المخاصمون عن ابن الراوندي وأشياء أخرى
بقلم: عبدالرحمن بن عبدالله الصبيح
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله، محمد بن عبدالله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أما بعد...
فهذه ورقة، أردتها أولاً أن تكون استلالاً لتعليق يتيم للحافظ ابن كثير رحمه الله، ثم قلتُ لا بد للتعليق من تعليق، ولكن التعليق أصبح عنواناً بحجم (المخاصمون عن ابن الراوندي!) ثم أُضيف إليه (أشياء أخرى!) حتى أصبح بهذه الهيئة، هكذا أصبح بدون ترتيب أو تخطيط، وأعان الله من يرى أنه مُلزم بقراءته؛ فله أن يُقسمه على أيام الدهر!
تميز الحافظ الإمام إسماعيل بن كثير المُكنى بأبي الفِداء بتعليقات نفيسة لا يمكن أن تخرج إلا منه –رحمه الله- في تاريخه الموسوم بالبداية والنهاية، وكم نَدِمتُ أثناء قراءتي لهذا السفر النفيس أنني لم أُدون تلك النفائس و الوقفات والعِبر في أخبار من غَبر في وقتها أو أُعَلِّم عليها، ؛ إذ كنت اعتمد على ذاكرة كليلة لا تُبقي و لا تذر، والعلم صيد و الكتابة قيده، وكما قيل قَيِّد صيودك بالحبال الواثقة، قال المدقق الإملائي للوورد: صيودك خطأ! قلتُ: هو جهل من العجم بلغتنا، في المصباح المنير للفيومي: وسُمي ما يصاد صيداً ... والجمع (صُيُودٌ).[المصباح المنير 184]، ومن مظان تعليقاته مما عَلق في الذهن: استطراده في حكم الإئتمام بالإمام القاعد أثناء حديثه عن وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم فقد بَسط المسألة حتى أصبح بسطه مما يُرجع إليه في هذه المسألة، وليس التاريخ من مظان الفقه، كما بسط القول في المفاضلة بين خديجة وعائشة أُمّا المؤمنين رضي الله عنهما وأرضاهما، وكأنه توقف في المسألة –حسب ما أذكر-، وكذلك تعليقه على مقتل عثمان، الفتنة التي جرت بين الصحابة، مقتل الحسين، تتبع المختار ابن أبي عبيد لقتلة الحسين، الحلاج، حديثه عن الفِرق الباطنية و الخوارج، ونَزف دَماً على قَتلى صَحْن الحرم حين أخذ القرامطة الحجر الأسود وهكذا، ومما لا يعلمه كثير من الناس أن في بئر زمزم وبطن الحرم مقبرة جماعية لمئات أو آلاف الحُجاج قتلهم القرامطة فدفنوا في الصحن لتعذر نقلهم! عَلَّق بقوله: "ويا حَبَّذا تلك القتلة وتلك الضجعة!" وأجاب عن قول من يقول: لِمَ عاجل الله سبحانه أصحاب الفيل بالعقوبة وترك القرامطة الذين هم شرٌ منهم كُفراً واعتقاداً؟
ويُعنى ابن كثير رحمه الله بتتبع مظاهر إظهار السنة و اندراسها، فيعلق كثيراً على الخليفة إذا تولى: هل هو ممن أظهر السنة وأمات البدعة كما علَّق على تولي المتوكل، أم أنه ممن أظهر البدع؟ وللحافظ عناية بتتبع الأفكار والبدع وأفرادها، وما آل إليه حالهم، فتجده يذكر مثلاً (عمر الكَلْوَادني)و احفظوا هذا الاسم جيداً، (عمر الكَلْوَادني) هو الذي وَكّله الخليفة المهدي عام 167 هـ بتتبع الزنادقة وقتلهم بين يدي الخليفة، وكان الخليفة ممن أظهر السنة وقمع البدعة. ومع تتبع المهدي للمبتدعة والزنادقة إلا أن نَفْسه السُلطانية قد تطغى عليه، فقد استدعى القاضي شريك بن عبدالله لأنه سمع أنه لا يرى الصلاة خلفه، فقال له: يا ابن الزانية! فقال له شريك: مَهْ! مَهْ! يا أمير المؤمنين، فقد كانت والله صَوَّامة قَوَّامه! فقال: يا زنديق لأقتلنك! فضحك شريك وقال: يا أمير المؤمنين، إن للزنادقة علامات يُعرفون بها، شربهم القهوات، واتخاذهم القِينات! فأطرق المهدي وخرج شريك من بين يديه.
ولا تتسلل البدع إلى المسلمين إلا لتحل مَحَلَّ سُنة عَطلها المسلمون، فإن السنن إذا كانت ظاهرة فإن البدع تختنق، والبدع إذا خُنقت -كما خَنق عمر بن الخطاب رضي الله عنه بِدعة صَبيغ أو أُصيبيغ حين سَوَّى ظَهره!- تختفي مُدداً من الزمان، وستَحُكُّ ظهرها حين تُدعى للظهور وتقول: أدبني الرجل الصالح! أمّا إن تركت فالويل لهذه الأمة من تهتك مِلتها، وتفلت دينها.
حكى الذهبي في سيره عن الشافعي: حكمي في أهل الكلام، حكم عمر في صبيغ!.
قلتُ: ومن عجيب أمر الشافعي أن المتحولين يستدلون به في قديمه وجديده! و ربما لو اطلع الشافعي رحمه الله على بعض قولهم لعلَّق دُرة عمر في رقابهم ولطاف بهم في القرى الطرقات!!
قيل: إجماعات وليس إجماعا واحدا، قالوا: مُدعاة! عبث وتحريف، وإغلاظ للمؤمنين ولينٌ لمن هم دونهم حتى إنها لتشمل من احتوى وصفه على كاف وراء بينهما فاء!! و الله المستعان.
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}
ثم إنه نبتت نابتة، انتشت وسرت سريان النار في الهشيم ، مهمتها الحول بين المصلحين المدافعين عن الأمة؛ الذين يذودون عن دينها وبين أولئك المجادلين المحرفين لدين لله رب العالمين، وكَسوا تلك الغايات بأسباب وأزياء متبرجة لا تقيم فكراً سليماً ولا منهجاً قويماً، ولا تقي برداً ولا تستر عورة! والله يقول: { وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} ويقول: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} وقد صدق الله، فحين تركنا المدافعة، وما أسموه "ردود الأفعال!" أصبحنا أمة مستباحة في عرضها وأرضها ودينها ودنياها بل واعتقادها، وأصبح يدوسها النصيري والصليبي واليهودي وكل خسيس لا يَزِنُ بَقه! وهي تتفرج! وهي لا تملك حتى النُوَاح!! وأصبح ينشأ ناشئ الفتيان فينا على الفطرة التي فطره الله عليها، وما أن يشتد عوده إلا ويعترضه قاطع الطريق إلى الجنة، فيتلقفه إلى جهنم و بئس القرار! يعلمه الزندقة والضلال وغالباً لا يخلوا الأمر من انحلال وقد يصل إلى الإلحاد! وكأنه لم ينشأ يوماً على التوحيد! هل يُلام هذا الناشئ أم تلك القدوات التي ما فتئت تُهَوَّن من أهل الأفكار، وتُطبع التعامل معهم، وتتبادل معهم الابتسامات والضحكات والجلسات، ناهيكم عمن حول خصوماته الشرعية إلى خصومات شخصية "و لا كأن الكلب –كما يقول ابن كثير- أكل له عجيناً!!؟"
وكم من عدوٍ صار بعد عداوةٍ *** صديقا مُجلاً في المجالس مُعظما
ومن عنده وعدٌ كـ: {وَلَيَنْصُرَنَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} فسيقصد البحر ويُخلِ القنوات، إن الله لقوي عزيز!
ثم إن حالهم زَعم أنه صَدَّر الإسلام لمصنع جَيَّد التصنيع، فأنتج لنا إسلاماً قوياً يستعصي على الذوبان؛ فهو ليس (زُبدةً) سيئة التصنيع سريعة الذوبان! فمِمَّ تخافون إذاً؟! أتخافون على الإسلام؟! أم تتهمون الإسلام أنه ضعيف؟! ومن بين ضجيج آلات مصانعهم يدوِّي في أُذني حديث الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم " يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين " [ذكر الحديث ابن القيم في إعلام الموقعين، وهو بهذا اللفظ فيه لِين وإن كان معناه صحيح]، والشاهد من الحديث "ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين".
أترى أن الله سبحانه جَلَّ جلاله وتقدست أسمائه يُضارُّ بقول الكافرين: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا؟} ما له –سبحانه- عَقب بقوله: {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا!!}.
أَمَا وقد قِيل ما قِيل، وصَدَّق هذا السُخف من صَدَّقه، فيقال: إننا لا نخشى على إسلامٍ تعهد الله بظهوره، ولا على قرآن تعهد الله بحفظه، و لكننا نخشى على أنفسنا أن نكون شهود زورٍ على تحريف الإسلام وتبديله، نخشى على أنفسنا أن نكون ممن بَدَّل وعَدَّل، نخشى أن نكون شر أُمة تقوم عليها الساعة، وما الذي يمنع من هذا ورسول الله يقول "بُعثت أنا والساعة كهاتين وشبك بين أصابعه!" وفي آخر الزمان يرفع الإسلام حين يضيعه أهله!.
نخشى على أنفسنا أن نكون ممن قال الله فيهم: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} و والله لن تكون أيامنا في النار أياماً معدودة، فالله سبحانه لم يعطِ أحداً عهداً بذلك! {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}، ولو كانت معدودة، فمن سيطيق تلك الأيام المعدودات؟!!
والأمم التي ضَلَّت؛ لم تَضِل لأن الدين الذي أُرسل إليها دينا ضعيفاً؛ فالكل من عند الله! أو لأن نبيها الذي أُرسل نبياً ضعيفاً منقطع الحجة والبرهان؛ فالكل من اختيار الله! ولقد أرسل الله سبحانه أكمل خلقه لخلقه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما من الأنبياء نبيٌ إلا أُعطي ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أعطيته وحياً أوحاه الله إليَّ، فأرجوا أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة" [متفق عليه]، ولكن { وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ}، {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}.
والمراد من حديث أبي هريرة: أن كلَّ نبي أعطي معجزة كافية لإيمان الناس به، وأن معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم الكبرى تميزت أنها كانت وحياً أوحاه الله إليه؛ وهي القرآن الكريم، وللحافظ ابن حجر تعاليق واستنباطات دقيقة حول الفرق بين المعجزة التي تُرى بالعين الباصرة والتي تُرى بعين البصيرة، فالتراجع في فتح الباري. [رقم الحديث 4981]
بنو إسرائيل؛ أُرسل إليهم دين هو من أكمل الأديان، و فُضلوا من الخالق الدَيَّان، فدخلهم العُجب، وعلوا واستكبروا فأعرضوا وبدلوا وحرفوا، وكان أول أمرهم أنهم {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} فكان عاقبة ذلك أنْ {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} وسنة الله الجارية؛ أن من يعرض الله عنه يستبدله بمن هو خير منه، و أي أرض تُقل وأي سماء تُظل من نظر الله إليه فمقته واستبدله بمن هو خير منه، لذا أصبحوا المغضوب عليهم والضالين، والاستبدال: قد يكون استبدال مِلة بمِلة، كما حصل مع الأمم السابقة، وهذا ضَربٌ انتهى، و لنا فيه عِبرة، أما الضَرب الثاني: فهو استبدال جيلٍ بجيل من ذات الأمة، أو شعب بشعب، أو فئة بفئة، وربما أهل بلد ببلد، فكل من قَصَّر في خدمة هذا الدين يستبدله بمن خير منه ودين الله لا يتوقف على أحد، وكم شهد التاريخ أفراداً حملوا لواء العلم والدعوة و النفع، وكان الناس يصدرون عنهم ثم انفض الناس عنهم، وكم شَهدنا عائلات عُرفت بالعلم لقرون، ثم استبدلها الله بمن هو خير منها، وكم شَهِد التاريخ ملوكاً وأمراء سادوا ثم حين غَيَّروا غَيَّر الله عليهم {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ},{أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}.
الصمت عن إضلال المُضلين وتحريف المبطلين شُعبة من شُعب السلبية، ولو أن هذا ما ابتليت به الأمة وساحتنا الدعوية و الفكرية لكان في الأمر سَعة، فقد يكون للساكت عذر، على الأقل لم يقل الباطل وإن كان سكت عن الحق، ولكننا ابتلينا بقوم من بني جلدتنا، ومن داخلنا, خاصموا عن الخائنين المحرفين= ساسةً و المفكرين، والله يقول {وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} قال الزجاج في معاني القرآن: "أي لا تكن مخاصماً ولا دَافِعاً عن خَائِن." [2/101].
أين أولئك المجادلين المخاصمين من قول الله سبحانه: {وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيماً}وكيف سيبيت المخاصم إذا عَلِمَ أن المُعاتب في هذه الآية هو محمد صلى الله عليه وسلم؟! وحاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون مجادلاً مخاصما عن المنافقين والذين يختانون أنفسهم، ولكنه كما قال عليه الصلاة و السلام في حديث أم سلمة : "إنما أنا بشرٌ ، وإنكم تختصمون إليَّ ، ولعلَّ بعضَكم أن يكون ألحنَ بحُجَّتِه من بعضٍ ، وأقضي له على نحوٍ مما أسمعُ ، فمن قضيتُ له من حقِّ أخيه شيئًا فلا يأخذ ، فإنما أقطعُ له قطعةً من النارِ" [متفق عليه] ومع هذا عاتبه الله سبحانه، وخَلَّد درساً عظيماً للأمة، وتوعد المخاصمين بقوله: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً}
ومن المخاصمين؛ من لا يخاصم صراحة، ولكنه يصُفُّ قريباً من خندق الخائنين، زاعماً أنه ينتقد ويصوب أخطاء المصلحين! فهو رأى بعينه الباصرة خطأ المصلحين والمدافعين ولم تبصر بصيرته زندقة المزندقين!! ومنهم من يقول إنكم (اشغلتونا) عن قضايانا الكبرى، وصرفتم جهدنا عما هو أولى لما هو أدنى، و لو رأيت حاله لرأيت أنه لم يشتغل بما يزعم أنه الأعلى و الأولى، و إنما كَرَّس جهده وبذل وقته لملاحقة إخوانه؛ الذين يزعم أنه وإياهم في خندق واحد، وهذا ظنهم فيه كذلك! لِمَ كل هذا إذاً؟ ومن أضْرب المخاصمة –وإن لم تكن مخاصمة صريحة- توقير وتعظيم أهل الفِكر و الأدب والسياسة وكل من هَبَّ ودَبَّ وغَض النظر عن انحرافهم؛ بل واستساغتها واستلطافها! والثناء عليها في موطن يتطلب التحذير منهم ومنها، على أهل الخير والدين و علماء الشريعة وروَّاد الدعوة.
قال ابن كثير [بتصرف واختصار] "ابن الرواندي: هو محمد بن يحيى ابن إسحاق، أحد مشاهير الزنادقة الملحدين، عليه اللعنة من رب العالمين... صنف كتاباً في الرد على القرآن سمَّاه "الدامغ" وكتاباً في الرد على الشريعة و الاعتراض عليها سمَّاه "الزمرد"... وقد انتصب للرد عليه في كتبه هذه جماعة منهم: الشيخ أبو علي محمد الجبائي، شيخ المعتزلة في زمانه، و قد أجاد في ذلك" [البداية و النهاية 11/405].
قلتُ: كان لبعض المعتزلة –بالرغم من ضلالهم- حَمية وغَيرة على الإسلام، ونفع الله بهم في مواطن، وأثنى عليهم العلماء؛ منهم شيخ الإسلام "الواحد من هؤلاء لم يعظمه من يعظمه من المسلمين إلا لما قام به من دين الإسلام الذي كان فيه موافقا لما جاء به محمد صلى الله عليه و سلم فإن الواحد من هؤلاء له مساع مشكورة في نصر ما نصره من الإسلام والرد على طوائف من المخالفين لما جاء به الرسول فحمدهم والثناء عليهم بما لهم من السعي الداخل في طاعة الله ورسوله وإظهار العلم الصحيح الموافق لما جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم والمظهر لباطل من خالف الرسول وما من أحد من هؤلاء ومن هو أفضل منهم إلا وله غلط في مواضع" [ درء التعارض 4/227]
تأمل –أخي- الميزان الدقيق الذي وضعه شيخ الإسلام " الواحد من هؤلاء لم يعظمه من يعظمه من المسلمين إلا لما قام به من دين الإسلام الذي كان فيه موافقا لما جاء به محمد صلى الله عليه و سلم" ويُفهم من هذا أنَّ من لم يكن مثلهم في خطأهم وبدعتهم إذا لم يقف موقفهم المشكور فإنه لا يستحق أن يُعظم.
ويقول: "ثم إنه ما من هؤلاء إلا من له في الإسلام مساع مشكورة، وحسنات مبرورة، ولهم في الرد على كثير من أهل الإلحاد و البدع، والانتصار لكثير من أهل السنة و الدين ما لا يخفى على من عرف أحوالهم، وتكلم فيها بعلم وصدق وعدل وإنصاف" [درء تعارض العقل والنقل 1/283].
ذكر الدكتور خالد الغامديفي [الصراع العقائدي في الأندلس خلال ثمانية قرون بين المسلمين و النصارى من الفتح الإسلامي (92هـ) حتى سقوط غرناطة (897هـ)] أسماء عدد من المعتزلة الذين صنفوا في الرد على النصارى منهم: أبو سهل بشر بن معمر، القاضي عبدالجبار المعتزلي، أبو هذيل العلاف المتكلم المعتزلي، أبو جعفر الإسكافي، حفص الفرد، الجاحظ، أبو علي الجبائي، ومن أجلهم علمهم وقدراً وجهاداً القاضي المتكلم أبو الوليد الباجي، ولم يكن من المعتزلة رحمه الله، وبالرغم مما بين ابن حزم و الباجي، فقد قال عنه: " لو لم يكن لأصحاب المذاهب بعد عبدالوهاب إلا مثل أبي الوليد لكفاهم".
هذا حالهم، أما حال متكلمي زماننا زماننا؛ فإنهم قد سَكنوا جحر الضب بعد أن طردوه منه ! فأين هؤلاء من هؤلاء؟ والله المستعان.
نعود لابن الراوندي؛ يقول عنه الشيخ المعتزلي أبو علي الجبائي "قرأت كتاب الملحد الجاهل السفيه ابن الراوندي فلم أجد فيه إلا السفه و الكذب و الافتراء... ووضع كتاب في الرد على محمد صلى الله عليه وسلم في سبعة عشر موضعاً من كتابه، ونسبه إلى الكذب، وطعن على القرآن، ووضع كتاباً لليهود و النصارى على المسلمين بهم فيها على إبطال نبوَّة محمد صلى الله عليه وسلم، إلى غير ذلك من الكتب التي يتبين بها خروجه من الإسلام، نقله ابن الجوزي." [البداية و النهاية 11/405].
قال ابن كثير: "وقد أورد الشيخ أبو الفرج بن الجوزي في "منتظمه" طرفا من كلامه الملعون في الطعن على الآيات و الشريعة؛ وردَّ عليه في ذلك، وهو أقلُّ وأخسُّ من أن يتلفت إلى شيء من جهله وهذيانه وسفهه وخذلانه وتمويهه وترويحه وطغيانه... وكان أبو عيسى الورَّاق مصاحباً لابن الرواندي هذا قبحهما الله!" [المصدر السابق]
وهرب ابن الراوندي "ولجأ إلى ابن لاوي اليهودي وصنف له كتاباً سماه "الدامغ للقرآن" فلم يلبث إلا أياما يسيرة حتى مات لعنه الله" . [المصدر السابق]
هذا بعض ما ذكره ابن كثير رحمه الله عنه، وبقي له تعليق نفيس هو حجر الزاوية لهذه الورقة، وسيأتي في موضعه بإذن الله.
