنما اعتمد في ذلك على ما نقله عن الحافظ ابن رجب في شرح العلل , ولا يكفيه ذلك , فالموطن موطن حجج وبراهين , ولا تنفع فيه النقول المجرده عما يثبتها .
فإن قبلنا منه نقله عن الحافظ ابن رجب لسعة إطلاعه , ولكن هذا النقل مردود بقرينة أن من ذكرهم ابن رجب رحمه الله مع أبي زرعة مثل أبي دواد وموسى بن هارون , لا يفيد كلامهم إلا نقد رواية أبي أسامة فقط , ولم يذكروا الحسين الجعفي بل ولا هم ممن أطلقوا في تعبيرهم ونسبوا الخطأ لأهل الكوفة فتأمل .
قال أبو عبيد الآجري : سئل أبو داود سليمان بن الأشعث عن عبد الرحمن بن يزيد بن تميم فقال : هو السلمي متروك الحديث , حدث عنه أبو أسامة وغلط في اسمه.اهـ
وقال موسى بن هارون : روى أبو أسامة عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر , وكان ذاك وهماً منه رحمه الله , هو لم يلق عبد الرحمن بن يزيد بن جابر , وانما لقي عبد الرحمن بن يزيد بن تميم , فظن انه ابن جابر وابن جابر ثقة وابن تميم ضعيف.اهـ
وأما ابن حبان البستي فقد أخرج حديث الحسين الجعفي عن ابن جابر في صحيحه وصححه , فبطلت الدعوى بيقين .
فليس في كلام الأئمة رحمهم الله , ما يجعل المستدرك يلزم الشيخ الألباني رحمه الله ويوجب عليه أن يصير إلى ترجيحهم بعدم سماع الحسين الجعفي من ابن جابر , فجزمهم بنفي سماع أبي أسامة من ابن جابر , لا يلزم منه نفي سماع الحسين الجعفي من ابن جابر .
قال ابن عبد الهادي رحمه الله : " وما ذكره أبو حاتم الرازي في العلل يدل على تضعيف رواية أبي أسامة عن ابن جابر , لا على ضعف رواية الجعفي عنه ، فإنه قال : والذي عندي أن الذي يروي عنه ابو أسامة وحسين الجعفي واحد ، ثم ذكر ما يدل على أن الذي روى عنه أبو أسامة فقط هو ابن تميم ، فذكر أمراً عاماً ، واستدل بدليل خاص ".اهـ
وقد وافق كثير من الحفاظ , البخاريَ وأبا حاتم في جزمهم بنفي سماع أبي أسامة من ابن جابر , ومع ذلك أثبتوا سماع الجعفي من ابن جابر كما ذهب إليه الشيخ الألباني , فدل على عدم التلازم .
قال العجلي رحمه الله : " حدثنا أبو مسلم حدثني أبي قال سمع حسين بن على الجعفي من عبد الرحمن بن يزيد بن جابر حديثين حديث أكثروا من الصلاة على يوم الجمعة فإن صلاتكم تبلغني وحديث آخر في الجمعة ".اهـ
وقال الدارقطني رحمه الله : " حسين الجعفي ، روى عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، و أبو أسامة يروى عن عبد الرحمن بن يزيد بن تميم ، فغلط في اسم جده ".اهـ
وقال ابن عبد الهادي رحمه الله : " وهذا الذي قاله الحافظ أبو الحسن - الدارقطني - هو أقرب وأشبه بالصواب ، وهو أن الجعفي روى عن ابن جابر ولم يرو عن ابن تميم ، والذي يروي عن ابن تميم ويغلط في اسم جده هو أبو أسامة كما قاله الأكثرون " .اهـ
وقال ابن القيم رحمه الله : " وأما رواية حسين الجعفي ، عن ابن جابر ، فقد ذكره شيخنا - يقصد المزي - في التهذيب ، وقال : روى عنه حسين بن علي الجعفي ، و أبو أسامة حماد بن أسامة إن كان محفوظاً . فجزم برواية حسين عن ابن جابر وشك في رواية حماد ".اهـ
فما وجه التثريب من المستدرك بقوله " إلا أن الشيخ الألباني لم يعط علة الحديث حقها من الدراسة , مع أن الذين أعلُّوه بها حفاظ أثبات " ؟!!
