تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: درس يلقى على حاسد ،،

  1. Post درس يلقى على حاسد ،،

    درس يلـقى على حاسـد
    قال المنصور بن أبي عامر المُعَافِرِي1 يومًا لأبي عمر يوسف الرَّمادي الشاعر: كيف ترى حالك معي؟ فقال: "فوق قدري، ودون قدرك2"، فأطرق المنصور كالغضبان، فانْسَلَّ الرَّمادي وخرج وقد نَدِم على ما بدر منه، وجعل يقول: أخطأتُ! لا والله، ما يفلح مع الملوك من يعاملهم بالحق، ما كان ضَرَّنِي لو قلت له: إني بلغت السماء، وتمنطقت بالجوزاء! وأنشد:
    متى يأتِ هذا الموت لا يُلْفِ حاجة ... لنفسي إلا قد قضيتُ قضاءها
    وكان في المجلس من يحسُده على مكانه من المنصور، فوجد فُرصة فقال: "وصل الله لمولانا الظفر والسعد، وإن هذا الصنف صنف زور وهَذَيان، لا يشكرون نعمة، ولا يرعَون إلًّا3 ولا ذمةً، كلاب من غَلَب، وأصحاب من أخْصَبَ، وأعداء من أَجْدَب، وحسبك منهم أن الله جل جلاله يقول فيهم: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} والابتعاد منهم أولى من الاقتراب، وقد قيل فيهم: ما ظنك بقوم الصدق يستحسن إلًّا منهم؟ ".
    فرفع المنصور رأسه -وكان محامي أهل الأدب والشعر- وقد اسودَّ وجهه، وظهر فيه الغضب المُفْرِط، ثم قال: "ما بال أقوام يُشِيرُون في شيء لم يُسْتَشَارُوا فيه، ويُسِيئُون الأدب بالحكم فيما لا يُدْرُون، أيرضي أم يُسْخِط؟ وأنت أيها المبتعِث للشر دون أن يٌبْعَث، قد علمنا غرضَك، في أهل الأدب والشعر عامَّةً، وحسَدك لهم؛ لأن الناس كما قال القائل:
    من رأى الناس له فضـ ... ـلا عليهم حَسَدُوه
    وعَرَفنا غرضك في هذا الرجل خاصة، ولسنا إن شاء الله نبلِّغ أحدًا غرضه في أحد، ولو بلغناكم بَلَّغنا في جانبكم، وإنك ضربت في حديد بارد4، وأخطأتَ وجه الصواب، فزدت بذلك احتقارًا وصغارًا، وإني ما أطرقت من كلام الرَّمادي إنكارًا عليه، بل رأيت كلامًا يجِلّ عن الأقدار الجليلة، وتعجَّبْتُ من تهدِّيه له بسرعة، واستنباطه له على قلة من الإحسان الغامر، ما لا يستنبطه غيره بالكثير، والله لو حكمت في بيوت الأموال لرأيت أنها ترجح ما تكلَّم به قلبه، وذَرَّة. وإياكم أن يعود أحد منكم إلى الكلام في شخص، قبل أن يؤخذ معه فيه، ولا تحكموا علينا في أوليائنا، ولو أبصرتم منا التغير عليهم، فإننا لا نتغيَّر عليهم بُغْضًا لهم، وانحرافًا عنهم، بل تأديبًا وإنكارًا، فإنا مَنْ نريد إبعاده لم نظهر له التغيُّر، بل ننبذه مرة واحدة، فإن التغيُّر إنما يكون لمن يُرَاد استبقاؤه، ولو كنت ماثل السمع لكل أحد منكم في صاحبه؛ لتفرقتم في أيدي سَبَا5، وجُونِبْتُ أنا مجانبة الأجْرب، وإني قد أَطْلَعْتكم على ما في ضميري، فلا تعدلوا عن مَرْضاتي، فتجنَّبوا سخطي بما جنَّبتموه على أنفسكم".
    ثم أمر أن يُرَدَّ الرَّمَادي، وقال له: أَعِدْ عليّ كلامك، فارتاع، فقال: الأمرُ على خلاف ما قدَّرتَ، والثوابُ أولى بكلامك من العقاب، فسَكن لتأنيسه، وأعاد ما تكلم به.
    فقال المنصور: "بلغَنا أن النعمان بن المُنْذِر حَشَا فَمَ النابغة بالدرُّ، لكلامٍ استملحهُ منه، وقد أمرنا لك بما لا يَقْصُر عن ذلك، ما هو أنْوَهُ وأحسن عائِدةً، وكتب له بمال وخِلَع وموضع يعيش منه، ثم رد رأسه إلى التكلم في شأن الرَّمَادي -وقد كان يغوص في الأرض لو وجد، لشدة ما حلَّ به مما رأى وسمع- وقال: "والعَجَبُ من قوم يقولون: الابتعاد من الشعراء أولى الاقتراب، نعم. ذلك لمن ليس له مفاخرُ، يريد تخليدَها، ولا أياد يرغب في نشرها، فأين الذين قيل فيهم:
