من هو العالم ؟ صفات وأحوال ؛ تأملات في حديث العلماء ورثة الأنبياء ...الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه ؛ أما بعد :-
كثيرٌ من الناس يسأل من هو العالم ؟؟
وكيف نعرف العالم الشرعي ؟؟
وماهي العلامات التي تدل على أن فلاناً عالماً ؟
والإصابة أو الخطأ في تحديد ومعرفة العالم يترتب عليها إما آثار حسنة أو سيئة بحسب ذلك .
ومن الأحاديث الطيبة التي فيها تحديد مفهوم العالم الرباني الذي يتلقى منه العلم والإيمان والدين ، ما جاء من طريق أبي الدرداء ( رضي الله عنه ) عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم قال ((إن العلماء ورثة الأنبياء ، إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، إنما ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر)) أخرجه ( أبوداود والترمذي وابن ماجه وأحمد وغيرهم ، وصححه الحاكم وابن حبان والعراقي ، وقال الحافظ ابن حجر ( له شواهد يتقوى بها ) ... وهذا الحديث الطيب فيه كثير من الفوائد التي تتعلق بالعلم والعلماء سأقتصر على جانب مهم من فوائده والتي فيها تجلية بعض صفات العالم الذي هو وريث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حقاً ، مما هو علامة وأمارة نعرف بها هؤلاء الوراث الصادقين للأنبياء ،كي نستفيد منهم ونعرف حقوقهم علينا
قال ابن القيم (( ( إن العلماء ورثة الأنبياء ) هذا من أعظم المناقب لأهل العلم ؛ فإن الانبياء خير خلق الله ، فورثتهم خير الخلق بعدهم . ولما كان كل موروث ينتقل ميراثه إلى ورثته ، إذ هم الذين يقومون مقامه من بعده ، ولم يكن بعد الرسل من يقوم مقامهم في تبليغ ما أرسلوا به ، إلا العلماء ، كانوا أحق الناس بميراثهم ، وفي هذا تنبيه على أنهم أقرب الناس إليهم ، فإن الميراث إنما يكون لأقرب الناس إلى الموروث ، وهذا كما أنه ثابت في ميراث الدينار والدرهم ، فكذلك هو في ميراث النبوة ، والله يختص برحمته من يشاء ))( مفتاح دار السعادة -1/178)
والآن إلى المعالم وبالله التوفيق -
(( المعلم الأول )) :- في الحديث أن من يطلق عليه عالماً شرعياً مادته التي يستمد منها علمه ( الكتاب ، والسنة ) والسبب في ذلك أن ميراث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الذي تركه لنا هو الوحي الذي يتمثل بالكتاب والسنة ، فينبغي لمن أفرغ نفسه للعلم وأراد أن يتحقق به أن يشتغل بالكتاب والسنة حفظاً وفهماً وعلماً واستنباطاً ، ومن ذلك تعلم كل ما يعين على فهمه من عربية و أصول وغيرها لأن الوسائل لها أحكام المقاصد ، فهذه الوسائل تدخل بالتبع في حكم ميراث الأنبياء لأنه لا يمكن معرفة الكتاب والسنة الا بها ، وكل من حاد وانحرف عن الوحيين كمادة لعلمه فقد نقص من صفة العالم فيه بقدر ذلك !
وكل مادة خرجت عن ميراث الأنبياء فهي ليست من دينهم وليست مما يبنى بها العلم والعلماء
قال أبو حاتم بن حبان ((في هذا الحديث بيان واضح أن العلماء الذين لهم الفضل الذي ذكرناهم الذين يعلمون علم النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره من سائر العلوم، ألا تراه يقول: ((العلماء ورثة الأنبياء)). والأنبياء لم يورثوا إلا العلم، وعلم نبينا صلى الله عليه وسلم، سنته، فمن تعرى عن معرفتها؛ لم يكن من ورثة الأنبياء))
(( المعلم الثاني)) :- مما يدل عليه الحديث المبارك أن من صفة العالم حقاًالذي على منهاج النبوي أن يكون سائراً في أموره على منهاج الوحيين ( من أهل الأتباع ) لأن هذا ميراثهم الذي استحق بسببه أن يكون ممدوحاً محموداً ، فليدع محدثات الأمور والبدع في الأقوال والأعمال فذلك مؤثر في علمه وإمامته كلٌ بقدره !
