تراثنا على نوعين: نوع يجب أن نحمله معنا لأنه يثري حياتنا، ويبعث الهمم في نفوسنا، ونوع يثقل كواهلنا، ولهذا يحسن بنا أن نتخلص منه. وهذا الموضوع يجمع بين دفتيه طرفا من النوع الذي يفيدنا أن نحمله معنا، وذلك في بضع صفحات عرض فيها المؤلف لمواقف خالدة في حياة ثلاثة من رجال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن على يقين بأنا بحاجة إلى أن نتذكر هذه المواقف لما فيها من عظة وفائدة وتوجيه، وبخاصة في حاضرنا هذا القلق الذي انبهمت فيه الأمور عليها، ونحن لا نجد بين هؤلاء الرجال خلفاء الرسول الأربعة، لأنه سبق للمؤلف أن خصهم بمؤلفات مستقلة هي: وجاء أبو بكر، بين يدي عمر، في رحاب علي، وداعا عثمان.وقد اخترنا ان نقف عند شخصيات كانت لها مواقف تدل على الإيمان العميق، والثبات الذي لا يلين، والبطولة في الدفاع عن الحق الذي آمنت به. وابدأ بواحد من هؤلاء الخالدين، هو:مصعب بن عمير: أول سفراء الاسلام:هو قرة فتيان قريش، وأوفاهم بهاء، وجمالا، وشبابا. وقد وصفه المؤرخون فقالوا: "كان أعطر أهل مكة" ولد في النعمة، وغذي بها. وعلى الرغم من صغر سنه كان زينة المجالس والندوات في مكة، لأنه أضاف إلى أناقة المظهر رجاحة العقل.وسمع مصعب الكثير عن دعوة الرسول، فإذا بقلبه الذكي يقوده إلى دار الأرقم بن أبي الأرقم. وما أن اخذ مجلسه، واستمع إلى الرسول حلّ الإيمان بقلبه، وأصبح يعرف بين المسلمين بأنه "مصعب الخير".وكانت أم مصعب هي خناس بنت مالك، وهي امرأة قوية الشخصية، في نفوذ قومها، وتربطها بابنها أوثق الروابط وأقواها، وكان فلها تأثير عليه، ورغم كل هذا فقد وقف في وجه أمه التي حاولت جهدها أن ترده عن السير في الطريق الذي اختاره. ولما أعيتها الحيل قالت له: اذهب لشأنك. لم أعد لك أما.فاقترب منها مصعب وقال لها: يا أمّه، إني لك ناصح، وعليك شفوق، فاشهدي انه لا إله إلا الله، وأن محمد عبده ورسوله. فأجابته غاضبة مهتاجة: قسما بالثواقب لا أدخل في دينك، فيزرى برأي ويضعف عقلي.وهكذا أدار مصعب ظهره لكل هذا النعيم، مؤثرا عليه الشظف والفاقة مع الاحتفاظ بدينه، وهاجر مصعب مع اخوانه المهاجرين مرتين الى الحبشة.واختاره الرسول للقيام بمهمة من أصعب المهام، إذ جعله سفيره إلى أهل المدينة، ليفقه الأنصار ويدخل غيرهم في دين الله، فنجح في مهمته نجاحا باهرا، إذ غزا قلوب أهل المدينة بعقله الراجح، وخلقه الكريم.وهاجر الرسول إلى المدينة، وخرج مصعب يوما على المسلمين وهم يحيطون بالرسول، فما أن أبصوره حتى حنوا رؤوسهم، وذرفت عيون بعضهم، فقد كان يلبس جلبابا مرقعا باليا، وتملى الرسول من النظر إليه ثم قال: لقد رأيت مصعبا هذا، وما بمكة فتى أنعم عند أبويه منه، ثم ترك ذلك كله حبا لله ورسوله!وتمضي الأيام والأعوام، وتكون معركة بدر، ويبلي المسلمون فيها أي بلاء، ثم تكون معركة أحد، وفيها دعا الرسول مصعب الخير، وحملة اللواء. وسير المعركة معروف مشهور، وما يهمنا هنا هو قرار مصعب فيها: إذ عندما رأى الفوضى والذعر يمزقان صفوف المسلمين، وأدرك أن المشركين أخذوا يركزون على النيل من رسول الله، بادر فرفع اللواء عاليا، وأخذ يصيح صيحة الحرب ليبعدهم عن الرسول بجلب الأنظار إليه وقاتل قتال من يطلب الشهادة.وقد وصف شاهد أحيان مشهد الختاك في حياة "مصعب الخير" فقد ورد في الطبقات الكبرى لابن سعد ما يلي:"أخبرنا ابراهيم بن محمد بن شرحبيل العبدري عن أبيه قال: حمل مصعب بن عمير اللواء يوم أحد، فلما جال المسلمون ثبت به مصعب، فاقبل ابن قميئة وهو فارسي فضربه على يد اليمنى فقطعها، ومصعب يقول: "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل..." وأخذ اللواء بيده اليسرى، وحنا عليه، فضرب يده اليسرى فقطعها، فنحنا على اللواء وضمه بعضديه إلى صدره وهو يقول وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل.. ثم حمل عليه الثالثة بالرمح فأنفذه واندق الرمح، ووقع مصعب، وسقط اللواء..."لقد سقط مصعب بعد أن خاض بشجاعة فائقة معركة الفداء والإيمان. ووقف الرسول الكريم يلقي نظرة على مصعب الشهيد، ثم قال: لقد رأيتك بمكة، وما بها ارق حلة ولا أحسن لمة منك.. ثم ها أنت ذا شعث الرأس في بردة.