ومن عجيب أمرهم –أي المخاصمين-؛ أنْ زعموا أن الثناء على أهل الباطل فيما أحسنوه "إنصاف!"، إِي وربي! كذا يقولون!! فحين تنتظر كلمةً في مبتدع تُجلي بدعته يريدك أن تثني على ذكائه، وعبقريته، وحسن إلقاءه، وسعة اطلاعه! يريد أن يقال هذا في موضع خُصص للتحذير منه، ثم زعموا أن هذا هو منهج السلف في الإنصاف، قالوا: كذا كان إنصاف الذهبي مع خصومه في "ميزان الاعتدال"، وتأمل معي في قولهم "خصومه!"، فقد حُولت الخصومات الشرعية العقدية إلى مجرد خصومات، قالوا: وهذا صنيع ابن حجر كذلك في "لسان الميزان"، ولو أقسمتُ لأقسمتُ غير حانث أنهم لم يشموا رائحة أيٍ من الكتابين!
"لسان الميزان" لابن حجر سار فيه الحافظ على نهج الذهبي في "ميزان الاعتدال"؛ كما صنع مع "تهذيب الكمال" للمزي حين صنف "تهذيب التهذيب"، وهي أن يسير معه على نفس النهج و الترتيب ويتعقبه ويعلق، وربما عدل وبدل، وهذه طريقة متبعة عند السلف رحمهم الله، فلا تجد عندهم (الأنا) و التشوف للإتيان بجديد قد يكون بالياً! ولا تجد عند لاحقهم غمط للسابق منهم كما يحصل عند كثير من محققي التراث في زماننا! بل تجد الإقرار بالفضل و السابقة، و لا يعرف فضل أهل الفضل إلا أهل الفضل، وإلا فمن صنف "فتح الباري" لا يعجز عن تصنيف "تهذيب التهذيب" و "تقريب التهذيب" و "لسان الميزان"! ومن صنف "المغني!" لا يعجز أن يحذف منه أسطراً قليله هي "مختصر الخرقي" الذي حُشِّي عليه بأكثر من 300 حاشية! ومن صنف "زاد المعاد" لا يعجز عن تصنيف "المنار المنيف في الصحيح والضعيف"، ثم أنت ترى الواحد منهم –رحمهم الله- لا يصنف غالباً إلا بعد إلحاح وطلب، أو أمر، أو لأنه رأى حاجة ماسة لهذا المصنف، وأنه حتمٌ واجب عليه لا يسعه تركه، كما فعل المُجدد محمد بن عبدالوهاب رحمه الله في "كتاب التوحيد"، يقول العمريطي ناظم "الورقات":
وقد سُئلت مدة في نظمه*** مُسهلاً لحفظه وفهمه
فلم أجد مما سئلت بُدا
ويقول الشيخ حافظ حكمي:
وبعد: هذا النظم في الأصول*** لمن أراد منهج الرسول
سألني إياه من لا بد لي *** من امتثال سؤالِه الممتثل
ويقول الحافظ ابن حجر في مقدمة "نخبة الفكر": "فسألني بعض الإخوان أن ألخص لهم المهم من ذلك؛ فأجبته إلى سؤاله رجاء الاندراج في تلك المسالك".
ولعل هذه هي "الوصفة السرية" لتلك الكتب وذلك العلم وأولئك الرجال الأخفياء الأتقياء، فكان في علمهم من البركة و النفع ما لا يوجد عند غيرهم، بل والله تعجب حين ترى بعض السلف لاسِيّما من التابعين وتابعيهم، والصحابة من باب أولى: ليس لهم إلا عبارات يسيرة و الناس يدورون حولها لا يستطيعون تجاوزها! ومما يثير الدهشة أن راوية الإسلام، الإمام المحدث، الصحابي الجليل، أبو هريرة –رضي الله عنه- أكثر الصحابة، قد اختلف في اسمه إلى ما يقرب من خمسين قولاً، قيل إن أرجحها عبدالرحمن بن صخر الدوسي! ثم هو رضي الله عنه؛ لتواضع فِطري فيه، كان يظن أن عبدالله بن عمرو ابن العاص أكثر منه رواية! رضي الله عنهم أجمعين.
يتبع