[RIGHT][SIZE=4]والواضح لمن تأمل أن المستدرك هو الذي لم يعط الحديث حقه من الدراسة , أو أنه يقصد أن الذين نفوا هذه العلة ليسوا بحفاظ أثبات
- الوجه الثاني : قال عبد الرحمن بن أبي حاتم [7]: حدثني أبي قال : سألت محمد بن عبد الرحمن ابن أخي حسين الجعفي عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر فقال : قدم الكوفة وعبد الرحمن بن يزيد بن تميم ويزيد بن يزيد بن جابر , ثم قدم عبد الرحمن بن يزيد بن جابر بعد ذلك بدهر , والذي يحدث عنه أبو أسامة ليس هو ابن جابر هو ابن تميم.اهـ
يقول مقيده عفا الله عنه : في هذا النقل دليل على أن الذي غلط هو أبو أسامة فقط , وفيه أيضاً صحة سماع الحسين الجعفي من ابن جابر , فهذا ابن أخي الحسين الجعفي يخبر بقدوم ابن جابر للكوفة بعد قدوم ابن تميم , ولم يذكر عن عمه شيء من الوهم في رواية ابن جابر كما ذكره عن أبي أسامة جازماً به عنه .
بل أن من نُقل عنه بيان هذا الغلط , تجده يذكر أبا أسامة فقط ولا يذكر معه الحسين الجعفي فتبين الفرق .
قال الفسوي : قال ابن نمير: وهو - أي أبو أسامة - الذي يروي عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ونرى إنه ليس بابن جابر المعروف ، ذُكر لي أنه رجل يسمى بابن جابر ، فدخل فيه ، وإنما هو انسان يسمى بابن جابر. قال يعقوب : صدق هو ابن تميم . اهـ
وقال ابن عساكر في تاريخ دمشق : وذكر أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الأصبهاني أنه سأل أبا حاتم - الرزاي - عن عبد الرحمن بن يزيد بن تميم السلمي يعد في الشاميين ؟ فقال : ضعيف الحديث وغلط فيه أبو أسامة.اهـ
وقال النسائي[8] : عبد الرحمن بن يزيد بن تميم متروك الحديث شامي روى عنه أبو أسامة وقال عبد الرحمن بن يزيد بن جابر .اهـ
ويقول ابن عساكر في ترجمة خالد بن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر[9] : فإن أبا أسامة حماد بن أسامة روى عن والد الأول عبد الرحمن بن يزيد بن تميم وكان قد قدم عليهم الكوفة فكان يقول في نسبه عبد الرحمن بن يزيد بن جابر يهم في ذلك وابنه خالد هذا أراه سكن الكوفة يروي عنه أهلها ولا أعرف للشاميين عنه رواية فوهم عبيد بن يعيش في تسمية جده جابراً كما وهم أبو أسامة.اهـ
- الوجه الثالث : أن بعض روايات أبي أسامة عن ابن جابر المنكرة , قد وجد بعضها مروية عن ابن تميم من طرق وبحذافيرها[10] , وهذا لن تجده في روايتي الحسين الجعفي عن ابن جابر فتأمل .
قال أبو حاتم الرازي : أن أبا أسامة روى عن عَبد الرحمن ابن يزيد ، عن القاسم ، عن أبي أُمامة ، خمسة أحاديث أو ستة ، أحاديث منكرة . اهـ
تنبيه وإيقاظ : قول أبي حاتم الرزاي هذا يقتضي حصر مناكير أبي أسامة عن ابن جابر في روايات خمسة أو ستة , بل وقد خصصها في روايته عن القاسم عن أبي أمامة , وهذا من جليل علم هذا الإمام وقوة حفظه , لذلك فقد وقفت لأبي أسامة على روايات مستقيمة عن ابن جابر , وقد توبع عليها من الثقات عن ابن جابر , وابن جابر يرويها عن شيوخه الذين لم يشاركه فيهم ابن تميم , فإما أن يكون أبا أسامة قد سمع من الاثنين وصيرها كلها عن ابن جابر غافلاً عن الغلط , وإما أنه دلس[11] بعض رواياته عن ابن المبارك عن ابن جابر بعد أن التقى بابن تميم والله أعلم .