    على مكثرِيهم رزق من يعتريهِم ... وعند المُقِلِّين السَّمَاحة والبَذْل6
    وأين الذي قيل فيه:
    إنما الدنيا أبو دُلَفٍ ... بين مَبْدَاه ومُحْتَضَره
    فإذا وَلَّي أبو دُلَف ... ولَّتْ الدنيا على أَثَرِه7
    أما كان في الجاهلية والإسلام أكرمُ ممن قيل فيه هذا القول؟ بلى، ولكن صُحْبة الشعراء والإحسان إليهم، أحْيَتْ غابِرَ ذكراهم، وخَصَّتْهُم بمفاخر عصرهم، وغيرهم لم تخلِّد الأمداحُ8 مآثِرَهم، فَدَثَرَ ذكرهم، ودَرَسَ فَخْرَهم".
    "نفح الطيب 2: 226"
    __________
    1- هو المنصور أبو عامر محمد بن عبد الله بن عامر بن أبي عامر بن الوليد بن يزيد بن عبد الملك المعافري. دخل جده عبد الملك الأندلس مع طارق، وكان عظيمًا في قومه، وله في الفتح أثر، وكان الحكم بن الناصر قد استوزر ابن أبي عامر، وفوَّض إليه أموره، وترقت حاله عنده، ثم توفي الحكم سنة 366هـ، وولي بعده ابنه هشام، وكانت سنه تسع سنين، فحدثت ابن أبي عامر نفسهُ بالتغلب عليه لصغر سنه وتم له ما أمل، فتغلب عليه، وتربع على سرير الملك، وأمر أن يُحَيّا بتحية الملوك، وتسمى بالحاجب المنصور، ونفذت الكتب والمخاطبات والأوامر باسمه، وأمر بالدعاء له على المنابر باسمه عقب الدعاء للخليفة، ولم يبق لهشام من رسوم الخلافة أكثر من الدعاء له على المنابر، وكتابة اسمه في السكة والطرر، وهلك المنصور أعظم ما كان ملكًا سنة 394هـ لسبع وعشرين سنة من ملكه.
    2- يريد "ودون ما ينبغي أن يعطيه مثلك لمثلي".
    3- الإل: العهد.
    4- من أمثال العرب: "تضرب في حديد بارد" وهو مثل يضرب لمن طمع في غير مطمع.
    5- من أمثالهم أيضًا: "ذهبوا أيدي سبا، وتفرقوا أيدي سبا، وأيادي سبا، واليد: الطريق أي فرقتهم طرقهم التي سلكوها كما تفرق أهل سبأ في مذاهب مختلفة ضرب المثل بهم؛ لأنه لما غرق مكانهم، وذهبت جناتهم، تبددوا في البلاد -انظر القصة في الجزء الأول صفحة 108- وقد بنوا أيدي سبا، وأيادي سبا على السكون لسكون مركبا تركيب خمسة عشر.
    6- البيت لزهير بن أبي سلمى من قصيدة في مدح آل هرم بن سنان.
    7- البيتان لعلي بن جَبَلة الأنباري الملقب بالعكوك من قصيدة قالها في مدح أبي دلف القاسم بي عيسى العجلي -وكان جوادًا ممدحًا وفيها يقول:
    كل من في الأرض من عرب ... بين باديه إلى حضره
    مستعير منه مكرمة ... يكتسبها يوم مفتخره
    وهذا البيتان الأخيران أحفظا عليه المأمون، فطلبه حتى ظفر به، فسل لسانه من قفاه، ويقال: بل هرب ولم يزل متواريًا منه حتى مات، قال صاحب الأغاني: "وهذا هو الصحيح من القولين، والآخر شاذ".
    8- لم أجد هذا الجمع في كتب اللغة، وإنما الذي فيها: "المدحة بالكسر والمديح والأمدوحة بالضم: ما يمدح به، والجمع مدح كعنب ومدائح وأماديح".

    من أوسع أودية الباطل: الغلوُّ في الأفاضل
    "التنكيل" (1/ 184)

  2. افتراضي رد: درس يلقى على حاسد ،،

    جزاك الله خيراً.
    أبو عاصم أحمد بن سعيد بلحة.
    حسابي على الفيس:https://www.facebook.com/profile.php?id=100011072146761
    حسابي علي تويتر:
    https://twitter.com/abuasem_said80

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •