الأحكام الفقهية لخدمة ببلي الصوتية
هناك قاعدة فقهية نافعة تعلَّمناها قديماً على مقاعد الدراسة وهي : الحاجة إلى المنافع كالحاجة إلى الأعيان، وتطبيقات هذه القاعدة في العصر الحديث لا حصر لها، ومنفعة الاتصالات اليوم لا يختلف فيها اثنان .
شركات الاتصالات في كل بلاد المسلمين ملزمة بقول الرسول صلى الله عليه وسلم :" كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ، وإن كان مائة شرط" أخرجه ابن ماجه باسناد صحيح .
والمستخدم لتقنية الاتصالات ملزم أيضا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم :" البيِّعان بالخيار مالم يتفرقا" متفق عليه .
والمعضلة التي طرأت اليوم أن هناك خدمات جديدة في بعض شركات الاتصالات تُسوِّغ للمستخدم المسلم الاستحسان الباطل لترجيح بعض الأحكام التي يجب على المسلم الوقوف عندها والنظر في مضامينها .
ليست المعضلة في الخدمات التي تُقدِّمها شركات الاتصالات ، إنما المعضلة في الحيل التي تُستنزف بها أموال المستخدمين ويقبل بها الناس ومحدودي الفقه والوعي بلا سؤال لأهل العلم .
في البنوك الاسلامية وغيرها من المؤسسات توجد هيئات شرعية لتصحيح مسار العمليات المصرفية وتقويمها ، حفظاً لمصالح المسلمين واقامة للمعاملات الشرعية التي أمر الله بها .
وشركات الاتصالات التي ظهرت اليوم على الساحة: طلعها هضيم ، فالحاجة ملحة ، والشكاوى متزايدة ، وشواهد الحال تُثبت أنه لا توجد لها هيئات شرعية تحاسبها على عقود المستخدين والحيف فيها ، والتعويض لِمُلَّاكِها .
وصدق الامام الشافعي(ت:204هـ ) رحمه الله تعالى حين قال : "لا أعلم أحداً من أهل العلم رخص لأحد من أهل العقول أن يفتي ولا يحكم برأي نفسه إذا لم يكن عالماً بالذي تدور عليه أُمور القياس من الكتاب والسنة والاجماع والعقل " .
قبل عام ظهر برنامج ( الكيك ) وهو خدمة فيديو للحالة التي يكون عليها المستخدم في أوقات مختلفة ، وهو نسخة مصغرة من موقع اليوتيوب ، وقد أثمر تجاوزات أخلاقية لا حصر لها ، فأين المصالح الشرعية المُقنِّنة له ؟! .
وقبل مدة ظهرت إعلانات واسعة لخدمة( ببلي ) في بعض البلاد العربية، ومضمونها :
أنها خدمة مجانية فكرتها تسجيل الصوت لمدة لاتزيد عن( 90) ثانية ثم مشاركتها على تويتر والفيسبوك, وهي متاحة للمستخدم .
الغريب أن تطبيق الخدمة تم حجبه في بعض البلاد، لفتح المجال للخدمة المدفوعة برعاية بعض شركات الاتصالات وعدد من المشايخ والفنانين والإعلاميين واللاعبين ! ، فإذا أراد المستخدم سماع الشخص المعلن عنه، فيلزمه الاشتراك بمبلغ معلوم شهرياً, أما المستخدم العادي فصوته تم حجبه واحتكاره على عدد من النجوم وأهل الإعلام .
• الأحكام الفقهية لخدمة ببلي الصوتية :
1- الاحتكار التقني:
الخدمة الصوتية ل(ببلي) في حقيقتها مجانية لكل المستخدمين، لكن بعض شركات الاتصالات احتكرت الخدمة على أهل الإعلام ومن في حكمهم لأغراض تجارية وللتربُّح من ورائها .
والاحتكار وإن كان لا يجري في غير المأكولات عند بعض الفقهاء ، لكن معناه مُتحقِّق في هذه الخدمة بتجييرها لمنافع الشركة المزوِّدة للخدمة وحرمان الناس من خدماتها المجانية . وفي المرفوع:" لا يحتكر إلا خاطىء" أخرجه مسلم في صحيحه . والأصل هو العمل بالعمومات ، والخطأ الذي يترتب عليه ظلم وغرر للمستخدمين لا شك في حرمته وإثمه .
2 – الغش والتدليس:
استطاعت بعض شركات الاتصالات التدليس على المستخدم بتأمين هذه الخدمة له للتواصل مع المشاهير مع أن هذه الخدمة متوفرة أصلا في برامج مماثلة ل(ببلي) ، مثل برامج (كيك ) و(الفايبر) – وقد تم حجبها مؤخراً- و(التانجو) و(تويتر )و (الفيسبوك ) . وفي الحديث :" من غشنا فليس منا" أخرجه مسلم في صحيحه . والغش الالكتروني كالغش في البيع والشراء والتدليس في البضائع . والغش مانع شرعي يؤثر في صحة العقود .
3- استحسان مالا دليل على استحسانه :
وهو بِخُطة الشركة المزوِّدة للخدمة بالتغرير على البعض بتأمين هذه الخدمة مع وجودها أصلا لكن بهيئات مختلفة . ومما زاد الطين بلة اشتراط بعض المحتسبين من أهل الخير على أخذ مبلغ مُحدَّد للتواصل مع المشتركين صوتياً ، أو الرضا بذلك للتكسب الدعوي . ولا يخفى أن هذا ذريعة إلى المتاجرة بالقربات والتربُّح بالأعمال الصالحة ، وهو من خطوات الرياء وهجر التعفُّف ، ومخالف لسمت أهل العلم وسيرتهم ، وإلى الله المشتكى . وقد ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : "واتخذ مُؤذِّنا لا يأخذ على أذانه أجرا" . رواه الخمسة واسناده صحيح .
والأصوليون يوجبون الأخذ بالحكم الشرعي إذا خلا من معارض راجح ،ولا معارض هنا لهذا الأصل الثابت .
4- الاحتيال لتجفيف جيوب الناس :
فهذه الشركات التي تختلس أموال الناس بذرائع وهمية فاسدة لا شك أنها بقصد أو بغير يقصد ،تحتال لتجفيف جيوب المستخدمين واستنزاف أموالهم ، إماً طمعا في المال والتكسُّب لخدمات هي متوفرة أصلا في الهواتف الذكية ، أو استغفالًا للمستخدم المغلوب على أمره .
وقصة امرأة أبي اسحاق السبيعي مشهورة لما دخلت على عائشة هي وأم ولد زيد بن أرقم وامرأة أُخرى فقالت لها أم ولد زيد ": إنِّي بعتُ من زيد غلاماً بثمان مائة نسيئة ، واشتريته بست مائة نقداً ، فقالت : أبلغي زيداً أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلا أن يتوب ، بئسما شريتِ ، وبئسما اشتريتِ " رواه الامام أحمد في مسنده بسند حسن .
5- المتاجرة بأهل الخير والفضل :
تسعى بعض شركات الاتصالات إلى استقطاب أهل الخير والفضل للتسويق لمنتجاتها وإلزام المستخدمين الراغبين بدفع رسوم إضافية على الخدمات المجانية التي يستخدمونها ، وهم بهذا يضرون بسمعة أهل الخير والصلاح ويوغرون صدور الناس عليهم بقصد أو بغير قصد ، وهذا لا ريب أنه يؤثِّر على حب الناس لدعوة المحتسبين ويُقلِّل من سمتهم وورعهم في النفوس .والعلم واتباع الهوى لا يجتمعان لحديث:"يحمل هذا العِلم من كل خَلفٍ عُدوله" أخرجه البيهقي بإسنادصحيح . وهذه شبهة قلَّ من يتفطن لها من الناس ، لأنها متعلقة بالمقاصد ، والله المستعان .قال الله تعالى:" فمن جآءه موعظةٌ من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله"( البقره: 275 ) . ورحم الله أنسا (ت: 93هـ )رضي الله عنه حين قال : " إنكم لتعملون أعمالا هي أدق في أعينكم من الشعر ، وإن كنا لنعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات " .
كثير من المستخدمين لا يُدركون أن الخدمات الالكترونية خاضعة للعقود الشرعية وهي ملزمة للطرفين: الشركة المُشغِّلة للخدمة والمستخدم الموقِّع على عقد الخدمة . فالواجب على المستخدم للخدمات الالكترونية في الهواتف الذكية سواءاً كانت مجانية أو بثمن مدفوع- حتى لا يقع في فخ الشركات التي تُجفِّف سيولة المستخدم بطرق ملتوية لا يُدركها البعض- أن يتأمل شروط الاستخدام وصيغة العقد ، ومعرفة الضمان على الخدمة ، وشروط التعويض عليها عند حدوث التقصير في تشغيلها ، وهذه النقاط الأربعة هي التي تُفرِّق الطرفين وتجمعهم في كثير من الشركات التجارية ، وبعض شركات الاتصالات لا تُعير هذه المسائل أهمية للتغرير بالمستخدم . وغني عن القول أن الوسائل لها أحكام المقاصد ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب . والله ولي التوفيق .
هذا ما تيسر تحريره ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .
أ/أحمد بن مسفر بن معجب العتيبي
عضو هيئة التدريس بقوات الأمن الخاصة
(منقول)