كتاب مداخل إعجاز القرآن للأستاذ محمود محمد شاكر
صفية الشقيفي
(19) أسباب عطن عبد القاهر الجرجاني، وبيان المؤلف لمعنى الآية
قال أبو فهر محمود بن محمد شاكر الحسيني (ت: 1418هـ): (19)
كان عبد القاهر، كما علمت، متكلمًا محكم الأداة جيد النظر في (علم الكلام) وكان، كما دلت عليه أعماله الباقية عندنا، أديبًا ذواقة فائق التذوق، مشرق البيان عن أسرار تذوق الكلام النبيل الشريف الباهر. وكان أيضًا مقتدرًا كل الاقتدار على تحليل
[مداخل إعجاز القرآن: 119]
الكلام المركب من الألفاظ تحليلاً يكشف الستر عن خباياه الملثمة = وعلى توسم آثار (العلائق) الظاهرة والخفية، كالأدوات والحروف، في ربطها بين هذه الألفاظ المنصوبة للدلالة على المعاني = وعلى استخراج نبيثة ما يلحق معاني هذه (العلائق) من التغير اللطيف الدقيق، بتغير مواقعها من الكلم = وعلى استنباط الدفين المستور من المعاني المتحجبة، التي تكمن من وراء أوضاع هذه (العلائق) المتقلبة المعاني، التي هي بطبيعتها عماد الكلام المركب من الألفاظ. وكان قبل ذلك كله لغويًا خبيرًا بجواهر ألفاظ اللغة ومعانيها، بصيرًا بمذاق ألفاظها مفردة ومركبة، سميعًا لخفى جرس حروفها فذة وملتئمة. مرهف الحس بتمكنها، مذاقًا وجرسًا ودلالة على المعاني، في مواقعها ومنازلها من الكلام المركب، أو بِنُبُوَِ مذاقها وجرسها ودلالتها على المعنى حيث وقعت في سياق التركيب. ولكن كان في إمامنا عبد القاهر عيب عائق له عن بلوغ الغايات في بيان ما يجده في نفسه وفي عقله وفي قلبه. وقد أدرك بعض القدماء من علمائنا هذا العيب في سنخ غريزته وطباعه، فقد ذكر القفطي (568 – 646هـ) هذا العيب في ترجمة عبد القاهر، في كتابه (إنباه الرواة)، فقال: (كان، رحمه الله، ضيق العطن، (أي قريب الملل)، يضيق صدره فجأة، فكيف عما هو
[مداخل إعجاز القرآن: 120]
مغرق في تأمله وبيانه)، لا يستوفي الكلام على ما يذكره، مع قدرته على ذلك). وصدق القفطي، فهذا عيب بين تلوح آثاره في مواضع كثيرة مما كتب وخاصة في كتابه (دلائل الإعجاز).
وهذا العيب الناشب في طبيعته، أمسك به إمساكًا مثبطًا، حين اندفع داخلاً مدخله الرائع، متأهبًا للكشف عن إبهام (البلاغة)، متجمعًا لصراع هؤلاء المتكلمين من المعتزلة وغيرهم، الواغلين المتهجمين على رياض (البلاغة) بغثاثة (علم الكلام) الذي اتخذوه صناعة وعملاً، حتى ظنوا أنهم قادرون على التحكم في كل شيء بمجرد الدعوى، ثم اللجاجة في الدعوى بأنهم أصحاب (العقل) الملتزمون بأحكامه، القادرون وحدهم على الفصل في كل مبهم بقضائه الذي لا يرد! فبضيق العطن، نسى عبد القاهر جملة الأسباب التي دفعته إلى هذا المدخل، فأعرض إعراضًا عن تفحص هذه الأسباب قبل أن يدخل إلى ما دخل إليه. وقد أسلفت، في خلال حديثي، بيان بعض تلك الأسباب، وكلها مرتبط ارتباطًا وثيقًا بعلم الكلام الذي كان من قبل منغمسًا فيه زمنًا طويلاً أو قصيرًا، من حياته. كانت مسألة (إعجاز القرآن) حديثًا محتدمًا بين المتكلمين، فأغفله لغطهم عن تمحيص أصل (المسألة) وكشف إبهامها، قبل أن يبدأ في تمحيص القول في
[مداخل إعجاز القرآن: 121]
(البلاغة) وكشف إبهامها، وذلك لضيق عطنه ولعجلته أيضًا، مع قدرته على أن يفعل. ولو فعل، لتغير الأمر كل التغير، ولأتى بأكبر وأعمق وأروع مما أتى به في كتابيه الجليلين: (أسرار البلاغة) و(دلائل الإعجاز)، والله أعلم، ولا أفتات على الغيب.