قال أبو بكر بن أبي داود : ابن يزيد ابن تميم , قدم فاراً مع القدرية , وكان من أهل دمشق , وقد سمع أبو أسامة من ابن المبارك عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر , وجميعا يحدثان عن مكحول , وابن جابر أيضا دمشقي , فلما قدم هذا قال أنا عبد الرحمن بن يزيد الدمشقي , وحدث عن مكحول , ظن أبو أسامة أنه ابن جابر الذي روى عنه ابن المبارك.اهـ
وقال الفسوي : وكأني رأيت ابن نمير يتهم أبا أسامة إنه علم ذلك وعرف ولكن تغافل عن ذلك.اهـ
- الوجه الرابع : استدلال المستدرك بقول أبي حاتم رحمه الله (( لا أعلمُ أحداً من أهل العراق يُحدِّثُ عنه )) أي عن ابن جابر .
فأقول : لا نزاع في سعة حفظ الإمام الحافظ أبي حاتم الرزاي , ولكن الإحاطة بجميع المرويات ليست لبشر , وثانيًا يجب التفريق بين نفي الأمر وبين نفي علمه بالأمر, فلا ينبغي الاستدراك على إمام حافظ بعدم العلم عند إمام حافظ , وهذا ما فعله المستدرك , دون أن يكلف نفسه البحث , وقد يسر الله لنا في هذه الأزمان وسائل لولاها بعد فضل الله لما حق لنا أن نزاحم الأئمة في هذا العلم الشريف , فالله المستعان .
وقد وقفت بفضل من الله على روايات لأهل العراق عن ابن جابر :
1- رواية وهيب بن خالد البصري , كما عند أبي يعلى في مسنده (1020) وابن ماجه في سننه (1564) .
2- رواية جعفر بن عون الكوفي , كما عند الحاكم في المستدرك (2163) , ومن طريقه البيهقي في الشعب (11212) .
3- ذكر الحافظ المزي أن يونس بن بكير الشيباني الكوفي روى عن ابن جابر , ولكني لم أقف على روايته .
4- رواية عيسى بن يونس[12] بن أبي اسحاق السبيعي الكوفي , كما عند عبد الرزاق في المصنف (19433) , وأبو دواد في سننه (1215 ) , النسائي في سننه (3578) و (4420).
- الوجه الخامس : تنبه رعاك الله إلى أن قول أبي حاتم (( وأمّا حُسينٌ الجُعفِيُّ : فإِنّهُ روى عن عَبدِ الرّحمنِ بنِ يزِيد بنِ جابِر.... وهُو حدِيثٌ مُنكرٌ )) لا يماثل قوله في أحاديث أبي أسامة وهو قوله (( لأن أبا أسامة روى عن عَبد الرحمن ابن يزيد ، عن القاسم ، عن أبي أُمامة ، خمسة أحاديث أو ستة ، أحاديث منكرة )) .
واعلم أرشدك الله للصواب بأن أبا حاتم يعني بالنكارة في حديث الجعفي عن ابن جابر مطلق التفرد بالرواية , لا كما يظن الظان من أنه يعني به الساقط المردود الذي لا يحتج به ألبتة , كما وصف أبو حاتم بذلك أحاديث أبي أسامة التي غلط فيها .
ويبين ذلك قول أبي حاتم عن رواية الحسين الجعفي (( لا أعلمُ أحدًا رواهُ غير حُسينٍ الجُعفِيِّ )) وأما في روايات أبي أسامة فقد قال أبو حاتم (( لا يحتمل أن يُحدِّث عَبد الرحمن بن يزيد بن جابر مثله ، ولا أعلمُ أحدًا من أهل الشام روى عن ابن جابر من هذه الأحاديث شيئًا )) .
فإن انتقاد أبي حاتم لرواية أبي أسامة , مسلط على نكارة المروي عنه عن ابن جابر , فهو ينفي أن يروي ابن جابر الثقة الضابط مثل هذه المتون المنكرة, مع عدم وجودها عنه من طريق أهل الشام , بل ومع وجود بعضها مروية عن ابن تميم الضعيف عن أهل الشام .