(( المعلم الثالث )):- أحق من يقع عليه وصف وراث الانبياء من أهل العلم ( الصحابة الكرام ، رضي الله عنهم ) فعلى من سلك طريق العلم أن يسلك طريقهم في الفهم والعمل ، وبهذا يكون قد تحقق من صفة العالم الراسخ ...
قال الشاطبي (( الإقتداء بمن أخذ عنه و التأدب بأدبه كما علمت من اقتداء الصحابة بالنبي و اقتداء التابعين بالصحابة و هكذا في كل قرن و بهذا الوصف امتاز مالك عن أضرابه ، أعني بشدة الإتصاف به و إلا فالجميع ممن يهتدى به في الدين كذلك كانوا ، و لكن مالكا اشتهر بالمبالغة في هذا المعنى فلما تُرك هذا الوصف رفعت البدع رؤوسها لأن ترك الإقتداء دليل على أمر حدث عند التارك أصله اتباع الهوى ))
(( المعلم الرابع )) :- ليس من شرط العالم حتى يكون عالماً أن لا يخطئ أو يزل ، وهذا دل عليه الحديث وذلك بالقسمة الثنائية ( فقد ذكر الانبياء والعلماء ) بالأنبياء لهم العصمة في التبليغ والتعليم بخلاف العالم !
فكن مؤدباً مع العلماء إذا أخطؤا أو زلوا أو وهموا ! فهم ليسوا أنبياء !
قال الشاطبي (( غير أنه لا يشترط السلامة عن الخطأ ألبتة لأن فروع كل علم إذا انتشرت و انبنى بعضها على بعض اشتبهت و ربما تصور تفريعها على أصول مختلفة فى العلم الواحد فأشكلت أو خفى فيها الرجوع إلى بعض الأصول فأهملها العالم من حيث خفيت عليه وهي في نفس الأمر على غير ذلك أو تعارضت وجوه الشبه فتشابه الأمر فيذهب على العالم الأرجح من وجوه الترجيح و أشباه ذلك فلا يقدح فى كونه عالما و لا يضر في كونه إماما مقتدى به فإن قصر عن استيفاء الشروط نقص عن رتبة الكمال بمقدار ذلك النقصان فلا يستحق الرتبة الكمالية ما لم يكمل ما نقص )) ( الموافقات 1-65)
(( المعلم الخامس)) :- الانبياء أخذوا العلم عن الوحي الملكي جبريل ( عليه السلام ) عن ربه جل وعلا ، وكذلك وراثهم يتلقون الميراث عن طريق المشافهة وهذا هو الأصل الذي لا محيد عنه الا عن التعذر وبشروط وضوابط كما ذكرت ذلك في مقال مفرد لذلك ..قال الشاطبي (( أن يكون ممن رباه الشيوخ في ذلك العلم لأخذه عنهم و ملازمته لهم فهو الجدير بأن يتصف بما اتصفوا به من ذلك و هكذا كان شأن السلف الصالح فأول ذلك ملازمة الصحابة رضي الله عنهم لرسول الله و أخذهم بأقواله و أفعاله و اعتمادهم على ما يرد منه كائنا ما كان و على أي وجه صدر فهم فهموا مغزى ما أراد به أو لا حتى علموا و تيقنوا أنه الحق الذي لا يعارض و الحكمة التي لا ينكسر قانونها و لا يحوم النقص حول حمى كمالها و إنما ذلك بكثرة الملازمة و شدة المثابرة .... و حسبك من صحة هذه القاعدة أنك لا تجد عالما اشتهر في الناس الأخذ عنه إلا و له قدوة اشتهر في قرنه بمثل ذلك و قلما وجدت فرقة زائغة و لا أحد مخالف للسنة إلا و هو مفارق لهذا الوصف و بهذا الوجه وقع التشنيع على ابن حزم الظاهري و أنه لم يلازم الأخذ عن الشيوخ و لا تأدب بآدابهم و بضد ذلك كان العلماء الراسخون كالأئمة الأربعة و أشباههم ))
(( المعلم السادس )) :- الانبياء كانوا يعملون بما يعلمون ، وعلى من اتصف بصفة الوريث لهم أن يعمل بعلمه وهذه علامة مهمة على تحقق العالم بالعلم ، قال الشاطبي ((و للعالم المتحقق بالعلم أمارات و علامات .....