أما الآن، فقد آن لي أن أروض نفسي على ترك مخاوفها، وعلى أن أكبح جماحها أيضًا، مستعينًا بالله ربي على أن يوفقني إلى إيجاز القول في (مسألة إعجاز القرآن)، منذ تنزيل القرآن العظيم إلى أن استحدث لفظ (إعجاز القرآن)، ثم امتدادها إلى زمان عبد القاهر. وعندئذ يظهر السبب الذي حال بين عبد القاهر وبين تخطي الحواجز التي كان يحسها بوجدانه وبصيرته، ولكن لا يستطيع أن يتبينها بالعقل والنظر = وتتجلى العلة التي من أجلها وقف عبد القاهر حائرًا شاخص النفس إلى هذا الذي كان يلوح له في تذوق القرآن، ثم لم يستطع الدلالة عليه إلا بالنعت المجرد، غير قادر على الإبانة عنه، وغير مطيق لمحاولة تفسيره وإزالة إبهامه، كما فسر (البلاغة) وأزال إبهامها = ويتكشف لنا أن (علم الكلام) ولغطه، ودويه بالألفاظ المبهمة التي لا يحصل لها معنى، هو الذي قاده، من حيث لا يدري إلى طريق مسدود لم يجد وراءه منفذًا للإبانة والتفسير، مع قدرته، عَلِم الله، على ذلك.
[مداخل إعجاز القرآن: 122]
لا بد من الحذر من أمرين عظيمي الخطر على العقل والفهم والنظر، فكلاهما مطية الضلال عن الحق: لا بد من ترك الاستهانة بالفروق البينة والخفية بين الألفاظ التي نتوهم بطول الإلف أنها تقع على معنى واحد وقوعًا واحدًا، وهو ما نسميه في اللغة (المترادف) = ولا بد أيضًا من الإقلاع عن إهمال تاريخ بعض هذه الألفاظ المترادفة في أوهامنا، ثم التمسك بالحرص على متابعة البحث عن نشأتها: متى نشأت؟ ولم نشأت؟ وكيف نشأت؟ ثم كيف وقع الترادف بين كل لفظين منهما حتى استويا في معنى واحد، فاصطحبا فاعتدلا في الاستعمال، أو تزاحما فغلب أحداهما الآخر على الألسنة. وقد دلني طول التتبع لهذه (المترادفات)، في الشعر وفي الأدب وفي الكتاب، وفي أبحاث العلماء في فنون مختلفة، على أن الاستهانة بالفروق وإهمال التاريخ، يؤديان أحيانًا إلى تفاسد المعاني تفاسدًا مبيرًا، ويفضيان أحيانًا أخرى إلى تخبط منهك مغبته كد وعرق، وإلى تخليط جامح عقباه ظلام مطبق وغبار. فبالإهمال والاستهانة، يخرج طالب الحق، بعد العناء والكدح الشديد، ومعه حق ملطخ الوجه، يطمس نوره ما لَبَّدَه عليه عرق التخبط من غبار التخليط. وأبين ما وقفت عليه من ذلك بيانًا، هو في مباحث طلاب الحق من (المتكلمين)، كأبي
[مداخل إعجاز القرآن: 123]
الحسن الأشعري وأبي بكر الباقلاني ومن جاء معهما أو بعدهما من علماء الأمة، غفر الله لهم وأنابهم بحسن نياتهم، وبصدقهم في الذب عن دينهم وبإخلاصهم بذل المجهود، في طلب الحق المنشود.