قال الفسوي : قال لي ابن نمير: أما ترى روايته لا تشبه شيئاً من حديثه الصحاح الذي روى عنه أهل الشام وأصحابه الثقات.اهـ
وأما كلام أبي حاتم في رواية الحسين الجعفي فتفيد نفي المتابع لحسين الجعفي في هذه الرواية فقط , لإثبات غرابة الإسناد بالتفرد به عن ابن جابر , حتى تُضم هذه القرينة مع الشك في سماع الحسين الجعفي من ابن جابر فيقوى الإحتمال بغلط الحسين الجعفي , وهذا متجه لو أن الحسين الجعفي تفرد بالرواية الأخرى عن ابن جابر في حديث " من غسّل واغتسل " , والتي توبع فيها الحسين الجعفي عن ابن جابر , من كلٌ من عبد الله بن المبارك والوليد بن مسلم ومتابعتهما تامة , وتابعه الأوزاعي متابعة ناقصة , وقد تابع جماعة من الحفاظ ابن جابر على روايته عن أبي الأشعث الصنعاني وهي متابعات تامة وهم : أبو قلابة ويحيى بن الحارث وحسان بن عطية وسليمان بن موسى ومحمد بن سعيد , وتابع عُبَادةَ بن نُسَيّ أبا الأشعث الصنعاني في روايته عن أوس بن أوس رضي الله عنه متابعة تامة , فالحديث صحيح لا مطعن فيه , وثبوت هذا الحديث يدل على صحة سماع الحسين الجعفي في الرواية الأولى عن ابن جابر وأنها محفوظة , فإن ثبت هذا فحيئذ يُنظر في تفرد الحسين الجعفي بالحديث الأول , ولا يسمى التفرد علة بإطلاق عند أهل الحديث وإنما هو قرينة على الإعلال .
ومن المعلوم عند علماء الحديث أن بعض الأئمة كيحيى القطان وأحمد والرازيين وغيرهم يطلقون النكارة على الحديث الفرد , ولو كان المتفرد به ثقة , حتى يروى الحديث من طريق أخر , أو يشتهر المتن , أو تحفه قرائن أخرى , فتزول عنه بذلك النكارة عندهم , ولا تلازم بين إطلاقهم النكارة بهذا المعنى وبين التصحيح والتضعيف , بل قد يطلقون النكارة على أحاديث وهي مخرجة في الصحيحين [13]. وحديث الباب من هذا الجنس , فرجاله من رجال الصحيحين إلا أبو الأشعث فمن رجال مسلم , فتفرد من هذه حالهم مقبول , وقد حكى الإمام مسلم أنه باتفاق أهل العلم بالحديث وأقره ابن رجب رحمهما الله .
قال الإمام مسلم رحمه الله : " حكم أهل العلم والذي تعرف من مذهبهم في قبول ما يتفرد به المحدث من الحديث ، أن يكون قد شارك الثقات من أهل الحفظ في بعض ما رووا ، وأمعن في ذلك على الموافقة لهم ، فإذا وجد كذلك ثم زاد بعد ذلك شيئاً ليس عند أصحابه قبلت زيادته " .اهـ
قال الحافظ ابن رجب معلقاً على كلام مسلم رحمهما الله : " فصرح بأن الثقة إذا أمعن في موافقة الثقات في حديثهم ، ثم تفرد عنهم بحديث قبل ما تفرد به ، وحكاه عن أهل العلم ".اهـ
قلت : وفي هذا المحكي عن أهل العلم واتفاقهم عليه , أبلغ رد على من زعم بأن التفرد يكون علة قادحة مطلقاً وإن كان المتفرد من الثقات , كما أوهم المستدرك هنا وجعل تفرد الحسين الجعفي من الحجج على ضعف هذا الحديث والله المستعان .
- الوجه السادس : بنى المستدرك استدراكه على التهمة بوهم الحسين الجعفي : قال ابن القيم رحمه الله : " وقولهم : إنه ظن أنه ابن جابر وإنما هو ابن تميم ، فغلط في اسم جده بعيد ، فإنه لم يكن يشتبه على حسين هذا بهذا ، مع نقده وعلمه ".اهـ
وصدق ابن القيم رحمه الله , فإذا رجعنا لترجمة الحسين الجعفي تجد فيها الأوصاف التالية : ثقة , حافظ , متقن , صحيح الكتاب , قارئ للقرآن رأس فيه .