إحداها : العمل بما علم حتى يكون قوله مطابقا لفعله ، فإن كان مخالفا له فليس بأهل لأن يؤخذ عنه و لا أن يقتدى به في علم )) ( الموافقات 1-65)
وهذا الذي نفقده اليوم كثيراً فيمن اتصف بالعلم وليس ممن حقق العمل ! فواغوثاه يا رباه !!
(( المعلم السابع )) :- دل الحديث على العالم الحق هو الذي يتصف بصفة الأنبياء في الأخلاق الحسنة
قال ابن القيم (( وفيه - أي الحديث - تنبيه للعلماء على سلوك هدي الأنبياء وطريقتهم في التبليغ ، من الصبر ، والأحتمال ، ومقابلة إساءة الناس إليهم بالإحسان والرفق بهم واستجلابهم إلى الله بأحسن الطرق ، وبذل ما يمكن من النصيحة لهم فإنه بذلك يحصل لهم نصيبهم من هذا الميراث العظيم قدره ، الجليل خطره )) ( مفتاح دار السعادة -1/180)
أين بعض من يشار إليه بالعلم وهو عن هذه الأخلاق النبوية بمعزل ! فلا صبر ولا حكمة ولا حسن ظن ولا رفق بأهل السنة !!
(( المعلم الثامن )):- دل الحديث على أن تعليم العالم للأمة كتعليم الأنبياء الذي هو وريثهم ، قال ابن القيم ((وفيه - أي الحديث - أيضا تنبيه لأهل العلم على تربية الأمة كما يربى الوالد ولده فيربونهم بالتدريج والترقي من صغار العلم إلى كباره، وتحميلهم منه ما يطيقون كما يفعل الأب بولده الطفل في إيصال الغذاء إليه ))
( مفتاح دار السعادة -1-181)
وأنظر إلى واقعنا تجد عجباً ممن لا يحسن تعليم الناس فيبدأ معهم بالقيل والقال ووو ...
(( المعلم التاسع )) :- ميراث الأنبياء العلم ولم يتركوا درهما وديناراً لأن الدنيا لم تكن همهم وغايتهم وهكذا ينبغي على من كان وريثاً لهم أن لا يكون همه الدنيا إلا بقد استغناءه عن أهلها وعدم حاجته إليهم !
فكيف بمن باع دينه بعرض من الدنيا قليل من مال ومنصب وجاه ورئاسة فأفسد عليه دينه ودعوته !
قال ابن القيم ((إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهما، وأورثوا العلم)). هذا من كمال الأنبياء، وعظم نصحهم للأمم، وتمام نعمة الله عليهم وعلى أممهم أن أزاح جميع العلل، وحسم جميع المواد التي توهم بعض النفوس أن الأنبياء من جنس الملوك الذين يريدون الدنيا وملكها، فحماهم الله سبحانه وتعالى من ذلك أتم الحماية.
ثم لما كان الغالب على الناس أن أحدهم يريد الدنيا لولده من بعده، ويسعى ويتعب ويحرم نفسه لولده؛ سد هذه الذريعة عن أنبيائه ورسله، وقطع هذا الوهم الذي عساه أن يخالط كثيراً من النفوس التي تقول: فلعله إن لم يطلب الدنيا لنفسه؛ فهو يحصلها لولده، فقال: ((نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا هو صدقة)) . فلم تورث الأنبياء ديناراً ولا درهما، وإنما ورثوا العلم)) ( مفتاح دار السعادة )...
جعلنا الله تعالى من أهل السعادة
ووفقنا للعلم النافع والعمل الصالح
والله الموفق لا سواه ...