ومن أبين ذلك وأدله على خطر الاستهانة والإهمال في تحرير الفروق بين (المترادفات)، وفي تتبع تاريخ نشأتها، ما كان في كتب (علم الكلام) وكتب (البلاغة) وكتب (إعجاز القرآن). فبين أيدينا في كتب علماء الأمة على اختلافهم واختلاف مباحثهم، وعلى ألسنتنا جميعًا إلى يوم الناس هذا، لفظان جاريان، هما: لفظ (الآية)، ولفظ (المعجزة)، كان لهما شأن عظيم العواقب في (باب آيات الأنبياء) الدالة على صدقهم = وفي فهمهما حيث وقعا من كتابة الكاتبين، وأقوال الناطقين = وفي استعمالهما أيضًا في أبواب مختلفة من القول والحديث والكتابة. وقد استخدم الناس قديمًا وحديثًا هذين اللفظين على أنهما (مترادفان) بلا غضاضة، وهذا (الترادف) قد أفضى إلى خلط يصعب معه تبين وجه الحق، بل أفضى إلى ما هو أكبر من ذلك: إلى تصورنا أننا فهمنا فهمًا يبلغ بنا غاية اليقين، والحقيقة أن هذا الفهم تلبيس على العقل وتدليس يستوجب الشك ويمنع من اليقين. وقد مضت علي سنون وأنا غارق في (قضية الشعر الجاهلي) أطلب
[مداخل إعجاز القرآن: 124]
نفسًا أو نفسين حتى لا أهلك، فما نجوت من الهلاك حتى فصلت فصلاً حاسمًا بين هذين اللفظين (المترادفين)، فتنفست أنفاسًا ردت علي حياتي، بحمد الله وحده، فهو الذي أغاثني حيث لا مغيث من خلقه. وهذا شيء قد كان، مضت عليه أربعون سنة على الأقل، كنت قبلها لا أتبين أيا من أي، إنما هو القلق والحيرة والتردد في الظلمات، لا غير.
أما لفظ (المعجزة) فقد سلف القول فيه وفي اشتقاقه، وبعض معناه، ثم في تاريخ نشأته في أواخر القرن الثالث من الهجرة، وأنه لفظ محدث مولد، رجحت أنا أبا عبد الله الواسطي صاحب كتاب (إعجاز القرآن)، هو أول من ولده. وبينت أيضًا لم جاء؟ وكيف جاء؟ ومتى بدأ يزاحم لفظ (الآية) في كتب العلماء وعلى ألسنتهم وأقلامهم؟ = وأن أكثر أهل العلم كانوا يقولون (آيات الأنبياء)، في معنى البراهين الدالة على نبوتهم، حتى إذا ما جاء القرن الرابع الهجري بدأوا يقولون (معجزات الأنبياء) و(آيات الأنبياء) معًا، ثم تزاحم اللفظان على أقلام الكتاب والعلماء، حتى غلب لفظ (المعجزة) لفظ (الآية) في ظله حتى قل قلة ظاهرة حتى كاد يخفى، بل لعله قد غاب غيابًا مشهودًا عن
[مداخل إعجاز القرآن: 125]
كل بحث في (معجزات الأنبياء) وفي (إعجاز القرآن) خاصة، وسوف أعود إلى تمام القول في هذا اللفظ، (المعجزة)، بعد الفراغ من الكلام عن لفظ (الآية). ولفظ (الآية) في كلام أهل الجاهلية الذين نُزِّل عليهم القرآن، كان له في شعرهم وكلامهم معانٍ آخذٌ بعضها برقاب بعض.
1- فالأصل الأول الذي خرجت منه هذه المعاني هو أن (الآية) العلامة، وقد اقتصر أكثر شراح الشعر على تفسيرها حيث وقعت في شعر الشعراء، بهذا المعنى وحده، دون تفصيل، فلذلك أردت أن أفصلها هنا، ليكون ذلك أبين وأوضح وأهدى. و(الآية)، بمعنى (العلامة)، هي العلامة التي ترى أو تسمع، فتصبح دليلاً يهتدي به إلى خفى أو غرض أو وجهة. فآية الطريق مثلاً، هي العلامة التي يراها المسافر في طريقه، فيتحرى شطرها ويعمد إليها، مهتديًا بها.
2- ثم قالوا لآثار الديار ورسومها، أيام مقام أهلها بها، أو عقب رحيلهم عنها، وقبل أن تغيرها وتطمس بعض معالمها الرياح والأمطار: (آيات الديار)، فمنه قول النابغة الذبياني [جاهلي]:
توهمت آيات لها فعرفتهـــــــــ ـــــــــــــــ ا ..... لستة اعوام وذا العام سابــــــــــــ ـــــــــــــــ ــع
رماد ككحل العين مــــــــا إن تبينه .....ونؤي كجذم الحوض أثلم خاشــــــــــــ ـــع
[مداخل إعجاز القرآن: 126]
منازل توهمها النابغة كما عهدها منذ ستة أعوام، فتغير الرماد على السنين، فصار كآثار كحل العين، وتغير النؤي الذي كان يحجز الماء عن خباء صاحبته، فصار كبقية حوض تهدم، فهو متكسر لاطئ بالأرض بعد شخوصه وبروزه.
3- ثم قالوا للبناء العالي الذي بنى ليستدل به: (آية). وقد نعى هود عليه السلام على قومه عاد، أنهم كانوا يعتمدون إلى كل ربوة مشرفة بارزة، فيبنون عليها (آية) عالية، لا لغرض الهداية، بل سفها وإسرافًا وتخليدًا لقوتهم وبطشهم، بهذا المعنى جاءت في آية واحدة من القرآن، وهي قوله تعالى فيما اقتصه من أقوال هود لقومه: {أتبنون بكل ريع آية تعبثون * وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون} [الشعراء: 128 – 129].
4- ثم قالوا لشخص الرجل وجثمانه الذي يرى من بعيد، أو في ظلمة، غير بين الملامح، وذلك لارتفاع شخصه وظهوره الدال على أنه إنسان: (آية)، فمن ذلك قول عروة بن الورد العبسي [جاهلي]، يقول لصاحبته أم حسان، بعد أن جشمته
[مداخل إعجاز القرآن: 127]
ما جشمته من كيدها بمكان يقال له (غضور):
عفت بعدنا من أم حسان غضور ..... وفي الرحل منها آية لا تغير
والذي على الرحل هو شخصه. يعني نفسه، وقد لوحته الرحل والأسفار.
5- ثم قالوا لكل شيء تسمعه أو تراه، فيذكرك بشيء نسيته أو غفلت عنه، وهو (العبرة) من العبر المذكرة (آية)، ومنه قول زهير بن أبي سلمى المزني [جاهلي]:
أراني إذا ما شئت لاقيت آية ..... تذكرني بعض الذي كنت ناسيا
أي لقيت عبرة من العبرات تذكرني ما نسيت، ومنه قوله تعالى: {لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين} [يوسف:7].
6- ثم قالوا لكل شيء يستدل به على أمر قد كان وحدث، ولا شك عند سامعه في حدوثه، وأن المتحدث به صادق: (أية)، وأكثر ما تأتي بهذا المعنى مقترنة بباء الجر، فمنه قول الحصين بن الحمام المري [جاهلي]:
ولكن خذوني أي يوم قدرتم ..... علي، وجزوا الرأس أن أتكلمـــــا
بآية أني قد فجعت بفــــــارس .....إذا عرد الأقوام أقدم معلمـــــــــــ ــــــا
[مداخل إعجاز القرآن: 128]
وهي هُنا بمعنى (الأمارة) التي تكون بين اثنين أو أكثر، تدل بمجرد رؤيتها أو سماعها، على شيء يعرفونه تمام المعرفة، اتفقوا عليه، أو كأنهم اتفقوا عليه. و(الأمارة) هي التي يقول فيها الشاعر الجاهلي المحسن الرقيق، يقول لصاحبته:
إذا طلعت الشمس النهار، فإنها ..... أمارة تسليمي عليك، فسلمي
جعل طلوع كل شمس، في كل صبح، أمارة بينه وبينها على تسليمه عليها. وهي بهذا المعنى باقية إلى اليوم في عاميتنا.
7- ثم قالوا الجماعة القوم إذا رحلوا جميعًا، لحرب أو في سفرة (آية) لأنهم عندئذ بارزون في بساط الأرض ظاهرون، يقولون (خرج القوم بآيتهم)، أي خرجوا جميعًا، ومنه قول البرج بن مسهر الطائي [جاهلي]:
خرجنا من النقبين، لا حي مثلنا ..... بآيتنا، نزجي اللقاح المطافلا
هذه أيضًا أكثر ما تأتي مقترنة بباء الجر، كالتي قبلها.
8- ثم سموا (الرسالة) التي يحملها رسول، فيبلغها إلى من يراد تبليغها إليه، وهي رسالة ملفوظة على الأكثر، أو مكتوبة أحيانًا: (آية)، لأنها تدل على صاحبها، وعلى ما في نفسه. هو معنى عزيز أغفلته كتب اللغة، مع استفاضته في شعر عرب الجاهلية، قد نص عليه أبو جعفر الطبري في أول تفسيره، ومنه قول
[مداخل إعجاز القرآن: 129]
النابغة الذبياني [جاهلي]:
من مبلغ عمرو بن هند آية؟ ..... ومن النصيحة كثرة الإعذار
أي: من يبلغه رسالة مني؟ في شعر كثير مثله. ويفسر قدماء شراح الشعر (الآية) في مثل هذا الشعر بأنها (العلامة)، وهو تفسير لا يليق، وصواب تفسيرها هو ما قاله أبو جعفر: (الرسالة).
9- (وقد قال أبو جعفر الطبري في تفسيره: إن (الآية) أيضًا القصة: فيكون معنى (آيات القرآن): (القصص، قصة تتلو قصة، بفصول ووصول). ولم أجد في شعر الجاهلية ولا غيرهم، ما يجوز معه أن يحمل معنى (الآية) على أنه (القصة)، فمن أجل ذلك أجد هذا الوجه ضعيفًا عندي، وهو تعبير غير مفيد في معنى (الآية)، ولا أدري كيف قاله أبو جعفر رحمه الله؟ فهذا المعنى التاسع، لا أحب أن أعتد به، حتى تثبت عندي صحته.
وبين أن هذه المجاري الثمانية التي يجري فيها لفظ (الآية)، تنبع كلها من معنى العلامة الظاهرة البينة الدالة، التي تراها العين، أو تسمعها الأذن، أو يتوهمها القلب، أو يثقفها العقل، هادية على الطريق أحيانًا، وتكون دليلاً على معنى يتطلب الدليل أحيانًا أخرى = وتكون شاهدًا على صدق الحدث والحديث تارة،
[مداخل إعجاز القرآن: 130]
وبيانًا صادقًا أو أمارة مصدقة تارة أخرى. فهي، إذن، في جميع مجاريها متعانقة المعاني، مسترسلة، سهلة التنقل من مجرى إلى مجرى بلا كد تلقاه على مجازها، وبلا توقف يحبس سامعها عن سهولة التنقل معها من معنى إلى أخيه، وبلا غضاضة في تبين ملامح الشبه بين هؤلاء الإخوة. بيد أني لم أجد عند أهل الجاهلية في كثير شعرهم الذي وقع إلينا، ولا في قليل كلامهم الذي أثر عنهم، ما يدل على أنهم قالوا: (آيات الأنبياء)، وهم يعنون (الآية) الشاهدة على صدق نبوة النبي، والأمارة المعروفة على أن مدعي ذلك رسول من الله إلى عباده من البشر. ولكني لا أظن أن فقدان هذا التعبير في شعرهم وكلامهم الذي وصل إلينا، يقوم دليلاً على أنهم لم يعرفوا قط معنى (آيات الأنبياء) في جاهليتهم.
بل أنا أقطع بأنهم كانوا يعرفون معنى (آيات الأنبياء) مركبة معرفة صحيحة واضحة، ويعرفون معنى (الآية) ومعنى (النبي) غير مركبين، بأوضح وأسلم مما يعرفه أهل الكتابين جميعًا، أصحاب التوراة والإنجيل، كما سترى الحجة في الفصل التالي (20).
وبديهة هذه المجاري الثمانية للفظ (الآية)، تقطع قطعًا مفضيًا إلى اليقين، أن أهل الجاهلية، لو هم كانوا قد سمعوا برجل يفعل فعلاً، تكفي رؤيته ومعاينته في الدلالة على أنه فعل داخل
[مداخل إعجاز القرآن: 131]
دخولاً مبينًا في قدرة الله وحده سبحانه، وأنه ممتنع أصلاً امتناعًا مبينًا عن قدرة البشر = لقالوا من فورهم، على سليقة مجازهم في لغتهم: (هذه آية!) أو (هذه أمارة!)، أي أنها دليل صادق وشاهد مبين، على أن الرجل قد صدق في دعواه أن الله أرسله نبيًا أيده بهذا الفعل الدالة معاينته على أنه داخل في أفعال الله التي استأثر بها دون خلائقه كافة. فهذا، إذن، معنى ظاهر كل الظهور، جار على مجاز لغة العرب في الجاهلية جريانًا سريحًا، أي سهلاً سريعًا لا يعوقه شيء وغير مستبعد عندي أن يكون كان في بعض كلامهم، ثم سقط من ألسنة رواة شعر أهل الجاهلية وكلامهم وأخبارهم، فيما سقط من الشعر والأخبار التي تؤثر. ولذلك، فلا بد من التوقف قليلاً، ومن التأني في الكشف عن لفظ (الآية)، وعن معناه عند أهل الجاهلية الذين نزل عليهم القرآن، فإن هذا الكشف مرتبط ارتباطًا وثيقًا بموقفهم من القرآن في الحالين جميعًا: في حال جحدهم إياه وكفر من كفر به منهم، وفي حال تقبلهم نبوة تاليه عليهم، وإيمان من آمن منهم به. ومعرفة هذا المعنى معرفة واضحة، تسقط الحجاب الكثيف الذي أسدله لفظ (المعجزة) ولفظ (إعجاز القرآن)، على حقيقة الوجه الذي آمن عليه من آمن بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والذي كفر عليه
[مداخل إعجاز القرآن: 132]
من كفر من أهل الجاهلية الذين نزل عليهم القرآن العظيم، (آية) لرسول من أنفسهم جاءهم على فترةٍ من الرسل). [مداخل إعجاز القرآن: 119-133]
(20) بيان المؤلف لأصل منهجه في البحث
(تصحيح المبادئ خطوة خطوة بتتبع ما كُتب في القديم والحديث)
قال أبو فهر محمود بن محمد شاكر الحسيني (ت: 1418هـ): (20)
بل ههنا أصل من أصول منهجي، أعلم أن هذا الموضع من حديثي ليس مكان تفصيله والاحتجاج له، ولكني لا أملك التفلت منه وإغفاله، لأني أعد ترك التنبيه عليه هنا خيانة لأمانة العقل، وإغفال الإشارة إليه يجعل تتمة بحثي عن لفظ (الآية) عرضة للتوقف والتشكك والتساؤل، ممن لم يعرف المذهب الذي أبني عليه أكثر كلامي. وإذا أنا رضيت بذلك لما أكتبه، فقد رضيت له بأمر كريه مستشنع. فمن أجل ذلك رأيت أن أقتصر على ما لا بد منه، حتى يستبين الأمر للموافق والمخالف جميعًا، ورب شعاع نجى حائرًا في ظلمة وهداه. وأنا في خلال حيرتي الطويلة في قضية (الشعر الجاهلي)، ألتمس المخرج من التيه الذي وقعت فيه، لم أجد عاصمًا يعصمني من الغرق في المتناقضات المضللة، إلا تصحيح المبادئ خطوة خطوة، ودرجة درجة، لأن البناء على مبادئ غير محررة من الخطأ والإدعاء، وغير منقاة من الشوائب والأوهام، تنتهي بنا إلى نتائج مختلطة مبعثرة متضاربة، يعسر الجمع بينها في
[مداخل إعجاز القرآن: 133]
سياق واحد مفهوم أو مقبول وعلى هذا الأصل كانت سيرتي في دراسة ما بلغه علمي بقديم كتب علماء هذه الأمة، ثم في قراءة الحديث الذي كتب بلغة العرب أو بغير لغة العرب، أما القديم، على ما لقيت فيه من العنت والمشقة، فتحرير المبادئ وتنقيتها، كان أمرًا قريبًا من الميسور، لأن المتناقضات التي وقعت فيه، كان أكثرها نابعًا من أصل واحد واضح متفق عليه، فما زاغ عن هذا الأصل تناقض. وكشف مواطن الزيغ عن الأصل الواضح ممكن بالأناة والتوقف وتحرير المبادئ أما الحديث فالأمر فيه مختلف جدًا لأنه مبني على أصل مباين كل المباينة للأصل الذي بنى عليه القديم من كتب علماء هذه الأمة. فليس ما يلقاه المرء عندئذ عنتًا ومشقة، بل بلاءً ماحقًا مهلكًا لمن غفل عن منبع هذا الأصل، وعن الأثر الذي أحدثه في جمهرة المثقفين من أهل زماننا، في فهم كل ما يتعلق بالعرب ولغتهم وتاريخهم وآدابهم وعلومهم، بلا استثناء، وعلى اختلاف مناهج البحث فيها وفي كل فرع من فروعها الكثيرة المتشعبة المختلفة المقاصد والغايات.
وقد كان مما كان أن حضارة العرب والمسلمين في القرن الحادي عشر الهجري، كانت تعاني ما تعانيه كل حضارة طال عليها الأمد فاسترخت قواها، ونجمت يومئذ حضارة جديدة كان من
[مداخل إعجاز القرآن: 134]
همها أن تصارعها، لأسباب تاريخية متنوعة. وكان منشأ هذه الحضارة الجديدة على أصلين متمكنين: أولهما، كتب العقيدة المتوارثة التي ينشأ عليها ناشئهم، وثانيهما، ما اتخذوه نسبًا ينتمون إليه، وهو قديم حضارة اليونان بتاريخها وعقائدها وآدابها، وهذا الأصلان مباينان، بلا ريب، كل المباينة لأصول حضارة العرب والمسلمين التي ننتمي نحن إليها هاهٍ ... وأفٍ لهذا القلم! لقد ساقني مساقًا بعيدًا! ولكن لا مناص، لأن هذا المدخل هو كما وصفته: (تاريخ حيرني، ثم اهتديت)، وهذا الكتاب نفسه هو كما قلت: (يقص قصة طويلة عريضة في صفحات قلائل، وبمنهجي في تحليل الكلام وتحليل التاريخ، لأنه المنهج الذي التزمته، فنجوت من شر مستطير، ومن بلاءٍ ماحق)، فلو أسقطت هذا الفصل، لأسقطت معه الصفة التي وصفت بها هذا الكتاب، ولباحث القصة التي أقصها.
كان مما أجاءتني إليه محنتي بالشعر الجاهلي: أن أقرأ كل ما كان يتاح لي يومئذ أن أقرأه بالعربية وغير العربية عن هذا الإنسان الذي نحن بنوه، وعن أوليته، وعن انتشاره في الأرض، وعن عقائده، وعن حضارته المعرقة في القدم، وأكثر هذا شيء لم يكن لنا به كثير علم، والذي في كتبنا القديمة، أقوال وروايات
[مداخل إعجاز القرآن: 135]
مختلطة لا تغني. وقد فتح للأعاجم المحدثين فيه فتح جليل فكان لهم الفضل كل الفضل في التنقيب في الأرض، وفي كشف الغطاء عن كثير من الحضارات البائدة المطمورة تحت أطباق الزمن وفي جدف الثرى. كنت أرى أن متابعة هذه القراءة لا غنى لها عنها، حتى أستطيع أن أفسر لنفسي الحائرة هذا الإنسان الغامض الذي سكن جزيرة العرب قرونًا لا يعلمها إلا الله. وانحدر عن صلب إلى صلب، حتى جاء هذا (العربي الجاهلي) الذي أورثنا شعرًا فريدًا غريبًا متنوع النغم تنوعًا لا شبيه له في لغات الأرض، ولا ينقضي العجب من جريه النفاذ الأخاذ، في ستة عشر بحرًا، تنبثق من جميعها ضروب وأعاريض متباينة النغم، متداخلة اللحون = بل هذا الغنى الفياض والثراء الوافر من ألفاظ اللغة التي تجري على لسانه ممتدة الجذور شرقًا وغربًا وشمالاً وجنوبًا، كان لكل من الأمم التي نشأت حوله بحضارتها نصيبًا في لسانه، بلا كتاب مكتوب، ولا سجل ضابط، حتى قال الشافعي: (ولسان العرب أوسع الألسنة مذهبًا، وأكثرها ألفاظًا، ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غير نبي)! = بل هذا الإحكام المذهل في بناء لغته وتراكيبها وتصاريفها وأساليبها المتشعبة ذات الحظ الباذخ من الدلالات المعبرة عن أخفى نبض القلوب والنفوس والعقول = بل هذه
[مداخل إعجاز القرآن: 136]
اليقظة العجيبة التي تميز بها هؤلاء الجاهليون، لكل ما يحيط بهم، فأودعوها شعرهم وبيانهم = بل في حدوث ذلك كله في بحر من الرمال والجبال والفيافي والأودية، قليلة قراه، متناثرة في غمرته مساكن الأحياء!! ثم لا نجد لهذا شبيهًا يقاربه أو يدانيه في بوادي هذه الأرض التي نسكنها! كيف تم لهم كل هذا الذي انفردوا به؟ وكم من القرون بعد القرون يمكن أن تكون قد تصرمت حتى يملك هذا الجاهلي الذي نعرفه، هذا القدر الذي بقى في أيدينا أقله، وتسقط مع أكثره من ذاكرة لا تكتب ولا تحب ولا تقيد، ومع ذلك فهو يفوق ما عند الكاتبين الحاسبين! أممكن أن يكون هذا كله قديم على هذا الوجه في مئة سنة؟ في مئتي سنة؟ في خمسمئة سنة؟ في ألف سنة؟! لا أظن، فمن أجل هذا حاولت أن ألتمس لنفسي تفسيرًا أقنع به وأستريح إليه.
ولكن إدمان القراءة لم يزدني إلا حيرة، وسقطت في المسالك الوعرة، والأشواك المتشابكة، والظلمات المحيرة، ومزقتني الشكوك بأنيابها، واستحال علي أن أفهم تاريخ هذا الإنسان الذي أنا منه بنيته، وأن أقتنع بأنه كان في أوليته كما صورته لي هذه القراءة في الحديث المتجدد المستفيض، وكان ما كان! تصرفت بي الأيام والليالي طويلاً، وأنا ممزق بين ما تعلمته في مدارسنا
[مداخل إعجاز القرآن: 137]
صغيرًا. والذي قرأته أيضًا شابًا، وبين هذه الحقائق التي مثلها لي الشعر الجاهلي، والتي أخرجتني إلى طلب التفسير. وبعد لأي ما تبين لي الطريق والمنهج، وعندئذ سقطت الأقنعة عن الوجوه! فإذا كل قرأته عن أولية الإنسان في الأرض، وعن تاريخ الحضارات البائدة التي كان للأعاجم فضل الكشف عن آثارها، وعن حقيقة عقائد الأمم الخالية، وكثير غير ذلك = كان كله خاضعًا خضوعًا مستبينًا للأصلين الذي بنيت عليهما الحضارة الحديثة وعقلها وتفكيرها وأخلاقها، وتكشفت لي أيضًا حقيقة أخرى: أن للأهداف السياسية أثرًا عميقًا جدًا في جذور هذه الحضارة يتغلغل موجها لكل ما يكتب، عن عمد أو عن غير عمد. ولكي يكون الأمر واضحًا ينبغي أن أحدد موضع الفصل الذي جعلني أرفض أن أسير في الطريق الذي ألزمتنا بالسير فيه غلبة السلطان الثقافي والسياسي لهذه الحضارة، وسيطرتها على كل الميادين بلا استثناء وهي قصة طويلة، ولكني سأوجز القول فيها ما استطعت.
ومن العجز أن نتوهم، كما هو شائع بيننا اليوم، إن الأمر كله جاء عفوا بلا قصد ولا تدبير، وإنه مستمر إلى هذا اليوم بلا قصد ولا تدبير، وإن هذه هي (طبيعة الأشياء): مجرد التقاء حضارتين في زمن واحد، إحداهما حديثة رائعة متحركة، قد
[مداخل إعجاز القرآن: 138]
أحكمت سيطرتها على مفاتيح العلم والمعرفة، حتى بلغت ما بلغت، والأخرى قديمة كانت ذات تراث رائع، ثم طال عليها الأمد فاستبقت قواها وهمدت وغفت، فلما التقتا هب الغافل الهامد من غفوته، ورأى ما بلغه هذا اليقظ المتحرك، فلم يجد بدا من أن يأخذ مأخذه، ويتعلم منه ما فاته وجهله في زمان غفوته، ولم يجده عيبا يعاب أن يسند إلى أخيه أمر تعليمه وتيقنه حتى يلحق به ويدركه، وحتى يحكم هو أيضًا سيطرته على مفاتيح العلم والمعرفة فيبلغ ما بلغ، وتستوي الأقدام في حضارة واحدة رائعة!! وهذا السياق ليس عجزًا فحسب، بل هو عبثُ عابثٍ لا يدري ما يفعل ولا ما يقول، ويكفي أن ننظر نظرة واحدة، فقط مضى قرنان كاملان، سيطرت فيهما هذه الحضارة الحديثة عليها، وعلى أكبر جزء من آسيا وعلى أفريقيا كاملة، وبقيت هذه الأمم جميعًا في قبضتها تعلمها وتثقفها!! ومع ذلك فقد بقي الفرق بيننا جميعًا وبينهم هو نفس الفرق الذي كان منذ أول يوم تم فيه اللقاء بيننا وبينهم نسبة محفوظة وستظل محفوظة، فإذا لم يكن هذا عن تدبير وقصد، يعني أي شيء غيرها يكون؟ ما لم نفق إفاقة صحيحة مدركة لهذا التناقض الصريح بين مواريثنا التي ينبغي أن نبي عليها ثقافتنا وعلمنا، وبين مواريثهم التي بنوا عليها علمهم وثقافتهم. فإذا فعلنا وتبينت جماهير الأمم موضع الفصل الذي
[مداخل إعجاز القرآن: 139]
يفصل بيننا وبين ما تروجه فينا بقصد وتدبير، تحت بهرج لا يناظر بالضعف به وأن حضارتهم (الحضارة العالمية) وأن ثقافتهم (الثقافة الإنسانية). ثم نصدق ذلك نحن كأنه حقيقة لا تقبل النقض ولا الجدال(1)).
[مداخل إعجاز القرآن: 133-140]
قال أبو فهر محمود بن محمد شاكر الحسيني (ت: 1418هـ): (المدخل الثاني
تذوق راعني حتى تذوقت).
[مداخل إعجاز القرآن: 141]
______________________________ _____________
(1) إلى هنا انتهى ما وصل إلينا من أصول المدخل الأول كما كتبها الأستاذ شاكر رحمه الله بخطه ولم يكمله.