وهو : الحسين بن علي بن الوليد الجعفي المقريء : من رجال الصحيحين , وقد روى عنه حديث الباب هذا جماعة من الحفاظ منهم الإمام أحمد وإسحاق بن منصور وأبوكريب وعبد الرزاق الصنعاني والحسن الحلواني وأبوبكر بن أبي شيبة وغيرهم.
قال الإمام أحمد : ما رأيت أفضل من الحسين الجعفي .
قال سفيان الثوري : ذاك راهب جعفى .
قال يحيى بن يحيى النيسابورى : إن بقى أحدا من الأبدال فحسين الجعفى .
قال أبو داود : سمعت قتيبة يقول : قيل لسفيان بن عيينة : قدم حسين الجعفى ، فوثب قائما ، فقيل له ; فقال : قدم أفضل رجل يكون قط .
قال موسى بن داود : كنت عند سفيان بن عيينة فجاء حسين الجعفى ، فقام سفيان فقبل يده .
قال ابن معين : ثقة .
قال أحمد بن عبد الله العجلى : ثقة ، و كان يقرىء القرآن رأس فيه ، و كان رجلا صالحاً ، لم أر رجلاً قط أفضل منه ...وكان صحيح الكتاب .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الرحمن الهروي قال : ما رأيت أتقن من الحسين الجعفي , ورأيت في مجلسه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وخلفاً المخرمي بالكوفة .
قال الذهبي : الحافظ , المقرئ , الزاهد , القدوة .
قال الحافظ ابن حجر : ثقة عابد.
- الوجه السابع : عبد الرحمن بن يزيد بن جابر يروي عن أبي الأشعث الصنعاني ويعد في مشايخه , وأما عبد الرحمن بن يزيد بن تميم فلا يعرف له رواية عن أبي الأشعث , ولم أجد أحداً عده في مشايخه.
وقد حققت ثبوت الاتصال لرواية ابن جابر عن أبي الأشعث الصنعاني, بعد أن حُكي الانقطاع عن بعض أهل العلم, وتجده في ملحق خاص بعنوان(فصل : بيان اتصال رواية ابن جابر عن أبي الأشعث) حررت فيه هذا المحكي, وتوصلت إلى ثبوت سماع ابن جابر من أبي الأشعث بقرائن قاطعة وروايات صحيحة ولله الحمد والمنة.
وأخيرًا لا يُسلّم للمستدرك بأن عبارة الشيخ الألباني رحمه الله في قوله (( أعله بعض المتقدمين بما لا يقدح )) فيها تنقص لمن ضعّف الحديث , وإنما هي إخبار عما توصل له بعد البحث والتنقيب , فوجب عليه الصدع بما يدين الله به , وما وصل إليه اجتهاده ومثله أهل لهذا رحمه الله ورفع درجته, فلو نظرت أخي المبارك لبعض عبارات الحفاظ في عين هذا الحديث لعلمت أن هذا أمرٌ سائغ لبيان الحق والصواب وما آل إليه الاجتهاد مع حفظ مقام من خالفهم من الحفاظ .
يقول الحافظ ابن عبد الهادي رحمه الله : فعلى هذا يكون الحديث الذي رواه حسين الجعفي ، عن ابن جابر ، عن أبي الأشعث ، عن أوس حديثاً صحيحاً ، لأن رواته كلهم مشهورون بالصدق والأمانة والثقة والعدالة ، ولذلك صححه جماعة من الحفاظ كأبي حاتم بن حبان ، والحافظ عبد الغني المقدسي ، وابن دحية وغيرهم ، ولم يأت من تكلم فيه وعلله بحجة بينه .اهـ
وقال المباركفوري في المرقاة : هذا الحديث من رواية عبد الرحمن بن يزيد بن جابر لا من رواية عبد الرحمن بن يزيد بن تميم .... فالحق أن الحديث صحيح، ومن قال أنه ضعيف أو منكر، فكأنه اشتبه الأمر عليه لظنه أن الحديث من رواية ابن تميم. وقال ابن دحية: أنه صحيح بنقل العدل عن العدل، ومن قال: إنه منكر أو غريب لعله خفية به، فقد استروح؛ لأن الدارقطني ردها .اهـ
فعلى هذا يكون قد صحح هذا الحديث جمعٌ من الحفاظ كالحاكم والذهبي والنووي وابن القيم وقد ذكرهم المستدرك , ولكنه أغفل ذكر الحافظ الدارقطني والحافظ عبد الغني المقدسي
وأزيد على من ذكرهم ابن دحية وابن عبد الهادي والمباركفوري رحم الله الجميع متقدمهم ومتأخرهم .والله الموفق
وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين .
وكتبه / أبو طارق علي بن عمر النهدي .
غفر الله له ولوالديه وللمؤمنين والمؤمنات .
وفرغ منه ليلة التاسع من شهر الله المحرم لعام تسعة وعشرين واربعمائه والف للهجرة .
________________________
[1] (5/365) ط الفاروق الحديثة .
[2] (2/109) ط دار المعرفة .
[3] ص 421 ط الدار العثمانية .
[4] كتاب العلل لابن أبي حاتم برقم (565) .
[5] تاريخ بغداد ( 10/212 ) .
[6] القول البديع (ص 331) ط عوامة .
[7] الجرح والتعديل برقم (1423) .
[8] تاريخ دمشق (36/47) .
[9] جزم ابن عساكر أن خالداً هذا هو ابن عبد الرحمن بن يزيد بن تميم وليس لابن جابر ابن يسمى خالد .
[10] مثال ذلك الحديث القدسي " هي ناري أسلطها على عبدي المؤمن لتكون حظه من النار في الآخرة " رواه أبو المغيرة عن عبد الرحمن بن يزيد بن تميم عن أسماعيل بن عبيد الله عن أبي صالح الأشعري عن أبي هريرة مرفوعاً عند الطبراني في الأوسط ( 10) والبيهقي في الكبرى (6383) وهذا الصواب إسناداً .
وقد رواه أبو أسامة عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن أسماعيل بن عبيد الله عن أبي صالح الأشعري عن أبي هريرة مرفوعاً عند الإمام أحمد (9676) وإسحاق بن راهويه (371) وابن ماجه (3470) والطبراني في مسند الشاميين (561) وغلط فيه أبو أسامة فرواه عن ابن جابر وهو عن ابن تميم .. وذكر ذلك الدارقطني في العلل عند السؤال رقم (1987) وضعّف الرواية وقال أن الصحيح أنها من قول كعب الأحبار وليست مرفوعة , وقد خرجها البيهقي في الكبرى (6384) عن كعب مقطوعاً , وصححه الشيخ الألباني في الصحيحة مرفوعًا برقم 557 وهو لا يصح مرفوعًا.
قال ابن رجب في شرح العلل (2/680) : ومما روى أبو أسامة عن ابن جابر عن إسماعيل بن عبيد الله عن أبي صالح الأشعري عن أبي هريرة حديث : (( الحمى حظ المؤمن من النار )) ورواه من الشاميين أبو المغيرة عن ابن تميم عن إسماعيل بهذا الإسناد ، فقوي بذلك أن أبا أسامة إنما رواه عن ابن تميم .اهـ
قلت : وهو كما قال الحافظ ابن رجب , إلا أنه دخل عليه متن حديثاً أخرًا وهو قوله : " الحمى حظ المؤمن من النار " وهذا عند الطبراني في الأوسط (7540) من حديث أنس رضي الله عنه , وعند ابن أبي الدنيا في المرض والكفارات (157) من حديث عثمان رضي الله عنه , والإسنادان ضعيفان .
[11] في التقريب للحافظ : أبو أسامة مشهور بكنيته ثقة ثبت ربما دلس .انتهى المقصود
[12] ذُكر في ترجمة عيسى بن يونس أنه سكن ناحية الشام بالحدث و هى ثغر من الثغور , وقد يكون لقي ابن جابر في الشام , ولكن جاء ما ينفي ذلك من طريق الإمام البخاري قائلاً : حدثني إبراهيم بن موسى قال : سمعت عيسى بن يونس أثنى على سعيد بن عبد العزيز , ولم يكن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر من جلسائه .[انظر التعديل والتجريح للباجي 2/979]
[13] انظر شرح علل الترمذي لابن رجب الحنبلي ( 1/452-453 ) ط عتر .