الأذكياء من الأطباء
الحمد للّه وكفى، والصلاة والسلام على النبي المصطفى وآله وأصحابه المستكملين الشّرفا... وبعد،،
فالبحث عن الأذكياء طريق لفتح باب الذكاء، وبما أنّ مجال الذكاء لا ينحصر بواد واحد أو علم فريد، بل كان له في كلّ واد مسرحا، وفي كل علم منهلا، فقد راق لي أن أجمع هنا جملة من أخبار الأذكياء من أطباء المسلمين.

(1)
أمين الدولة ابن التلميذ
هو الأجل موفق الملك أمين الدولة، أبو الحسن هبة اللّه ابن أبي العلاء صاعد بن إبراهيم بن التلميذ.
أوحد زمانه في صناعة الطب وفي مباشرة أعمالها، يقول ابن أبي اصيبعة  1 : ونقلت من خط الشيخ موفق الدين عبد اللطيف بن يوسف البغدادي فيما حكاه عن الأجل أمين الدولة بن التلميذ قال: كان أمين الدولة حسن العشرة، كريم الأخلاق، عنده سخاء و مروءة، وأعمال في الطب مشهورة، وحدوس صائبة، منها: انه أحضرت إليه امرأة محمولة لا يعرف أهلها في الحياة هي أم في الممات، وكان الزمان شتاء، فأمر بتجريدها وصبّ الماء المبرد عليها صبا متتابعا كثيرا. ثم أمر بنقلها إلى مجلس دفىء قد بخر بالعود  2 والند  3 ودثرت بأصناف الفراء ساعة، فعطست وتحرّكت وقعدت وخرجت ماشية مع أهلها إلى منزلها.

معالجته لمريض يعرق دما:

قال: ودخل إليه رجل منزف يعرق دما في زمن الصيف، فسأل تلاميذه وكانوا قدر خمسين نفسا فلم يعرفوا المرض، فأمره أن يأكل خبز شعير مع باذنجان مشوي، ففعل ذلك ثلاثة أيام فبرأ فسأله أصحابه عن العلّة؟ فقال: إن دمه قد رق و مسامه قد تفتحت، وهذا الغذاء من شأنه تغليظ الدم وتكثيف المسام.
قال: ومن مروءته أن ظهر داره كان يلي النظامية، فإذا مرض فقيه نقله إليه، وقام في مرضه عليه، فإذا أبلّ
وهب له دينارين وصرفه.


معالجته لأحد الملوك و عدم قبول عطيته:

ومما حكاه أيضا عن أمين الدولة ابن التلميذ قال: وكان أمين الدولة لا يقبل عطيّة إلاّ من خليفة أو سلطان، فعرض لبعض الملوك النائية داره مرض مزمن فقيل له: ليس لك إلاّ ابن التلميذ، وهو لا يقصد أحدا فقال: أنا أتوجّه إليه.فلما وصل أفرد له و لغلمانه دورا وأفاض عليه من الجرايات قدر الكفاية، ولبت مدّة فبرىء الملك وتوجّه إلى بلاده وأرسل إليه مع بعض التجّار أربعة آلاف دينار وأربعة تخوت عتابى وأربعة مماليك وأربعة أفراس، فامتنع من قبولها و قال: عليّ يمينا أن لا أقبل من أحد شيئا فقال التاجر: هذا مقدار كثير، قال: لمّا حلفت ما استثنيت، وأقام شهرا يراوده ولا يزداد إلاّ اباء. فقال له عند الوداع:ها أنا أسافر ولا أرجع إلى صاحبي، وأتمتّع بالمال فتتقلّد منته، وتفوتك منفعته، ولا يعلم أحد بأنك رددته، فقال: ألست أعلم في نفسي اني لم أقبله، فنفسي تشرف بذلك، علم الناس أو جهلوا.

من نوادره و حسن إشارته:

ومن نوادر أمين الدولة وحسن إشارته: انه كان يوما عند المستضيء   بأمر اللّه، و قد أسن أمين الدولة. فلما نهض للقيام توكأ على ركبتيه، فقال له الخليفة: كبرت يا أمين الدولة. فقال:نعم يا أمير المؤمنين، وتكسرت قواريري، ففكر الخليفة في قول أمين الدولة و علم انه لم يقله إلاّ لمعنى قد قصده و سأل عن ذلك فقيل له: إن الإمام المستنجد باللّه كان قد وهبه ضيعة تسمى قوارير وبقيت في يده زمانا، ثم من مدّة ثلاث سنين حطّ الوزير يده عليها فتعجّب الخليفة من حسن أدب أمين الدولة، وانه لم ينه أمرها إليه ولا عرض بطلبها.
ثم أمر الخليفة بإعادة الضيعة إلى أمين الدولة، وأن لا يعارض في شيء من ملكه.


امتحانه للأطباء ببغداد و لشيخ متطبّب:

ومن نوادره: ان الخليفة كان قد فوض إليه رئاسة الطب ببغداد، و لما اجتمع إليه سائر الأطباء ليرى ما عند كل واحد منهم من هذه الصناعة، كان من جملة من حضره شيخ له هيئة ووقار وعنده سكينة، فأكرمه أمين الدولة وكانت لذلك الشيخ دربة ما بالمعالجة، ولم يكن عنده من علم صناعة الطب إلاّ التظاهر بها.
فلما انتهى الأمر إليه قال له أمين الدولة: ما السبب في كون الشيخ لم يشارك الجماعة فيما يبحثون فيه حتى نعلم ما عنده من هذه الصناعة؟ فقال: يا سيّدنا، وهل شيء مما تكلموا فيه إلاّ وأنا أعلمه، وقد سبق إلى فهمي أضعاف ذلك مرات كثيرة؟ فقال له أمين الدولة: فعلى من كنت قد قرأت هذه الصناعة؟ فقال الشيخ: يا سيدنا إذا صار الإنسان إلى هذه السن ما يليق به إلاّ أن يسأل كم له من التلاميذ، ومن هو المتميّز فيهم، وأمّا المشايخ الذين قرأت عليهم فقد ماتوا من زمان طويل. فقال له أمين الدولة: يا شيخ، هذا شيء قد جرت العادة به ولا يضرّ ذكره، ومع هذا، فما علينا، أخبرني أيّ شيء قد قرأته من الكتب الطبيّة؟ وكان قصد أمين الدولة أن يتحقّق ما عنده، فقال: سبحان اللّه العظيم، صرنا إلى حد ما يسأل عنه الصبيان، وأي شيء قد قرأته من الكتب، يا سيدنا لمثلي ما يقال إلاّ أيّ شيء صنفته في صناعة الطب، وكم لك فيها من الكتب والمقالات؟ ولا بد انني أعرفك بنفسي، ثم انه نهض إلى أمين الدولة ودنا منه وقعد عنده، وقال له، فيما بينهما: يا سيّدي، اعلم انني قد شخت وأنا أوسم بهذه الصناعة، وما عندي منها إلاّ معرفة اصطلاحات مشهورة في المداواة، وعمري كلّه أتكسّب بها، وعندي عائلة، فسألتك باللّه يا سيّدنا مشي حالي ولا تفضحني بين هؤلاء الجماعة. فقال أمين الدولة: على شريطة، وهي انك لا تهجم على مريض بما تعلمه، ولا تشير بفصد ولا بدواء مسهل إلاّ لما قرب من الأمراض.
فقال الشيخ: هذا مذهبي منذ كنت، ما تعديت السكنجبين والجلاب. ثم ان أمين الدولة قال له معلنا، والجماعة تسمع، يا شيخ، اعذرنا فإننا ما كنا نعرفك، والآن فقد عرفناك، استمر فيما أنت فيه، فإن أحدا ما يعارضك. ثم انه عاد بعد ذلك فيما هو فيه مع الجماعة، وقال لبعضهم: على من قرأت هذه الصناعة؟ وشرع في امتحانه، فقال يا سيّدنا: أنا من تلامذة هذا الشيخ الذي قد عرفته، وعليه كنت قد قرأت صناعة الطب، ففطن أمين الدولة بما أراد من التعريض بقوله، وتبسّم ثم امحنه بعد ذلك.

ثلاثة قصدوه إلى داره فلم يجدوه:

وكان لأمين الدولة بن التلميذ أصحاب وجماعة يتردّدون إليه، فلما كان في بعض الأيام أتى إليه ثلاثة، منجم، ومهندس، وصاحب أدب، فسألوا عن أمين الدولة غلامه قنبر، فذكر لهم ان سيده ليس في الدار، وانه لم يأت في ذلك الوقت. فراحوا، ثم انهم عادوا في وقت آخر، وسألوه عنه، فذكر لهم مثل قوله الأوّل.
وكان لهم ذوق من الشعر فتقدّم المنجّم و كتب على الحائط عند باب الدار:
قد بلينا في دار أسعد قوم، بمدبر
ثم كتب المهندس بعده:
بقصير مطول ... و طويل مقصر
ثم تقدم صاحب الأدب وكان عنده مجون فكتب:
كم تقولون قنبرا ...دحرجوا رأس قنبر

ومضوا، فلما جاء أمين الدولة قال له قنبر: يا سيّدي جاء ثلاثة إلى هاهنا يطلبونك، ولما لم يجدوك، كتبوا هذا على الحائط. فلما قرأه أمين الدولة قال لمن معه: يوشك أن يكون هذا البيت الأول خط فلان المنجّم، وهذا البيت الثاني خط فلان المهندس، وهذا الثالث خط فلان صاحبنا، فإن كل بيت يدل على شيء مما يعانيه صاحبه.وكان الأمر كما حدسه أمين الدولة سواء.

بعض كلماته:

قال  4 كان يقول لنا أمين الدولة: لا تقدّروا أن أكثر الأمراض تحيطون بها خبرة، فإنّ منها ما يأتيكم من طريق السماوة.
وكان يقول أيضا: متى رأيت شوكة في البدن و نصفها ظاهر فلا تشترط انك تقلعها، فإنها ربما انكسرت.
ومن كلامه قال: ينبغي للعاقل أن يختار من اللباس ما لا تحسده عليه العامة ولا تحقره فيه الخاصة.

________
 1 ) عيون الأنباء في طبقات الأطبّاء ص  350 .
 2 ) ضرب من الطيب يتبخر به.
 3 ) عود يتبخر به.
 4 ) عيون الأنباء ص  355 .